هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 36728
تحميل: 6722

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36728 / تحميل: 6722
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الباب الأوّل

وفيه فُصول

٢١

٢٢

الفصل الأوّل

مَتى بَدَأ التَشَيُّع؟

فيما مضى في فَصل التمهيد انتهينا إلى أنّ التَشَيُّع في بداياته ونهاياته واحد، وأنّ التطوّر المفترض فيه ما هو إلاّ تَبَرعُم أفكار مُستَنبَطَة مِن الأُصول حَدَثتْ عند المُمارسة، وعناوين هي ثمرة لتفاعُل بين أفكار، ولمقارعة حُجَجٍ بعضها ببعض مِمّا يوجَد عادة في التاريخ الثقافي لكلّ نِحلَة مِن النِحَل.

والآن لا بدَّ مِن الرُجوع إلى بداية التَشَيُّع وبذرته التاريخيّة، واستظهار ما إذا كانت سِنخيّتها تَتَحدُّ مع الفِكر الإِسلامي أم لا؟

ثمّ ما هو حجمها؟ - أي البُنية الشيعيّة يوم ولادتها -، وما هي أرضيّة تكوينها؟

وهل هي عمليّة عاطفيّة، أم عمليّة عُقلائيّة انتهى إليها معتنقوها، بُمعاناة وتقييم واعيَين؟

ولَمّا كانت هذه الأُمور مِمّا اختُلِفَ فيه تبعاً لاستنتاج الباحثين، ومزاجهم، ومُسبقاتهم، وما ترجّحَ لديهم بمُرَجِّح مِن المُرجِّحات، فلا بُدَّ مِن تقديم نماذج مِن آراء الباحثين في هذه المواضيع تكون المادّة الخام، ثمّ يبقى على القارئ أن يستشفَّ الحَقيقة مِن وراء ذلك، ويكوّن له رأياً يَجتهد في أن يكون موضوعيّاً.

إنّ المؤرِّخين والباحثين عندما يُحدِّدون فترة نُشوء التَشَيُّع يَتَوزَّعون على مدىً يبتدئ مِن أيّام النبيّ، ونهاياته بعد مَقتل الحسين (ع).

وَسَأستعرض لك نماذج مِن آرائهم في ذلك، وأترك ما أذهبُ إليه إلى آخر الفصل:

أ - رأي يرى أنّهم تكوَّنوا بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام.

ومِمَن يذهب لهذا:

٢٣

أولاً: ابن خُلدون، فقد قال: إنّ الشيعة ظهرت لَمّا تُوفّي الرسول، وكان أهلُ البيت يرون أنفسهم أحقُّ بالأمر، وأنّ الخلافة لرجالهم دون سواهم مِن قُريش، ولمّا كان جماعة مِن الصحابة يتشيَّعون لعليٍّ، ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدِلَ به إلى سواه تأفّفوا مِن ذلك (1) إلخ.

ثانياً: الدكتور أحمد أمين، فقد قال: وكانت البذرة الأولى للشيعة، الجماعةُ الّذين رأوا بعد وفاة النبيّ أنّ أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه (2) .

ثالثاً: الدكتور حسن إبراهيم، فقد قال: ولا غَرْوَ فقد اختلف المسلمون إثرَ وفاة النبيّ (ص) فيمَنْ يولونه الخلافة، وانتهى الأمر بتولية أبي بكر، وأدّى ذلك إلى انقسام الأمّة العربيّة إلى فَريقين، جماعة وشيعة (3) .

ربعاً: اليعقوبي قال: ويعدُّ جماعة مِن المُتخلّفين عن بيعة أبي بكر، هُم النواة الأولى للتشيُّع، ومِن أشهرهم: سلمان الفارسي، وأبو ذرّ الغفاري، والمقداد بن الأسود، والعبّاس بن عبد المطلب (4) .

وتعقيباً على ذكر المُتخلّفين عن بيعة الخليفة أبي بكر، قال الدكتور أحمد محمود صُبحي: إنّ بواعث هؤلاءِ مُختلفة في التَخلّف، فلا يُستَدلّ مِنها على أنّهم كُلّهم مِن الشيعة. وقد يكون ما قاله صحيحاً غير أنّ المُتخلِّفين الّذين ذكرهم المؤرِّخون أكّدت كُتُب التراجم على أنّهم شيعة، وستأتي الإِشارة لذلك في مَحلّها مِن الكتاب (5) .

خامساً: المُستَشرِق جولد تسيهر قال: إنّ التَشَيُّع نشأ بعد وفاة النبيّ (ص)، وبالضبط بعد حادثة السقيفة (6) .

___________

(1) تاريخ ابن خُلدون: 3/364.

(2) فجر الإِسلام: ص266.

(3) تاريخ الإِسلام: 1/371.

(4) تاريخ اليعقوبي: 2/104.

(5) نَظريّة الإِمامة: ص33.

(6) العقيدة والشريعة: ص174.

٢٤

ب -: الرأي الذي يذهب إلى أنّ التَشَيُّع نشأ أيّام عُثمان، ومِن الذاهبين لذلك: جماعة مِن المؤرِّخين والباحثين مِنهم ابن حَزَم وجماعة آخرون، ذَكَرَهم بالتفصيل يحيى هاشم فرغل في كتابه (1) ، وقد استند إلى مُبرِّرات شرحها.

