هوية التشيع

هوية التشيع16%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39195 / تحميل: 7627
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فذلك مَكانَهُ مِن كُتُبِ السِيَر والتراجم، وَسَيَرِدُ في نهاية هذا الفصل، ما يُثبِتُ دعوانا مِن آراء الباحثين والمُنقِّبين.

ومع ما أسلفناه مِن كلام فما هو وجه نسبة التَشَيُّع للفارسية والذي أصبح يرسل عند بعضهم إرسال المسلمات كأنّه مِن الأُمور المفروغ مِنها؟!.

ولأجلِ أن نستوعب الموضوع سَنَضطرُّ إلى الخوضِ في جوانب مُتنوِّعة، ونستعرض آراء كثيرة، وما بَرَّرَت به هذه الآراء صِحَة هذه النِسبَة للتَشيُّع، وهي لا تَختَلِف في مُستواها مِن العِلم عن أصل صحة هذه النِسبَة، ولا أشكُّ أنّك سَتَضحكُ كثيراً عِندما تقرأ هذه الأسباب، ويَأخُذُك العَجَبُ كيفَ أنّ مِثلَ هؤلاءِ الباحثين، وهُم على منزلةٍ مِن العِلمِ والتحقيقِ لا يُستَهانُ بها: يقتنعون بوجاهة هذه الأسباب، فضلاً عن أنّهم يسوقونها لإِقناع غيرهم، لولا الهوى والعَصَبيّة أعاذنا الله تعالى وإياك مِنها، ولولا الأسْر الذي يقعُ فيه مَن نَشَأَ على عقيدة، ولا يَسمَح للضوءِ أن يسلط على عقيدته ومُسبَقاتِه، حتّى يرى مِنها ما كان ناتجاً مِن مُجرَّد تقليد أعمى، ويَصطَدِم بالمقاييس الصحيحة فينبذه، وما كان على أرض صَلِبَةٍ ويَلْتَئِمُ مع قواعد الشَرْع فيتمسَّك به.

٦١

مُؤلَّفاتِه.

إنّ التَركيبَةَ التي تكوّنَ مِنها أحمد أمين، هي الحِقدُ والكراهية للشيعة، زائداً تَقليدَ المُستَشرِقين فيما يقولونه عَنهُم.

٢ - محمّد أبو زهرة:

يذهب الشيخ محمّد أبو زهرة إلى نفس رأي أحمد أمين، ويُضيفُ له: إنّ أكثرَ الشيعةِ الأوائل فُرسٌ. ولِنَستَمع إلى ما يَقولُه في هذا الموضوع، وهو يستعرض آراء المستشرقين، ويُعَقِّبُ عليها، قال: وفي الحقِّ أنّا نَعتقِدُ أنّ الشيعةَ قد تأثَّروا بالأفكارِ الفارسيّةِ حَولَ المَلِكِ ووراثته، ويُزكّي هذا أنّ أكثرَ أهلِ فارس إلى الآن مِن الشيعة، وأنّ الشيعة الأوَّلين كانوا مِن أهلِ فارس. (١)

ورحِمَ اللهُ أبا الطيّب المُتنبّي إذ يقول:

وَدَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارُ

وإنْ كانت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ

وأبو زُهرَة مَورِدُ انطباق هذا البيت، إنّه يقولُ: إنّ الشيعةَ الأوَّلين كانوا مِن أهل فارس، وأنا أطلِبُ مِن كُلّ قارئ أن يَستَخرِجَ لي مِن الشيعة الأوَّلين خَمسةً مِن الفُرس، وأنا مُتأكدٌ سَلَفاً أنّهُم لا يجدون هذا العدد، فهل تبقى بعد ذلك قيمةٌ لأقوالِ مِثلِ أبي زُهرة، وكَم لأبي زُهرة مِن أقوالً لا تَعرِفُ التحقيق. وعلى كلِّ حالٍ لقد لَقيَ الرجلُ رَبَّه، وأسألُ اللهَ تعالى له العفو.

٣ - أحمد عَطيّة الله:

وهذا الرَجُل مِمَّن نَسَجَ على منوالِ المُستَشرِقينَ بِنِسبَةِ التَشَيُّع للفارسيّة، فهو يرى أنّ الأفكارَ الشيعيّة تأثَّرَت بالفارسيّة عن طريق عبد الله بن سَبَأ، الذي نَقَلَ للتشيُّع أكثر مِن رافدٍ فِكري، ومِن هذه الروافد: الفارسيّة. فَقد قالَ بالحَرفِ الواحد:

وإنّ ابنَ السوداء انتقل إلى المدينة، وبَثَّ فيها أقوالاً، وآراء مُنافيةً لِروحِ الإِسلامِ نابعةً مِن يَهوديَّتِهِ، ومِن مُعتقداتٍ فارسيّةٍ كانت شايعةً في اليَمَن، وبَرَزَ في

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلاميّة: ١/٤١.

٦٢

صورةِ الداعيةِ المُنتَصِرِ لِحقِّ الإِمام عليٍّ، وادَّعى أنّ لِكُلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وَصيُّ محمّد إلخ (١) .

هذهِ مُجرَّدُ عَيِّنةٍ مِن النماذجِ التي نَسَجَت على مِنوالِ المُستَشرِقين، وإنّك لَتَجِدُ هذه الفِكرَةَ عند المُتأخِّرينَ مِن كُتّابِ السُنّة شائعة، يَتَلَقّاها الخَلَفُ عن السَلَفِ، ثُمّ يُحاولُ تَعميقها وترسيخها، بما يَملِكُهُ هو مِن عَبْقَريَّةٍ، وسوفَ لا أتَعَجَّلُ الرَدَّ على الفِكرَةِ إلاّ بعدَ أن أستوفيها، فأذكُرُ لكَ أقوالَهُم في تعليل دُخولِ الفُرسِ للتَشيُّع، فإنّ ذلكَ يكونُ بِمثابةِ الروحِ لِلبَحثِ.

إنّ أبرَزَ هذه التعليلاتِ، التي ساقوها واعتبروها مُبَرِراً لِدُخُولِ الفُرس إلى التَشَيُّع ثلاثة أُمور:

____________________

(١) القاموس الإِسلامي: ٣/٢٢٢.

٦٣

أسبابُ دُخولِ الفُرسِ للتَشَيُّعِ

في نَظَرِ السُنّةِ

١ - الأمر الأوّل:

إصهارُ الحسينِ إلى الفُرسِ؛ لأنّهُ تَزَوَجَ ابنةَ يَزدَجُرد - وهو أحَدُ المُلوكِ الساسانيّين - واسمُها شاه زنان، فولدت لَهُ عليَّ بن الحُسين، الذي اجتَمَعَت فيهِ الخَواصُّ الوراثيّةُ للأكاسرةِ، وخواصُ الإِمامةِ مِن آبائه، كما يقول أبو الأسود الدؤلي:

وإنّ وَليداً بَينَ كِسرى وهاشمٍ

لأَكرَمُ مَن نيطَتْ عَليهِ التَمائمُ

وفي ذلك تقول سميرة الليثي، مُعَقِّبَةً على رأي أرنولد توينبي في انتشار الإِسلام بين الفُرس:

الذي أدّى إلى انتشار الإِسلام: هو زواجُ الحُسينِ مِن شاه بانو إحدى بَناتِ يَزدَجُرد، وقد رأى الفُرس في أولادِ شاه بانو والحسين وارثينَ لِمُلوكِهِم الأقدَمين (١) ، فزواجُ الحُسينِ على رأي هؤلاءِ أحَدُ العواملِ التي أدَّت إلى انتشارِ التَشَيُّع لأهلِ البَيتِ عندَ الفُرس.

٢ - الأمرُ الثاني:

التَقاربُ في الآراءِ بينَ الشيعةِ والفُرس، ومِن ذلكَ موضوعُ الحقِّ الإِلهي، فَكُلٌّ

____________________

(١) الزندقة والشعوبيّة: ص٥٦.

٦٤

مِنهُما يرى أنّ الحقَ الإِلهيَ ثابتٌ لِمَن يَتولاّه مِن القادة، فالفارسيُ يَراهُ للمُلوكِ الفُرس، والشيعي يَراهُ للإِمامِ الذي يقولُ بإمامته. وهذا المعنى وإن صَوّره بَعضُهُم بأنّه تَأثُّرٌ مِن الشيعةِ بالفُرسِ، ولكن لَمّا كانَ التَشَيُّع أقدمَ مِن دُخولِ الفُرسِ فيه، ولَمّا كانَ الروّاد مِن الشيعةِ كُلّهم عَرَباً - كما أثبتنا ذلكَ فيما سَلَفَ - ولَمّا كانت نَظريّةُ الشيعةِ في الإِمام لم تَختَلِفْ عند زُرارة عَمّا كانت عليهِ عندَ أبي ذرٍّ، وعَمّار، ينتج مِن ذلك أنّ نَظريّةَ الحقِّ الإِلهي التقى بها الشيعةُ مع الفُرسِ، ولم تكن نتيجة تَأثُّر بآراء الفُرس بِحُكمِ إيمانِ الشيعةِ بأنّ عليّاً وصيُّ النبيّ (ص)، وأنّه مَنصوصٌ عليهِ، وقد دأبَ على ذكرِ هذا التقارُبِ كَثيرٌ مِن المُستشرِقين وتلاميذهم. يقولُ محمّد أبو زُهرة:

وبَعضُ العُلماءِ، ومنهم دوزي المُستَشرِق قَرَّر أنّ أصلَ المذهبِ الشيعي نَزعَةٌ فارسيّةٌ، إذ إنّ العَرَبَ تَدينُ بالحريَّةِ، والفُرسَ تَدينُ بالمُلكِ وبالوراثةِ، ولا يعرفونَ معنى الانتخاب، إلى أن قالَ: إنّ الشيعةَ قَد تأثَّروا بالأفكارِ الفارِسيّةِ حول المـُلكِ ووراثته (١) .

