هوية التشيع

هوية التشيع25%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38703 / تحميل: 7480
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الباب الأوّل

وفيه فُصول

٢١

٢٢

الفصل الأوّل

مَتى بَدَأ التَشَيُّع؟

فيما مضى في فَصل التمهيد انتهينا إلى أنّ التَشَيُّع في بداياته ونهاياته واحد، وأنّ التطوّر المفترض فيه ما هو إلاّ تَبَرعُم أفكار مُستَنبَطَة مِن الأُصول حَدَثتْ عند المُمارسة، وعناوين هي ثمرة لتفاعُل بين أفكار، ولمقارعة حُجَجٍ بعضها ببعض مِمّا يوجَد عادة في التاريخ الثقافي لكلّ نِحلَة مِن النِحَل.

والآن لا بدَّ مِن الرُجوع إلى بداية التَشَيُّع وبذرته التاريخيّة، واستظهار ما إذا كانت سِنخيّتها تَتَحدُّ مع الفِكر الإِسلامي أم لا؟

ثمّ ما هو حجمها؟ - أي البُنية الشيعيّة يوم ولادتها -، وما هي أرضيّة تكوينها؟

وهل هي عمليّة عاطفيّة، أم عمليّة عُقلائيّة انتهى إليها معتنقوها، بُمعاناة وتقييم واعيَين؟

ولَمّا كانت هذه الأُمور مِمّا اختُلِفَ فيه تبعاً لاستنتاج الباحثين، ومزاجهم، ومُسبقاتهم، وما ترجّحَ لديهم بمُرَجِّح مِن المُرجِّحات، فلا بُدَّ مِن تقديم نماذج مِن آراء الباحثين في هذه المواضيع تكون المادّة الخام، ثمّ يبقى على القارئ أن يستشفَّ الحَقيقة مِن وراء ذلك، ويكوّن له رأياً يَجتهد في أن يكون موضوعيّاً.

إنّ المؤرِّخين والباحثين عندما يُحدِّدون فترة نُشوء التَشَيُّع يَتَوزَّعون على مدىً يبتدئ مِن أيّام النبيّ، ونهاياته بعد مَقتل الحسين (ع).

وَسَأستعرض لك نماذج مِن آرائهم في ذلك، وأترك ما أذهبُ إليه إلى آخر الفصل:

أ - رأي يرى أنّهم تكوَّنوا بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام.

ومِمَن يذهب لهذا:

٢٣

أولاً: ابن خُلدون، فقد قال: إنّ الشيعة ظهرت لَمّا تُوفّي الرسول، وكان أهلُ البيت يرون أنفسهم أحقُّ بالأمر، وأنّ الخلافة لرجالهم دون سواهم مِن قُريش، ولمّا كان جماعة مِن الصحابة يتشيَّعون لعليٍّ، ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدِلَ به إلى سواه تأفّفوا مِن ذلك (١) إلخ.

ثانياً: الدكتور أحمد أمين، فقد قال: وكانت البذرة الأولى للشيعة، الجماعةُ الّذين رأوا بعد وفاة النبيّ أنّ أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه (٢) .

ثالثاً: الدكتور حسن إبراهيم، فقد قال: ولا غَرْوَ فقد اختلف المسلمون إثرَ وفاة النبيّ (ص) فيمَنْ يولونه الخلافة، وانتهى الأمر بتولية أبي بكر، وأدّى ذلك إلى انقسام الأمّة العربيّة إلى فَريقين، جماعة وشيعة (٣) .

ربعاً: اليعقوبي قال: ويعدُّ جماعة مِن المُتخلّفين عن بيعة أبي بكر، هُم النواة الأولى للتشيُّع، ومِن أشهرهم: سلمان الفارسي، وأبو ذرّ الغفاري، والمقداد بن الأسود، والعبّاس بن عبد المطلب (٤) .

وتعقيباً على ذكر المُتخلّفين عن بيعة الخليفة أبي بكر، قال الدكتور أحمد محمود صُبحي: إنّ بواعث هؤلاءِ مُختلفة في التَخلّف، فلا يُستَدلّ مِنها على أنّهم كُلّهم مِن الشيعة. وقد يكون ما قاله صحيحاً غير أنّ المُتخلِّفين الّذين ذكرهم المؤرِّخون أكّدت كُتُب التراجم على أنّهم شيعة، وستأتي الإِشارة لذلك في مَحلّها مِن الكتاب (٥) .

خامساً: المُستَشرِق جولد تسيهر قال: إنّ التَشَيُّع نشأ بعد وفاة النبيّ (ص)، وبالضبط بعد حادثة السقيفة (٦) .

___________

(١) تاريخ ابن خُلدون: ٣/٣٦٤.

(٢) فجر الإِسلام: ص٢٦٦.

(٣) تاريخ الإِسلام: ١/٣٧١.

(٤) تاريخ اليعقوبي: ٢/١٠٤.

(٥) نَظريّة الإِمامة: ص٣٣.

(٦) العقيدة والشريعة: ص١٧٤.

٢٤

ب -: الرأي الذي يذهب إلى أنّ التَشَيُّع نشأ أيّام عُثمان، ومِن الذاهبين لذلك: جماعة مِن المؤرِّخين والباحثين مِنهم ابن حَزَم وجماعة آخرون، ذَكَرَهم بالتفصيل يحيى هاشم فرغل في كتابه (١) ، وقد استند إلى مُبرِّرات شرحها.