ج -: الرأي الذي يذهب إلى تكوّن الشيعة أيّام خلافة الإِمام عليٍّ (ع)، ومِن الذاهبين إلى هذا الرأي النوبختي في كتابه فِرق الشيعة (2)، وابن النديم في الفهرست، حيث حَدّده بفترة واقعة البصرة وما سبقها مِن مُقدّمات كان لها الأثر المُباشر في تبلور فِرقة الشيعة وتكوينها (3) .

د -: الرأي الذي يذهب إلى أنّ ظهور التَشَيُّع كان بعد واقعة الطفِّ، على اختلافٍ في الكيفيّة بين الذاهبين لهذا الرأي، حيث يرى بعضُهم أنّ بَوادِر التَشَيُّع التي سبقت واقعة الطفِّ، لم تصل إلى حدِّ تكوين مذهب مُتميِّز له طابعه وخواصُّه، وإنّما حدث ذلك بعد واقعة الطفِّ، بينما يذهب (4) آخرون إلى أنّ وجود المذهب قبل واقعة الطفِّ كان لا يعدو النزعة الروحيّة، ولكن بعد واقعة الطفِّ أخذ طابعاً سياسيّاً، وعمّق جذوره في النفوس، وتحدّدت أبعاده إلى كثير مِن المضامين. وكثير مِن المستشرقين يذهبون لهذا الرأي، وأغلب المُحدِّثين مِن الكُتّاب.

يقول الدكتور كامل مصطفى: إنّ استقلال الاصطلاح الدالّ على التَشَيُّع، إنّما كان بعد مَقتل الحسين (ع)، حيث أصبح التَشَيُّع كياناً مُميَّزاً له طابعه الخاص.

في حين يذهب الدكتور عبد العزيز الدوري، إلى أنّ التَشَيُّع تَميّز سياسيّاً ابتداءً مِن مَقتل أمير المؤمنين عليٍّ (ع)، ويتضمّن ذلك فترة قتل الحسين (ع)، حيث يعتبرها امتداداً للفترة السابقة (5) .

وإلى هذا الرأي يذهب بروكلمان في تاريخ الشعوب الإسلاميّة حيث

____________________

(1) عوامل أهداف نشأة عِلم الكلام: 1/105.

(2) فِرق الشيعة: ص16.

(3) الفهرست لابن النديم: ص175.

(4) الصِلة بين التصوُّف والتَشَيُّع: ص23.

(5) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص72.

٢٥

يقول: والحقُّ أنّ ميتة الشهداء الذي ماتها الحسين، ولم يكن لها أيُّ أثَر سياسيٍّ - هذا على زعمه - قَد عملت في التطوّر الديني للشيعة، حزب عليٍّ الذي أصبح بعدُ مُلتقى جَمع النَزعات المناوئة للعرب - وهو زعم باطل - واليوم لا يزال ضريح الحسين (ع) في كربلاء، أقدس مَحجّة عِندَ الشيعة، وبخاصة الفُرس الّذين ما فتئوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره، غايةَ ما يطمعون فيه (1) .

إنّ رأي بروكلمان، بالإضافة لِما فيه مِن دسٍّ، يُخالف ما عليه مُعظم مَن رَبَط ظهور التَشَيُّع بمقتل الحسين، حيث يذهبون إلى أنّ التميّز السياسي للمذهب ولدته واقعة الطفِّ، بينما يرى بروكلمان أنْ لا أثرَ سياسيّ للواقعة، فهو مِن قبيل إنكار البدهيّات، وإنّما يُقصِر أثر الواقعة على تعميق المذهب دينيّاً فقط.

وقد شايع بروكلمان في هذا الرأي جماعة آخرون، ذكرهم يحيى فرغل مُفصّلاً في كتابه (2) .

إنّ هذه الآراء الأربعة في نشأة التَشَيُّع لا تَصمُد أمام المُناقشة، ولا أريد أن أتَعجّلَ الردّ عليها، فسأذكر الرأي الخامس، ومنه يتّضح تماماً أنّ هذه الآراء تستند إلى أحداث أومَضَ فيها التَشَيُّع نتيجة احتكاكه بمؤثّر مِن المؤثّرات في تلك الفترة، التي أرَخَت بها تلك الآراء ظهور التَشَيُّع فظنّوه وُلِد آنذاك، بينما هو موجود بكيانه الكامل منذ الصدر الأوّل.

وقد آن الأوان لأعرض لك رأي جُمهور الشيعة، وخاصّة المُحقّقين مِنهم:

هـ -: رأي الشيعة وغيرهم مِن المُحقّيين مِن المذاهب الأُخرى:

حيث ذهب هؤلاءِ إلى أنّ التَشَيُّع وُلِد أيّام النبيّ (ص)، وأنّ النبيّ نفسُهُ هو الذي غَرسه في النفوس، عن طريق الأحاديث التي وردت على لسان النبيّ (ص)، وكشفت عمّا لعليٍّ (ع) مِن مكانة في مواقع مُتعدّدة، رواها - إضافة إلى الشيعة - ثُقاة أهل السُنّة.

ومنها: ما رواه السيوطي عن ابن عساكر عند تفسير الآيتين السادسة والسابعة مِن سورة البيّنة، بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: كُنّا عند النبيّ (ص) فأقبل عليٌّ (ع)

____________________

(1) تاريخ الشُعوب الإسلاميّة: ص128.