وكذلكَ يَذهبُ إلى هذا الرأي أحمد أمين، وجملةٌ مِن المستشرقينَ ذَكَرَهُم هو مِن الذاهبينَ لهذا الرأي، وقد أفاضَ في شرحِ هذا المعنى في كتابه: فجرُ الإِسلامِ مُعزِّزَاً رأيه بآراء المستشرقين (٢) .

٣ - الأمرُ الثالث:

إرادةُ هَدمِ الإِسلامِ عن طَريقِ الدُخولِ في المَذهبِ الشيعي، والتَستُّرُ بحبِّ أهلِ البيتِ، ثمّ نَقلُ أفكارِهِم الهَدّامةِ للإسلام، كالقول بالوصيّةِ، والرجعةِ، والمهدي، وغير ذلك.

وفي ذلكَ يقولُ أحمد أمين: الحقُّ أنّ التَشَيُّع كان مأوى يلجأُ إليه كلُّ مَن أرادَ هَدمَ الإِسلام، لعداوة أو حِقدٍ، ومَن كان يُريدُ إدخالُ تعاليمَ آبائهِ مِن يَهوديّةٍ وَنصرانيّة وزَرادشتيّة وهِنديّة، ومَن كانَ يريدُ استقلالَ بلادهِ، والخُروج على مَملَكَتِه، كلُّ هؤلاءِ كانوا يَتَّخِذونَ حُبَ أهلِ البَيتِ سِتاراً (٣) .

وأرجو مُلاحظةَ نَغمةِ استعداءِ

____________________

(١) تاريخُ المذاهبِ الإسلاميّةِ: ١/٤٠.

(٢) فجرُ الإِسلام: ص٢٧٦.

(٣) فجرُ الإِسلام: نفس الصَحيفة.

٦٥

السُلطَةِ على الشيعةَ، فهي نَغمَةٌ ضَرَبَ عليها الكثيرون مِن قَبلِهِ، ومِن بَعدِه كصاحبِ المنارِ مثلاً (١) .

إنّ هذا الاتّجاه في تَصويرِ التَشَيُّع بأنّه أثَرٌ فارسيٌ واضح عند كثير مِن المتأخرين، مثل: مُحِبّ الدين الخطيب، وأحمد شَلبي، ومصطفى الشكعة، وغيرهم.

ولأجلِ إلقاءِ الضَوءِ على صِحَّةِ، أو عَدَم صِحةِ هذه الدعاوى التي نُسِبَت للتشيُّع، وبِالذات الأُمور الثلاثة التي عَلَّلوا بِها دُخولَ الفُرس للتشيُّع، لا بُدَّ مِن ذكر أُمور:

١ - الردُّ على الأُمور الثلاثةِ.

٢ - تَحديدُ هُويَّةِ التَشَيُّع عِرقيَّاً.

٣ - تحديدُ هُويَّةِ التَشَيُّع فكريّاً.

٤ - تحديدُ هُويَّةِ السُنّة مِن نفس المُنطَلَقِ، والعِلَلِ التي أخَذَ بِها كُتّابُ السُنّة.

وسَنَبحَثُ هذه الأُمور.

____________________

(١) مَجَلّةُ المَنار، لرشيد رضا: مُجَلَد ١١ سَنَة ١٣٢٦ هـ.

٦٦

الإجابَةُ على أسبابِ دُخولِ الفُرسِ لِلتَشَيُّع

١ - الأمرُ الأوَّل: إصهارُ الحُسين (ع) إلى الفُرس.

إنّ مِن القواعِدَ المُسلِم بها أنّ حُكمَ الأمثالِ فيها يَجوزُ أو لا يَجوزُ واحدٌ، وبناءاً على هذا، فإنّ العلّةَ التي ذَكَرَها هؤلاءِ الكُتّاب في اعتناق التَشَيُّع مِن قِبَلِ الفُرس - وهي إصهار الحسين (ع) للفرس - مَوجودَةٌ عِندَ عَبد الله بِن عُمَر بِن الخطّاب، وعِندَ محمّد بن أبي بَكر.

فقد ذَكَرَ الزمخشري في ربيع الأبرار، وغيره مِن المُؤرِّخينَ، أنّ الصَحابةَ لَمّا جاءوا بِسبي فارس في خلافةِ الخليفَة الثاني، كانَ فيهم ثلاث بناتٍ ليَزدَجُرد فباعوا السبايا، وأمَرَ الخَليفةُ بِبيَعِ بنات يَزدَجُرد، فقال الإِمام عليّ: (إنّ بَناتَ المُلوكِ لا يُعامَلْنَ مُعامَلَة غَيرَهُنّ) فَقالَ الخليفةُ: كيفَ الطريقُ إلى العملِ مَعَهُنّ؟ فقال: (يُقَوَّمن، وَمَهْما بَلَغَ ثَمَنَهُنَّ قامَ بهِ مَن يَختارَهُنّ) فَقُوِّمْنَ فأخَذَهُنَّ عليٌّ، فَدَفَعَ واحدةً لعبدِ الله بن عُمَر، وأُخرى لِوَلَدِهِ الحُسينِ، وأُخرى لمحمّد بن أبي بَكر، فأولَدَ عبدُ اللهِ بن عُمَر وَلَدَهُ سالِماً، وَأَوَلَدَ الحُسينُ زينَ العابدينِ، وأولد مُحمّد ولده القاسم، فهؤلاء أولادُ خالاةٍ، وأُمّهاتُهُم بَناتُ يَزدَجُرد (١) .

وهُنا نَسألُ: إذا كانت العِلّةُ في دُخولِ الفُرسِ للتَشَيُّع هي مُصاهرةُ الحسينِ للفُرسِ، فلماذا لا تَطََّرِدُ هذه العِلّةُ فَيَتسَننُ الفُرسُ لإصهارِ عبدِ اللهِ بن عُمَر لَهُم، ومُحمّد بن أبي بَكر كذلك؟ وكُلٌّ مِن

____________________

(١) فَجرُ الإِسلام: ص٩١.

٦٧

محمّدٍ وعبدِ اللهِ أبناءُ خليفة، كما كانَ الحُسين ابن خَليفةٍ. بالإِضافةِ لذلكَ: إنّ كلاً مِن يَزيدِ بن الوليدِ بن عبدِ الملكِ، وأُمّهُ شاه فرند بِنتَ فيروز بن يَزدَجُرد، ومَروانِ بن مُحمّد آخرِ خُلَفاءِ بني أُميّة، أُمّه أُمُّ ولد مِن كُردِ إيران، فلِماذا لا تَطَّرِدُ العِلّةُ هُنا أيضاً؟ (١) وبِالعكسِ، لِماذا لا يميلُ العَرَبُ السُنّةُ لأهلِ البيتِ الّذينَ أُمَّهاتِهم عَربيّة؟ في حين نجد قِسماً مِن العَرَب يَبغَضُ أهلَ البيتِ كالنواصب مثلاً. هذا سؤال يوجه للعقول التي تقول ولا تفكر.

٢ - الأمرُ الثاني: التَقاربُ في الآراء بينَ الشيعَةِ والفُرسِ.

وأنّ كلاًّ مِنهما يَقولُ بِنَظَريَّةِ الحقِّ الإِلهي، ويقولُ بالوِراثةِ، ولا يعرفُ الانتخابَ.

وفي هذا الأمرِ شيئان:

الأوّل: الإِتِّحاد في الآراء، الذي يُسبِّبُ الدُخولَ للتَشَيُّع، وهذا الأمرُ لا يقولُ به مَن يحترمُ عَقلَهُ، فمتى كانَ مُجَرّدِ الاشتراكِ في رأيٍ دافعاً للإِتِّحاد بالعَقيدةِ، إنّ كلَّ باحِثٍ يَعلمُ أنّ كلَّ أُمَّةٍ أو جَماعةٍ لا تَخلو مِن الإِتِّحادِ مع بعض الأُمم الأُخرى في رأيٍ مِن الآراء، أو مسألة مِن المسائل، ومعَ ذلكَ فلا يَقومُ ذلكَ سَبَباً لِلاِندِماجِ، ولِنَعُد لأحمد أمين نَفسِه، ونُلزِمهُ بِنتاِجِ رأيه إذا وَجَدَ السَبَب، فإنّهُ يَقولُ عِندَ بَحثهِ لِمسألَةِ الجبرِ والاختيار:

إنّ مسألةَ الجبرِ والاختيارِ تَكَلَّمَ فيها قبلَ المُسلِمينَ فَلاسفةُ اليونانِ، ونَقَلَها السِرْيانيِّون عَنهُم، وتَكَلَّم فيها الزرادشتيّون، كما بَحثَ فيها النصارى، ثمّ المُسلِمون (٢) .

