هوية التشيع

هوية التشيع25%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38695 / تحميل: 7479
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصلُ الثالث

لِماذا تُنْسَبُ الشِيعةُ لابنِ سَبَأ؟

في الإِجابة على هذا السؤال يكمُن مركز الثقل في قصة عبد الله بن سَبَأ كلّها؛ فإنّ الفكر الشيعي في الإِمامة، وما يَلحَق بها، والمواقف المُتساجِلة بين فِرَق المُسلِمينَ مِن الشيعة وغيرهم، إذا شُدَّت إلى جَذرها مِن أدلّتها مِن الكتاب والسُنّة، فقد يَختلُّ الميزان؛ لأنّ فكرة الوصيَّة والعِصمة وغيرهما تُبعِد عن الحُكم - في نَظَر الشيعة - مَن لا تتوفَّر فيه هذه الشُروط، وتلك هي الطامَّة الكُبرى، وأيُّ فِكر أخطر مِن هذا الفكر؟

فَلِمَ لا يُربَط فِكر الشيعة بجذر يهوديٍّ، وتُختَرع له شخصيّة تكون كبش الفداء، فَيُلقى اللومُ عليها، وعلى الّذين أخذوا عنها، ويُشارُ إليهم بأنّهم: مارقون ألغَموا تاريخ الأُمّة، ودسّوا في عقائدها عقائد غريبة عن الإِسلام، وهكذا صَنع عبد الله بن سَبَأ، ولو كان صُنعه على حساب الحقيقة، وعلى رَغْمِ أنف العُقول والمقاييس.

وبالإِضافة لِما ذكرنا، هُناك سَبَب آخر، دفع إلى خلق عبد الله بن سَبَأ، أشار إليه الدكتور أحمد محمود صُبحي، وذلك بعد أن استعرض آراء الدكتور طه حسين في وهميّة وجود عبد الله بن سَبَأ، قال الدكتور أحمد صبحي:

ويبدو أنّ مُبالغة المؤرِّخين، وكُتّاب الفِرق في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ يرجع إلى سَبَب آخر غير ما ذكره الدكتور طه حسين، فَلَقَد حَدَثَت في الإِسلام أحداث سياسيّة ضخمة كمقتل عُثمان، ثمّ حرب الجمل، وقد شارك فيها

١٤١

كِبار الصحابة وزوجة الرسول، وكلُّهم يتفرَّقون ويتحاربون، وكلّ هذه الأحداث تَصدِم وجدان المُسلِم المتتبِّع لتاريخه السياسي، أن يبتلي تاريخ الإِسلام هذه الابتلاءات، ويشارك فيها كِبار الصحابة الّذين حاربوا مع رسول الله (ص)، وشاركوا في وضع أُسس الإِسلام، كان لا بُدَّ أن تلقى مسؤوليّة هذه الأحداث الجِسام على كاهل أحَد، ولم يكن مِن المعقول أن يَتحمَّل وزر ذلك كُلّه صحابةٌ أجِلاّء أبلوا مع رسول الله (ص) بلاءً حسناً، فكان لا بُدَّ أن َيقع عبء ذلك كُلّه على ابن سَبَأ، فهو الذي أثار الفِتنة التي أدت لقتل عُثمان، وهو الذي حَرَّض الجيشين يوم الجَمَل على الالتحام على حين غفلة مِن عليٍّ وطلحة والزُبير، أمّا في التاريخ الفكري، فعلى عاتقه يَقع أكبر انشقاق عقائديّ في الإِسلام بظهور الشيعة، هذا هو تفسير مُبالغة كُتّاب الفِرق، وأصحاب المذاهب لا سيَّما السلفيين والمؤرِّخين في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ. ولكن أليس عجيباً أيضاً أن يعبث دَخيل في الإِسلام كلّ هذا العَبث، فيحرِّك تاريخ الإِسلام السياسي والعقائدي على النحو الذي تمَّ عليه، وكبارُ الصحابة شُهود؟! (١) .

وبعد هذه الإلمامة بمُلابسات موضوع عبد الله بن سَبَأ التي انتهينا مِنها إلى مَسكِ طَرَف الخيط فيما نظنُّ، ألا وهو رَبط عقائد الشيعة بعبد الله بن سَبَأ، وما أسندوه إليه مِن عقائد الشيعة، ولنتبيّن مصدرها الإِسلامي. وبذلك نكتفي عن الإِصرار على وجود ابن سَبَأ أو عدم وجوده؛ لأنّه قد ثَبَت أنّ هذه العقائد مصدرها الإِسلام، فلا يبقى بعد ذلك قيمة لِعدم وجود ابن سَبَأ أو لوجوده، لنبدأ مِن ذلك بموضوع الوصية.

١ - الإِمامُ عليّ وصيّ النبيّ (ص):

قُلنا فيما سَبق، إنّ مِن أحكام الإِسلام: ضرورة أن يوصي الإِنسان قَبلَ موته بما يُريد التصرُّف به بعد موته فيها يملك مِن أُمور ماديَّة، وذكرنا أنّ سيرة النبيّ (ص) أنّه كان لا يَخرج مِن المدينة في سَفَرٍ - ولو ليوم واحد - حتّى يَستخلِف على

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ص٣٩.

١٤٢

المدينة، فكيف يترك أمر هذه الأُمّة مِن بعده سدى، ويُعرِّضها إلى الفِتن دون أن يوصي أو يُرشِّح للأمر شخصاً مِن بعده؟!

وبما أنّ هذه المسألة قد أشبعتها أقلام الباحثين مِن مُختَلَف الفِرق الإسلاميّة، فلا أُريد العودة إلى ما دار حولها، وكلّ ما يعنيني هُنا أن أُبيّن: أنّ مسألة الوصيّة مصدرها القرآن والسُنّة، أمّا القرآن: فَقد أشرك عليّاً بالولاية العامَّة، وجعل إمامته امتداداً للنُبوَّة حين تُختَم النُبوّة بموت الرسول، فقال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وقد ذكرنا نُزول هذه الآية في عليٍّ (ع)، وما يترتَّب عليها مِن لَوازم في مكان آخر مِن هذا الكِتاب. وأمّا السُنّة الشريفة: فإنّ الروايات المُعتبرة متظافرة بأنّ رسول الله (ص) نصَّ على عليٍّ بالوصيّة في أكثر مِن مَورد، ومِن تلك الموارد:

لَمّا نَزل عليه قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشُعراء: ٢١٤، فجمع أقاربه، وعَدَدُهم أربعون على فَخِذ شاة، وطلب مِنهم أن يؤازروه على الدعوة، فلم يَقُم إليه إلاّ عليّ، فأخذ برقبته وقال: ( هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكُم، فاسمِعوا له وأطيعوا ) (١) ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تَسمع لابنك وتطيع.