(2) عوامل وأهداف نشأة عِلم الكلام: 1/106.

٢٦

فقال النبيّ (ص): (والذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لَهُمُ الفائزون يوم القيامة)، فَنَزَلَ قولُهُ تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

وأخرج ابن عَدي عن ابن عبّاس قال: لَمّا نزل قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال النبيّ (ص) لعليٍّ (ع):(هُم أنتُ وشيعتك).

وأخرج ابن مردَويه عن عليٍّ (ع) قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ألَم تسمع قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... ) هُم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدُكم الحوض، إذا جاءت الأمم للحساب تُدعَون غُرّاً مُحجّلين) (1) .

ومِن هُنا ذهب أبو حاتم الرازي، إلى أنّ أوّل اسم لمذهب ظهور في الإِسلام هو الشيعة، وكان هذا لَقَب أربعة مِن الصحابة: أبو ذر، وعمّار، والمقداد، وسلمان الفارسي، وبعد صِفّين اشتهر موالي عليٍّ بهذا اللقب (2) .

إنّ هذه الأحاديث التي مرَّت، والتي أخرجها كلٌّ مِن ابن عساكر، وابن عدي، وابن مردويه، يُعقِّب عليها أحمد محمود صبحي في كتابه نَظريّة الإِمامة فيقول: ولا تفيد الأحاديث الواردة على لسان النبيّ (ص) في حقِّ عليٍّ (ع) أنّ لعليٍّ شيعة في زمان النبيّ، فقد تنبّأ النبيّ بظهور بعض الفِرَق كإشارته إلى الخوارج والمارقين، كما يُنسَب إليه أنّه قال لعليٍّ: (إنّك تُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)، ولا يدلُّ ذلك على وجود جماعة مُستقلَّة لها عقائد متمايزة، أو تصوّرات خاصّة (3)

وأنا أُلفِت نَظر الدكتور أحمد مَحمود إلى أنّ الشيعة لا يستدلّون على ظُهور التَشَيُّع أيّام النبيّ (ص) بما ورد على لسانه مِن أحاديث، فالمسألة كما يُسمّيها الأصوليّون على نحو القضية الحقيقيّة لا الخارجيّة، أي لا يلزم وجودهم بالفعل كما استظهره الدكتور، وإنّما هي صفات ذكرها النبيّ (ص) للشيعة متى وجدوا وأينما وجدوا، أمّا الاستدلال على ظهور الشيعة أيّام النبيّ، فَمِن روايات وقرائن كثيرة يوردونها في هذا المقام، أورد قِسماً مِنها الدكتور عبد العزيز الدوري، واستعرض مصادرها (4) مع ملاحظة أنّه قَيَّدَ

____________________

(1) الدُرُّ المَنثور للسيوطي: 6/376.

(2) رَوضاتُ الجنّات للخونساري: ص88.

(3) نَظريّة الإمامة: ص31.

(4) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص72.

٢٧

التَشيُّع بأنّه تَشيُّع روحي، كما نصَّ على قِسم مِن أدلّتهم على ذلك، يحيى هاشم فَرغل في كتابه (1) .

إنّ بعض هذه الآراء يَرجِع بالبداية الزمنيّة في ظهور الشيعة إلى وقتٍ مُبكِّر في حياة النبيّ (ص)، حيث التأمة جماعة مِن الصحابة تُفضِّل عليّاً (ع) على غيره مِن الصحابة، وتتّخِذه رئيساً.

ومِن هؤلاءِ: عمّار بن ياسر، وأبو ذرِّ الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وجابر بن عبد الله، وأُبي بن كعب، وأبو أيّوب الأنصاري، وبنو هاشم إلخ (2) .

ولهذا ذهب الباحثون إلى تخطئة مَن يُؤرّخ للتشيُّع وظهوره بعُصور متأخّرة، مع أنّ الأدلة التاريخيّة مُتوفِّرة على وجودهم أيّام الرّسول صلوات الله عليه وآله.

يقول محمّد بن عبد الله عنان في كتابه تاريخ الجمعيّات السِريّة، عند تعليقه على الحادثة التي روتها كُتُب السيرة (3) حين جَمَعَ النبيّ عشيرته عند نُزول قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشعراء: 214، ودعاهم إلى اتّباعه، فلم يُجبه إلاّ عليّ بن أبي طالب، فأخذ النبيّ برقبته وقال: (هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.) إلخ. عَلَّق محمّد عبد الله بقوله: مِن الخطأ أن يقُال، إنّ الشيعة إنّما ظهروا لأوّل مرّة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرسول حين أمِر بإنذار عشيرته بهذه الآية.

____________________

(1) عوامل وأهداف نشأة عِلم الكلام: 1/105.

(2) المصدر السابق: ص106.

(3) حياة محمّد لهيكل، ط مصر الطبعة المؤرّخَة 1354، ص104.

٢٨

الفَصلُ الثاني

الأدلّة على تَكوّن التَشيُّع أيّام النَبيّ

1 - النُصوص التاريخيّة على وصف جماعة بالتَشيُّع أيّام النبيّ (ص)، وقد مَرّت الإِشارة لذلك، ولهذا يقول الحسن بن موسى النوبختي عند تحديده للشيعة:

فالشيعة فِرقةُ عليِّ بن أبي طالب، المُسمَّون بشعية عليٍّ في زَمن النبيّ - ثمّ عدَّدَ جماعة مِنهم وقال: - وهم أوّل مَن سُمّي باسم التَشيُّع؛ لأنّ اسم التَشيُّع كان قديماً لشيعة إبراهيم (1) .