وقد توزعَ هؤلاءِ بَينَ القولِ بالجبر،ِ والقولِ بالاختيار. وبِناءاً على مُنطِق أحمد أمين، فإنّ المُسلِمينَ نَصارى؛ لأنّهم اتَّحدوا مع النصارى في شِقٍّ مِن الرأي، وإلاّ فما هو مُبرِّرُ أحمد أمين في اعتباره الشيعةَ فُرساً؛ لأنّهم اتَّحدوا مع الفُرسِ بالقول بِنَظَريَّة الحقِّ الإِلهي؟.

____________________

(١) تاريخ الخميس للدياربكري: ٢/٣٢١ - ٣٢٢.

(٢) فَجرُ الإِسلام: ص ٢٨٤.

٦٨

أمّا الشُقُّ الثاني مِن الدعوى: وهو أنّ كلاًّ مِن الفُرسِ والشيعةِ يقولون بالوراثة فهوَ باطلٌ فيما يَخصُّ الشيعةِ؛ لأنّ الشيعةَ لا تَعتَبِرُ الإِمامَةَ مُتوارثةً، ولا تقولُ بالإرثِ في ذلك، بل تَذهَبُ إلى أنّ الإِمامَ مَنصوصٌ عليهِ مِن قِبَل الله تعالى عن طريق النبيّ (ص) أو الإِمام، وكُتُبُ الشيعةِ طافِحةٌ بذلك (١) .

وليست مسألةُ النصِّ على الإِمام مِن المسائل المُتأخِّرة عِندَهُم، بل هيَ مَعلومةٌ مِن الصدرِ الأوّلِ عِندَ الطبقةِ الأولى؛ وذلك لوضوحِ النُصوص التي اعتبروها مَصدَرَهُم في مسألة الإِمامة. وللِتدليلِ على ذلكَ أذكُرُ مُحاورةً طَريفةً، حدثت بينَ الخليفةِ الثاني وعبد الله بن عبّاس، وكان الخليفةُ الثاني يأنسُ بابنِ عبّاس، ويميل إليه كثيراً، فقال له يوماً: يا عبدَ اللهِ عليكَ دماءُ البُدن إن كَتَمتَها، هل بَقيَ في نفسِ عليٍّ شيءٌ مِن الخلافة؟.

يقولُ ابنُ عبّاس: قلت نعم، قال: أَوَ يَزعمُ أنّ رسولَ اللهِ نصَّ عليه؟ قُلتُ: نعم، فقال عُمَر: لقد كانَ مِن رسولِ اللهِ في أمرهِ ذِرُوٌ مِن قولٍ لا يُثبِتُ حُجّةً، ولا يَقطعُ عُذراً، ولَقَد كان يُربِع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مَرَضِهِ أن يُصرِّحَ باسمهِ فَمَنَعتُ مِن ذلكَ إشفاقاً، وحيطة على الإِسلام، فَعَلِمَ رَسولُ اللهِ أني عَلِمتُ ما في نفسه فأمسك (٢) .

إنّ المنعَ الذي أشارَ إليهِ الخَليفةُ عُمَر هو عندما طَلبَ النبيُّ مِن أصحابهِ في ساعاتهِ الأخيرةِ دواةً وكَتفاً، وقال: (عَلَيَّ بدواةٍ وكتفٍ أكتبُ لَكُم كِتاباً لن تَضُلّوا بعده أبداً) فقالَ الخليفةُ عُمَر: إنّه يَهجر، وقد غَلَبَ عليهِ الوجع (٣) .

وعلى العُموم إنّ هذه المُحاورةَ وأمثالها توضِحُ رأيَ الشيعةِ في موضوع

____________________

(١) الفُصولُ المُهمَّة لشرف الدين: ص٢٨١، وعقائد الإِماميّة للمُظفّر: ص٧١.

(٢) شَرحُ نَهجِ البلاغةِ لابنِ أبي الحديد: ٣/٩٧.

(٣) انظر صَحيحَ البُخاري: ٥/١٣٧، انظر طبقات ابن سعد: ٤/٦١، وانظر النهاية لابن الأثير: ٥/٢٤٦ في مادة هَجَرَ.

وفي هذا المعنى يقولُ أحَدُ الشُعراء:

أوصى النبيُّ فقالَ قائلُهُم

قد راحَ يَهجُرُ سَيِّدُ البَشَرِ

لكن أبا بكرٍ أصابَ ولم

يَهجُرْ وقد أوصى إلى عُمَرِ

لأنّ كُلاًّ مِنهما كانتْ وصيتُهُ في مَرَضِ الموت.

٦٩

الإِمامة، وأنّها بالنصِّ، وليست بالوراثة. فمِن أين جاءَ المُستَشرِقونَ وتَلاميذُهُم بنظريّةِ الوراثةِ، لولا عَدَمُ الإِحاطة بالتَشَيُّع، أو التحريف واتّباعِ الهوى؟

٣ - الأمرُ الثالث: وهو دُخولُ الفُرسِ في الإِسلامِ إرادةَ هَدمِهِ، ثمَّ لِتَحقيقِ مأرِبِهِم، ونِقلِ نظريّاتِ أسلافِهِم.

وهوَ ادِّعاءٌ طَريفٌ، ولا بُدَّ مِن الوقوفِ قليلاً حَولهُ فنقول:

أوّلاً: إنّ مُؤلَّفاتِ هؤلاءِ القومِ في الدفاعِ عن الإِسلامِ، ومَساجِدَهُم، ومُؤسّساتِهِم الدينيّة، وجِهادَهم في سبيل الله، كلّ ذلك يُشكِّلُ شواهدَ قائمةً على كَذِبِ هذه الدعوى.

وثانياً: لا بُدَّ مِن سؤالٍ لهؤلاء القائلين بهذا القول في أنّ إرادةَ الإِلحادِ والهدم عِندَ الفُرسِ، هل هي مُختصَّة بالفُرسِ الّذينَ اختاروا الإِسلام ودخلوا في التَشَيُّع، أم أنّها عِندَ كُلّ الفُرسِ مِن كلّ مَن كان مِن السُنّة مِنهم أو مِن الشيعةِ؟

ولا بُدَّ أن تكونَ الإِجابةُ بالعُمومِ؛ لأنّ إرادةَ الإِلحادِ جاءت مِن كونهم فُرساً لا مِن أمرٍ آخر، وإذا كانت كذلك، فلماذا انصبَّت الحَمَلاتُ على الفُرسِ الشيعةِ فقط دونَ الفُرس السُنّة؟.

وقد يقولُ قائلٌ: إن ذلكَ انتقلَ لِلفُرسِ مِن الشيعةِ. وهنا يَنتقلُ الكَلامُ إلى عَقائدِ الشيعةِ، وقد ذكرنا أنّ مَصدر عقائدِهِم الكِتابُ والسُنّةُ، فلا سَبيلَ لِرميهم بما يُنافي الكتابَ والسُنّةَ، هذا إذا كانَ هؤلاءِ يَبحثونَ عن الحَقيقةِ - وهُم أبعدُ الناسِ عنها - ولو لم يكونوا بَعيدينَ عن الإرادةِ الخَيِّرةِ لَما بَضّعوا شَلو الأُمّة وفرَّقوها شيعاً، ولَخَجَلوا مِن المُفارقاتٍ في أقوالهم، لأنّنا سَنوقِفُكَ عن قريب على أنّ تاريخَ، وفِقهَ، وعَقائدَ أهلِ السُنّةِ أبطالُهُ الفُرسِ أنفُسِهِم، ونَحنُ لا نَرى بذلكَ أيَّ عَيبٍ أو غَضاضةٍ، ما دُمنا نَعلمُ أنَّنا كُلُّنا مِن مَصدرٍ واحدٍ، وما دامَ قُرآنُنا يُصرِّحُ آناء الليل وأطراف النهار بشعار الوحدة، وتَوحيدِ المَصدرِ بقوله تعالى: ( أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ ) المرسلات: ٢٠.