هذا، وقد ذكر ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة فصلاً مُمتِعاً في موضوع وصاية الإِمام عليّ (ع) للنبي، وأشبَع الموضوع، وبوسع القارئ الرُجوع إليه.

وها أنت قد سمعت أن الوصية جاءت على لسان النبيّ (ص) لفظاً ومعنى، ومع ذلك تَرى هؤلاءِ يَقولون: إنّ موضوع الوصيّة اخترعه عبد الله بن سَبَأ، وسَتَسمع لو قلت لهم: إنّ الوصيّة لها مصادرها مِن السُنّة، مَن يقول لك هذه أحاديث دسّها الشيعة على لِسان السُنّة.

٢ - العِصمَة:

موضوع العصمة، موضوع مُهمّ في الفكر الشيعي خاصّة، والإِسلامي عامّة

____________________

(١) انظر تاريخ الطبري: ٢/٢١٦، وتاريخ ابن الأثير: ٢/٢٨، وتفسير الدرّ المنثور للسيوطي: ٤٥/٩٧ طبعة أوفست.

١٤٣

وسأضطرّ للإِطالة فيه؛ لأنّه يرتبط بأُمور هامّة، لا بُدَّ مِن التَعرُّف عليها.

فالعصمة لُغة: هي المَنع، ومنه قوله تعالى: ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ) سورة هود: ٤٣.

أمّا في الإِصلاح الكلامي، فالعصمة: لطفٌ يفعله الله تعالى بالمكلّف لا يكون مَعه داعٍ إلى ترك الطاعة، وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك (١) .

وواضح مِن هذا التعريف أنّ العصمة لا إلجاء فيها، وإنّما هي مُجرّد مدد مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد، فهي أشبه شيءٍ بأُستاذ يُقبِل على تِلميذه؛ لأنّه وجد عند التلميذ استعداداً أكثر مِن غيره لتلقّي العِلم.

وقد أجمعت الأُمّة الإسلاميّة على عِصمة الأنبياء عن تَعمُّد الكَذب فيما يُبلِّغونه عن الله تعالى، واختلفوا بعد ذلك في صدور ما يُنافي العِصمة مِنهم على سبيل السَهو أو النسيان، سواء كانت أدلتهم في ذلك سمعيّة أو عقليّة على صُدور أو عدم صُدور ما يُنافي العِصمة، ذهب بعض أئمَّة السُنّة إلى جواز وقوع كلّ ذَنب مِنهم، صغيراً كان أو كبيراً حتّى الكُفر.

وبوسع القارئ الرجوع إلى آراء الباقلاّني، والرازي، والغزالي مُفصَّلاً في نَظريّة الإِمامة (٢) ، بينما البعض الآخر فَصَّل في ذلك، ولم يصل إلى هذا الحدّ في تجريدهم مِن العصمة.

أمّا الشيعة، فقد ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مُطلقاً، قبل البعثة وبعدها (٣) ، وقد ساقوا لذلك أدلّة كثيرة.

وقد تَعرّض الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء، وكذلك الشيخ المجلسي في البحار مُفصِّلاً لذلك.

والذي يهمّني هُنا عصمة الأئمّة؛ لأنّها موضع البحث.

إنّ عصمة الأئمّة أمرٌ مفروغ عند الشيعة، وقد أثبتها الشيعة للإِمام بأدلّة مِن العقل والنقل، أقتصر على ذكر بعضها، وبوسع طالب المزيد أن يَرجع إلى الكتب والبحوث المطوّلة في ذلك.

____________________

(١) توفيق التطبيق للكيلاني: ص١٦.

(٢) نَظريّة الإِمامة: ص١١١ و١١٢.

(٣) معالم الفلسفة لمُغنيّة: ص١٩٣.

١٤٤

عِصمّة الأئمّة وأدِلَّتِها العَقْلِيّة

١ - الدليل الأوّل:

يقول العَلاّمة الحلّي في كتابه الألفين: المُمكنات تحتاج في وجودها وعدمها إلى عِلّة ليست مِن جنسها، إذ لو كانت مِن جِنسها لاحتاجت إلى عِلّة أُخرى واجبة غير مُمكنة، كذلك الخطأ مِن البشر مُمكن، فإذا أردنا رَفع الخطأ الممكن، يجبُ أن نرجع إلى المُجرَّد مِن الخطأ، وهو المعصوم. ولا يمكن افتراض عدم عِصمته؛ لأدائه إلى التسلسُل أو الدور.

أمّا التَسلسُل: فإنّ الإِمام إذا لم يكن مَعصوماً، احتاج إلى إمام آخر؛ لأنّ العلّة المحوجة إلى نَصبه هي جواز الخطأ على الرعيّة، فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى إمام آخر، فإن كان معصوماً، وإلاّ لَزم التسلسل.

وأمّا الدور: فلِحاجَة الإِمام - إذا لم يكن معصوماً - للرعيّة؛ لتردَّه إلى الصواب مع حاجة الرعية للإِقتداء به (١) .

٢ - الدليل الثاني:

يقول الشيعة: إنّ مفهوم الإِمام يتضمَّن معنى العِصمة؛ لأنّ الإِمام لُغة: هو المُؤتّم به كالرداء اسم لِما يُرتَدى به. فلو جاز عليه الذنب، فَحال إقدامه على الذنب إمّا أن يُقتدى به أو لا، فإن كان الأوّل: كان الله تعالى قد أمرَ بالذنب، وهذا مُحال، وإن كان الثاني: خرج الإِمام عن كونه إماماً، فيستحيل رفع التناقض بين وجوب كونه مُؤتّماً به، وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، إلا بتصوّر أنّ العِصمة مُتَضَمَنة في مَفهوم الإِمام، ولازِمَة لوجوده (٢) .

____________________

(١) الألفين للعلاّمة الحلّي: ص٥٤.

(٢) الأربعين للرازي: ص٤٣٤.

١٤٥

٣ - الدليل الثالث:

الإِمام حُجّة الله في تبليغ الشرع للعباد، وهو لا يُقرّب العباد مِن الطاعة، ويُبعّدهم عن المعصية مِن حيث كونه إنساناً، ولا مِن حيث سلطته، فإنّ بعض الرُؤساء الّذين ادّعوا الإِمامة كانوا فَجَرَة لا يصحُّ الإِقتداء بهم، فإذا أمَروا بطاعة الله كانوا مصداق قوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) البقرة: ٤٤.