ج -: الرأي الذي يذهب إلى تكوّن الشيعة أيّام خلافة الإِمام عليٍّ (ع)، ومِن الذاهبين إلى هذا الرأي النوبختي في كتابه فِرق الشيعة (٢)، وابن النديم في الفهرست، حيث حَدّده بفترة واقعة البصرة وما سبقها مِن مُقدّمات كان لها الأثر المُباشر في تبلور فِرقة الشيعة وتكوينها (٣) .

د -: الرأي الذي يذهب إلى أنّ ظهور التَشَيُّع كان بعد واقعة الطفِّ، على اختلافٍ في الكيفيّة بين الذاهبين لهذا الرأي، حيث يرى بعضُهم أنّ بَوادِر التَشَيُّع التي سبقت واقعة الطفِّ، لم تصل إلى حدِّ تكوين مذهب مُتميِّز له طابعه وخواصُّه، وإنّما حدث ذلك بعد واقعة الطفِّ، بينما يذهب (٤) آخرون إلى أنّ وجود المذهب قبل واقعة الطفِّ كان لا يعدو النزعة الروحيّة، ولكن بعد واقعة الطفِّ أخذ طابعاً سياسيّاً، وعمّق جذوره في النفوس، وتحدّدت أبعاده إلى كثير مِن المضامين. وكثير مِن المستشرقين يذهبون لهذا الرأي، وأغلب المُحدِّثين مِن الكُتّاب.

يقول الدكتور كامل مصطفى: إنّ استقلال الاصطلاح الدالّ على التَشَيُّع، إنّما كان بعد مَقتل الحسين (ع)، حيث أصبح التَشَيُّع كياناً مُميَّزاً له طابعه الخاص.

في حين يذهب الدكتور عبد العزيز الدوري، إلى أنّ التَشَيُّع تَميّز سياسيّاً ابتداءً مِن مَقتل أمير المؤمنين عليٍّ (ع)، ويتضمّن ذلك فترة قتل الحسين (ع)، حيث يعتبرها امتداداً للفترة السابقة (٥) .

وإلى هذا الرأي يذهب بروكلمان في تاريخ الشعوب الإسلاميّة حيث

____________________

(١) عوامل أهداف نشأة عِلم الكلام: ١/١٠٥.

(٢) فِرق الشيعة: ص١٦.

(٣) الفهرست لابن النديم: ص١٧٥.

(٤) الصِلة بين التصوُّف والتَشَيُّع: ص٢٣.

(٥) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص٧٢.

٢٥

يقول: والحقُّ أنّ ميتة الشهداء الذي ماتها الحسين، ولم يكن لها أيُّ أثَر سياسيٍّ - هذا على زعمه - قَد عملت في التطوّر الديني للشيعة، حزب عليٍّ الذي أصبح بعدُ مُلتقى جَمع النَزعات المناوئة للعرب - وهو زعم باطل - واليوم لا يزال ضريح الحسين (ع) في كربلاء، أقدس مَحجّة عِندَ الشيعة، وبخاصة الفُرس الّذين ما فتئوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره، غايةَ ما يطمعون فيه (١) .

إنّ رأي بروكلمان، بالإضافة لِما فيه مِن دسٍّ، يُخالف ما عليه مُعظم مَن رَبَط ظهور التَشَيُّع بمقتل الحسين، حيث يذهبون إلى أنّ التميّز السياسي للمذهب ولدته واقعة الطفِّ، بينما يرى بروكلمان أنْ لا أثرَ سياسيّ للواقعة، فهو مِن قبيل إنكار البدهيّات، وإنّما يُقصِر أثر الواقعة على تعميق المذهب دينيّاً فقط.

وقد شايع بروكلمان في هذا الرأي جماعة آخرون، ذكرهم يحيى فرغل مُفصّلاً في كتابه (٢) .

إنّ هذه الآراء الأربعة في نشأة التَشَيُّع لا تَصمُد أمام المُناقشة، ولا أريد أن أتَعجّلَ الردّ عليها، فسأذكر الرأي الخامس، ومنه يتّضح تماماً أنّ هذه الآراء تستند إلى أحداث أومَضَ فيها التَشَيُّع نتيجة احتكاكه بمؤثّر مِن المؤثّرات في تلك الفترة، التي أرَخَت بها تلك الآراء ظهور التَشَيُّع فظنّوه وُلِد آنذاك، بينما هو موجود بكيانه الكامل منذ الصدر الأوّل.

وقد آن الأوان لأعرض لك رأي جُمهور الشيعة، وخاصّة المُحقّقين مِنهم:

هـ -: رأي الشيعة وغيرهم مِن المُحقّيين مِن المذاهب الأُخرى:

حيث ذهب هؤلاءِ إلى أنّ التَشَيُّع وُلِد أيّام النبيّ (ص)، وأنّ النبيّ نفسُهُ هو الذي غَرسه في النفوس، عن طريق الأحاديث التي وردت على لسان النبيّ (ص)، وكشفت عمّا لعليٍّ (ع) مِن مكانة في مواقع مُتعدّدة، رواها - إضافة إلى الشيعة - ثُقاة أهل السُنّة.

ومنها: ما رواه السيوطي عن ابن عساكر عند تفسير الآيتين السادسة والسابعة مِن سورة البيّنة، بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: كُنّا عند النبيّ (ص) فأقبل عليٌّ (ع)

____________________

(١) تاريخ الشُعوب الإسلاميّة: ص١٢٨.