ثالثاً: إنّ المسائلَ التي أوردها القَومُ، واعتبروها مِمّا يَهدِمُ الدينَ، ورموا بها

٧٠

الشيعةَ الفُرسَ مثل: الوِصاية، والرَجعة، والقَول بالمَهدويّة، يُشارِكُهُم بها أو بِمثلِها أهلُ السُنّة، وما سَمعنا أحَداً يَنبِزُهُم بها، أو يَعتَبِرُها عليهم سُبَّة، كما أنّ هذه القضايا وَرَدَت في رواياتِ أهلِ السُنّة بِطُرُقٍ مَوثوقَةٍ، وسَنَذكُرُ ذلكَ قريباً إنْ شاءَ الله، هذا بالإِضافةِ إلى أنّ هذهِ الآراء ليست مِن ضَروريّات الإِسلام عند الشيعة، وقد تَكونُ مِن ضَروريات المَذهب كالقولِ بالمهدي، فلماذا كُلّ هذا الضجيج المُفتَعَل؟

ولماذا كُلُّ هذا الصَرفِ للطاقاتِ، الذي يَخلُقُ فَجَواتٍ بينَ أهلِ القِبلَةِ فَضلاً عن عَدَمِ جدواه؟

ولماذا هذا الحَماسُ المُفتَعَل إزاءَ أُمورٍ لا يَنفَرِدُ بها الشيعةُ، بل يَقولُ بها السُنّة أنفُسَهُم؟

٧١

الفَصْلُ الثاني

أقوالُ الباحثينَ في فارسيَّةِ التَشَيُّع

إنّ نسبة التَشَيُّع إلى الفارسيّة نشأت في عُصور مُتَأخِّرة، ولأسباب وظُروف سياسيّة خاصّة، أهمها: أنّ الفُرس لمّا كانوا ولأسباب سنشرحها غير مرغوبين مِن قِبَلِ العَرَب، ولَمّا كان الشيعةُ فئةً معارضةً للحُكمِ، طيلة العُهودِ الثلاثة: الصدر الأوّل، والأموي، والعباسي، وَكَوجهٍ مِن وجوه مُحاصَرَة التَشَيُّع أرادوا رَميَ التَشَيُّع بما هو مَكروه عِند العَرَب، وهذه الدعوى هي واحدةٌ مِن مَجموعةِ دعاوى سَتَرِدُ علينا، ولا تتعدى هذا الهدف، بل هي جُزءٌ مِن المُخطَّط.

أمّا الأسباب التي أدَّت إلى النِفْرَة بين القوميَّتين العربيّة والفارسيّة فهي:

١ - إنّ الفُرس ما كانوا يُفَرِّقون بين الإِسلام والعروبة، وحيثُ إنّ الإِسلام قضى على دولتِهِم واجتاحهم، فإنّهم بعد إسلامهم كانوا يَنزَعون لاسترداد مجدهم بأُسلوبين: أحدهما سليمٌ إيجابيّ، والآخر سلبيٌّ، حتّى إذا جاء دَورُ الأُموييّن استعان الحُكّام بهم لتنظيم شؤون الدولة، نظراً لِخَلفيّتهم الحضاريّة، وللاستعانة بهم أحياناً لِدَعمِ جَناحٍ مُقابِلَ جَناح، ولاستيلاء جماعة مِنهم على مناصب هامَّة في العهدين، مِمّا مَكَّنهم مِن فرض نُفوذِهِم، كلُّ ذلك أدّى إلى احتكاكٍ شديدٍ بين العَرَب والفُرس، إذ رأى العَرَب أنّهُم حَمَلَةُ الإِسلام، والسَبَبُ في هِدايةِ الأُمَم، وهُم العَمَدُ الذي قام الإِسلام عليه، فلماذا يُزاحِمُهُم غيرُهُم، ويُقدَّم عليهم، ويَلمَعُ نَجمهُ، ويَحتلُّ مناصب كبيرة؟ ورأى الفُرسُ أنّهم أبناءُ حضارةٍ عَريقةٍ، وأنّهم أكثرُ عِلماً ودرايةً بسياسة العَرَب، وإدارة شؤون الحُكمِ، فلماذا يُقدَّمُ عليهم مَن لا يَملِكُ هذه

٧٢

المؤهِّلات؟. فأدّى ذلك كُلّه للاحتكاك، ونَجَمَت عنه ظاهرة الشُعوبيّة، وتَركَ خزيناً كبيراً مِن الحقد في تاريخ القوميَّتين كما أدّى إلى مواقف سلبيّة مُتبادَلَة.

٢ - أنّ فتح الثغرة التي دخل مِنها الفُرس أدّى إلى دُخولِ عناصِرَ غير عَربيّة أُخرى، مِثل التُركِ وغيرهم، مِمّا كان له بَعْدَ ذلك آثاره السلبيّة الفظيعة، وقد عُصِبَ كَسرُ النطاق هذا بالفُرس؛ لأنّهم أوّل مَن فتح هذا الباب، وأدّى إلى تَدمير الخلافة بعد ذلك.

٣ - لَعِبَ الاستعمار دوراً بارزاً فيما خَلَقَه مِن النفخ بالأبواق التي يَحسِنُ صُنعُها؛ وذلك لِتَحقيقِ مصالِحهِ عن طريق فتح أمثال هذه الفَجوات، واختلاق خصائص للجنسين - زعم أنّها تَصطدِمُ مع بَعضِها - وآراء لا تتلاقى، وتأثَّرَ بهذه الآراء فريقٌ مِن هؤلاءِ، وفريق مِن هؤلاءِ، مِمَّن عاش على موائد المُستَشرقين، ولم يَتَفَطَّن إلى أهدافهم، وغرّتهُ الصِبغَة العِلميّة الظاهريّة في أمثال هذه المزاعم؛ فَنُسِج على مِنوالِ هؤلاءِ، وكان صدى لهم، وسلاحاً بأيدي هؤلاءِ، لضرب أبناء دينه ولِهدمِ عقيدته، حتّى خُلِقَت مِن ذلك تَرِكَةٌ كَبيرةٌ تَحتاجُ إلى جُهدٍ كَبيرٍ لإِزالةِ هذا التَراكُم.

إنّ أسباب الكُرهِ اسْتُغِلَت ليُنتَزَعَ مِنها - كما ذَكرتُ - سَبَبَاً مِن الأسباب التي تُبغِّضُ التَشَيُّع وتُنفِّرُ النُفوس منه، ولذلك لا نرى هذه التُهمَةَ عند أوائل السُنّة وأسلافهم، فيما قدّموه مِن قوائم الأسباب التي يُنعَتُ بها التَشَيُّع؛ لأنّ أسبابها لم تكن قائمة آنذاك.

ومِن الغريب أنّ الألسّن السليطة التي تَشتُم الشيعة، هي ألسِنَةُ السُنّةِ الفُرس، كما سَيردُ ذلك قريباً.

إنّ أصحاب الغَرَضِ الأصلي في الضرب على هذا الوَتَر كثيرون، ومِن أكثرِهِم حَماساً في ذلك: المُستَشرِقون وتلاميذهم، حيث يَستَهدِفُ المُستَشرِقون مصالح لا تَخفى، ويضربُ تلاميذُهُم على نفس الطُبول، ولِمُختَلَفِ الغايات والأهداف، وبالإِضافة إلى مَن يَهتَزُّ على هذا الإِيقاع.

وإليكَ آراءُ بعضِهم:

٧٣

١ - المُستَشرِق دوزي:

لقد قرَّرَ المُستَشرِق دوزي، أنَّ أصلَ المذهب الشيعي نزعة فارسيّة؛ وذلك لأنّ العَرَب تدين بالحريّة، والفُرس تدين بالمُلكِ والوراثة، ولا يعرفون معنى الانتخاب، ولمّا كان النبيّ (ص) قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يَترُك وَلَداً فعليٌّ أولى بالخلافة مِن بعده (١) .

٢ - المُستَشرِق فان فلوتن:

ذهب هذا المُستَشرِق إلى نَفسِ الرأي في كِتابهِ السيادة العربيّة، ولكِنَّه رجَّحَ أخذ الشيعة مِن آراء اليهود، أكثر مِن أخذهم مِن رأي الفُرس ومبادِئِهِم (٢) .

٣ - المُستَشرِق براون:

قال: إنّه لم تُعتََنّق نَظريّة الحقِ الإِلهي بِقوَّة، كَما اعتُنِقَتْ في فارس، ولَمَحَ إلى أخذِ الشيعةِ مِنهُم (٣) .

٤ - المُستَشرِق ولهوزن:

إنّ هذا المُستَشرِق أشارَ إلى فارسيّة قِسمٍ كَبير مِن الشيعة ضمناً، حيث ذَكَرَ أنّ أكثر مِن نصف سُكانِ الكوفة مِن الموالي، ولَمّا كان مُعظَمُهُم شيعة، فَقِسمٌ كبيرٌ مِنهم مِن الفُرس (٤) .

٥ - المُستَشرِق بروكلمان:

الذي يقول: وحزبُ الشيعةِ الذي أصبحَ فيما بعد مُلتقى جَميعِ النَزَعاتِ المناوئة للعرب، واليوم لا يزال ضريح الحُسين في كربلاء أقدس مَحَجّةٍ عند الشيعة، وبِخاصةٍ الفُرس، الّذين مابرحوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره غايةَ ما يَطمَعونَ

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلاميّة، لأبي زهرة: ١/٤١.

(٢) نفس المصدر السابق والصفحة.

(٣) فجر الإِسلام: ص١١١.

(٤) فجر الإِسلام: ص٩٢.

٧٤

فيه (١) .

وبِالجُملة، فإنّ مُراجَعَةَ أيِّ بحث للمستشرقين في هذا الموضوع، يظهر مِنهُ أنّ كثيراً مِنهم يذهبون إلى هذا الرأي، ولأسباب لا تَخفى.

