هوية التشيع

هوية التشيع25%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38694 / تحميل: 7479
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الباب الأوّل

وفيه فُصول

٢١

٢٢

الفصل الأوّل

مَتى بَدَأ التَشَيُّع؟

فيما مضى في فَصل التمهيد انتهينا إلى أنّ التَشَيُّع في بداياته ونهاياته واحد، وأنّ التطوّر المفترض فيه ما هو إلاّ تَبَرعُم أفكار مُستَنبَطَة مِن الأُصول حَدَثتْ عند المُمارسة، وعناوين هي ثمرة لتفاعُل بين أفكار، ولمقارعة حُجَجٍ بعضها ببعض مِمّا يوجَد عادة في التاريخ الثقافي لكلّ نِحلَة مِن النِحَل.

والآن لا بدَّ مِن الرُجوع إلى بداية التَشَيُّع وبذرته التاريخيّة، واستظهار ما إذا كانت سِنخيّتها تَتَحدُّ مع الفِكر الإِسلامي أم لا؟

ثمّ ما هو حجمها؟ - أي البُنية الشيعيّة يوم ولادتها -، وما هي أرضيّة تكوينها؟

وهل هي عمليّة عاطفيّة، أم عمليّة عُقلائيّة انتهى إليها معتنقوها، بُمعاناة وتقييم واعيَين؟

ولَمّا كانت هذه الأُمور مِمّا اختُلِفَ فيه تبعاً لاستنتاج الباحثين، ومزاجهم، ومُسبقاتهم، وما ترجّحَ لديهم بمُرَجِّح مِن المُرجِّحات، فلا بُدَّ مِن تقديم نماذج مِن آراء الباحثين في هذه المواضيع تكون المادّة الخام، ثمّ يبقى على القارئ أن يستشفَّ الحَقيقة مِن وراء ذلك، ويكوّن له رأياً يَجتهد في أن يكون موضوعيّاً.

إنّ المؤرِّخين والباحثين عندما يُحدِّدون فترة نُشوء التَشَيُّع يَتَوزَّعون على مدىً يبتدئ مِن أيّام النبيّ، ونهاياته بعد مَقتل الحسين (ع).

وَسَأستعرض لك نماذج مِن آرائهم في ذلك، وأترك ما أذهبُ إليه إلى آخر الفصل:

أ - رأي يرى أنّهم تكوَّنوا بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام.

ومِمَن يذهب لهذا:

٢٣

أولاً: ابن خُلدون، فقد قال: إنّ الشيعة ظهرت لَمّا تُوفّي الرسول، وكان أهلُ البيت يرون أنفسهم أحقُّ بالأمر، وأنّ الخلافة لرجالهم دون سواهم مِن قُريش، ولمّا كان جماعة مِن الصحابة يتشيَّعون لعليٍّ، ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدِلَ به إلى سواه تأفّفوا مِن ذلك (١) إلخ.

ثانياً: الدكتور أحمد أمين، فقد قال: وكانت البذرة الأولى للشيعة، الجماعةُ الّذين رأوا بعد وفاة النبيّ أنّ أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه (٢) .

ثالثاً: الدكتور حسن إبراهيم، فقد قال: ولا غَرْوَ فقد اختلف المسلمون إثرَ وفاة النبيّ (ص) فيمَنْ يولونه الخلافة، وانتهى الأمر بتولية أبي بكر، وأدّى ذلك إلى انقسام الأمّة العربيّة إلى فَريقين، جماعة وشيعة (٣) .

ربعاً: اليعقوبي قال: ويعدُّ جماعة مِن المُتخلّفين عن بيعة أبي بكر، هُم النواة الأولى للتشيُّع، ومِن أشهرهم: سلمان الفارسي، وأبو ذرّ الغفاري، والمقداد بن الأسود، والعبّاس بن عبد المطلب (٤) .

وتعقيباً على ذكر المُتخلّفين عن بيعة الخليفة أبي بكر، قال الدكتور أحمد محمود صُبحي: إنّ بواعث هؤلاءِ مُختلفة في التَخلّف، فلا يُستَدلّ مِنها على أنّهم كُلّهم مِن الشيعة. وقد يكون ما قاله صحيحاً غير أنّ المُتخلِّفين الّذين ذكرهم المؤرِّخون أكّدت كُتُب التراجم على أنّهم شيعة، وستأتي الإِشارة لذلك في مَحلّها مِن الكتاب (٥) .

خامساً: المُستَشرِق جولد تسيهر قال: إنّ التَشَيُّع نشأ بعد وفاة النبيّ (ص)، وبالضبط بعد حادثة السقيفة (٦) .

___________

(١) تاريخ ابن خُلدون: ٣/٣٦٤.

(٢) فجر الإِسلام: ص٢٦٦.

(٣) تاريخ الإِسلام: ١/٣٧١.

(٤) تاريخ اليعقوبي: ٢/١٠٤.

(٥) نَظريّة الإِمامة: ص٣٣.

(٦) العقيدة والشريعة: ص١٧٤.

٢٤

ب -: الرأي الذي يذهب إلى أنّ التَشَيُّع نشأ أيّام عُثمان، ومِن الذاهبين لذلك: جماعة مِن المؤرِّخين والباحثين مِنهم ابن حَزَم وجماعة آخرون، ذَكَرَهم بالتفصيل يحيى هاشم فرغل في كتابه (١) ، وقد استند إلى مُبرِّرات شرحها.