2 - ما عليه جُمهور الباحثين والمؤرّخين، الّذين ذهبوا إلى أنّ التَشيُّع ظَهَرَ يوم السقيفة،فإنّ ذلك ينهض دليلاً على وجوده أيّام النبيّ (ص)؛ لأنّه مِن غير المعقول أن يتبلور التَشيُّع بأسبوع واحد - أي المُدّة بين وجود الرسول ووفاته، بحيث يَتّخذ جماعة مِن الناس مواقف مُعيّنة، ويَتّضح لهم اتجاهٌ له ميزاته وخواصّه، فإنّ مِثل هذه الآراء تحتاج في تكوينها وتبلورها إلى وقت ليس بالقليل، وكلّ مَن له إلمام بحوادث السقيفة، وموقف الممتنعين عن بيعة أبي بكر، وحِجاجهم في ذلك الموضوع يجزم بأنّ تلك المواقف لم تتكوّن بوقت قصير وبسرعة كهذه السّرعة، وذلك لوجود اتّجاهات متبلورة، وتأصُّلٍ في طرح نظريّات مُعيَّنة.

3 - إنّ مِن غير المعقول أن ترد على لسان النبيّ (ص) أحاديث في تفضيل

____________________

(1) الفِرق والمقالات للنوبختي، باب تعريف الشيعة.

٢٩

الإِمام عليٍّ (ع)، والإِشارة إلي مؤهّلاته ثمّ يَقفُ المسلمون مِن ذلك موقف غير المُبالي، وهُم منَ هُم في إيمانهم وطاعتهم للرسول (ع)، ولا سيّما والمواقف في ذلك قد تعدَّدت.

وسأذكر لك مِنها:

أ - الموقف الأوّل:

عندما نَزل قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشعراء: 214، قال المؤرّخون: إنّ النبيّ (ص) دعا عليّاً (ع)، وأمره أن يصنع طعاماً، ويدعو آل عبد المطلب، وعددهم يومئذٍ أربعون رجلاً، وبعد أن أكلوا، وشَرِبوا مِن لَبَنٍ أُعدَّ لهم، قام النبيّ (ص) وقال: (يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً مِن العَرَب جاء قومه بأفضل مِمّا قد جئتُكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدُنيا والآخرة، وقد أمَرَني الله أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم.) فأحجم القوم عنها جميعاً. يقول عليّ: (وقلت - وإنّي لأحدَثُهُم سِنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (1) .

ب - الموقف الثاني:

يقول أبو رافع القبطي مولى رسول الله (ص): دخلت على النبيّ وهو يوحى إليه، فرأيت حيَّةً، فَنِمتُ بينها وبين النبيّ؛ لئلاّ يصل إليه أذى مِنها، حتّى انتهى عنه الوحي فأمرني بقتلها، وسمعته يقول: (الحمد لله الذي أكمل لعليٍّ مِنّته، وهنيئاً لعليٍّ بتفضيل الله إياه..) بعد أن قرأ قوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة: 55.

وقد أجمع أعلام أهل السُنّة والشيعة على نزول هذه الآية في عليّ (ع)، ومنهم السيوطي في الدُرُّ المَنثور، عند تفسير الآية المَذكورة، وكذلك الرازي في مفاتيح الغيب، والبيضاوي في

____________________

(1) تاريخ الطبري: 2/216، وتاريخ ابن الأثير: 2/28.

٣٠

تفسيره، والزمخشري في الكشّاف، والثعلبي في تفسيره، والطبرسي في مَجْمَع البيان، وغيرهم مِن أعلام المفسرين والمحدّثين.

ومِن الغريب أن يقف الآلوسي في تفسيره روح المعاني موقفاً يُمثِّل الإِسفاف والرِكّة في دفع هذه الآية عن عليٍّ (ع)، ويُريك كيف يهبط التعصّب بالإِنسان إلى دَرَكٍ مَقيتٍ، وإلى تهافُتٍ غير معهود. وإنّ المرء لَيَستَغرِب مِن هذا الرجل، فإنّ له مواقف مُتناقضة مِن عليٍّ (ع)، فتارة يعطيه حقّه، وأُخرى يقف مِنه موقفاً متشنّجاً، وبوسع كلّ مَن قرأ الآلوسي في مؤلفاته أن يرى هذه الظاهرة.

ج - الموقف الثالث:

موقف النبيّ (ص) يوم غدير خُم، وذلك عند نُزول الآية: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) المائدة: 69. وعندها أوقف النبيّ (ص) الرَكْب، وصنعوا له مِنبَراً مِن أحداج الإِبل، خَطَبَ عليه خطبته المعروفة، ثمّ أخذ بيد عليٍّ وقال: (ألستُ أولى بالمؤمنين مِن أنفسهم؟) قالوا: بلى، فكررها ثلاثاً ثمّ قال: (مِن كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مِن نصره، واخذل مَن خذله) فَلَقيَهُ الخليفة الثاني فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقد ذكر الرازي في سَبَبِ نزول الآية عشرة وجوه، ومنها أنّها نزلت في عليٍّ (ع)، ثمّ عقَّب بعد ذلك بقوله: وهو قول ابن عبّاس، والبرّاء بن عازب، ومحمّد بن عليٍّ - يريد الباقر - (1) .