وقد رَبَطوا بِفارسيّة التَشَيُّع أثراً آخر يكون بمثابة النتيجة للسبب، وذلك الأثر هو أنّه لَمّا كان أكثرُ الفُرس شيعةً، وكانوا يُسمَّون بالموالي، وحيث إنّهم يرون أنّ العَرَب انتزعوا دولتهم مِنهم، ولِما كانت الدولةُ الأُمويَّةُ يَتجسَّدُ فيها المَظهَر العربي، فقد زَحَفَ عليها الموالي وأسقطوها، وأعلنوا بَدَلَها دَولَةَ العباسيّين، التي دَعَمَت الفُرس، والتي زَحَفَ معها بالتالي الفِكرُ الشيعي فَتَغَلغَل أيّام العباسيّين. وأنت واجد هذه الأفكار عِندَ مُعظَمِ مَن كَتَبَ في العُصورِ الإسلاميّة، وخُصوصاً الكُتّاب المصريّين، ويَتلخَّص مِن هذه المقتطفة ثلاثة أُمورٍ:

١ - تصوير الزَحف الذي جاء مِن خُراسان للقضاء على الدولة الأمويّة، بأنّه زَحفٌ دَوافِعُهُ قَوميّة وليست دوافعَ اجتماعيةٍ أو إنسانيّة، وقد اجتمعت فيه أكثر مِن قوميّة واحدة، وبِذلك يُطمَسُ الهَدَفُ الاجتماعي الذي كان مِن وراء تلك الحَمْلَة.

٢ - أنّ العُنصُر الرئيسي في الحَمْلة والفاعل هُم الفُرس، وبذلك تَكون الحَمْلَة انتقاميّة تَستهدِف إعادة مَجدِ الفُرس الذي قضى عليه العَرَب، وبذلك يُطمَسُ الدورُ الرئيسي، الذي قامَ بهِ العَرَبُ في الحَملة، وتولَّوا فيه القيادة.

٣ - إنّ الفِكرَ الشيعي زَحَفَ بِزَحفِ هؤلاءِ، وانتصرَ في العَهدِ العبّاسي.

إنّ كُلّ هذهِ الأُمور غيرُ مُسَلَمٍ بها، ولم تَقُمْ على واقع، بل هي تَغطية في مُحاولةٍ مَكشوفة.

____________________

(١) تاريخ الشعوب الإسلاميّة: ص١٢٨.

٧٥

تَعْقيبٌ على الأقوالِ

أمّا الزعم الأوّل:

فَيُبطِلُهُ أن القادَةَ الّذينَ قادوا الحَملَةَ، إنّما قادوها لتخليص الناس مِن جور الأُموييّن، وبإمكان أيِّ قارئ أن يَستَبْيِنَ الحقيقةَ باستقراء أحوال الحُكمِ الأُموي، الذي سايره الجور والظلم مِن أيّامه الأولى، حتّى سَقَطَ أيّام مروان بن محمّد، آخر حُكّامِ الأُموييّن، ومِن الخطأ أن نُورِدَ شاهِداً أو شاهدين للتدليل على ذلك، محاولة لإيضاح الظُلم والجَور، فإنّ كلّ أيّامهم كانت مَليئة بالظُلم والجور، وإنّي لأُحيل القارئ إلى تَتبُّعِ التاريخ مِن أيّام معاوية الأوّل حتّى نهاية الدولة، وفي كُتُبِ كلّ المُسلِمينَ لا الشيعة وَحدهم، فربما يُقال أنّ الشيعة خصوم الأُموييّن، وهم يحقدون عليهم، وهذه كُتُبُ الطبري، وابن الأثير، وابن كثير، وابن خُلدون، وما شِئت فَخُذ لترى إلى أين وصلت الحالة حتّى بلغ الأمر حدّاً يوجزه أحد الشعراء بقوله:

وا حرباً يا آلَ حربٍ مِنكمُ

يا آلَ حربٍ منكمُ وا حربا

مِنكُم وفيكُم وإليكم وبِكُم

ما لو شرحناهُ فَضحنا الكُتُبا

وأمّا الزعم الثاني:

فيُبطِله أنّ قادة الحَملة ووجوهِها هُم العَرَب، وقد أفاض في ذلك الجاحظ برسالته المُسمّاة مناقب الأتراك، وقد ذكر مِن قادة الحَمْلَة، قحطبة بن شبيب الطائي، وسُليمان بن كَثير الخُزاعي، ومالك بن الهَيثَم الخُزاعي، وخالد بن إبراهيم الذهلي، ولاهز بن طريف المُزني، وموسى بن كعب المُزني، والقاسم بن مجاشع المُزني، كما نَصَّ المؤرِّخون على أسماءِ القبائل العربيّة التي كانت مُقيمةً في خُراسان، والتي كَوَّنَت الزحف في مُعظمه، وهم: خُزاعة، وتَميم، وطَي، ورَبيعة، ومُزينة وغيرها مِن القبائل العربيّة.

وللتوسُّع في معرفة أسماء القادة، والقبائل العربيّة، التي جاءت في الحَملة للقضاء على الحُكم الأُموي، يُراجع كتاب ابن الفوطي مؤرِّخ العراق، لمحمّد رضا الشبيبي، فقد تَوسَّع في إيراد النُصوص التاريخيّة مِن

٧٦

أمَّهاتِ الكُتُب، وَشَرَحَ أهداف الحَمْلَة، ونوعيّة الجيش، والأقطاب الّذين اشتركوا بالحملة، وبالجملة بِكُلِّ مُلابسات الموضوع (١) .

والشق الثاني الوارد في الزعم، وهو أنّ العناصر غيرَ العَربيّة أرادت الانتقام؛ لأنّها كانت مَحرومة مِن الإِشراك بالمناصب، فهو بالجملة غير صحيح؛ لأنّ كثيراً مِن العناصر الأجنبيّة والموالي، شَغَلوا مناصِبَ كبيرة في العهد الأُموي على امتداد هذا العهد، ولم يكن وضعُهُم أيّام العباسيّين يَختَلِف كثيراً عن وضعهم أيّام الأُموييّن، وقد أشار لذلك الدكتور أحمد أمين بقوله: فَسُلطَةُ العُنصُرِ الفارسي كانت تنمو في الحكم الأُموي، وعلى الأخصّ في آخره، ولو لم يُتَح لها فُرصَة الدولة العباسيّة لأُتيحَت فُرَصٌ أُخرى مُختَلِفة الأشكال (٢) .

لقد تَوَلّى جماعةٌ مِن غير العَرَب مناصِب هامّة، ومنهم سِرجَون بن منصور كان مُستشاراً لمعاوية، ورئيس ديوان الرسائل، ورئيس ديوان الخَراج، ومرداس مولى زياد كان رئيس ديوان الرسائل، وزاذا نفروخ كان رئيس خَراجِ العراق، ومحمّد بن يزيد مولى الأنصار كان والياً على مصر مِن قِبَلِ عُمَر بن عبد العزيز، ويزيد بن مُسلِم مولى ثَقيف كان والياً على مِصر، وكان منه القُضاة، والولاة، ورُؤساء دواوين الخراج، وقد تَغَلغَلُوا في أبعاد الدَولة، وَشُعُبِها بِصورةٍ واسعةٍ (٣) .

هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى إنّ وضع العَرَب لم يكن يستأثر باهتمام الأُموييّن إلاّ بمقدار ما يُحقِّق مَصالِح الأُموييّن أنفسهم، فإذا اقتضت مَصالِحُهُم أن يضربوا العَرَب بَعضَهُم ببعض فعلوا، كما حَدَثَ ذَلِك أكثرَ مِن مَرَّة في حُكم الأُموييّن فَراجِع (٤) .

وقد تعرَّضَ الدكتور أحمد أمين إلى ذلك، وَشَرَحَهُ مُفصَّلاً، وبَيّنَ كَيف كان العَرَب يضرب بعضُهُم بعضاً إذا اقتضى الأمر ذلك، فراجع (٥) .

____________________

(١) مؤرِّخ العراق ابن الفوطي: ١/٣٦ - ٣٧.

(٢) ضحى الإِسلام: ج ص٣.

(٣) راجع الإِمام الصادق لأسد حيدر: ١/٣٤٤.

(٤) مروج الذهب: ج٢.

(٥) ضحى الإِسلام: ١/٢٠.

٧٧

وأمّا الزعم الثالث:

وهو انتشار الفِكر الشيعي عن طريق الموالي، وتعاظم نفوذهم، وامتداده تَبَعَاً لذلك. فَيُكَذِّبُهُ أنّ هذا المضمون بِجُملتِهِ غير صحيح، فقد نُكِبَ الفُرس أيّام العباسيّين، وضُرِبَ نُفوذُهُم أكثر مِن مرَّة، ومِن أمثلةِ ذلك: القضاء على أبي مُسلِم وأتباعه، أيّام المنصور، والقضاء على البَرامِكةِ أيّام الرشيد، والقضاء على آلِ سَهل أيّام المأمون وهكذا.