(٢) عوامل وأهداف نشأة عِلم الكلام: ١/١٠٦.

٢٦

فقال النبيّ (ص): (والذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لَهُمُ الفائزون يوم القيامة)، فَنَزَلَ قولُهُ تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

وأخرج ابن عَدي عن ابن عبّاس قال: لَمّا نزل قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال النبيّ (ص) لعليٍّ (ع):(هُم أنتُ وشيعتك).

وأخرج ابن مردَويه عن عليٍّ (ع) قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ألَم تسمع قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... ) هُم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدُكم الحوض، إذا جاءت الأمم للحساب تُدعَون غُرّاً مُحجّلين) (١) .

ومِن هُنا ذهب أبو حاتم الرازي، إلى أنّ أوّل اسم لمذهب ظهور في الإِسلام هو الشيعة، وكان هذا لَقَب أربعة مِن الصحابة: أبو ذر، وعمّار، والمقداد، وسلمان الفارسي، وبعد صِفّين اشتهر موالي عليٍّ بهذا اللقب (٢) .

إنّ هذه الأحاديث التي مرَّت، والتي أخرجها كلٌّ مِن ابن عساكر، وابن عدي، وابن مردويه، يُعقِّب عليها أحمد محمود صبحي في كتابه نَظريّة الإِمامة فيقول: ولا تفيد الأحاديث الواردة على لسان النبيّ (ص) في حقِّ عليٍّ (ع) أنّ لعليٍّ شيعة في زمان النبيّ، فقد تنبّأ النبيّ بظهور بعض الفِرَق كإشارته إلى الخوارج والمارقين، كما يُنسَب إليه أنّه قال لعليٍّ: (إنّك تُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)، ولا يدلُّ ذلك على وجود جماعة مُستقلَّة لها عقائد متمايزة، أو تصوّرات خاصّة (٣)

وأنا أُلفِت نَظر الدكتور أحمد مَحمود إلى أنّ الشيعة لا يستدلّون على ظُهور التَشَيُّع أيّام النبيّ (ص) بما ورد على لسانه مِن أحاديث، فالمسألة كما يُسمّيها الأصوليّون على نحو القضية الحقيقيّة لا الخارجيّة، أي لا يلزم وجودهم بالفعل كما استظهره الدكتور، وإنّما هي صفات ذكرها النبيّ (ص) للشيعة متى وجدوا وأينما وجدوا، أمّا الاستدلال على ظهور الشيعة أيّام النبيّ، فَمِن روايات وقرائن كثيرة يوردونها في هذا المقام، أورد قِسماً مِنها الدكتور عبد العزيز الدوري، واستعرض مصادرها (٤) مع ملاحظة أنّه قَيَّدَ

____________________

(١) الدُرُّ المَنثور للسيوطي: ٦/٣٧٦.

(٢) رَوضاتُ الجنّات للخونساري: ص٨٨.

(٣) نَظريّة الإمامة: ص٣١.

(٤) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص٧٢.

٢٧

التَشيُّع بأنّه تَشيُّع روحي، كما نصَّ على قِسم مِن أدلّتهم على ذلك، يحيى هاشم فَرغل في كتابه (١) .

إنّ بعض هذه الآراء يَرجِع بالبداية الزمنيّة في ظهور الشيعة إلى وقتٍ مُبكِّر في حياة النبيّ (ص)، حيث التأمة جماعة مِن الصحابة تُفضِّل عليّاً (ع) على غيره مِن الصحابة، وتتّخِذه رئيساً.

ومِن هؤلاءِ: عمّار بن ياسر، وأبو ذرِّ الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وجابر بن عبد الله، وأُبي بن كعب، وأبو أيّوب الأنصاري، وبنو هاشم إلخ (٢) .

ولهذا ذهب الباحثون إلى تخطئة مَن يُؤرّخ للتشيُّع وظهوره بعُصور متأخّرة، مع أنّ الأدلة التاريخيّة مُتوفِّرة على وجودهم أيّام الرّسول صلوات الله عليه وآله.

يقول محمّد بن عبد الله عنان في كتابه تاريخ الجمعيّات السِريّة، عند تعليقه على الحادثة التي روتها كُتُب السيرة (٣) حين جَمَعَ النبيّ عشيرته عند نُزول قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشعراء: ٢١٤، ودعاهم إلى اتّباعه، فلم يُجبه إلاّ عليّ بن أبي طالب، فأخذ النبيّ برقبته وقال: (هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.) إلخ. عَلَّق محمّد عبد الله بقوله: مِن الخطأ أن يقُال، إنّ الشيعة إنّما ظهروا لأوّل مرّة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرسول حين أمِر بإنذار عشيرته بهذه الآية.

____________________

(١) عوامل وأهداف نشأة عِلم الكلام: ١/١٠٥.

(٢) المصدر السابق: ص١٠٦.

(٣) حياة محمّد لهيكل، ط مصر الطبعة المؤرّخَة ١٣٥٤، ص١٠٤.

٢٨

الفَصلُ الثاني

الأدلّة على تَكوّن التَشيُّع أيّام النَبيّ

١ - النُصوص التاريخيّة على وصف جماعة بالتَشيُّع أيّام النبيّ (ص)، وقد مَرّت الإِشارة لذلك، ولهذا يقول الحسن بن موسى النوبختي عند تحديده للشيعة:

فالشيعة فِرقةُ عليِّ بن أبي طالب، المُسمَّون بشعية عليٍّ في زَمن النبيّ - ثمّ عدَّدَ جماعة مِنهم وقال: - وهم أوّل مَن سُمّي باسم التَشيُّع؛ لأنّ اسم التَشيُّع كان قديماً لشيعة إبراهيم (١) .