إنّ حديث الغدير أخرجه جماعة مِن حُفّاظ أهلِ السُنّة، وقد رواه ابن حَجَر في صواعقه، عن ثلاثين صحابيّاً، ونصّ على أنّ طُرُقَه صحيحة، وبعضها حَسَن (2) .

وأورده ابن حمزة الحَنَفي، مخرجاً له عن أبي الطُفيل عامر بن واثلة بهذه

____________________

(1) تفسير الرازي: 3/431.

(2) الصواعق المُحرقة، الباب الثاني مِن الفصل التاسع.

٣١

الصورة، قال: إنّ أسامة بن زيد قال لعليٍّ: لست مولاي إنّما مولاي رسول الله (ص)، فقال النبيّ (ص): (كأنّي قد دُعيتُ فأجبتُ، إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر مِن الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، إنّ الله مولاي وأنا مولى كلّ مؤمن، مَن كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه) (1) .

وقد ألَّف في موضوع الغدير، مِن السُنّة والشيعة، سِتٌّ وعشرون مؤلِّفاً (2) ، ولا أريدُ التحدُّث بصراحة حديث الغدير في أولَويّة الإِمام عليٍّ (ع)، وتقديمه على كافّة الصحابة، فإنّ الأمر قد أُشبِع مِن قِبَل الباحثين، ولكنّي أريد أن أسائل الدكتور أحمد شلبي، الذي يقول: إنّ حديث الغدير لم يرد له ذِكر إلاّ في كُتُب الشيعة. فأقول له: هل هُناك شيء مِن الشعور بالمسؤوليّة عندك وعند أمثالك، مِمَّن يرمون الكلام على عواهنه، فأنت تحمل أمانةً للأجيال، فَمِنَ الأمانة هذا القول!. إنّ كُتُبَ أهلِ نِحْلَتِك وحُفّاظِ قومك، أوردت الحديث بمصادره الموثوقة، فإذا كُنت لا تقرأ، أو تقرأ ولا تريد أن تعرف، فاسكت يرحمك الله، فهو خير لك مِن التعرُّض، أمّا لنسبة الجهل أو العصبية، ولا يقلُّ عن الدكتور شلبي، مَن يذهب إلى أنّ لفظ المولى هُنا إنّما يُراد منه ابن العَم، فهو أحد معاني هذه اللفظة المُشتَرَكَة، ولا ردَّ لي على هذا إلاّ أن أقول: اللهم ارحم عقولنا مِن المَسخ.

إنّ هذه مُجرّد أمثلة مِن مواقف النبيّ (ص)، في التنويه بفضل عليٍّ (ع)، ولا يمكن أن تمرَّ هذه المواقف، والكثير الكثير مِن أمثالها دون أن تشدَّ الناس لعليٍّ، ودون أن تدفعهم للتعرُّف على هذا الإِنسان الذي هو وصيّ النبيّ، الذي يشركه القرآن بالولاية العامّة مع الله تعالى ورسوله (ص)، ثمّ لا بُدّ للمسلمين مِن إطاعة هذه الأوامر، التي وردت بالنصوص والالتفاف حول مَن وردت فيه، ذلك هو معنى التَشَيُّع الذي نقول: إنّ النبيّ (ص) هو الذي بَذَرَ بذرته، وقد أينَعَت في حياته، وعُرِف جماعة بالتشيّع لعليٍّ، والالتفاف حوله، وللتدليل على ذلك، سأذكر لك أسماء الرعيل الأوّل مِن الصحابة، الّذين عُرِفوا بِتَشَيُّعهم وولائهم للإِمام عليٍّ (ع).

____________________

(1) البيان والتعريف: 2/136.

(2) أعيان الشيعة: ج3 باب الغدير.

٣٢

الفَصل الثالث

روّاد التَشَيُّع الأوائل

جُندُب بن جنادة، أبو ذرّ الغفاري، وعمّار بن ياسر، سلمان الفارسي، المقداد بن عُمَر بن ثعلبة الكندي، حَذيفة بن اليمان صاحب سرِّ النبيّ، خَزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، الخبّاب بن الأرت الخُزاعي أحد المُعذبين في الله، سعد بن مالك أبو سعيد الخدري، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري، أنس بن الحرث بن مُنبّه أحد شهداء كربلاء، أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضافه النبيّ (ص) عند دخوله للمدينة، جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة، هاشم بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء، محمّد بن الخليفة أبي بكر تلميذ عليٍّ وربيبه، مالك بن الحرث الأشتر النخعي، مالك بن نويرة ردف الملوك الذي قتلهُ خالد بن الوليد، البرّاء بن عازب الأنصاري، أُبيّ بن كعب سيد القُرّاء، عبادة بن الصامت الأنصاري، عبد الله بن مسعود صاحب وضوء النبيّ (ص) ومِن سادات القُرّاء، أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عُمير واضع أسّسَ النحو بأمر الإِمام عليٍّ، خالد بن سعيد بن أبي عامر بن أميّة بن عبد شمس خامس مَن أسلم، أسيد بن ثعلبة الأنصاري مِن أهل بدر، الأسود بن عيسى بن وهب مِن أهل بدر، بشير ابن مسعود الأنصاري مِن أهل بدر ومِن القتلى بواقعة الحرّة بالمدينة، ثابت أبو فضالة الأنصاري مِن أهل بدر، الحارث بن النُعمان بن أُميّة الأنصاري مِن أهل بدر، رافع بن خديج الأنصاري مِمَّن شهد أُحُداً ولم يبلغ وأجازه النبيّ(ص)،