يبقى أنّ الموالي لَمَعوا في مَيادين أُخرى، فذلك صَحيح بالجملة، وتَصوُّر نفوذ الفُرس إنّما هو مِن أيّام السفّاح حتّى أيّام المأمون، وهي كما ترى لا تُثبِت للفُرسِ والموالي نفوذاً خارج دائرة العباسيّين، وإنّما ضِمن دائرتهم، بحيث يستطيعون احتواءهم في أيِّ وقت. أمّا الفَترَة التي تبدأ مِن عَصر المُتَوَكِّل حتّى نهاية الحُكمِ العبّاسي، فإنّ الحُكم العبّاسي ضَعُفَ نُفوذُه حتّى انقضَّ عليه حُكّامُ الأطراف. ولا يعني ذلك استشراء نُفوذِ الفُرس فقط، بل هو شأنُ الكيان الضعيف، الذي ينهشه كُلُّ طامع.

إنّ العوامل التي أدَّت إلى ضَعفِ الحُكم العبّاسي أشبَعَها الباحثون بالتفصيل.

إنّ تصويرَ نُفوذِ الفُرس بالشكل الذي أورده بعضهم ونفوذ الموالي، مُبالَغٌ فيه غايةَ المُبالَغَةِ، فإذا كانت الشُعوبيّة قد وُجِدَت أيّام العباسيّين، فإنّها امتدادٌ لِنَزعَة الشُعوبيّة مُنذُ أيّام الأُموييّن، وإذا كان للفُرس نُفوذٌ، فلم يصل إلى الحَدِّ الذي يَنتزِعُ نُفوذَ العَرَب، بل كان ذلك النُفوذ ملحوضاً مِن قِبَل الدولة، ومَسموحاً به؛ لأهدافٍ كثيرةٍ، استهدفها العباسيون مِن السماحِ بذلك -.

يقول فلهوزن عن نفوذ الفُرس في العصر العبّاسي: أمّا أنّ النُفوذ الفارسي كان هو الراجِح، فهو أمرٌ غيرُ مؤكَّد (١).

أمّا الشُق الثاني مِن هذا الزعم: وهو تَنَفُّس التَشَيُّع أيّامَ العباسيّين فَهوَ غَيرُ صَحيحٍ، بل العكس هو الصحيح، فإنّ العباسيّين أولَعوا بِدَمِ الشيعة وأئمَّتِهِم

____________________

(١) الزندقة والشعوبيّة لسميرة الليثي: ص٨١.

٧٨

وتعرض التَشَيُّع في مُختَلَفِ أدوارِهِم إلى مِحَنس وخُطوبٍ مُروِّعة، عدى فَتَراتٍ بسيطةٍ مرَّت مُرُورَ الغَمامِ، كما هو الحالُ في فَترَةِ البُوَيهيّين.

وبالجملة إنّ كُتُبَ التاريخِ قَد حَفِظَت لَنا صُوَراً مُروِّعة مِن تَعَرُّضِ الشيعة للإبادةِ أيّامَ العباسيّين، وبوسع القارئ الرُجوع إلى أيِّ كِتابٍ مِن كُتُبِ التاريخِ الرئيسيّة، ليرى ذلك واضحاً.

وبعدَ هذا التعقيب البسيط على هذه المَزاعِم، أعودُ إلى تلاميذِ المستشرقين، الّذين نَسَجوا على مِنوالِ أساتِذَتِهِم، فَقَلَّدوهُم في هذا الزعم - وهو فارسيّة التَشَيُّع - ومنهم:

١ - الدكتور أحمد أمين:

يذهب الدكتور أحمد أمين إلى استيلاء الفِكرِ الفارسي على التَشَيُّع، بِرَغمِ قِدَمِ التَشَيُّع على دخول الفُرس فيه؛ وذلك لأنّ أكثرَ الشيعةِ فُرسٌ - على زعمه - فَغَلَبَت نَزَعاتُهُم على التَشَيُّع، وَصَبَغتهُ بالفارسيّة. وَلِنَستَمِع إلى قوله حَرفيّاً:

والذي أرى كَما يَدُلُّنا التاريخ: أنّ التَشَيُّع لعليٍّ بَدَأ قبل دُخُولِ الفُرسِ في الإِسلام، وَلكنْ بِمعنى ساذَجٍ، ولكنّ هذا التَشَيُّع أخَذَ صِبغَةً جَديدةً بِدُخُولِ العَناصِر الأُخرى في الإِسلام، وحيثُ إنّ أكبرَ عُنصُرٍ دَخَلَ الإِسلام الفُرس، فَلَهُم أكبرُ الأثَرِ بالتَشيُّع (١) .

ويقول في مورد آخر: فَنَظرَةُ الشيعَةِ في عليٍّ وأبنائه، هي نَظرَةُ آبائِهِم الأوَّلين مِن المُلوكِ الساسانيّين، وثنويّة الفُرس كانوا مَنبَعاً يَستَقي مِنهُ الرافِضَةُ في الإِسلام، فَحَرَّكَ ذلكَ المُعتَزِلةَ لدفع حُجَجِ الرافِضَةِ (٢) .

إنّي أطلِبُ مِن القارئ هُنا التَأمُّل في هذه اللهجةِ الحادَّةِ، التي يَلوحُ مِنها الشَرَرُ والنارُ؛ حتّى يَعرِفَ مدى مَوضوعيّة أحمد أمين وَنُظَرائِه، وقَد دَأبَ أحمد أمين على اجترارِ هذه الفِكرَةِ، وترتيب الآثار عليها، كما يظهرُ ذلك واضِحاً في كُلّ

____________________

(١) فجر الإِسلام: ص٢٧٦.

(٢) فجر الإِسلام: ص١١١.

٧٩

الفَصلُ الثالِث

هُويَّة التَشَيُّع العِرقيَّة وآراءُ الباحثينَ فيها

في صدرِ هذا العنوان لا بُدَّ مِن سؤالٍ عن معنى مَضمونِ العُروبة، الذي يُميِّزُها عَمّا عداها؟

وأوّلُ ما يَتبادرُ للذهنِ أنّ العَربيَّ: هو الذي يُولدُ مِن أبَوَينٍ عَرَبيِّيَنِ.

وبِعِبارةٍ أُخرى: هو المُتَحدِّر مِن دَمٍ عَرَبي، وهذا الفَرضُ غَيرُ مُتَحقِّقٍ؛ لأنّنا لا يُمكِنُنا الحُصول على دمٍ خالصٍ مائة بالمائة مِن الشوائبِ والاختِلاط، ولأنّ الدماءَ إنسانيِّةِ الانتِماء كُلُّها تَعودُ لِمصدَرٍ واحدٍ، وهي مُختَلِطَة اختلاطاً يَصعُبُ مَعهُ فَرزُها عن غَيرِها، ثُمّ بَعدَ ذلكَ، لأنّهُ ليسَ مِن المُتَصوَّر أنّ الدِماءَ تَتَأثرُ بالعَقيدةِ والفِكرِ والمشاعرِ، فأيُّ مَعنى للعُروبَةِ مع هذا الفرض؟ وانطلاقاً مِن هذا، فإنّ كلّ رأيٍ يَقومُ على فَرضِ وُجودِ دَمٍ عَرَبيٍّ خالِصٍ هو فَرضٌ غَيرُ عِلمي، ولا يُمكِنُ الرُكونُ إليه.

ومع التَنَزُّلِ والتَسليمِ بِصحَّةِ هذه المَقولَةِ وهذا الفَرضُ، فقد ذَكَرنا فيما مَرَّ أنّ الشيعةَ الّذينَ بَدَأ بِهم التَشَيُّع، وقامَ على أيديهم هُم مِن القبائلِ العَربيّةِ، وذَكَرنا الطَبَقةَ الأولى مِنهم، ولا نُريدُ أن نُثقِلَ على القارئ فَنَذكُرَ لهُ الطَبَقَتَين، الثانية والثالثة، فَبِوسع كُلّ قارئ الرُجوع إلى كُتُبِ التَراجم؛ ليرى أنّهم في جُمهورِهم مِن العَرَب.

وإذا كان افتِراضُ أنّ هُناكَ دَماً خالِصاً غَيرَ مُتأثِّرٍ بِغيرِهِ أمراً خيالياً، نعود إلى السؤالِ عن مَعنى العُروبَةِ، وسَنَجِدُ الجواب: إنّ العُروبَةَ هي المَزيجُ المُتَكَوّنُ مِن الفِكرِ والمشاعِرِ واللُغَةِ والتُربَةِ، وانتزاعُ العُروبَةِ مِن هذه المَصادِرِ هو المَسلَكُ الصَحيحُ، فهي التي تُحَدِّدُ الهُويّة، ومُعظَمُ مَن كَتَبَ في تُحديدِ هُويَّةِ الإِنسانِ أكدوا على

٨٠

هذه العوامل فقط، وهي: اللُغَة، والتاريخُ، والبيئةُ، والمَصالحُ المُشتَركةِ.

هذه هي التَركيبةُ المَزجيَّةُ التي تُكَوِّنُ وتُحَدِدُ مَعالِم الانتماء لأُمّةٍ مّا (1) .