٢ - ما عليه جُمهور الباحثين والمؤرّخين، الّذين ذهبوا إلى أنّ التَشيُّع ظَهَرَ يوم السقيفة،فإنّ ذلك ينهض دليلاً على وجوده أيّام النبيّ (ص)؛ لأنّه مِن غير المعقول أن يتبلور التَشيُّع بأسبوع واحد - أي المُدّة بين وجود الرسول ووفاته، بحيث يَتّخذ جماعة مِن الناس مواقف مُعيّنة، ويَتّضح لهم اتجاهٌ له ميزاته وخواصّه، فإنّ مِثل هذه الآراء تحتاج في تكوينها وتبلورها إلى وقت ليس بالقليل، وكلّ مَن له إلمام بحوادث السقيفة، وموقف الممتنعين عن بيعة أبي بكر، وحِجاجهم في ذلك الموضوع يجزم بأنّ تلك المواقف لم تتكوّن بوقت قصير وبسرعة كهذه السّرعة، وذلك لوجود اتّجاهات متبلورة، وتأصُّلٍ في طرح نظريّات مُعيَّنة.

٣ - إنّ مِن غير المعقول أن ترد على لسان النبيّ (ص) أحاديث في تفضيل

____________________

(١) الفِرق والمقالات للنوبختي، باب تعريف الشيعة.

٢٩

الإِمام عليٍّ (ع)، والإِشارة إلي مؤهّلاته ثمّ يَقفُ المسلمون مِن ذلك موقف غير المُبالي، وهُم منَ هُم في إيمانهم وطاعتهم للرسول (ع)، ولا سيّما والمواقف في ذلك قد تعدَّدت.

وسأذكر لك مِنها:

أ - الموقف الأوّل:

عندما نَزل قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشعراء: ٢١٤، قال المؤرّخون: إنّ النبيّ (ص) دعا عليّاً (ع)، وأمره أن يصنع طعاماً، ويدعو آل عبد المطلب، وعددهم يومئذٍ أربعون رجلاً، وبعد أن أكلوا، وشَرِبوا مِن لَبَنٍ أُعدَّ لهم، قام النبيّ (ص) وقال: (يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً مِن العَرَب جاء قومه بأفضل مِمّا قد جئتُكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدُنيا والآخرة، وقد أمَرَني الله أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم.) فأحجم القوم عنها جميعاً. يقول عليّ: (وقلت - وإنّي لأحدَثُهُم سِنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (١) .

ب - الموقف الثاني:

يقول أبو رافع القبطي مولى رسول الله (ص): دخلت على النبيّ وهو يوحى إليه، فرأيت حيَّةً، فَنِمتُ بينها وبين النبيّ؛ لئلاّ يصل إليه أذى مِنها، حتّى انتهى عنه الوحي فأمرني بقتلها، وسمعته يقول: (الحمد لله الذي أكمل لعليٍّ مِنّته، وهنيئاً لعليٍّ بتفضيل الله إياه..) بعد أن قرأ قوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة: ٥٥.

وقد أجمع أعلام أهل السُنّة والشيعة على نزول هذه الآية في عليّ (ع)، ومنهم السيوطي في الدُرُّ المَنثور، عند تفسير الآية المَذكورة، وكذلك الرازي في مفاتيح الغيب، والبيضاوي في

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٢/٢١٦، وتاريخ ابن الأثير: ٢/٢٨.

٣٠

تفسيره، والزمخشري في الكشّاف، والثعلبي في تفسيره، والطبرسي في مَجْمَع البيان، وغيرهم مِن أعلام المفسرين والمحدّثين.

ومِن الغريب أن يقف الآلوسي في تفسيره روح المعاني موقفاً يُمثِّل الإِسفاف والرِكّة في دفع هذه الآية عن عليٍّ (ع)، ويُريك كيف يهبط التعصّب بالإِنسان إلى دَرَكٍ مَقيتٍ، وإلى تهافُتٍ غير معهود. وإنّ المرء لَيَستَغرِب مِن هذا الرجل، فإنّ له مواقف مُتناقضة مِن عليٍّ (ع)، فتارة يعطيه حقّه، وأُخرى يقف مِنه موقفاً متشنّجاً، وبوسع كلّ مَن قرأ الآلوسي في مؤلفاته أن يرى هذه الظاهرة.

ج - الموقف الثالث:

موقف النبيّ (ص) يوم غدير خُم، وذلك عند نُزول الآية: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) المائدة: ٦٩. وعندها أوقف النبيّ (ص) الرَكْب، وصنعوا له مِنبَراً مِن أحداج الإِبل، خَطَبَ عليه خطبته المعروفة، ثمّ أخذ بيد عليٍّ وقال: (ألستُ أولى بالمؤمنين مِن أنفسهم؟) قالوا: بلى، فكررها ثلاثاً ثمّ قال: (مِن كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مِن نصره، واخذل مَن خذله) فَلَقيَهُ الخليفة الثاني فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقد ذكر الرازي في سَبَبِ نزول الآية عشرة وجوه، ومنها أنّها نزلت في عليٍّ (ع)، ثمّ عقَّب بعد ذلك بقوله: وهو قول ابن عبّاس، والبرّاء بن عازب، ومحمّد بن عليٍّ - يريد الباقر - (١) .