٣٣

كعب بن عُمير بن عبادة الأنصاري مِن أهل بدر، سماك بن خرشة أبو دُجانة الأنصاري مِن أهل بدر، سُهيل بن عمرو الأنصاري مِن أهل بدر، عتيك بن التيهان مِن أهل بدر، ثابت بن عبيد الأنصاري مِن أهل بدر، ثابت بن حطيم بن عدي الأنصاري مِن أهل بدر، سُهيل بن حَنيف الأنصاري مِن أهل بدر، أبو مسعود عقبة بن عُمَر مِن أهل بدر، أبو رافع مولى رسول الله (ص) الذي شهِد مشاهده كلّها مع مشاهد عليٍّ (ع)، وممَّن بايع البيعتين العقبة والرضوان، وهاجر الهِجرتين للحبشة مع جعفر وللمدينة مع المُسلِمينَ، أبو بُرّدة بن دينار الأنصاري مِن أهل بدر، أبو عُمَر الأنصاري مِن أهل بدر، أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري مِن أهل بدر، عقبة بن عُمَر بن ثعلبة الأنصاري مِن أهل بدر، قرظة بن كعب الأنصاري، بشير بن عبد المنذر الأنصاري أحد النُقَباء ببيعة العَقَبة، يزيد بن نويرة بن الحارث الأنصاري مِمَّن شهد له النبيّ (ص) بالجنّة، ثابت بن عبد الله الأنصاري، جبلة بن ثعلبة الأنصاري، جبلة بن عُمير بن أوس الأنصاري، حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي، زيد بن أرقم الأنصاري، شهد مع النبيّ (ص) سبعة عشر وقعة، أعيُن بن ضبيعة بن ناجية التميمي، الأصبغ بن نُباتة، يزيد الأسلمي مِن أهل بيعة الرضوان، تميم بن خزام، ثابت بن دينار أبو حمزة الثمالي صاحب الدعاء المعروف، جُندب بن زُهير الأزدي، جعدة بن هبيرة المخزومي، حارثة بن قُدامة التَميمي، جبير بن الجناب الأنصاري، حبيب بن مظاهر الأسدي، حكيم بن جبلة العبدي الليثي، خالد بن أبي دُجانة الأنصاري، خالد بن الوليد الأنصاري، زيد بن صوحان الليثي، الحجّاج بن غاربة الأنصاري، زيد بن شرحبيل الأنصاري، زيد بن جبلة التميمي، بديل بن ورقاء الخزاعي، أبو عُثمان الأنصاري، مسعود بن مالك الأسدي، ثعلبة أبو عمرة الأنصاري، أبو الطُفيل عامر بن واثلة الليثي، عبد الله بن حزام الأنصاري شهيد أُحد، سعد بن منصور الثَقَفي، سعد بن الحارث بن الصمد الأنصاري، الحارث بن عمر الأنصاري، سليمان بن صرد الخزاعي، شرحبيل بن مرّة الهمداني، شبيب بن رت النميري، سهل بن عمر

٣٤

صاحب المربد، سهيل بن عمر أخو سهل المار ذكره، عبد الرحمان الخُزاعي، عبد الله بن خراش، عبد الله بن سهيل الأنصاري، عبيد الله بن العازر، عَدي ابن حاتم الطائي، عروة بن مالك الأسلمي، عقبة بن عامر السلمي، عمر بن هلال الأنصاري، عمر بن أنس بن عون الأنصاري مِن أهل بدر، هند بن أبي هالة الأسدي، وهب بن عبد الله بن مُسلِم بن جنادة، هاني بن عروة المِذحجي، هبيرة بن النُعمان الجُعفي، يزيد بن قيس بن عبد الله، يزيد بن حوريت الأنصاري، يعلى بن عُمير النهدي، أنس بن مدرك الخثعمي، عمرو العبدي الليثي، عميرة الليثي، عليم بن سلمة التميمي، عُمير بن حارث السلمي، علباء بن الهيثم بن جرير، وأبوه الهيثم مِن قُوّاد الحملة في قتال الفُرس بواقعة ذي قار، عون بن عبد الله الأزدي، علاء بن عُمَر الأنصاري، نهشل بن ضمرة الحنظلي، المُهاجر بن خالد المخزومي، مِخنف بن سليم العبدي الليثي، محمّد بن عُمير التميمي، حازم بن أبي حازم البَجلي، عبيد بن التيهان الأنصاري، وهو أول المُبايعين للنبي ليلة العقبة، أبو فُضالة الأنصاري، أُويس القَرَني الأنصاري، زياد بن النضر الحارثي، عوض بن علاط السلمي، مَعاذ بن عفراء الأنصاري، عبد الله بن سليم العبدي الليثي، علاء بن عروة الأزدي، القاسم بن سليم العبدي الليثي، عبد الله بن رقية العبدي الليثي، منقذ بن النعمان العبدي الليثي، الحارث بن حسّان الذهلي صاحب راية بكر بن وائل، بجير بن دلجة، يزيد بن حجية التميمي، عامر بن قيس الطائي، رافع الغطفاني الأشجعي، سالم بن أبي الجعد، عُبيد بن أبي الجعد، زياد بن أبي الجعد، أبان ابن سعيد بن العاص بن أُميّة بن عبد شمس مِن أُمراء السرايا أيّام النبيّ (ص)، ومِن خُلّص أصحاب الإِمام عليّ (ع)، حَرمَلة بن المُنذر الطائي أبو زَبيد.