وانطلاقاً مِن ذلك لِنَرى: أينَ مَظانُّ الشيعةِ مِن هذه العوامل؟

ولنبدأ مِن ذلكَ بالعامِل الأوّل:

مُقَوِّماتِ الهُويَّةِ العِرقِيَّةِ

1 - البيئةُ الجُغرافيَّة:

إنّ مَهدَ التَشَيُّعِ الأوّل هو الجَزيرةُ العَرَبيّة؛ لأنَّ شيعةَ عليٍّ (ع) الأوائل هُم مِن الصَحابَةِ، ومِن جَزيرَةِ العَرَب كما ذكرنا ذلك مِن قبل، ومَعَ افتراضِ وجودِ شَخصٍ أو شَخصين مثل: سَلمان الفارسي، وأبي رافع القَبَطي، فإنّ نشأةَ هؤلاءِ وإقامتَهُم لفترةٍ طويلةٍ بالحجازِ، ومِن الحِجازِ انتَشَرَ التَشَيُّعُ إلى الأقطارِ الأُخرى كالعراق، وسوريا، ومصر، والشام، وإفريقيا، والهند، والخليج، وأوربا، وأمريكا، والصين، وروسيا، وغيرها مِن سائرِ أقطارِ العالمِ على امتدادِ السنين. وسنرى في آخر هذا الفصل أقوال الباحثين في ذلك ونصوصهم على أنّ مهد الشيعة الأوّل هو الجزيرة العربيّة.

2 - اللُغَة:

يَعتَبِر العلماءُ أنّ اللُغَة: هي العاملُ الأساسيُّ في تَحديدِ انتماءِ كلِّ شَخصٍ إلى قَوميةٍ مِن القَوميّاتِ؛ لأنّ اللُغَة قِسمٌ مِن المَشاعِرِ، بل تَذهَبُ البُحوثُ الحَديثةُ إلى أنَّها الجُزءُ المَهموسُ مِن الفِكرِ، وذلك لِتَقسيمِهِم للفِكر إلى قِسمَين: صامتٍ، ومَهموسٍ (2) .

وبِحُكمِ كَونِ الشيعةِ مِن أهلِ الحِجازِ فَلُغَتِهِم كانت العربيّة، وشيعةُ عليٍّ - كَما هو وَاضحٌ مِن الشَريحةِ التي قدَّمناها - مِن فُصَحَاءِ العَرَب، وأبطالِ البيان.

____________________

(1) أنظر القَوميّة العَربيّة للدكتور حَازِم زكي نسيبه: ص101، وأنظر نَحوَ الوَحدَةِ العَرَبيّةِ ليوسف هَيكل، فَصل اللُغَة، وانظر آراءٌ وأحاديثٌ في الوَطنيَّة والقَوميّة لساطع الحصري: ص20.

(2) مَجلَّة عالَمِ الفِكر الكويتية: مُجلَّد 6 العدد الخاص باللُغَة.

٨١

وكان تَفَوُّقُ رُوّادِ الشيعةِ بالبيانِ والخِطابَةِ أدَباً أخَذوهُ مِن إمامهم عليٍّ (ع) أمير البيانِ، حتّى نَبَغوا في ذلكَ وعَدَّهم المُؤرِّخونَ قادَةَ بَيانٍ، ونوابِغَ فَصاحةٍ، ومِن هؤلاءِ: عدي بن حاتَم الطائي، وهاشِم المرقال، وخالِد بن سَعيد العبشمي الأُموي، والوليد بن جابر بن ظالم الطائي، وغيرهم (1) .

وبِحُكم كَونِ اللُغَةِ العربيّة هي لُغَةُ القرآن الكريم، فقد كان الشيعةُ يَقعونَ عِندَ التَصنيفِ مِن قِسم المُتَشدِّدين في اعتبار اللُغَة العربيّة لُغَةً للعِبادةِ، ولُغَةَ العُقُودِ، ولا يَتَساهَلونَ في ذلك أبداً، ولا يَقومُ عِندَهُم مَقامَ اللُغَةِ العَربيّة في ذلك أيُّ لُغَةٍ أُخرى، ونَلمَحُ مِن تَشدُّدهم في ذلك أنّ اللُغَةَ عِندَهُم ليست مُجَرَّدَ قالَبٍ للمعنى، ولو كانت كَذلِك لقامَ مقامَها قالبٌ آخَرٌ، لكنّها عِندَهم تَستَبطِنُ مَشاعِرَ وخَوَاصَّ أصيلةٍ في مَضمونِ الرِسالةِ، ولهذا نَزَلَ القرآنُ بها، لذلكَ نَرى جُمهورَ فُقَهاءِ الشيعةِ يَذهَبونَ إلى عَدَمِ جوازِ القِراءةِ في الصلاةِ والأذانِ، وافتتاحِ الصلاةِ بِغيرِ اللُغَة العَربيّة، في حينِ يَذهبُ كُلٌّ مِن: أبي حَنيفة بِصورةٍ مُطلَقةٍ، والشافعيَّة والمالكيّة بِجواز إيقاع الأذان بغير العربيّة إذا كان المؤذِن أعجميّاً، ويُريدُ أن يُؤذِّنَ لِنفسِهِ أو لجماعَةٍّ أعاجم مِثلَهُ (2) ، ويَذهبُ الشافعيُ والأحنافُ والمالِكيَّةُ إلى جوازِ إيقاعِ تَكبيرَةِ الإِحرامِ بِغَيرِ اللُغَة العربيّة، إذا كانَ غيرُ قادرٍ على اللُغَة العربيّة، ذَكَرَ ذلكَ عَنهُم صاحِبُ الفِقهِ على المذاهبِ الأربعة في بابِ شُروطِ تَكبيرةِ الإِحرامِ، مِن الجُزءِ الأوّل، ولم أجدْ في حُدودِ ما عِندي مِن مصادر لهم اشتراطاً صريحاً في إيقاعِ العُقودِ باللُغَة العَربيّة في حين يَذهبُ الشيعةُ إلى لُزومِ إيقاعِ العَقدِ بالعَرَبيَّةِ اختياراً (3) .

وفيما يَخصُّ عَقدَ النِكاحِ، يُجَوِّزُ الحَنفيَّةُ، والمالِكَيّةُ، والحنابِلَةُ إيقاعَهُ بِغيرِ اللُغَة العَربيّة مع القُدرةِ عليها، ويذهبون إلى صِحَّةِ هذا العَقدِ (4) .

____________________

(1) انظُر أُسد الغابة: 1/35، وأعيان الشيعة للأمين: 1/61.

(2) انظر الفقه على المذاهب الأربعة: 1/314، وفجر الإِسلام: ص250، وكَنزُ العِرفانِ للمقداد السيوري: 1/117.

(3) كنز العِرفان: 2/72.

(4) الأحوال الشَخصيّة لمحمّد أبو زُهرة: ص27 ط مصر الأولى.

٨٢

3 - عُروبَةُ الخليفة:

وممّا يَتّصل بموضوع اللُغَة: إنّه بالنَظَرِ لأهَميَّة اللُغَة العربيّة في مَوقِعِها مِن الشَريعَةِ، الذي يَتَّضِح مِن اختيار السماءِ لها؛ لتكونَ الظرفَ الحامِلَ للفكرِ الإِسلامي، ولِما كَرمَ الله تعالى به هذه اللُغَة في كتابه، إذ يقول في الآية الثانية مِن سورة يوسف:

( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، ويقول في الآية السابعة والثلاثين مِن سورة الرعد: ( وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ) الأمرُ الذي أجمَعَ مَعه مُفَسِّروا القرآن الكريم على أنّ القرآنَ حِكمَةٌ عَربيَّةٌ، ومُحاوَراتَهُ على نَسقِ مُحاوراتِ العَرَب وأساليبهم، وإذا شِئت قُلتَ: إنّه أخَذَ مَشاعِرَ العَرَب وخواصِّهِم الحَضاريَّة عندما اختار لُغَتِهِم، ولم يَختَص أو يَتأطَّر بِهم؛ لأنَّ رِسالةَ الإِسلامِ عالميَّة، ولكنّ اللهَ تعالى جَعلَ اللُغَة العربيّة هي القَناةُ التي ينقل الدينَ القَويمَ عن طَريقِها للناس.

ولأجلِ ضمانِ حِفظِ خَواصِّ الرسالةَ، ذهب كثير مِن الفِرَقِ الإسلاميّةِ إلى ضرورةِ كَونِ الخَليفةِ عَربيّاً، لا لِسَبَبٍ آخر قد يُفهَمُ مِنهُ مَعنى عُنصُري، فرسالاتُ السماءِ مُنزَّهَةٌ عن ذلك، وقد انشطرت الفِرقُ الإسلاميّة في اشتراطِ عُروبَةِ الخليفةِ إلى شطرين: وكان الشيعةُ مِن الشَطرِ الذي يؤكِّد على عُروبَةِ الخَليفةِ؛ لقول النبيّ (ص): (الأئمّة مِن قريش) (1) في حين ذَهَبَ كَثيرٌ مِن المُسلِمينَ غير الشيعةِ إلى عَدَمِ اشتراطِ هذا الشرط. ويبدو أنّ هذا المعنى يبتدئ مِن الخليفة الثاني نفسه حيث قال:

لو أدركَني أحَدُ رَجُلين فجَعلتُ هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حَذيفة، وأبو عُبيدَة الجرّاح، ولو كان سالمٌ حيّاً ما جعلتُها شورى (2) .