ج -: الرأي الذي يذهب إلى تكوّن الشيعة أيّام خلافة الإِمام عليٍّ (ع)، ومِن الذاهبين إلى هذا الرأي النوبختي في كتابه فِرق الشيعة (٢)، وابن النديم في الفهرست، حيث حَدّده بفترة واقعة البصرة وما سبقها مِن مُقدّمات كان لها الأثر المُباشر في تبلور فِرقة الشيعة وتكوينها (٣) .

د -: الرأي الذي يذهب إلى أنّ ظهور التَشَيُّع كان بعد واقعة الطفِّ، على اختلافٍ في الكيفيّة بين الذاهبين لهذا الرأي، حيث يرى بعضُهم أنّ بَوادِر التَشَيُّع التي سبقت واقعة الطفِّ، لم تصل إلى حدِّ تكوين مذهب مُتميِّز له طابعه وخواصُّه، وإنّما حدث ذلك بعد واقعة الطفِّ، بينما يذهب (٤) آخرون إلى أنّ وجود المذهب قبل واقعة الطفِّ كان لا يعدو النزعة الروحيّة، ولكن بعد واقعة الطفِّ أخذ طابعاً سياسيّاً، وعمّق جذوره في النفوس، وتحدّدت أبعاده إلى كثير مِن المضامين. وكثير مِن المستشرقين يذهبون لهذا الرأي، وأغلب المُحدِّثين مِن الكُتّاب.

يقول الدكتور كامل مصطفى: إنّ استقلال الاصطلاح الدالّ على التَشَيُّع، إنّما كان بعد مَقتل الحسين (ع)، حيث أصبح التَشَيُّع كياناً مُميَّزاً له طابعه الخاص.

في حين يذهب الدكتور عبد العزيز الدوري، إلى أنّ التَشَيُّع تَميّز سياسيّاً ابتداءً مِن مَقتل أمير المؤمنين عليٍّ (ع)، ويتضمّن ذلك فترة قتل الحسين (ع)، حيث يعتبرها امتداداً للفترة السابقة (٥) .

وإلى هذا الرأي يذهب بروكلمان في تاريخ الشعوب الإسلاميّة حيث

____________________

(١) عوامل أهداف نشأة عِلم الكلام: ١/١٠٥.

(٢) فِرق الشيعة: ص١٦.

(٣) الفهرست لابن النديم: ص١٧٥.

(٤) الصِلة بين التصوُّف والتَشَيُّع: ص٢٣.

(٥) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص٧٢.

٢٥

يقول: والحقُّ أنّ ميتة الشهداء الذي ماتها الحسين، ولم يكن لها أيُّ أثَر سياسيٍّ - هذا على زعمه - قَد عملت في التطوّر الديني للشيعة، حزب عليٍّ الذي أصبح بعدُ مُلتقى جَمع النَزعات المناوئة للعرب - وهو زعم باطل - واليوم لا يزال ضريح الحسين (ع) في كربلاء، أقدس مَحجّة عِندَ الشيعة، وبخاصة الفُرس الّذين ما فتئوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره، غايةَ ما يطمعون فيه (١) .

إنّ رأي بروكلمان، بالإضافة لِما فيه مِن دسٍّ، يُخالف ما عليه مُعظم مَن رَبَط ظهور التَشَيُّع بمقتل الحسين، حيث يذهبون إلى أنّ التميّز السياسي للمذهب ولدته واقعة الطفِّ، بينما يرى بروكلمان أنْ لا أثرَ سياسيّ للواقعة، فهو مِن قبيل إنكار البدهيّات، وإنّما يُقصِر أثر الواقعة على تعميق المذهب دينيّاً فقط.

وقد شايع بروكلمان في هذا الرأي جماعة آخرون، ذكرهم يحيى فرغل مُفصّلاً في كتابه (٢) .

إنّ هذه الآراء الأربعة في نشأة التَشَيُّع لا تَصمُد أمام المُناقشة، ولا أريد أن أتَعجّلَ الردّ عليها، فسأذكر الرأي الخامس، ومنه يتّضح تماماً أنّ هذه الآراء تستند إلى أحداث أومَضَ فيها التَشَيُّع نتيجة احتكاكه بمؤثّر مِن المؤثّرات في تلك الفترة، التي أرَخَت بها تلك الآراء ظهور التَشَيُّع فظنّوه وُلِد آنذاك، بينما هو موجود بكيانه الكامل منذ الصدر الأوّل.

وقد آن الأوان لأعرض لك رأي جُمهور الشيعة، وخاصّة المُحقّقين مِنهم:

هـ -: رأي الشيعة وغيرهم مِن المُحقّيين مِن المذاهب الأُخرى:

حيث ذهب هؤلاءِ إلى أنّ التَشَيُّع وُلِد أيّام النبيّ (ص)، وأنّ النبيّ نفسُهُ هو الذي غَرسه في النفوس، عن طريق الأحاديث التي وردت على لسان النبيّ (ص)، وكشفت عمّا لعليٍّ (ع) مِن مكانة في مواقع مُتعدّدة، رواها - إضافة إلى الشيعة - ثُقاة أهل السُنّة.

ومنها: ما رواه السيوطي عن ابن عساكر عند تفسير الآيتين السادسة والسابعة مِن سورة البيّنة، بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: كُنّا عند النبيّ (ص) فأقبل عليٌّ (ع)

____________________

(١) تاريخ الشُعوب الإسلاميّة: ص١٢٨.