وفي مثل هذه الحالات لا يثق المُكلّف بقولهم، وله عذره.

فثبت أنّ تقريب الناس مِن طاعة الله لا مِن حيث كون الإِمام إماماً، وإنّما مِن حيث كونه مَعصوماً حيث لا يكون للناس عُذر في عصيانه تصديقاً لقوله تعالى: ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: ١٦٥، والأئمة حُجج الله كالرُسُل، سواء بسواء؛ لأنّ الإِمام منصوب مِن قِبَلِ الله تعالى لهداية البشر (١) .

هذه ثلاثة أدلّة مِن كثير مِن الأدلّة العقليّة التي اعتمدوها في التدليل على العِصمة.

الأدِلَّةُ النَقليَّة على عِصمة الإِمام

أ - قال الله تعالى في سورة البقرة، الآية: ١٢٤ لنبيه إبراهيم: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) دَلّت هذه الآية على العصمة؛ لأنّ المُذنب ظالم ولو لنفسه لقوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) فاطر: ٣٢.

ب - قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: ٤٩، والدليل فيها: أنّ أُولي الأمر الواجب طاعتهم يجب أن تكون أوامرهم موافقة لأحكام الله تعالى؛ لتجب لهم هذه الطاعة، ولا يتسنّى هذا إلاّ بعصمتهم؛ إذ لو وقع الخطأ مِنهم لوجب الإِنكار عليهم، وذلك يُنافي أمر الله بالطاعة لهم (٢) .

____________________

(١) نهاية الإِقدام للشهرستاني: ص٨٥.

(٢) كشف المُراد للعلاّمة الحلّي: ص١٢٤.

١٤٦

ج - ذَهَبت الآية الثانية والثلاثين مِن سورة الأحزاب إلى عصمة أهل البيت الّذين نَزلت فيهم، وهي قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فبعد إثبات نُزولها في أهل البيت، الذي نصَّ عليه كلٌّ مِن الإِمام أحمد في مُسنده، ومستدرك الصحيحين، والدر المنثور، وكَنز العُمّال، وسُنن الترمذي، وتفسير الطبري، وخصائص النِسائي، وتاريخ بغداد، والاستيعاب لابن عبد البر، والرياض النَضِرة للمحب الطبري، ومُسند أبي داود وأُسد الغابة، جميع هؤلاءِ قالوا إنّها نَزلت في النبيّ (ص) وعليّ (ع) وفاطمة والحسن والحسين (ع) (١) .

ويتساءل العلماء عن معنى ذهاب الرجس؛ لينتهوا إلى أنّه نَفيُ كلّ ذنب وخطأ عنهم، والإِرادة هُنا تكوينيّة لا تشريعيّة؛ لوضوح أنّ التشريعيّة مُرادة لكلّ الناس. ولا يَلزم منه الإِلجاء؛ لما سبق أن ذكرناه مِن أنّ العصمة مَدَدٌ مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد.

هذه بعض أدلّة الشيعة في العِصمة، وهي كما ترى مُنتَزعة مِن الكتاب والسُنّة والعقل، فما وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وأين موضع الصدق مِن تلك النسبة؟

إنّ القارئ مِن حقِّه أن يسأل هؤلاءِ الكُتّاب: هل اطّلَعوا على مَصادر الفِكر الشيعي عندما كَتبوا عن الشيعة أو لا؟

فإن كان الأوّل، فما معنى هذا الخبط، وهذه النِسب الباطلة؟ وإن كان الثاني، فما هو المُبرِّر لَهُم للخوض في أُمور لم يَطَّلعوا عليها؟ أليس لهم رادع مِن مقاييس الأدب الإِسلامي، الذي رسمه الله تعالى بقوله: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء: ٣٦، وفي الوقت ذاته إنّ المنهج العِلمي يأبى عليهم هذه التَخرُّصات، ونسبة الأشياء إلى غير مصادرها.

إذاً ففكرة العصمة حتّى ولو كانت أدلّتها غير ناهضة، فلا يَجوز أن تُنحى عن مصدرها، وتُنسب إلى شخصيَّة وهميّة خلقها الحِقد، وافتعلها الهوى.

____________________

(١) انظر فضائل الخمسة مِن الصحاح السِتّة: ٥/ ٢١٩ فصاعداً.

١٤٧

مَوقِفُ السُنّة مِن العِصمَة

قَبل الدُخول بالموضوع، أُلفت النَظَر إلى قصّة تُحكى، ولها دلالتها في موضوعنا وهي: إنّ شخصاً مَدينَاً جُلِب إلى الحاكم، فسأله الحاكم: هل أنت مَدين لهذا المُدّعي؟ قال: نعم، أنا مَدين ولكنّي مُنكر للدَّين.

إنّ هذه القُصّة تشبه تماماً موقِف مَن يُنكر علينا القول بالعصمة، وفي الوقت ذاته يقول بها. على أننا إنّما نَشتَرط العِصمة في الإِمام؛ لضمان وصول أحكام وعقائد صحيحة، ولضمان اجتناب المُفارقات التي قد تنشأ مِن كون الإِمام غير معصوم، ولا نريد مِن العصمة أن تكون وِساماً نَضعه على صُدور الأئمّة، فإنّ لهُم مِن فَضائلهم ما يَكفيهم، كما إنّنا لا نَسبح في بحر مِن الطوبائيّة؛ لأننا نعيش دُنيا الواقع بكلّ مُفارقاتها.

إنّنا مِن وراء القول بالعصمة نربأ بالإِمام أن يكون مِن سِنخ مَن نراهم مِن الناس؛ لأنّه لو كان مِن نفس السِنخ والسلوكيّة، فما هي ميزته حتّى يَحكم الناس، وفي الناس مَن هو أكثر مِنه استقامة ومؤهّلات وقابليّة.

تلك هي الأُمور التي نريدها مِن وراء العصمة، لا أنّ المعصوم مِن نوع آخر غير نوع الإِنسان كما قد يَتصوّر البعض. فالعصمة في نظرنا: ضابط يُؤدّي إلى حِفظ شريعة الله تعالى نظريّاً، وصيانتها مِن البعث تطبيقيّاً، وأساطين السُنّة يذهبون لِمثل ذلك، ولكنّهم في الوقت نفسه يُنكرون علينا القول بها، وإليك نَماذج مِن أقوالهم؛ لتعرف صحّة ما نسبناه لهم:

١ - الرازي:

يذهب الرازي - في مَعرض ردِّه على عصمة الإِمام عند الشيعة - إلى أنْ لا حاجة إلى إمام مَعصوم، وذلك لأنّ الأُمّة حال إجماعها تكون مَعصومة؛ لاستحالة اجتماع الأُمّة على خطأ بمقتضى حديث رسول الله (ص): (لا تجتمع أُمّتي على

١٤٨

ضلالة) (١) .