إنّ حديث الغدير أخرجه جماعة مِن حُفّاظ أهلِ السُنّة، وقد رواه ابن حَجَر في صواعقه، عن ثلاثين صحابيّاً، ونصّ على أنّ طُرُقَه صحيحة، وبعضها حَسَن (٢) .

وأورده ابن حمزة الحَنَفي، مخرجاً له عن أبي الطُفيل عامر بن واثلة بهذه

____________________

(١) تفسير الرازي: ٣/٤٣١.

(٢) الصواعق المُحرقة، الباب الثاني مِن الفصل التاسع.

٣١

الصورة، قال: إنّ أسامة بن زيد قال لعليٍّ: لست مولاي إنّما مولاي رسول الله (ص)، فقال النبيّ (ص): (كأنّي قد دُعيتُ فأجبتُ، إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر مِن الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، إنّ الله مولاي وأنا مولى كلّ مؤمن، مَن كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه) (١) .

وقد ألَّف في موضوع الغدير، مِن السُنّة والشيعة، سِتٌّ وعشرون مؤلِّفاً (٢) ، ولا أريدُ التحدُّث بصراحة حديث الغدير في أولَويّة الإِمام عليٍّ (ع)، وتقديمه على كافّة الصحابة، فإنّ الأمر قد أُشبِع مِن قِبَل الباحثين، ولكنّي أريد أن أسائل الدكتور أحمد شلبي، الذي يقول: إنّ حديث الغدير لم يرد له ذِكر إلاّ في كُتُب الشيعة. فأقول له: هل هُناك شيء مِن الشعور بالمسؤوليّة عندك وعند أمثالك، مِمَّن يرمون الكلام على عواهنه، فأنت تحمل أمانةً للأجيال، فَمِنَ الأمانة هذا القول!. إنّ كُتُبَ أهلِ نِحْلَتِك وحُفّاظِ قومك، أوردت الحديث بمصادره الموثوقة، فإذا كُنت لا تقرأ، أو تقرأ ولا تريد أن تعرف، فاسكت يرحمك الله، فهو خير لك مِن التعرُّض، أمّا لنسبة الجهل أو العصبية، ولا يقلُّ عن الدكتور شلبي، مَن يذهب إلى أنّ لفظ المولى هُنا إنّما يُراد منه ابن العَم، فهو أحد معاني هذه اللفظة المُشتَرَكَة، ولا ردَّ لي على هذا إلاّ أن أقول: اللهم ارحم عقولنا مِن المَسخ.

إنّ هذه مُجرّد أمثلة مِن مواقف النبيّ (ص)، في التنويه بفضل عليٍّ (ع)، ولا يمكن أن تمرَّ هذه المواقف، والكثير الكثير مِن أمثالها دون أن تشدَّ الناس لعليٍّ، ودون أن تدفعهم للتعرُّف على هذا الإِنسان الذي هو وصيّ النبيّ، الذي يشركه القرآن بالولاية العامّة مع الله تعالى ورسوله (ص)، ثمّ لا بُدّ للمسلمين مِن إطاعة هذه الأوامر، التي وردت بالنصوص والالتفاف حول مَن وردت فيه، ذلك هو معنى التَشَيُّع الذي نقول: إنّ النبيّ (ص) هو الذي بَذَرَ بذرته، وقد أينَعَت في حياته، وعُرِف جماعة بالتشيّع لعليٍّ، والالتفاف حوله، وللتدليل على ذلك، سأذكر لك أسماء الرعيل الأوّل مِن الصحابة، الّذين عُرِفوا بِتَشَيُّعهم وولائهم للإِمام عليٍّ (ع).

____________________

(١) البيان والتعريف: ٢/١٣٦.

(٢) أعيان الشيعة: ج٣ باب الغدير.

٣٢

الفَصل الثالث

روّاد التَشَيُّع الأوائل

جُندُب بن جنادة، أبو ذرّ الغفاري، وعمّار بن ياسر، سلمان الفارسي، المقداد بن عُمَر بن ثعلبة الكندي، حَذيفة بن اليمان صاحب سرِّ النبيّ، خَزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، الخبّاب بن الأرت الخُزاعي أحد المُعذبين في الله، سعد بن مالك أبو سعيد الخدري، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري، أنس بن الحرث بن مُنبّه أحد شهداء كربلاء، أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضافه النبيّ (ص) عند دخوله للمدينة، جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة، هاشم بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء، محمّد بن الخليفة أبي بكر تلميذ عليٍّ وربيبه، مالك بن الحرث الأشتر النخعي، مالك بن نويرة ردف الملوك الذي قتلهُ خالد بن الوليد، البرّاء بن عازب الأنصاري، أُبيّ بن كعب سيد القُرّاء، عبادة بن الصامت الأنصاري، عبد الله بن مسعود صاحب وضوء النبيّ (ص) ومِن سادات القُرّاء، أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عُمير واضع أسّسَ النحو بأمر الإِمام عليٍّ، خالد بن سعيد بن أبي عامر بن أميّة بن عبد شمس خامس مَن أسلم، أسيد بن ثعلبة الأنصاري مِن أهل بدر، الأسود بن عيسى بن وهب مِن أهل بدر، بشير ابن مسعود الأنصاري مِن أهل بدر ومِن القتلى بواقعة الحرّة بالمدينة، ثابت أبو فضالة الأنصاري مِن أهل بدر، الحارث بن النُعمان بن أُميّة الأنصاري مِن أهل بدر، رافع بن خديج الأنصاري مِمَّن شهد أُحُداً ولم يبلغ وأجازه النبيّ(ص)،