(٢) عوامل وأهداف نشأة عِلم الكلام: ١/١٠٦.

٢٦

فقال النبيّ (ص): (والذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لَهُمُ الفائزون يوم القيامة)، فَنَزَلَ قولُهُ تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

وأخرج ابن عَدي عن ابن عبّاس قال: لَمّا نزل قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال النبيّ (ص) لعليٍّ (ع):(هُم أنتُ وشيعتك).

وأخرج ابن مردَويه عن عليٍّ (ع) قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ألَم تسمع قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... ) هُم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدُكم الحوض، إذا جاءت الأمم للحساب تُدعَون غُرّاً مُحجّلين) (١) .

ومِن هُنا ذهب أبو حاتم الرازي، إلى أنّ أوّل اسم لمذهب ظهور في الإِسلام هو الشيعة، وكان هذا لَقَب أربعة مِن الصحابة: أبو ذر، وعمّار، والمقداد، وسلمان الفارسي، وبعد صِفّين اشتهر موالي عليٍّ بهذا اللقب (٢) .

إنّ هذه الأحاديث التي مرَّت، والتي أخرجها كلٌّ مِن ابن عساكر، وابن عدي، وابن مردويه، يُعقِّب عليها أحمد محمود صبحي في كتابه نَظريّة الإِمامة فيقول: ولا تفيد الأحاديث الواردة على لسان النبيّ (ص) في حقِّ عليٍّ (ع) أنّ لعليٍّ شيعة في زمان النبيّ، فقد تنبّأ النبيّ بظهور بعض الفِرَق كإشارته إلى الخوارج والمارقين، كما يُنسَب إليه أنّه قال لعليٍّ: (إنّك تُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)، ولا يدلُّ ذلك على وجود جماعة مُستقلَّة لها عقائد متمايزة، أو تصوّرات خاصّة (٣)

وأنا أُلفِت نَظر الدكتور أحمد مَحمود إلى أنّ الشيعة لا يستدلّون على ظُهور التَشَيُّع أيّام النبيّ (ص) بما ورد على لسانه مِن أحاديث، فالمسألة كما يُسمّيها الأصوليّون على نحو القضية الحقيقيّة لا الخارجيّة، أي لا يلزم وجودهم بالفعل كما استظهره الدكتور، وإنّما هي صفات ذكرها النبيّ (ص) للشيعة متى وجدوا وأينما وجدوا، أمّا الاستدلال على ظهور الشيعة أيّام النبيّ، فَمِن روايات وقرائن كثيرة يوردونها في هذا المقام، أورد قِسماً مِنها الدكتور عبد العزيز الدوري، واستعرض مصادرها (٤) مع ملاحظة أنّه قَيَّدَ

____________________

(١) الدُرُّ المَنثور للسيوطي: ٦/٣٧٦.

(٢) رَوضاتُ الجنّات للخونساري: ص٨٨.

(٣) نَظريّة الإمامة: ص٣١.

(٤) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص٧٢.

٢٧

التَشيُّع بأنّه تَشيُّع روحي، كما نصَّ على قِسم مِن أدلّتهم على ذلك، يحيى هاشم فَرغل في كتابه (١) .

إنّ بعض هذه الآراء يَرجِع بالبداية الزمنيّة في ظهور الشيعة إلى وقتٍ مُبكِّر في حياة النبيّ (ص)، حيث التأمة جماعة مِن الصحابة تُفضِّل عليّاً (ع) على غيره مِن الصحابة، وتتّخِذه رئيساً.

ومِن هؤلاءِ: عمّار بن ياسر، وأبو ذرِّ الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وجابر بن عبد الله، وأُبي بن كعب، وأبو أيّوب الأنصاري، وبنو هاشم إلخ (٢) .

ولهذا ذهب الباحثون إلى تخطئة مَن يُؤرّخ للتشيُّع وظهوره بعُصور متأخّرة، مع أنّ الأدلة التاريخيّة مُتوفِّرة على وجودهم أيّام الرّسول صلوات الله عليه وآله.

يقول محمّد بن عبد الله عنان في كتابه تاريخ الجمعيّات السِريّة، عند تعليقه على الحادثة التي روتها كُتُب السيرة (٣) حين جَمَعَ النبيّ عشيرته عند نُزول قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشعراء: ٢١٤، ودعاهم إلى اتّباعه، فلم يُجبه إلاّ عليّ بن أبي طالب، فأخذ النبيّ برقبته وقال: (هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.) إلخ. عَلَّق محمّد عبد الله بقوله: مِن الخطأ أن يقُال، إنّ الشيعة إنّما ظهروا لأوّل مرّة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرسول حين أمِر بإنذار عشيرته بهذه الآية.

____________________

(١) عوامل وأهداف نشأة عِلم الكلام: ١/١٠٥.

(٢) المصدر السابق: ص١٠٦.

(٣) حياة محمّد لهيكل، ط مصر الطبعة المؤرّخَة ١٣٥٤، ص١٠٤.

٢٨

الفَصلُ الثاني

الأدلّة على تَكوّن التَشيُّع أيّام النَبيّ

١ - النُصوص التاريخيّة على وصف جماعة بالتَشيُّع أيّام النبيّ (ص)، وقد مَرّت الإِشارة لذلك، ولهذا يقول الحسن بن موسى النوبختي عند تحديده للشيعة:

فالشيعة فِرقةُ عليِّ بن أبي طالب، المُسمَّون بشعية عليٍّ في زَمن النبيّ - ثمّ عدَّدَ جماعة مِنهم وقال: - وهم أوّل مَن سُمّي باسم التَشيُّع؛ لأنّ اسم التَشيُّع كان قديماً لشيعة إبراهيم (١) .