ومع غضِّ النظر عن صحَّة وعدم صحَّة هذا الحديث، نسأل: هل مِثل هذا الإِجماع مُمكن بحيث يَضمُّ كلَّ مُسلِم في شرق الأرض وغربها؟.

قد يكون الجواب: إنّ المُسلِمينَ يُمثّلون في هذا الإِجماع بأهل الحلِّ والعقد.

وهنا نسأل: مَن هُم؟ وما عددهم؟ وهل هم محصورون في مكان مُعيّن؟ وما الدليل على ذلك؟

ثمّ نسأل: هل المجموع إلاّ ضَمُّ فَرد إلى فرد؟ فإذا جاز الخطأ على الأفراد، جاز على المجموع المُكوَّن مِن الأفراد.

إنّ الإِمام ابن تيميّة يُجيبُ على ذلك بأنّه: لا يَلزم أن يخطأ المجموع إذا أخطأ الأفراد؛ لأنّ للجمع خاصيّة لا توجد في الأفراد، ومَثَلُها مَثَلُ اللُقمة الواحدة لا تُشبع، ومجموع اللُقم يُشبع، والعصا الواحدة تُكسَر في حين مجموع العصيّ لا يُكسَر. إلى أن يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد) (٢) .

وما أدري ما هو وجه الشبه بين كون اللُقَم تُشبع بعكس اللُقمة الواحدة، وبين كون المجموع يَعصِمُ، والأفراد لا تَعصِم؟ وذلك لأنّ اللُقمة تحمل قابليّة الإِشباع بِنسبة مُعيّنة، فإذا ضُمَّت إلى مِثلِها اجتمعت هذه الأفراد مِن قابلية الإِشباع فكوّنت إشباعاً كاملاً، وكذلك العصا تَحمل نِسبة مِن القوَّة، فإذا ضُمَّت لمثلها كوَّنت قوَّة كافية. وأين هذا مِن الفرد المُخطئ؟ فإنّه لا يكوِّن نسبة مِن الصِحّة إذا ضُمَّت لغيرها كَوَّنت مجموعاً صحيحاً، بل بالعكس فالفرد يُمثِّل هُنا نِسبة مِن الخطأ، إذا ضُمَّت لمثلها تَضاعَف الخطأ وكوّن خطأً كبيراً.

إنّ هذا القياس مع الفارق، هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى فإنّ ابن تيميّة لم يَنفِ فِكرة العِصمة، وإنّما نفى أن يكون لواحد ليس إلاّ، فكأنّ العُقدة أن تكون لواحد، أمّا لو نُسِبَت لجماعة فلا إشكال، ومِن ناحية ثالثة: إنّه إنّما اشترط العصمة للأُمّة مِن أجل الثقة وضمان سلامة الأحكام، وهو عين الهَدف الذي تذهب إليه الشيعة، وأنا أنقل لك رأيه مُفصّلاً:

____________________

(١) المُستصفى، مبحث أركان الإِجماع.

(٢) نَظريّة الإِمامة: ١١٧.

١٤٩

رأي ابن تيميّة في العِصمة

قال ابن تيميّة عند رده على الشيعة، عند قولهم: إنّ وجود الإِمام المعصوم لا بُدَّ منه بعد موت النبيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام تتجدّد تبعاً للموضوعات، والأحوال تتغيَّر، وللقضاء على الاختلاف في تفاسير القرآن، وفي فَهم الأحاديث وغير ذلك. ولو كانت عِصمة النبيّ (ص) وكمال الدين كافيين لَما حَدث الاختلاف، فثبت أنّه لا بدَّ مِن إمام مَعصوم يُبيّن لنا معاني القرآن، ويُعيّن لنا مَقاصد الشَرع كما هو مُراده إلى آخر ما ذكروه في المقام، فقال ابن تيميّة: لا يُسلّم أهل السُنّة أن يكون الإِمام حافظاً للشَرع بعد انقطاع الوحي؛ لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشَرع إذا نَقله أهلُ التواتُر كان ذلك خيراً مِن نقل الواحد، فالقُرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفُقهاء مَعصومون في الكلام والاستدلال (١) .

ويختلف هُنا ابن تيميّة عن الرازي، فإذا كانت العِصمة عند الرازي لمجموع الأُمّة، فهي عند ابن تيميّة لجماعة مِن الناس كالقرّاء والفقهاء والمُحدّثين. وهنا يَشترط ابن تيميّة العصمة؛ لضمان حِفظ مضمون الشريعة كما هو الحال عند الآخرين مِن الشيعة وغيرهم، فما الذي أجازها لمجموعة ومنعها عن فرد؟

إنّ عدد المعصومين عند الشيعة لا يَتجاوز الأربعة عَشَر، وهُم مجموعة مُنتَخبة خَصّها الله تعالى بكثير مِن الفضائل بإجماع فِرَق المُسلِمينَ، فلماذا نَستكثر عليهم العِصمة، ونجيزها لغيرهم؟ مجرد سؤال.

رأي جُمهورِ السُنّةِ في العِصمَة

يمكن القول أنّ جُمهور السُنّة يُصحّحون الحديث المرويَّ عن النبيّ (ص)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (٢) ، ولازم هذا الحديث عِصمة الصحابة كما سَيرِد به التصريح مِن بعضهم؛ لأنّ صحَّة الإِقتداء

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ١٢٠.

(٢) طبقات الفُقهاء للشيرازي: ص٣.

١٥٠

بأيٍّ مِنهم ومتابعته في الظُلم لو حصلت حال كونه مُرتكباً للذنب - وهو الحاصل مِن كونه غير معصوم - فمعناه الأمر مِن الله تعالى باتّباع العاصي والظالم ولو لنفسه، وإذا لم يُتابع ويعمل بما أراده النبيّ، فإنّ معناه تركُ أمر القرآن؛ لأنّه قال: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (١) ، والصحابيُّ هُنا ينقل أمرَ الرسول.

فإن قُلت: إنّ الله تعالى أمَرَنا بأن نأخذ الحديث مِن العادل الثِقة لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ) الحجرات: ٦ التي دلَّت بمفهومها على حُجيّة خَبر العادل، ونحن لا نأخذ الأمر إلاّ مِن العادل مِنهم.