والمجموع مائة وثلاث وثلاثون.

هذه شريحة، أو نماذج مِن الروّاد الأوائل في التَشَيُّع، ذكرتهم بدون انتقاء أو اختيار، وإنّما مررت بكُتُب الِرجال فذكرت مِنها هذه المجموعة، وقد نَصَّت على

٣٥

تشيُّعهم المصادر التالية (1) .

بعد مُلاحظة هذه الشريحة مِن الطبقة الأولى مِن الشيعة، تتّضح لنا أمور هامّة في موضوعنا، أعرضُها أمام القارئ الواعي الرائد للحقِّ والموضوعيّة، وإلا فما أكثر مَن يقرأ ولا يتجاوز مضمون السطور عينيه، وقد يقرأ أحياناً ولا يريد أن يُصدّق ما يقرأ مع توفّر شرائط الصحّة فيما يقرأه، ومع وجود الثقة النفسيّة بمضمون ما يقرأه، ولكنّه التكوين النفسي والذهني، الذي ينشأ عليه الإِنسان مُنذ الصِغَر فيكاد يكون غريزةً مِن الغرائز التي يُطبَع عليها الإِنسان.

تعقيبٌ على الرُوّاد مِن الشيعة

هذه الأُمور التي ذَكرتُ أنّي سأعرض لها تعقيباً على نوعيّة الروّاد الأوائل هي:

أولاً: إنّ هؤلاءِ الشيعة الّذين مرَّ ذكرُهُم مع أنّهم كانوا مِن الذاهبين إلى أولويّة الإِمام عليٍّ (ع) بالخلافة؛ لأنّه الإِمام المفترض الطاعة المَنصوص عليه، ومع اعتقادهم بأنّ مَن تَقدّم عليه أخذ ما ليس له، ومع امتناع كثير مِنهم مِن البَيعة للخليفة الأوّل، واعتصامهم ببيت الإِمام عليٍّ (ع)، مع كلّ ذلك لم يُعرف عن أحدٍ مِنهم أنّه شَتَم فرداً مِن الصحابة، أو تناوله بطريقة غير مُستساغة، بل كانوا أكبر مِن ذلك، وأصلبَ عوداً مِن خُصومهم - مِمّا يدلُّ على أنّ بعض مَن عُرِف بظاهرة شَتم الصحابة إنّما صَدَرَ مِنه ذلك كعمليّة ردِّ فعل لأفعال مُتعدّدة، وسَنمرُّ على ذلك قريباً - إنّهم مع اختلافهم مع الحُكم لم يلجأوا إلى شتم أو بذاء؛ لأنّهم يعرفون أنّ الحُقوق لا يُوصل إليها بالشتم، وليس الشتم مِن شِيَمِ الأبطال، والذي يُريد أن يُسجّل ظُلامة، أو يُشير إلى حقٍّ سليب، فإنّ طُرُق ذلك ليس مِنها الشتم في شيءٍ،

____________________

(1) الكامل للمُبَرّد، هامش رغبة الأمل: 7/130، وأُسد الغابة: 1/35 ط أوفست حرف الألف، و1/61 طبع دمشق، وفجر الإِسلام: ص267، والاستيعاب: 1/280، ومدخل موسوعة العتبات المُقدّسة الفصل الخاص بالشيعة، بِقلم عبد الواحد الأنصاري.

٣٦

وإنّما هُناك مناهج سليمة في الوصول لذلك.

وقد حرص أمير المؤمنين (ع) على تربية أتباعه على المنهج السليم، ومِن مواقفه في ذلك، ما رواه نصر بن مُزاحم قال: مرّ أمير المؤمنين (ع) على بعض مَن كان في جيشه بصفّين، فسمعهم يشتمون معاوية وأصحابه، فقال لابن عَدي ولعمر بن الحَمق وغيرهما: (كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين، تشتمون وتبرؤون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم مِن سيرتهم كذا وكذا ومِن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العُذر، وقُلتم مكان لعنكم إيّاهُم وبراءتكم مِنهم، اللهم احقن دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدِهِم مِن ضلالهم حتّى يعرف الحق مَن جهله مِنهم، ويرعوي عن الغيّ والعُدوان مِنهم مَن لَهِجَ به لكان أحبُّ إليَّ وخيراً لكم.) فقالوا: يا أمير المؤمنين نقبل عِظَتَك، ونتأدّب بأدبك (1) .

إنّ هذا الموقف منه (ع) لَيُشِعرهُم أنّ الشتم وسيلة نابية وليست كريمة، ثمّ هي بعد ذلك تنفيس عن طاقة يُمكن الاستفادة مِنها، بادِّخارها وصرفها في عمل إيجابي، يضاف لذلك أنّ الشتم مَدعاة للإِساءة لمُقدّسات الشاتم نَفسه، ومِن هُنا حرّم الفقهاء شَتم الصَنم إذا أدّى إلى شَتم الله تعالى، مستفيدين ذلك مِن قوله تعالى: ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الأنعام: 108.