٢ - ما عليه جُمهور الباحثين والمؤرّخين، الّذين ذهبوا إلى أنّ التَشيُّع ظَهَرَ يوم السقيفة،فإنّ ذلك ينهض دليلاً على وجوده أيّام النبيّ (ص)؛ لأنّه مِن غير المعقول أن يتبلور التَشيُّع بأسبوع واحد - أي المُدّة بين وجود الرسول ووفاته، بحيث يَتّخذ جماعة مِن الناس مواقف مُعيّنة، ويَتّضح لهم اتجاهٌ له ميزاته وخواصّه، فإنّ مِثل هذه الآراء تحتاج في تكوينها وتبلورها إلى وقت ليس بالقليل، وكلّ مَن له إلمام بحوادث السقيفة، وموقف الممتنعين عن بيعة أبي بكر، وحِجاجهم في ذلك الموضوع يجزم بأنّ تلك المواقف لم تتكوّن بوقت قصير وبسرعة كهذه السّرعة، وذلك لوجود اتّجاهات متبلورة، وتأصُّلٍ في طرح نظريّات مُعيَّنة.

٣ - إنّ مِن غير المعقول أن ترد على لسان النبيّ (ص) أحاديث في تفضيل

____________________

(١) الفِرق والمقالات للنوبختي، باب تعريف الشيعة.

٢٩

الإِمام عليٍّ (ع)، والإِشارة إلي مؤهّلاته ثمّ يَقفُ المسلمون مِن ذلك موقف غير المُبالي، وهُم منَ هُم في إيمانهم وطاعتهم للرسول (ع)، ولا سيّما والمواقف في ذلك قد تعدَّدت.

وسأذكر لك مِنها:

أ - الموقف الأوّل:

عندما نَزل قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشعراء: ٢١٤، قال المؤرّخون: إنّ النبيّ (ص) دعا عليّاً (ع)، وأمره أن يصنع طعاماً، ويدعو آل عبد المطلب، وعددهم يومئذٍ أربعون رجلاً، وبعد أن أكلوا، وشَرِبوا مِن لَبَنٍ أُعدَّ لهم، قام النبيّ (ص) وقال: (يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً مِن العَرَب جاء قومه بأفضل مِمّا قد جئتُكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدُنيا والآخرة، وقد أمَرَني الله أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم.) فأحجم القوم عنها جميعاً. يقول عليّ: (وقلت - وإنّي لأحدَثُهُم سِنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (١) .

ب - الموقف الثاني:

يقول أبو رافع القبطي مولى رسول الله (ص): دخلت على النبيّ وهو يوحى إليه، فرأيت حيَّةً، فَنِمتُ بينها وبين النبيّ؛ لئلاّ يصل إليه أذى مِنها، حتّى انتهى عنه الوحي فأمرني بقتلها، وسمعته يقول: (الحمد لله الذي أكمل لعليٍّ مِنّته، وهنيئاً لعليٍّ بتفضيل الله إياه..) بعد أن قرأ قوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة: ٥٥.

وقد أجمع أعلام أهل السُنّة والشيعة على نزول هذه الآية في عليّ (ع)، ومنهم السيوطي في الدُرُّ المَنثور، عند تفسير الآية المَذكورة، وكذلك الرازي في مفاتيح الغيب، والبيضاوي في

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٢/٢١٦، وتاريخ ابن الأثير: ٢/٢٨.

٣٠

تفسيره، والزمخشري في الكشّاف، والثعلبي في تفسيره، والطبرسي في مَجْمَع البيان، وغيرهم مِن أعلام المفسرين والمحدّثين.

ومِن الغريب أن يقف الآلوسي في تفسيره روح المعاني موقفاً يُمثِّل الإِسفاف والرِكّة في دفع هذه الآية عن عليٍّ (ع)، ويُريك كيف يهبط التعصّب بالإِنسان إلى دَرَكٍ مَقيتٍ، وإلى تهافُتٍ غير معهود. وإنّ المرء لَيَستَغرِب مِن هذا الرجل، فإنّ له مواقف مُتناقضة مِن عليٍّ (ع)، فتارة يعطيه حقّه، وأُخرى يقف مِنه موقفاً متشنّجاً، وبوسع كلّ مَن قرأ الآلوسي في مؤلفاته أن يرى هذه الظاهرة.

ج - الموقف الثالث:

موقف النبيّ (ص) يوم غدير خُم، وذلك عند نُزول الآية: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) المائدة: ٦٩. وعندها أوقف النبيّ (ص) الرَكْب، وصنعوا له مِنبَراً مِن أحداج الإِبل، خَطَبَ عليه خطبته المعروفة، ثمّ أخذ بيد عليٍّ وقال: (ألستُ أولى بالمؤمنين مِن أنفسهم؟) قالوا: بلى، فكررها ثلاثاً ثمّ قال: (مِن كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مِن نصره، واخذل مَن خذله) فَلَقيَهُ الخليفة الثاني فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقد ذكر الرازي في سَبَبِ نزول الآية عشرة وجوه، ومنها أنّها نزلت في عليٍّ (ع)، ثمّ عقَّب بعد ذلك بقوله: وهو قول ابن عبّاس، والبرّاء بن عازب، ومحمّد بن عليٍّ - يريد الباقر - (١) .