قُلت: إنّ ذلك يدلُّ بالمفهوم على أنّ فيهم غيرُ العادل حينئذ وهو المطلوب.

وعلى العموم، إنّ لازم الحديث المذكور عصمة الصحابة، وما سَمعنا مَن يُنكر على هؤلاءِ، فلماذا إذا قال الشيعة بعصمة أئمّتهم يُنتَقدون؟

التفتازاني والعصمة

يقول التفتازاني - وهو مِن أجلاء علماء السُنّة - في كِتابه شرح المقاصد: احتجَّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإِجماع على إمامة أبي بَكر وعُمر وعُثمان (رض) مع الإِجماع على أنّهم لم تَجب عِصمتهم، وإن كانوا مَعصومين بمعنى أنّهم مُنذ آمنوا كان لهم مَلَكة اجتناب المعاصي مع التَمكّن مِنها (٢) ، وفي هذا النصّ أُمور:

١ - إنّ التفتازاني هُنا يُصرِّح بعصمة الخُلفاء الثلاثة.

٢ - يقول: إنّ عِصمتهم غير واجبة. بمعنى أنّهم لا يقسرون عليها، وإلاّ فلا يُتصور تَعلّق الأحكام بالأُمور التكوينيّة، وإنّما مجال الأحكام السُلوك الاختياري، والاستعداد لقبول العِصمة أمرٌ مخلوق فيهم.

٣ - مفاد كلامه: أنّ العصمة ملَكَةٌ تمنع صاحبها مِن مُقارفة الذنب لا على

____________________

(١) الحشر: ٧.

(٢) شرح المقاصد بِتوسّط الغدير للأميني: ٩/٣٧٥.

١٥١

نحو سَلب الاختيار، وهذا عين ما يقوله الشيعة في أئمتهم، وليرجع مَن شاء إلى بحث العصمة في كُتُب الكلام الشيعيّة، وعلى هذا، فلماذا هذه الجعجعة يا مسلمون؟!

شَمسُ الدين الأصفهاني ونور محمّد والعصمة

يذهب الحافظ نور محمّد وشمس الدين الأصفهاني، الأوّل في تاريخ مزار شريف، والثاني كما نَقله عنه الغدير إلى أنّ الخليفة عُثمان معصوم (١) ، وقد نَقله عن كتابه مطالع الأنظار. والرجُلان مِن علماء أهل السُنّة.

الإِيجي والعصمة

يذهب عبد الرحمان الإِيجي صاحِب كتاب المواقف في نفس الكتاب إلى عِصمة الخُلفاء، وعلى النحو الذي قال به التفتازاني فيما ذكرناه عنه، أي أنّها مَلَكة فيهم لا توجب سلب الاختيار (٢) ، وهو مِن عُلماء السُنّة، وقد كَشَفت لنا هذه الجولة، أنّ الشيعة لا ينفردون بالقول بالعِصمة، بل عُلماء السُنّة يذهبون لذلك.

إذاً فما هو وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وما هو وجه نقد الشيعة على القول بها؟

أنا لا أُريد أن أحُشِّد للقارئ نَقد كُتُب السُنّة ومؤلَّفيهم حول موضوع العِصمة، فإنّ كُتبهم طافحة بذلك، ولكن سأستعرض لك رأي كاتب يعيش في القرن العشرين، وفي عصر الذرَّة بالذات، وهو وأَيم الحق مِن أكثر أهل السُنّة الّذين قرأتُ لهُم اعتدالاً في الكتابة عن الشيعة، ولكن مع ذلك كُلّه تبقى الرواسب في النُفوس تعمل عَملها.

إنّي أعتقد أنّ هذا الرجل قد بحث في كُتُب الشيعة وغيرهم قبل أن يَكتُب كِتابه؛ وذلك لِما رأيت له مِن كَثرة المصادر مع افتراض أنّه اطّلع على آراء أهل السُنّة في هذه المواضيع، فلماذا الإِنكار على الشيعة دون الآخرين، وإذا كان لم يطَّلِع - وهو ما أَستبعده - فلماذا يكتب؟

____________________

(١) الغدير نفس: ٩/٣٧٥.

(٢) الغدير لأميني: ٧/١٤٠. المواقف: ص٣٩٩.

١٥٢

موقفنا مِن الغُلوِّ والغُلاة

وبعد شرح مناشئ الغُلوّ أو أهمّها نقول: إنّ الشيعة تبعاً لمواقف أئمّتهم وقفوا موقِفاً حازماً مِن الغلُوّ والغُلاة؛ فسلّطوا عليهم الأضواء وتبرّأوا مِنهم، وكافحوهم، وشهَّروا بهم، وهُم بذلك لا يتعدَّون موقف أمير المؤمنين (ع) حينما يقول: (هلك فيَّ اثنان: مُحبٌّ غالٍ، وعدوٌّ قال)، وموقف الإِمام الصادق (ع) حينما يقول: (ما نحن إلاّ عَبيد الذي خَلقنا واصطفانا، والله مالنا على الله مِن حُجّة، ولا مَعَنا مِن الله براءة، وإنّا لميّتون وموقوفون، ومسؤولون، مَن أحبَّ الغُلاة فقد أبغضنا، ومَن أبغضهم فقد أحبّنا، الغُلاة كُفّار، والمُفوّضة مُشركون، لعنَ الله الغُلاة ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدريّة ألا كانوا مُرجّئة، ألا كانوا حروريّة) (١) .

والإِماميّة لا يورثون الغُلاة، وإليك نَصّ عبارتهم في ذلك: يَرث المُحقُّ مِن المُسلِمينَ مِن مُبطِلهم، ومُبطلهم مِن مُحقِّهم ومبطلهم، إلاّ الغُلاة يرث مِنهم المسلمون، وهم لا يرثون المُسلِمينَ، كما أنّ الإماميّة لا يُغسِّلون موتى الغُلاة ولا يدفنونهم، ويُحرِّمون تزويجهم وإعطائهم الزكاة.

وتجد هذه الأحكام موزّعة في كُتُب فقه الإماميّة في أبواب الطهارة والزكاة والإِرث.

إنّ الإماميّة لا يعتبرون الغُلاة مُسلمين:

يقول الشهيدان الأوّل والثاني في اللُمعة وشرحها في باب الوقف! عنه تعريف المُسلِمينَ: والمسلمون مَن صلّى إلى القبلة، أي اعتقد الصلاة إليها، وإن لم يصلِّ لا مستحلاً، إلاّ الخوارج والغُلاة، فلا يدخلون في مََفهوم المُسلِمينَ، وإن صلّوا إليها للحُكم بكُفرهم (٢) وألحقا بهم المشبهة والمجسمة في الحكم، بل إنّ

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي: ٣/٥١.