٣٣

كعب بن عُمير بن عبادة الأنصاري مِن أهل بدر، سماك بن خرشة أبو دُجانة الأنصاري مِن أهل بدر، سُهيل بن عمرو الأنصاري مِن أهل بدر، عتيك بن التيهان مِن أهل بدر، ثابت بن عبيد الأنصاري مِن أهل بدر، ثابت بن حطيم بن عدي الأنصاري مِن أهل بدر، سُهيل بن حَنيف الأنصاري مِن أهل بدر، أبو مسعود عقبة بن عُمَر مِن أهل بدر، أبو رافع مولى رسول الله (ص) الذي شهِد مشاهده كلّها مع مشاهد عليٍّ (ع)، وممَّن بايع البيعتين العقبة والرضوان، وهاجر الهِجرتين للحبشة مع جعفر وللمدينة مع المُسلِمينَ، أبو بُرّدة بن دينار الأنصاري مِن أهل بدر، أبو عُمَر الأنصاري مِن أهل بدر، أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري مِن أهل بدر، عقبة بن عُمَر بن ثعلبة الأنصاري مِن أهل بدر، قرظة بن كعب الأنصاري، بشير بن عبد المنذر الأنصاري أحد النُقَباء ببيعة العَقَبة، يزيد بن نويرة بن الحارث الأنصاري مِمَّن شهد له النبيّ (ص) بالجنّة، ثابت بن عبد الله الأنصاري، جبلة بن ثعلبة الأنصاري، جبلة بن عُمير بن أوس الأنصاري، حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي، زيد بن أرقم الأنصاري، شهد مع النبيّ (ص) سبعة عشر وقعة، أعيُن بن ضبيعة بن ناجية التميمي، الأصبغ بن نُباتة، يزيد الأسلمي مِن أهل بيعة الرضوان، تميم بن خزام، ثابت بن دينار أبو حمزة الثمالي صاحب الدعاء المعروف، جُندب بن زُهير الأزدي، جعدة بن هبيرة المخزومي، حارثة بن قُدامة التَميمي، جبير بن الجناب الأنصاري، حبيب بن مظاهر الأسدي، حكيم بن جبلة العبدي الليثي، خالد بن أبي دُجانة الأنصاري، خالد بن الوليد الأنصاري، زيد بن صوحان الليثي، الحجّاج بن غاربة الأنصاري، زيد بن شرحبيل الأنصاري، زيد بن جبلة التميمي، بديل بن ورقاء الخزاعي، أبو عُثمان الأنصاري، مسعود بن مالك الأسدي، ثعلبة أبو عمرة الأنصاري، أبو الطُفيل عامر بن واثلة الليثي، عبد الله بن حزام الأنصاري شهيد أُحد، سعد بن منصور الثَقَفي، سعد بن الحارث بن الصمد الأنصاري، الحارث بن عمر الأنصاري، سليمان بن صرد الخزاعي، شرحبيل بن مرّة الهمداني، شبيب بن رت النميري، سهل بن عمر

٣٤

صاحب المربد، سهيل بن عمر أخو سهل المار ذكره، عبد الرحمان الخُزاعي، عبد الله بن خراش، عبد الله بن سهيل الأنصاري، عبيد الله بن العازر، عَدي ابن حاتم الطائي، عروة بن مالك الأسلمي، عقبة بن عامر السلمي، عمر بن هلال الأنصاري، عمر بن أنس بن عون الأنصاري مِن أهل بدر، هند بن أبي هالة الأسدي، وهب بن عبد الله بن مُسلِم بن جنادة، هاني بن عروة المِذحجي، هبيرة بن النُعمان الجُعفي، يزيد بن قيس بن عبد الله، يزيد بن حوريت الأنصاري، يعلى بن عُمير النهدي، أنس بن مدرك الخثعمي، عمرو العبدي الليثي، عميرة الليثي، عليم بن سلمة التميمي، عُمير بن حارث السلمي، علباء بن الهيثم بن جرير، وأبوه الهيثم مِن قُوّاد الحملة في قتال الفُرس بواقعة ذي قار، عون بن عبد الله الأزدي، علاء بن عُمَر الأنصاري، نهشل بن ضمرة الحنظلي، المُهاجر بن خالد المخزومي، مِخنف بن سليم العبدي الليثي، محمّد بن عُمير التميمي، حازم بن أبي حازم البَجلي، عبيد بن التيهان الأنصاري، وهو أول المُبايعين للنبي ليلة العقبة، أبو فُضالة الأنصاري، أُويس القَرَني الأنصاري، زياد بن النضر الحارثي، عوض بن علاط السلمي، مَعاذ بن عفراء الأنصاري، عبد الله بن سليم العبدي الليثي، علاء بن عروة الأزدي، القاسم بن سليم العبدي الليثي، عبد الله بن رقية العبدي الليثي، منقذ بن النعمان العبدي الليثي، الحارث بن حسّان الذهلي صاحب راية بكر بن وائل، بجير بن دلجة، يزيد بن حجية التميمي، عامر بن قيس الطائي، رافع الغطفاني الأشجعي، سالم بن أبي الجعد، عُبيد بن أبي الجعد، زياد بن أبي الجعد، أبان ابن سعيد بن العاص بن أُميّة بن عبد شمس مِن أُمراء السرايا أيّام النبيّ (ص)، ومِن خُلّص أصحاب الإِمام عليّ (ع)، حَرمَلة بن المُنذر الطائي أبو زَبيد.