إنّ حديث الغدير أخرجه جماعة مِن حُفّاظ أهلِ السُنّة، وقد رواه ابن حَجَر في صواعقه، عن ثلاثين صحابيّاً، ونصّ على أنّ طُرُقَه صحيحة، وبعضها حَسَن (٢) .

وأورده ابن حمزة الحَنَفي، مخرجاً له عن أبي الطُفيل عامر بن واثلة بهذه

____________________

(١) تفسير الرازي: ٣/٤٣١.

(٢) الصواعق المُحرقة، الباب الثاني مِن الفصل التاسع.

٣١

الصورة، قال: إنّ أسامة بن زيد قال لعليٍّ: لست مولاي إنّما مولاي رسول الله (ص)، فقال النبيّ (ص): (كأنّي قد دُعيتُ فأجبتُ، إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر مِن الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، إنّ الله مولاي وأنا مولى كلّ مؤمن، مَن كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه) (١) .

وقد ألَّف في موضوع الغدير، مِن السُنّة والشيعة، سِتٌّ وعشرون مؤلِّفاً (٢) ، ولا أريدُ التحدُّث بصراحة حديث الغدير في أولَويّة الإِمام عليٍّ (ع)، وتقديمه على كافّة الصحابة، فإنّ الأمر قد أُشبِع مِن قِبَل الباحثين، ولكنّي أريد أن أسائل الدكتور أحمد شلبي، الذي يقول: إنّ حديث الغدير لم يرد له ذِكر إلاّ في كُتُب الشيعة. فأقول له: هل هُناك شيء مِن الشعور بالمسؤوليّة عندك وعند أمثالك، مِمَّن يرمون الكلام على عواهنه، فأنت تحمل أمانةً للأجيال، فَمِنَ الأمانة هذا القول!. إنّ كُتُبَ أهلِ نِحْلَتِك وحُفّاظِ قومك، أوردت الحديث بمصادره الموثوقة، فإذا كُنت لا تقرأ، أو تقرأ ولا تريد أن تعرف، فاسكت يرحمك الله، فهو خير لك مِن التعرُّض، أمّا لنسبة الجهل أو العصبية، ولا يقلُّ عن الدكتور شلبي، مَن يذهب إلى أنّ لفظ المولى هُنا إنّما يُراد منه ابن العَم، فهو أحد معاني هذه اللفظة المُشتَرَكَة، ولا ردَّ لي على هذا إلاّ أن أقول: اللهم ارحم عقولنا مِن المَسخ.

إنّ هذه مُجرّد أمثلة مِن مواقف النبيّ (ص)، في التنويه بفضل عليٍّ (ع)، ولا يمكن أن تمرَّ هذه المواقف، والكثير الكثير مِن أمثالها دون أن تشدَّ الناس لعليٍّ، ودون أن تدفعهم للتعرُّف على هذا الإِنسان الذي هو وصيّ النبيّ، الذي يشركه القرآن بالولاية العامّة مع الله تعالى ورسوله (ص)، ثمّ لا بُدّ للمسلمين مِن إطاعة هذه الأوامر، التي وردت بالنصوص والالتفاف حول مَن وردت فيه، ذلك هو معنى التَشَيُّع الذي نقول: إنّ النبيّ (ص) هو الذي بَذَرَ بذرته، وقد أينَعَت في حياته، وعُرِف جماعة بالتشيّع لعليٍّ، والالتفاف حوله، وللتدليل على ذلك، سأذكر لك أسماء الرعيل الأوّل مِن الصحابة، الّذين عُرِفوا بِتَشَيُّعهم وولائهم للإِمام عليٍّ (ع).

____________________

(١) البيان والتعريف: ٢/١٣٦.

(٢) أعيان الشيعة: ج٣ باب الغدير.

٣٢

الفَصل الثالث

روّاد التَشَيُّع الأوائل

جُندُب بن جنادة، أبو ذرّ الغفاري، وعمّار بن ياسر، سلمان الفارسي، المقداد بن عُمَر بن ثعلبة الكندي، حَذيفة بن اليمان صاحب سرِّ النبيّ، خَزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، الخبّاب بن الأرت الخُزاعي أحد المُعذبين في الله، سعد بن مالك أبو سعيد الخدري، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري، أنس بن الحرث بن مُنبّه أحد شهداء كربلاء، أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضافه النبيّ (ص) عند دخوله للمدينة، جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة، هاشم بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء، محمّد بن الخليفة أبي بكر تلميذ عليٍّ وربيبه، مالك بن الحرث الأشتر النخعي، مالك بن نويرة ردف الملوك الذي قتلهُ خالد بن الوليد، البرّاء بن عازب الأنصاري، أُبيّ بن كعب سيد القُرّاء، عبادة بن الصامت الأنصاري، عبد الله بن مسعود صاحب وضوء النبيّ (ص) ومِن سادات القُرّاء، أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عُمير واضع أسّسَ النحو بأمر الإِمام عليٍّ، خالد بن سعيد بن أبي عامر بن أميّة بن عبد شمس خامس مَن أسلم، أسيد بن ثعلبة الأنصاري مِن أهل بدر، الأسود بن عيسى بن وهب مِن أهل بدر، بشير ابن مسعود الأنصاري مِن أهل بدر ومِن القتلى بواقعة الحرّة بالمدينة، ثابت أبو فضالة الأنصاري مِن أهل بدر، الحارث بن النُعمان بن أُميّة الأنصاري مِن أهل بدر، رافع بن خديج الأنصاري مِمَّن شهد أُحُداً ولم يبلغ وأجازه النبيّ(ص)،