(٢) اللُمعة الدِمشقيّة: ١/٢٨٨ طبع إيران.

١٥٣

الإِمام الصادق (ع) يعتبر الجُلوس إلى المُغالي، وتصديقه بحديثه مُخرجاً مِن الإِيمان كما روى ذلك المُفَضّل بن يزيد قال: قال لي أبو عبد الله الصادق، وقد ذكر أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة: (لا تُقاعدوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا تورثوهم)، وقال الصادق لمرازم - أحد أصحابه -: (قل للغالية توبوا إلى الله فإنّكم فُسّاقٌ مشركون) (١) .

آراء بعض الباحثين

وانطلاقاً مِن ذلك يقول الشيخ المُفيد: الغُلاة مِن المتظاهرين بالإِسلام، وهم الّذين نَسبوا أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب وذريته إلى الإلوهيّة، والنبوّة، ووصفوهم مِن الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدَّ، وخرجوا عن القصد، فهُم ضُلاّل كُفّار (٢) .

ولا أحتاج إلى حَشد النُصوص والأدلة على براءة الشيعة مِن الغُلاة، وأي موقف أشدُّ صراحةً مِن هذه المواقف التي ذكرتها.

ولا يسع مؤمناً يؤمن بالله ورسوله، ويصدر عن تعاليم الإِسلام في سلوكه، ثمّ يَنزع إلى الغلو في عقيدة أو بَشر، إلاّ مَن ضَرب الله على بصيرته.

ولأجل وضوح موقف الشيعة مِن الغُلاة انطلقت الأصوات الموضوعيّة تَشهد ببراءتهم مِن ذلك، ومِن هذه الأصوات: مؤلفو دائرة المعارف الإسلاميّة، فقد جاء في دائرة المعارف:

الزيديّة والإِماميّة الّذين يؤلّفون المذهب الوسط يحاربون الشيعة الحلوليين حرباً شعواء - الحلولي لا نعتبره مِن الشيعة كما مرَّ - ويعتبرونهم غُلاة يُسيئون إلى المَذهب، بل يعتبرونهم مارقين عن الإِسلام (٣) .

ويقول الدكتور أحمد محمود في نَظريّة الإِمامة عند ذكره للبابيّة والبهائيّة:

____________________

(١) الإِمام الصادق لأسد حيدر: ٤/١٥٠.

(٢) شرح عقائد الصدوق للشيخ المفيد: باب الغُلاة.

(٣) دائرة المعارف الإسلاميّة: ١٤/٦٣.

١٥٤

وفي البابيّة آراء غالية جعلت مِنها مذهباً منشقاً تماماً عن الإِسلام، واتّفق عُلماء الأزهر في مصر، وعُلماء الشيعة في العراق وإيران على تكفير البابيّة والبهائيّة، وأُغلق المَحفل البهائي في مصر (١) .

وقد استعرض الدكتور أحمد أمين حَرَكة الغُلاة فقال: إنّ أفراداً بُسطاء هُم الغُلاة الّذين يؤلِّهون عليّاً، وإنّ الشيعة تبرأ مِنهم، ولا يجوز عندهم الصلاة عليهم (٢) .

هذه أمثلة بسيطة في موضوع الغلوّ والغُلاة، أضعها أمام الّذين دأبوا على رمي الشيعة بالغلو، ولست أنفي أن يكون بعضَ مَن شمِله اسم الشيعة بمعنى انتمائه إلى الفِئة التي تُفضِّل عليّاً، أو قل: للتشيُّع بمعناه اللغوي قد نسبت له آراء وأقوال تُفيد الغُلوّ، وقد بادوا، وبادت معهم آراؤهم، ولا يوجد اليوم مِنهم أحد إلاّ في بُطون الكُتُب.

ومِن ذلك ما ذكره البغدادي في الفَرقُ بينَ الفِرَق حيث قال: الإماميّة مِن الرافضة، هم خمس عشرة فِرقة هي: الكامليّة، والمحمديّة، والباقريّة، والناووسيّة، والشمطيّة، والعماريّة، والإِسماعيليّة، والمُباركيّة، والموسويّة، والقطعيّة، والاثنا عشريّة، والهشاميّة، والزراريّة، واليونسيّة، والشيطانيّة (٣) .

وتعقيباً على قول البغدادي نَذكر: أن الإماميّة هُم الاثنا عشريّة، وهم جمهور الشيعة اليوم، ولا يوجد مِن الشيعة غيرهم، وغير الزيديّة والإسماعيليّة في هذه الآونة، ثمّ إنّ الاثني عشريّة الّذين هُم مدار بحثنا يمتازون عن غيرهم بعقائدهم، ولا يصحُّ أن تُنسب إليهم آراء غيرهم؛ لأنّه يجمعه معهم الاسم، وشيء آخر هو أنّ مَن ذكرهم البغدادي قد يُمثِّلون لكلِّ فرقة ذكرها بضعة أفراد ليس إلاّ، وهذا اللون مِن الخبط والتساهُل تعلّمنا أن نرى مِثله كثيراً في كِتاب الفِرَق لابن طاهر، وغيره، خذ مثلاً ما يقول ابن طاهر في كتابه الفَرقُ بينَ الفِرَق عن جابر بن يزيد الجُعفي يقول:

جابر بن يزيد الجعفي مِن المحمديّة، وهم أصحاب محمّد بن عبد الله بن الحسن ينتظرون ظهوره، وكان يقول برجعة الأموات إلى الدنيا قبل القيامة (٤) .

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ص٤٣٦ هامش.

(٢) فجر الإِسلام: ص٢٣٧١.

(٣) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص٥٣.

(٤) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص٤٤.

١٥٥

ولم يكن جابر مِن أتباع محمّد بن عبد الله بن الحسن، ولا كان يقول برجعة مُطلق الأموات، وإنّما كان يقول برجعة بعض أهل البيت؛ لروايات سمِعها ليس إلاّ، وهكذا يكون التحقيق عند أمثال ابن طاهر مِن الكُتّاب، كأنّ مسألة العقائد أمرٌ بهذه السُهولة بحيث ينسب للناس ما لم يقولوه، ويرجعهم إلى فئة ليسوا مِنها.

وأعود لموضوع الغُلاة فأقول: قد اتّضح للقارئ موقف الشيعة مِن الغُلاة، ولكن مع ذلك تجد باحثاً كالزبيدي صاحب تاج العروس يُعرِّف الإماميّة في كتابه التاج فيقول: الإماميّة هُم فرقة مِن غُلاة الشيعة (١) .