مِن أجل ذلك كُلّه كان الشيعة أطهرَ ألسِنة مِن أن يَشتِموا، وأبعدَ عن هذا الموقف النابي، ولذلك رأينا كثيراً مِن الباحثين يُؤكّدون هذا الجانب في حياة الروّاد الأوائل مِن الشيعة مع أنّهم يُثبِتون عقيدتهم بتقديم الإِمام عليٍّ (ع).

ومِن هؤلاءِ:

أ - الدكتور أحمد أمين:

يقول عن هؤلاءِ: إنّهم قسمُ المقتصد الذي يرى بأنّ أبا بكر وعُمر وعُثمان ومَن شايعهُم، أخطأوا إذ رضوا أن يكونوا خُلفاء مع عِلمهم بفضل عليٍّ، وإنّه خيرٌ مِنهم (2) .

____________________

(1) صِفّين، لنصر بن مُزاحم: ص115.

(2) فجر الإِسلام: ص268

٣٧

ب - ابن خُلدون يقول:

كان جماعة مِن الصحابة يتشيّعون لعليٍّ، ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدِلَ به إلى سواه، تأفّفوا مِن ذلك وأسفوا له، إلاّ أنّ القوم لِرُسوخِ قَدَمِهِم في الدين، وحُرصِهم على الأُلفة، لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف (1) .

ج - ابن حَجَر في الاستيعاب:

يقول في ترجمة أبي الطُفيل: عامر بن واثلة بن كنانة الليثي أبو الطُفيل، أدرك مِن حياة النبيّ (ص) ثمان سنين، وكان مولده عام أُحُد ومات سَنَة مائة، ويقال: إنّه آخر مَن مات مِمَّن رأى النبيّ، وقد روى نحو أربعة أحاديث، وكان مُحبّاً لعليٍّ، وكان مِن أصحابه في مشاهده، وكان ثِقَة مأموناً يَعترف بفضل الشيخين، إلاّ أنّه يُقدّم عليّاً. انتهى باختصار (2) .

وبعد هذه المُقتطفات، أُودُّ أن أُلِف النظر أنّي خلال مُراجعاتي كُتُب التاريخ، لم أرَ في الفترة التي تَمتدُّ مِن بعد وفاة النبيّ حتّى نهاية خلافة الخُلفاء مَن عَمِدَ إلى الشتم مِن أصحاب الإِمام، وإنّما هناك مَن قيّم الخُلفاء وقيّم الإِمام، وحَتّى في أشدِّ جَمَحات عاطفة الولاء، لم نجد مَن يشتم أحداً مِمَّن تقدَّم الإِمام بالخلافة، يقول أبو الأسود الدؤلي:

أُحبّ محمداً حبّاً شديداً

وعبّاساً وحمزة والوصيّا

يقول الأرذلون بنو قشير

طوال الدهر ما تنسى عليّا

أُحبّهُم لحبِّ الله حتّى

أجيء إذا بُعِثت على هويّا

بنو عمِّ النبيّ وأقربوه

أحبّ الناس كُلّهم إليّنا

فإن يكُ حُبّهم رُشداً أَصبه

ولستُ بمخطئ إن كان غيّاً (3)

____________________

(1) تاريخ ابن خُلدون: 3/364.

(2) الاستيعاب: 2/452.

(3) الكامل للمُبرّد: هامش رغبة الأمل ج7.

٣٨

يضاف لذلك أنّه حتّى في الفترة الثانية، أي في عهود الأُموييّن كان مُعظَمُ الشيعة يتورّعون عن شتم أحد مِن الصحابة، أو التابعين.

يقول ابن خلكان في ترجمة يحيى بن يعمر: كان شيعيّاً مِن القائلين بتفضيل أهل البيت مِن غير تنقيص لغيرهم (1) .

____________________

(1) وَفَيات الأعيان: 2/269.

٣٩

الفصل الرابع

الشيعة غير الرَوافض

مَن كلِّ ما ذكرته يتَّضِح أمر آخر، وهو أنّ ما دأب عليه بعض الكُتّاب مِن رمي الشيعة بالرفض، وتسميتهم بالروافض، نشأ مؤخّراً وبأسباب خاصّة سنذكرها:

إنّ هذا الزمن الذي نشأ فيه نَعْتُ الشيعةِ بالروافض، هو في أيّام الأُموييّن؛ ولذلك جاءت النُصوص تنعت الروافض بأنّهم قِسم مِن الشيعة، لا الشيعة كما يُريد البعض، ومِن تلك النُصوص:

1 - محمّد مرتضى الزبيدي في تاج العروس قال:

والروافض كلّ جُندٍ تركوا قائدهم، والرافضة فِرقة مِنهم، والرافضة أيضاً فِرقة مِن الشيعة، قال الأصمعي سُمّوا بذلك لأنّهم باعيوا زيدَ بن علي، ثمّ قالوا له تبرّأ مِن الشيخين، فأبى وقال: لا، كانا وَزيرَي جدّي، فتركوه ورفضوه وارفضوا عنه (1) .

2 - إسماعيل بن حمّاد الجوهري، قال في الصِحاح:

عند مادّة رَفض، مورداً نفس المضمون الذي ذكره الزبيدي، فكأنّه نسخة طِبق الأصل (2) .

____________________

(1) تاج العروس: 5/34.

(2) صِحاح الجوهري: 3/1078 تسلسل عام الكتاب.

٤٠