٣٣

كعب بن عُمير بن عبادة الأنصاري مِن أهل بدر، سماك بن خرشة أبو دُجانة الأنصاري مِن أهل بدر، سُهيل بن عمرو الأنصاري مِن أهل بدر، عتيك بن التيهان مِن أهل بدر، ثابت بن عبيد الأنصاري مِن أهل بدر، ثابت بن حطيم بن عدي الأنصاري مِن أهل بدر، سُهيل بن حَنيف الأنصاري مِن أهل بدر، أبو مسعود عقبة بن عُمَر مِن أهل بدر، أبو رافع مولى رسول الله (ص) الذي شهِد مشاهده كلّها مع مشاهد عليٍّ (ع)، وممَّن بايع البيعتين العقبة والرضوان، وهاجر الهِجرتين للحبشة مع جعفر وللمدينة مع المُسلِمينَ، أبو بُرّدة بن دينار الأنصاري مِن أهل بدر، أبو عُمَر الأنصاري مِن أهل بدر، أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري مِن أهل بدر، عقبة بن عُمَر بن ثعلبة الأنصاري مِن أهل بدر، قرظة بن كعب الأنصاري، بشير بن عبد المنذر الأنصاري أحد النُقَباء ببيعة العَقَبة، يزيد بن نويرة بن الحارث الأنصاري مِمَّن شهد له النبيّ (ص) بالجنّة، ثابت بن عبد الله الأنصاري، جبلة بن ثعلبة الأنصاري، جبلة بن عُمير بن أوس الأنصاري، حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي، زيد بن أرقم الأنصاري، شهد مع النبيّ (ص) سبعة عشر وقعة، أعيُن بن ضبيعة بن ناجية التميمي، الأصبغ بن نُباتة، يزيد الأسلمي مِن أهل بيعة الرضوان، تميم بن خزام، ثابت بن دينار أبو حمزة الثمالي صاحب الدعاء المعروف، جُندب بن زُهير الأزدي، جعدة بن هبيرة المخزومي، حارثة بن قُدامة التَميمي، جبير بن الجناب الأنصاري، حبيب بن مظاهر الأسدي، حكيم بن جبلة العبدي الليثي، خالد بن أبي دُجانة الأنصاري، خالد بن الوليد الأنصاري، زيد بن صوحان الليثي، الحجّاج بن غاربة الأنصاري، زيد بن شرحبيل الأنصاري، زيد بن جبلة التميمي، بديل بن ورقاء الخزاعي، أبو عُثمان الأنصاري، مسعود بن مالك الأسدي، ثعلبة أبو عمرة الأنصاري، أبو الطُفيل عامر بن واثلة الليثي، عبد الله بن حزام الأنصاري شهيد أُحد، سعد بن منصور الثَقَفي، سعد بن الحارث بن الصمد الأنصاري، الحارث بن عمر الأنصاري، سليمان بن صرد الخزاعي، شرحبيل بن مرّة الهمداني، شبيب بن رت النميري، سهل بن عمر

٣٤

صاحب المربد، سهيل بن عمر أخو سهل المار ذكره، عبد الرحمان الخُزاعي، عبد الله بن خراش، عبد الله بن سهيل الأنصاري، عبيد الله بن العازر، عَدي ابن حاتم الطائي، عروة بن مالك الأسلمي، عقبة بن عامر السلمي، عمر بن هلال الأنصاري، عمر بن أنس بن عون الأنصاري مِن أهل بدر، هند بن أبي هالة الأسدي، وهب بن عبد الله بن مُسلِم بن جنادة، هاني بن عروة المِذحجي، هبيرة بن النُعمان الجُعفي، يزيد بن قيس بن عبد الله، يزيد بن حوريت الأنصاري، يعلى بن عُمير النهدي، أنس بن مدرك الخثعمي، عمرو العبدي الليثي، عميرة الليثي، عليم بن سلمة التميمي، عُمير بن حارث السلمي، علباء بن الهيثم بن جرير، وأبوه الهيثم مِن قُوّاد الحملة في قتال الفُرس بواقعة ذي قار، عون بن عبد الله الأزدي، علاء بن عُمَر الأنصاري، نهشل بن ضمرة الحنظلي، المُهاجر بن خالد المخزومي، مِخنف بن سليم العبدي الليثي، محمّد بن عُمير التميمي، حازم بن أبي حازم البَجلي، عبيد بن التيهان الأنصاري، وهو أول المُبايعين للنبي ليلة العقبة، أبو فُضالة الأنصاري، أُويس القَرَني الأنصاري، زياد بن النضر الحارثي، عوض بن علاط السلمي، مَعاذ بن عفراء الأنصاري، عبد الله بن سليم العبدي الليثي، علاء بن عروة الأزدي، القاسم بن سليم العبدي الليثي، عبد الله بن رقية العبدي الليثي، منقذ بن النعمان العبدي الليثي، الحارث بن حسّان الذهلي صاحب راية بكر بن وائل، بجير بن دلجة، يزيد بن حجية التميمي، عامر بن قيس الطائي، رافع الغطفاني الأشجعي، سالم بن أبي الجعد، عُبيد بن أبي الجعد، زياد بن أبي الجعد، أبان ابن سعيد بن العاص بن أُميّة بن عبد شمس مِن أُمراء السرايا أيّام النبيّ (ص)، ومِن خُلّص أصحاب الإِمام عليّ (ع)، حَرمَلة بن المُنذر الطائي أبو زَبيد.