وتجد الدكتور محمود حِلمي في كتابه تَطوّر المُجتمع الإِسلامي العربي يقول: وقد سُمّوا بالشيعة؛ لأنّهم شايعوا عليّاً، وقدّموه على سائر أصحاب رسول الله (ص)، واستشهد أهل الشيعة بنُصوص مِن القرآن الكريم، فسروها على حسب نظريّتهم، وغالى بعضُ الشيعة في تبرير أحقيّة عليِّ بن أبي طالب، وأضفى عليه بعض صِفات التقديس والإلوهيّة (٢) .

إنّك لَتستغرب لهجة هؤلاءِ الكُتّاب، خُصوصاً بعض كُتّاب مصر، فإنّهم يُصوّرون الشيعة كأنّهم أُناس لا إيمان لهم ولا دين، يتلاعبون بالنصوص مِن دون رقيب مِن الله تعالى، ولا ضوابط مِن عِلم وخُلُق، وإنّهم واللهِ أولى بذلك، وإلاّ فما الدليل على ما ذكره محمود حلمي، وهذه كُتُب الإماميّة بين يديه، فليدلّنا على مكان تَنسب فيه الشيعة الحلول والإلوهيّة إلى عليٍّ، وسوف لا يجد ذلك قطعاً.

إنّهم يَصدُرون فيما يقولون عن عدم شعورٍ بالمسؤوليّة: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) الكهف: ٥ والأنكى مِن ذلك أن تجد مَن تأثّر بهؤلاء الكُتّاب مِن قريب أو بعيد، وهو مِن الشيعة وتراه يكتب بنفس الأُسلوب، ورحم الله مَن يقول:

وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضة

على المرءِ مِن وقع الحُسام المُهنّدِ

يقول الدكتور كامل مصطفى في كتابه: وبذلك يتبيّن أنّ الغُلاة - وإن كانوا مغضوباً عليهم - مِن الشيعة المعتدلين، وأئمّتهم قد أسّسوا العقائد الأصليّة للتشيُّع

____________________

(١) تاج العروس: ٨/١٩٤.

(٢) تَطوّر المُجتمع الإِسلامي: ص٤٨.

١٥٦

في بداء، ورجعة، وعِصمة، وعِلم لَدُنّي بحيث صارت مبادئ رسميّة للتشيُّع فيما بعد، ولكن على صورة مُلطّفة، انتهى.

وظهر لي أنّ الدكتور كامل أخذ ذلك مِن تصريح ابن نوف - وهو أحد أصحاب المُختار - وهو قد أخذها مِن المُختار (١) ، وأُعيد إلى الذاكرة أنّ العقائد قد أخذها الشيعة مِن القرآن والسُنّة كما بَرهنّا عليه فيما مرَّ، ثمّ لو قُدِّرَ أنّ ابن نَوف هذا أو المُختار قد قالا قولاً خاصّاً بهما، فما ذنب الشيعة، ومَن هو ابن نوف حتّى يُمثِّل الشيعة؟!

وإذا كان الدكتور كامل يَعترف بأنّ الغُلاة مَغضوب عليهم مِن الشيعة وأئمّتهم، فكيف تأخذ الشيعة مِنهم؟! وهي إنّما غضبت عليهم لغلوِّهم. إذا كانت هذه العقائد مِن الغلوّ، وهو ليس منه في شيء، أليس هذا هو التناقض بِعينه؟ وإذا كنّا نعذر حلمي وأمثاله؛ لأنّهم لم يأخذونا مِن مصادرنا، فما عُذر مثل كامل الشيبي، وهو مِن الشيعة، ويعيش بين مصادرهم.

وليس هذا بالاستنتاج الوحيد مِن الدكتور كامل الذي لا نقرّه عليه، بل له استنتاجات كثيرة مِن هذا النوع، ومنها:

أنّه عندما استعرض مصادر القول بالرجعة عنه الشيعة ذكر أنّ مِن مصادرها كلمات للإِمام عليٍّ (ع) - وَرَدَت في نهج البلاغة - عندما أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل، وقال له بعض أصحابه: وددّتُ أن أخي فلاناً كان شاهدنا؛ ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له أمير المؤمنين (ع): (أَهَوى أخيك معنا؟) قال: نعم، قال: (فقد شَهِدَنا) ولعلّ الإِمام يشير إلى الآية: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: ١٦٩. ولكنّ الخَبَر يتوجّه إلى الرجعة بكلّ ما فيها مِن عِبرة وعمق، بل إنّ بقيّة الخبر تنفذ إلى أغوار بعيدة مِن فلسفة الرجعة وحكمتها، فإنّ الإِمام يقول:

(ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال، وأرحام النساء سَيَرعف بهم الزمن، ويقوى بهم الإِيمان)

ومِن ذلك يبدو أنّ عليّاً لا يكتفي بتقرير عودة الماضين في الجهاد ليقطفوا ثمرة جهادهم، بل يُقرّر أنّ المجاهدين الآتين يحضرون هذا النصر؛ ليزيد ذلك مَن أيدهم، ويربط على قلوبهم، وتلك أُمور فيها مِن

____________________

(١) الصِلَة بين التصوّف والتَشَيُّع، فصل الغُلاة.

١٥٧

الأفلاطونيّة القديمة والحديثة مدخل كبير انتهى كلامه (١) .

وأنا أضع هذا النصّ بين يدي القارئ؛ ليرى ما هو مقدار الصواب مِن هذه الاستنتاجات التي أوردها الدكتور، والآثار التي رَتّبها عليها، والاكتشافات الأفلاطونيّة التي ذكرها، وأُعقِّب على ذلك بما يلي:

أولاً: إذا كان هذا النصّ وارداً في الرجعة، فمعنى هذا أنّ الإِمام عليّاً (ع) هو الذي وضع عقيدة الرجعة، وليس الغُلاة كما يقول الدكتور كامل.