والمجموع مائة وثلاث وثلاثون.

هذه شريحة، أو نماذج مِن الروّاد الأوائل في التَشَيُّع، ذكرتهم بدون انتقاء أو اختيار، وإنّما مررت بكُتُب الِرجال فذكرت مِنها هذه المجموعة، وقد نَصَّت على

٣٥

تشيُّعهم المصادر التالية (١) .

بعد مُلاحظة هذه الشريحة مِن الطبقة الأولى مِن الشيعة، تتّضح لنا أمور هامّة في موضوعنا، أعرضُها أمام القارئ الواعي الرائد للحقِّ والموضوعيّة، وإلا فما أكثر مَن يقرأ ولا يتجاوز مضمون السطور عينيه، وقد يقرأ أحياناً ولا يريد أن يُصدّق ما يقرأ مع توفّر شرائط الصحّة فيما يقرأه، ومع وجود الثقة النفسيّة بمضمون ما يقرأه، ولكنّه التكوين النفسي والذهني، الذي ينشأ عليه الإِنسان مُنذ الصِغَر فيكاد يكون غريزةً مِن الغرائز التي يُطبَع عليها الإِنسان.

تعقيبٌ على الرُوّاد مِن الشيعة

هذه الأُمور التي ذَكرتُ أنّي سأعرض لها تعقيباً على نوعيّة الروّاد الأوائل هي:

أولاً: إنّ هؤلاءِ الشيعة الّذين مرَّ ذكرُهُم مع أنّهم كانوا مِن الذاهبين إلى أولويّة الإِمام عليٍّ (ع) بالخلافة؛ لأنّه الإِمام المفترض الطاعة المَنصوص عليه، ومع اعتقادهم بأنّ مَن تَقدّم عليه أخذ ما ليس له، ومع امتناع كثير مِنهم مِن البَيعة للخليفة الأوّل، واعتصامهم ببيت الإِمام عليٍّ (ع)، مع كلّ ذلك لم يُعرف عن أحدٍ مِنهم أنّه شَتَم فرداً مِن الصحابة، أو تناوله بطريقة غير مُستساغة، بل كانوا أكبر مِن ذلك، وأصلبَ عوداً مِن خُصومهم - مِمّا يدلُّ على أنّ بعض مَن عُرِف بظاهرة شَتم الصحابة إنّما صَدَرَ مِنه ذلك كعمليّة ردِّ فعل لأفعال مُتعدّدة، وسَنمرُّ على ذلك قريباً - إنّهم مع اختلافهم مع الحُكم لم يلجأوا إلى شتم أو بذاء؛ لأنّهم يعرفون أنّ الحُقوق لا يُوصل إليها بالشتم، وليس الشتم مِن شِيَمِ الأبطال، والذي يُريد أن يُسجّل ظُلامة، أو يُشير إلى حقٍّ سليب، فإنّ طُرُق ذلك ليس مِنها الشتم في شيءٍ،

____________________

(١) الكامل للمُبَرّد، هامش رغبة الأمل: ٧/١٣٠، وأُسد الغابة: ١/٣٥ ط أوفست حرف الألف، و١/٦١ طبع دمشق، وفجر الإِسلام: ص٢٦٧، والاستيعاب: ١/٢٨٠، ومدخل موسوعة العتبات المُقدّسة الفصل الخاص بالشيعة، بِقلم عبد الواحد الأنصاري.

٣٦

وإنّما هُناك مناهج سليمة في الوصول لذلك.

وقد حرص أمير المؤمنين (ع) على تربية أتباعه على المنهج السليم، ومِن مواقفه في ذلك، ما رواه نصر بن مُزاحم قال: مرّ أمير المؤمنين (ع) على بعض مَن كان في جيشه بصفّين، فسمعهم يشتمون معاوية وأصحابه، فقال لابن عَدي ولعمر بن الحَمق وغيرهما: (كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين، تشتمون وتبرؤون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم مِن سيرتهم كذا وكذا ومِن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العُذر، وقُلتم مكان لعنكم إيّاهُم وبراءتكم مِنهم، اللهم احقن دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدِهِم مِن ضلالهم حتّى يعرف الحق مَن جهله مِنهم، ويرعوي عن الغيّ والعُدوان مِنهم مَن لَهِجَ به لكان أحبُّ إليَّ وخيراً لكم.) فقالوا: يا أمير المؤمنين نقبل عِظَتَك، ونتأدّب بأدبك (١) .

إنّ هذا الموقف منه (ع) لَيُشِعرهُم أنّ الشتم وسيلة نابية وليست كريمة، ثمّ هي بعد ذلك تنفيس عن طاقة يُمكن الاستفادة مِنها، بادِّخارها وصرفها في عمل إيجابي، يضاف لذلك أنّ الشتم مَدعاة للإِساءة لمُقدّسات الشاتم نَفسه، ومِن هُنا حرّم الفقهاء شَتم الصَنم إذا أدّى إلى شَتم الله تعالى، مستفيدين ذلك مِن قوله تعالى: ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الأنعام: ١٠٨.