والمجموع مائة وثلاث وثلاثون.

هذه شريحة، أو نماذج مِن الروّاد الأوائل في التَشَيُّع، ذكرتهم بدون انتقاء أو اختيار، وإنّما مررت بكُتُب الِرجال فذكرت مِنها هذه المجموعة، وقد نَصَّت على

٣٥

تشيُّعهم المصادر التالية (١) .

بعد مُلاحظة هذه الشريحة مِن الطبقة الأولى مِن الشيعة، تتّضح لنا أمور هامّة في موضوعنا، أعرضُها أمام القارئ الواعي الرائد للحقِّ والموضوعيّة، وإلا فما أكثر مَن يقرأ ولا يتجاوز مضمون السطور عينيه، وقد يقرأ أحياناً ولا يريد أن يُصدّق ما يقرأ مع توفّر شرائط الصحّة فيما يقرأه، ومع وجود الثقة النفسيّة بمضمون ما يقرأه، ولكنّه التكوين النفسي والذهني، الذي ينشأ عليه الإِنسان مُنذ الصِغَر فيكاد يكون غريزةً مِن الغرائز التي يُطبَع عليها الإِنسان.

تعقيبٌ على الرُوّاد مِن الشيعة

هذه الأُمور التي ذَكرتُ أنّي سأعرض لها تعقيباً على نوعيّة الروّاد الأوائل هي:

أولاً: إنّ هؤلاءِ الشيعة الّذين مرَّ ذكرُهُم مع أنّهم كانوا مِن الذاهبين إلى أولويّة الإِمام عليٍّ (ع) بالخلافة؛ لأنّه الإِمام المفترض الطاعة المَنصوص عليه، ومع اعتقادهم بأنّ مَن تَقدّم عليه أخذ ما ليس له، ومع امتناع كثير مِنهم مِن البَيعة للخليفة الأوّل، واعتصامهم ببيت الإِمام عليٍّ (ع)، مع كلّ ذلك لم يُعرف عن أحدٍ مِنهم أنّه شَتَم فرداً مِن الصحابة، أو تناوله بطريقة غير مُستساغة، بل كانوا أكبر مِن ذلك، وأصلبَ عوداً مِن خُصومهم - مِمّا يدلُّ على أنّ بعض مَن عُرِف بظاهرة شَتم الصحابة إنّما صَدَرَ مِنه ذلك كعمليّة ردِّ فعل لأفعال مُتعدّدة، وسَنمرُّ على ذلك قريباً - إنّهم مع اختلافهم مع الحُكم لم يلجأوا إلى شتم أو بذاء؛ لأنّهم يعرفون أنّ الحُقوق لا يُوصل إليها بالشتم، وليس الشتم مِن شِيَمِ الأبطال، والذي يُريد أن يُسجّل ظُلامة، أو يُشير إلى حقٍّ سليب، فإنّ طُرُق ذلك ليس مِنها الشتم في شيءٍ،

____________________

(١) الكامل للمُبَرّد، هامش رغبة الأمل: ٧/١٣٠، وأُسد الغابة: ١/٣٥ ط أوفست حرف الألف، و١/٦١ طبع دمشق، وفجر الإِسلام: ص٢٦٧، والاستيعاب: ١/٢٨٠، ومدخل موسوعة العتبات المُقدّسة الفصل الخاص بالشيعة، بِقلم عبد الواحد الأنصاري.

٣٦

وإنّما هُناك مناهج سليمة في الوصول لذلك.

وقد حرص أمير المؤمنين (ع) على تربية أتباعه على المنهج السليم، ومِن مواقفه في ذلك، ما رواه نصر بن مُزاحم قال: مرّ أمير المؤمنين (ع) على بعض مَن كان في جيشه بصفّين، فسمعهم يشتمون معاوية وأصحابه، فقال لابن عَدي ولعمر بن الحَمق وغيرهما: (كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين، تشتمون وتبرؤون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم مِن سيرتهم كذا وكذا ومِن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العُذر، وقُلتم مكان لعنكم إيّاهُم وبراءتكم مِنهم، اللهم احقن دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدِهِم مِن ضلالهم حتّى يعرف الحق مَن جهله مِنهم، ويرعوي عن الغيّ والعُدوان مِنهم مَن لَهِجَ به لكان أحبُّ إليَّ وخيراً لكم.) فقالوا: يا أمير المؤمنين نقبل عِظَتَك، ونتأدّب بأدبك (١) .

إنّ هذا الموقف منه (ع) لَيُشِعرهُم أنّ الشتم وسيلة نابية وليست كريمة، ثمّ هي بعد ذلك تنفيس عن طاقة يُمكن الاستفادة مِنها، بادِّخارها وصرفها في عمل إيجابي، يضاف لذلك أنّ الشتم مَدعاة للإِساءة لمُقدّسات الشاتم نَفسه، ومِن هُنا حرّم الفقهاء شَتم الصَنم إذا أدّى إلى شَتم الله تعالى، مستفيدين ذلك مِن قوله تعالى: ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الأنعام: ١٠٨.