ثانياً: إنّ هذا النصّ - وبكل بساطة - أجنبي كما ذكره الدكتور، ولا صِلة له بالمَرّة بالمعاني التي ذكرها، وكلّ ما في الأمر أنّ هذا النصّ يُفيد معنى الرواية (مَن أحبَّ عمل قوم حُشر معهم، وشاركهم في عملهم)، ولذلك سأل الإِمام عليّ (ع) الرجل عن هوى أخيه، هل هو مع أمير المؤمنين (ع) وأصحابه؟ فلّما أجابه بنعم قال: (لقد شهدنا) أي شاركنا بمشاعره، ثمّ قال له الإِمام: إنّ جميع مَن سيرعف بهم الزمان، وهُم على رأينا سيشاركوننا بعد ذلك بحصول الثواب والفرح بالنصر، وكم لهذا الموضوع مِن نظائر، ومِن ذلك ما رواه مؤرّخوا واقعة الطفِّ حيث قالوا: إنّ جابر بن عبد الله زار الحسين (ع) بعد قَتله، فقال في زيارته: (أشهدُ أنّا شاركناكم فيما أنتم فيه)، فقال له رفيقه الأعمش: إن القوم قُطعت رؤوسهم، وجاهدوا حتّى قُتلوا، فكيف شاركناهم نحن فيما هُم فيه؟! فقال له جابر: إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحاب الحسين.

ذكر ذلك أصحاب المزارات كافّة.

هذا هو معنى كلام الإِمام عليّ (ع)، لا كما ذهب إليه الدكتور.

أينَ مَوضِعُ الغُلوِّ

أعود بعد ذلك لأضع بين يدي الأستاذ فرغل بضع روايات مِن مئات مِن نوعها تدله على موضع الغُلوِّ؛ ليعلم أنّ الغُلوَّ عند غير الشيعة، وعلى أسوأ

____________________

(١) الصِلة بين التَصوّف والتَشَيُّع: ص١١٤.

١٥٨

الفروض، فإنّ عند السُنّة أضعاف ما عند الشيعة، وسأبدأ معه مِن الخلافة وأتسلسل معه.

١ - الشاهدُ الأوّل:

ذكر الشيخ إبراهيم العبيدي المالكي في كتابه عُمدة التحقيق في بشائر آل الصِدّيق، قال رويَ أنّ النبيّ (ص) قال يوماً لعائشة: (إنّ الله لمّا خَلق الشمس، خَلقها مِن لؤلؤة بيضاء بِقَدر الدُنيا مائة مَرّة وأربعين مَرّة - مع مُلاحظة أنّ حجم الشمس كما يقول الفلكيّون مليون وثلثمائة ألف مَرّة تقريباً - وجعلها على عَجَلَة، وخلق للعجلة ثمانمائة عُروة وستين عُروة، وجعل في كلّ عُروة سلسلة مِن الياقوت الأحمر، وأمر ستّين ألفاً مِن الملائكة المُقرَّبين أن يَجرّوها بتلك السلاسل مع قوتهم التي اختصَّهم الله بها، والشمس مِثل الفلك على تلك العَجَلَة، وهي تجول في القُبّة الخَضراء، وتجلو جَمالها على أهل الغبراء، وفي كلّ يوم تقف على خط الاستواء فوق الكعبة؛ لأنّها مركز الأرض - ملاحظة: خط الاستواء ليس فوق الكعبة - وتقول: يا ملائكة ربّي، إنّي لأستحيي مِن الله عزّ وجل إذا وصلت إلى مُحاذاة الكعبة التي هي قِبلة المُسلِمينَ أن أجوز عليها، والملائكة تَجرُّ الشمس؛ لتعبر على الكعبة بكلِّ قوّتها، فلا تَقبل مِنهم، وتعجز الملائكة عنها فالله تعالى يوحي إلى الملائكة، ومِن الإِلهام فَيُنادون: أيتها الشمس بحرمة الرجل الذي اسمه منقوش على وجهك المنير إلاّ رجعت إلى ما كُنت فيه مِن السير، فإذا سمعت ذلك تَحرّكت بقُدرة المالك.) فقالت عائشة:

يا رسول الله مَن الرجل الذي اسمه منقوش عليها؟

قال: (هو أبو بكر الصِدّيق، يا عائشة قَبلَ أن يخلق الله العالم، عَلِمَ بعلمه القديم أنّه يَخلق الهواء، ويخلق على الهواء هذه السماء، ويخلق بحراً مِن الماء، ويخلق عليه عَجَلَة مركباً للشمس المُشرقة على الدنيا، وإنّ الشمس تَتمرَّد على الملائكة إذا وصلت الاستواء، وإنّ الله قدَّر أن يخلق في آخر الزمان نبيّاً مُفضَّلاً على الأنبياء، وهو بعلك يا عائشة على رغم الأعداء، ونقش على وجه الشمس اسم وزيره أعني أبا بكر صِدّيق

١٥٩

المصطفى، فإذا أقسَمَتْ الملائكة عليها به زالت الشمس، وعادت إلى سيرها بقدرة المولى، وكذلك إذا مرَّ العاصي مِن أُمتي على نار جهنَّم، وأرادت النار أن تَهجم على المؤمن، فلحُرمة مَحبّة الله في قَلبه، ونقش اسمه على لسانه ترجع النار إلى ورائها هاربة) (١) .

٢ - الشاهد الثاني:

ذكر محمّد بن عبد الله الجرداني في مصباح الظلام قال: روي عن ابن عبّاس جاء جبرئيل وقال: (يا محمّد اقرأ عُمَر السلام، وأخبره أنّ رضاه عِزٌّ، وغضبه حِلمٌ، وليبكِ الإِسلام بعد موتك على موت عُمَر.)

فقال: (يا جبرئيل أخبرني عن فضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى؟) فقال: (يا محمّد لو جلستُ معك قدر ما لبث نوح لم أستطع أن أُخبرك بفضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى) (٢) .

٣ - الشاهد الثالث:

ذكر الإِمام أحمد في مسنده بإسناده عن عائشة: أنّ أبا بكر استأذن على رسول الله (ص)، وكان مُضطجعاً في بيته كاشفاً عن فَخذيه وساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال فتَحدّث، ثمّ استأذن عُمَر فأذن له وهو كذلك فتحدّث، ثمّ استأذن عُثمان، فجلس رسول الله (ص) وسوّى ثيابه، فلّما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُمَر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُثمان فجلس، فجلست وسوّيت ثيابك!

فقال: (ألا أستحي مِن رجل تستحي منه الملائكة) (٣) .

هذا ثلاثة نماذج مِن عشرات مِن الروايات: التي يأباها الخُلفاء أنفسهم، فإنّ لهم مِن مواقفهم ومَناقبهم ما يكفيهم. إنّهم ليسوا بحاجة إلى أن تُشاد لهم صُروح مِن خيال أبله، كما أّنّ تاريخنا الإِسلامي أعزَّ علينا مِن أن نرضى بأن تكون

____________________

(١) عُمدة التحقيق: ص١٨٤.

(٢) مصباح الظلام: ٢/٢١٦.

(٣) مصباح الظلام: ٢/١٦.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237