مِن أجل ذلك كُلّه كان الشيعة أطهرَ ألسِنة مِن أن يَشتِموا، وأبعدَ عن هذا الموقف النابي، ولذلك رأينا كثيراً مِن الباحثين يُؤكّدون هذا الجانب في حياة الروّاد الأوائل مِن الشيعة مع أنّهم يُثبِتون عقيدتهم بتقديم الإِمام عليٍّ (ع).

ومِن هؤلاءِ:

أ - الدكتور أحمد أمين:

يقول عن هؤلاءِ: إنّهم قسمُ المقتصد الذي يرى بأنّ أبا بكر وعُمر وعُثمان ومَن شايعهُم، أخطأوا إذ رضوا أن يكونوا خُلفاء مع عِلمهم بفضل عليٍّ، وإنّه خيرٌ مِنهم (٢) .

____________________

(١) صِفّين، لنصر بن مُزاحم: ص١١٥.

(٢) فجر الإِسلام: ص٢٦٨

٣٧

ب - ابن خُلدون يقول:

كان جماعة مِن الصحابة يتشيّعون لعليٍّ، ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدِلَ به إلى سواه، تأفّفوا مِن ذلك وأسفوا له، إلاّ أنّ القوم لِرُسوخِ قَدَمِهِم في الدين، وحُرصِهم على الأُلفة، لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف (١) .

ج - ابن حَجَر في الاستيعاب:

يقول في ترجمة أبي الطُفيل: عامر بن واثلة بن كنانة الليثي أبو الطُفيل، أدرك مِن حياة النبيّ (ص) ثمان سنين، وكان مولده عام أُحُد ومات سَنَة مائة، ويقال: إنّه آخر مَن مات مِمَّن رأى النبيّ، وقد روى نحو أربعة أحاديث، وكان مُحبّاً لعليٍّ، وكان مِن أصحابه في مشاهده، وكان ثِقَة مأموناً يَعترف بفضل الشيخين، إلاّ أنّه يُقدّم عليّاً. انتهى باختصار (٢) .

وبعد هذه المُقتطفات، أُودُّ أن أُلِف النظر أنّي خلال مُراجعاتي كُتُب التاريخ، لم أرَ في الفترة التي تَمتدُّ مِن بعد وفاة النبيّ حتّى نهاية خلافة الخُلفاء مَن عَمِدَ إلى الشتم مِن أصحاب الإِمام، وإنّما هناك مَن قيّم الخُلفاء وقيّم الإِمام، وحَتّى في أشدِّ جَمَحات عاطفة الولاء، لم نجد مَن يشتم أحداً مِمَّن تقدَّم الإِمام بالخلافة، يقول أبو الأسود الدؤلي:

أُحبّ محمداً حبّاً شديداً

وعبّاساً وحمزة والوصيّا

يقول الأرذلون بنو قشير

طوال الدهر ما تنسى عليّا

أُحبّهُم لحبِّ الله حتّى

أجيء إذا بُعِثت على هويّا

بنو عمِّ النبيّ وأقربوه

أحبّ الناس كُلّهم إليّنا

فإن يكُ حُبّهم رُشداً أَصبه

ولستُ بمخطئ إن كان غيّاً (٣)

____________________

(١) تاريخ ابن خُلدون: ٣/٣٦٤.

(٢) الاستيعاب: ٢/٤٥٢.

(٣) الكامل للمُبرّد: هامش رغبة الأمل ج٧.

٣٨

يضاف لذلك أنّه حتّى في الفترة الثانية، أي في عهود الأُموييّن كان مُعظَمُ الشيعة يتورّعون عن شتم أحد مِن الصحابة، أو التابعين.

يقول ابن خلكان في ترجمة يحيى بن يعمر: كان شيعيّاً مِن القائلين بتفضيل أهل البيت مِن غير تنقيص لغيرهم (١) .

____________________

(١) وَفَيات الأعيان: ٢/٢٦٩.

٣٩

الفصل الرابع

الشيعة غير الرَوافض

مَن كلِّ ما ذكرته يتَّضِح أمر آخر، وهو أنّ ما دأب عليه بعض الكُتّاب مِن رمي الشيعة بالرفض، وتسميتهم بالروافض، نشأ مؤخّراً وبأسباب خاصّة سنذكرها:

إنّ هذا الزمن الذي نشأ فيه نَعْتُ الشيعةِ بالروافض، هو في أيّام الأُموييّن؛ ولذلك جاءت النُصوص تنعت الروافض بأنّهم قِسم مِن الشيعة، لا الشيعة كما يُريد البعض، ومِن تلك النُصوص:

١ - محمّد مرتضى الزبيدي في تاج العروس قال:

والروافض كلّ جُندٍ تركوا قائدهم، والرافضة فِرقة مِنهم، والرافضة أيضاً فِرقة مِن الشيعة، قال الأصمعي سُمّوا بذلك لأنّهم باعيوا زيدَ بن علي، ثمّ قالوا له تبرّأ مِن الشيخين، فأبى وقال: لا، كانا وَزيرَي جدّي، فتركوه ورفضوه وارفضوا عنه (١) .

٢ - إسماعيل بن حمّاد الجوهري، قال في الصِحاح:

عند مادّة رَفض، مورداً نفس المضمون الذي ذكره الزبيدي، فكأنّه نسخة طِبق الأصل (٢) .

____________________

(١) تاج العروس: ٥/٣٤.

(٢) صِحاح الجوهري: ٣/١٠٧٨ تسلسل عام الكتاب.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237