مِن أجل ذلك كُلّه كان الشيعة أطهرَ ألسِنة مِن أن يَشتِموا، وأبعدَ عن هذا الموقف النابي، ولذلك رأينا كثيراً مِن الباحثين يُؤكّدون هذا الجانب في حياة الروّاد الأوائل مِن الشيعة مع أنّهم يُثبِتون عقيدتهم بتقديم الإِمام عليٍّ (ع).

ومِن هؤلاءِ:

أ - الدكتور أحمد أمين:

يقول عن هؤلاءِ: إنّهم قسمُ المقتصد الذي يرى بأنّ أبا بكر وعُمر وعُثمان ومَن شايعهُم، أخطأوا إذ رضوا أن يكونوا خُلفاء مع عِلمهم بفضل عليٍّ، وإنّه خيرٌ مِنهم (٢) .

____________________

(١) صِفّين، لنصر بن مُزاحم: ص١١٥.

(٢) فجر الإِسلام: ص٢٦٨

٣٧

ب - ابن خُلدون يقول:

كان جماعة مِن الصحابة يتشيّعون لعليٍّ، ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدِلَ به إلى سواه، تأفّفوا مِن ذلك وأسفوا له، إلاّ أنّ القوم لِرُسوخِ قَدَمِهِم في الدين، وحُرصِهم على الأُلفة، لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف (١) .

ج - ابن حَجَر في الاستيعاب:

يقول في ترجمة أبي الطُفيل: عامر بن واثلة بن كنانة الليثي أبو الطُفيل، أدرك مِن حياة النبيّ (ص) ثمان سنين، وكان مولده عام أُحُد ومات سَنَة مائة، ويقال: إنّه آخر مَن مات مِمَّن رأى النبيّ، وقد روى نحو أربعة أحاديث، وكان مُحبّاً لعليٍّ، وكان مِن أصحابه في مشاهده، وكان ثِقَة مأموناً يَعترف بفضل الشيخين، إلاّ أنّه يُقدّم عليّاً. انتهى باختصار (٢) .

وبعد هذه المُقتطفات، أُودُّ أن أُلِف النظر أنّي خلال مُراجعاتي كُتُب التاريخ، لم أرَ في الفترة التي تَمتدُّ مِن بعد وفاة النبيّ حتّى نهاية خلافة الخُلفاء مَن عَمِدَ إلى الشتم مِن أصحاب الإِمام، وإنّما هناك مَن قيّم الخُلفاء وقيّم الإِمام، وحَتّى في أشدِّ جَمَحات عاطفة الولاء، لم نجد مَن يشتم أحداً مِمَّن تقدَّم الإِمام بالخلافة، يقول أبو الأسود الدؤلي:

أُحبّ محمداً حبّاً شديداً

وعبّاساً وحمزة والوصيّا

يقول الأرذلون بنو قشير

طوال الدهر ما تنسى عليّا

أُحبّهُم لحبِّ الله حتّى

أجيء إذا بُعِثت على هويّا

بنو عمِّ النبيّ وأقربوه

أحبّ الناس كُلّهم إليّنا

فإن يكُ حُبّهم رُشداً أَصبه

ولستُ بمخطئ إن كان غيّاً (٣)

____________________

(١) تاريخ ابن خُلدون: ٣/٣٦٤.

(٢) الاستيعاب: ٢/٤٥٢.

(٣) الكامل للمُبرّد: هامش رغبة الأمل ج٧.

٣٨

يضاف لذلك أنّه حتّى في الفترة الثانية، أي في عهود الأُموييّن كان مُعظَمُ الشيعة يتورّعون عن شتم أحد مِن الصحابة، أو التابعين.

يقول ابن خلكان في ترجمة يحيى بن يعمر: كان شيعيّاً مِن القائلين بتفضيل أهل البيت مِن غير تنقيص لغيرهم (١) .

____________________

(١) وَفَيات الأعيان: ٢/٢٦٩.

٣٩

الفصل الرابع

الشيعة غير الرَوافض

مَن كلِّ ما ذكرته يتَّضِح أمر آخر، وهو أنّ ما دأب عليه بعض الكُتّاب مِن رمي الشيعة بالرفض، وتسميتهم بالروافض، نشأ مؤخّراً وبأسباب خاصّة سنذكرها:

إنّ هذا الزمن الذي نشأ فيه نَعْتُ الشيعةِ بالروافض، هو في أيّام الأُموييّن؛ ولذلك جاءت النُصوص تنعت الروافض بأنّهم قِسم مِن الشيعة، لا الشيعة كما يُريد البعض، ومِن تلك النُصوص:

١ - محمّد مرتضى الزبيدي في تاج العروس قال:

والروافض كلّ جُندٍ تركوا قائدهم، والرافضة فِرقة مِنهم، والرافضة أيضاً فِرقة مِن الشيعة، قال الأصمعي سُمّوا بذلك لأنّهم باعيوا زيدَ بن علي، ثمّ قالوا له تبرّأ مِن الشيخين، فأبى وقال: لا، كانا وَزيرَي جدّي، فتركوه ورفضوه وارفضوا عنه (١) .

٢ - إسماعيل بن حمّاد الجوهري، قال في الصِحاح:

عند مادّة رَفض، مورداً نفس المضمون الذي ذكره الزبيدي، فكأنّه نسخة طِبق الأصل (٢) .

____________________

(١) تاج العروس: ٥/٣٤.

(٢) صِحاح الجوهري: ٣/١٠٧٨ تسلسل عام الكتاب.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237