وواضح مِن ذِكرهِ لسالم أنّ الخَليفة لا يَشتَرِطُ عُروبَةَ الخَليفةِ، وإلاّ لَنَصَّ على العَرَب فَقط، وقد ذَهَبَ لِذلك أيضاً مَشاهيرُ المُعتَزِلَةِ مثل: ضرار بن عُمَر، وثمامة بن أشرس، والجَاحِظ، وكَثيرٌ غيرَ هؤلاءِ (3) .

____________________

(1) الفصل بين المِلَلِ والنِحَل: 4/89.

(2) طبقات ابن سعد: 3/343.

(3) ضُحّى الإِسلام: 1/62.

٨٣

كَما يَذهبُ إلى عَدمِ عُروبَةِ الخَليفةِ الخَوارِجُ بِجُملَتِهِم ونُصوصُهُم صَريحَةٌ بِذلك (1) ، وإلى عَدَمِ اشتراط عُروبَةِ الخَليفةِ يَذهب الأحنافُ أيضاً، ولِذا صَحَّحوا خِلافةَ آلِ عُثمان (2) .

إنّ اشتراطَ عُروبَةِ الخَليفَةِ في واقعِ الأمرِ لا يُمكِنُ أن يَصدُرَ عن بواعِثَ عُنصريَّةِ، أو عن تَعصُّبٍ، فإنّ ذلكَ غَيرُ مُتصوَّرٍ في رِسالَةٍ سَماويَّةٍ هي خاتمةِ الرِسالاتِ الإِنسانيَّةِ؛ ضَرورةَ أنَّ الإِسلامَ دينُ المُساواةِ، ولكن بهذا الشرطِ يَضمنُ الإِسلامُ تَوفُّرَ حاكمٍ يَعي دَقائقَ الشَريعةِ، والخَلفيّات الحَضاريّة التي تَرتَبِطُ بها اللُغَةُ التي نَزَلَت بها. لِهذا فِقط يَشتَرِطُ الإِسلامُ عُروبَةَ الخَليفةِ مِن دون انتقاصٍ للآخرينَ، أو بَخسٍ لِمكانَتِهِم، أو قَدحٍ بإخلاصهم.

4 - التاريخُ والمَصالِحُ المشتركة:

إنّ تاريخَ الشيعةِ الّذينَ عدَّدنا أسماءهم جُزءٌ مِن تاريخِ الجَزيرةِ العربيّةِ بِكُلِّ أبعادِ هذا التاريخِ ومُقوّماته، وكذلك المَصالِح المُشتَرَكة المادي مِنها والمَعنَوي، وكذلك النَهجُ الشعبي في التَفكيرِ والعاداتِ والسُلوكِ، ولذلك لَمّا جاءَ الإِسلامُ أخَذَ يُجاهِدُ لتَخليصِ المُسلِمينَ مِن بَعضِ عاداتِهم، وأنماطِ سُلوكِهم التي كانت تُؤلِّفُ قَدَراً مُشتَرَكاً بين سُكّانِ الجزيرةِ العَربيّةِ، وبالنظرِ لِكونِ هذا المعنى مِمّا لا يَنبغي الإِطالةُ فيه؛ لأنّه بِحُكمِ البَديهيّاتِ، نَكتَفي بما ذَكرناهُ، ومِن هذه الحقائق التي قَدمناها تتضح الهُويَّة العِرقيّة للتشيُّع، فهو عَرَبيٌ بانتمائهِ ومَهدِهِ ولُغَتِهِ وآرائهِ، ولأجلِ هذا ذَكَرَ الباحِثونَ الموضوعيّونَ: أنّ التَشَيُّعَ عربيٌّ بِكُلِّ خَواصِّهِ، وأقصدُ بالباحثينَ هُنا، المتأخرينَ مِنهم؛ وذلك لأنّ هذه المسألة لم تَكن تَشغَل بالَ خُصومِ الشيعةِ في العُصورِ الأولى، وإنّما نَشَأَت مؤخَّراً لأسبابٍ كثيرةٍ، أهَمُّها تَحوُّلُ الفُرسِ إلى شيعةٍ ابتداءً مِن القَرنِ العاشر. أمّا التاريخُ الذي يَسبِقُ القرنَ العاشر، فالشيعةُ مِن الفُرسِ كانوا فيهِ فئةً قَليلةً، وسَوفَ يأتينا هذا المعنى مُفصَّلاً. وحينما تَحوَّلَ الفُرسُ إلى شيعةٍ، ظَهرت لَهُم مَثالِبَ، وعُيوبَ لم تكن موجودةً يَومَ أن كانوا مِن السُنّةِ، ولا أُريدُ أن أتَعَجَلَ بكَ النتائج، فهي آتيةٌ إن شاءَ اللهُ.

____________________

(1) الفَرقُ بينَ الفِرَق للبغدادي، باب الخوارج.

(2) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 1/157.

٨٤

والآن دَعني أُقدِّمُ لَكَ نَماذِجَ مِن أقوالِ بَعضِ الباحثينَ الّذين تَناولوا هذه المَسألة، فلم يَسَعْهُم مِن ناحيةِ إنكارِ عُروبَةِ التَشَيُّع، في الوقتِ الذي أرادوا فيه شَتمَ الشيعةِ عن طريقِ شَتمِ الفُرسِ، وشَرْحِ مَثالِبهِم، فلنستمع لما يقولون:

1 - الدكتور أحمد أمين:

يقولُ الدكوتر أحمد أمين في نَصٍ ذَكرناهُ سابِقاً، واشتشهدنا بِمقطَعٍ مِنه، ونَذكُرُهُ هُنا؛ لارتباطه بالموضوع: والذي أرى كَما يَدلُّنا التاريخُ، أنَّ التَشَيُّعَ لِعليٍّ بَدأ قَبل دُخولِ الفُرسِ في الإِسلامِ، ولكنْ بِمعنى سَاذجٍ، وهو أنّ عليّاً أولى مِن غَيرهِ، ومِن وِجهَتَين: كِفايتهُ الشَخصيّةِ، وقرابَتُهُ للنبي (ص)، ولكنَّ هذا التَشَيُّع أخَذَ صِبغَةً جَديدةً بِدُخول العَناصِرِ الأُخرى في الإِسلام مِن يهوديّةٍ، ونصرانيّةٍ، ومَجوسيّةٍ، وحَيثُ أنّ أكبرَ عُنصرٍ دَخَلَ في الإِسلام الفُرسُ، فلَهُم أكبرُ الأثرِ بالتَشَيُّع.

ورأيُهُ هُنا واضِحٌ، أنّ أوائلَ الشيعةِ لَيسوا بِفُرسٍ، وإنْ نَاقَضَ نَفسَهُ بِمكانٍ آخر (1) .

2 - الدكتور علي حسين الخربوطلي قال:

وهناك فَريقٌ مِن العَرَب تَشيَّعَ لِعليٍّ بَعدَ أن آلت الخِلافةُ إلى أبي بكرٍ، ويرى جولد تسيهر: أنّ الحَركةَ الشيعيّةَ نَشَأت في أرضٍ عَربيَّةٍ بَحتةٍ، فقد مالَ لاعتناقِ التَشَيُّعِ قَبائلٌ عَربيّةٌ تَشَبَعَتْ بِالآراءِ الثيوقراطيةِ, وبِشرعيَّةِ حَقِّ عليٍّ بالخلافة، فأقبلت على تعاليمهِ في لَهفة وحَماسةٍ أهلُ العراقِ مِن الفُرسِ، ورأوا أنّ الإِمامَةَ لَيست مِن المَصالِحِ التي تُفَوَّضُ إلى نَظَرِ الأُمّة، ويُعَيَنُ القائمُ بها تَعييناً باختيارِ جَماعةِ المُسلِمينَ وانتخابَهم، بل هي رُكنُ الدينِ، وقاعِدةُ الإِسلامِ، فيجبُ تَعيينَ الإِمامِ ويكون معصوماً، وأنّ عليّاً هو الذي عيّنهُ الرَسولُ (2) .

3 - المُستَشرِق فلهوزن قال:

أمّا أنّ آراءُ الشيعةِ تُلائمُ الإِيرانيّينَ فهذا مِمّا لا شكَّ فيه، وأمّا كَونُ هذهِ

____________________

(1) فَجر الإِسلام: ص276.

(2) الدولة العربيّة: ص127.

٨٥

الآراء انبعثت مِن الإِيرانيين، فلَيست تِلكَ الملائمةُ دليلاً عليه، بل الرواياتُ التاريخيّةُ تقول عَكسَ ذلك، إذ تَقولُ: إنّ التَشَيُّعَ الواضحَ الصريحَ كان قائماً أوّلاً في الدوائرِ العَربيّة، ثمّ انتقلَ مِنها إلى الموالي (1) .

4 - المُستَشرِق آدم متز قال:

إنّ مَذهبَ الشيعةِ لا كما يَعتقدُ البَعضُ: ردُّ فِعلٍ مِن جانبِ الروحِ الإِيرانيَّة تُخالِفُ الإِسلام، فقد كانت جَزيرةُ العَرَبِ شيعيَّةً كَلُّها، عدى المُدن الكُبرى كَمَكَةَ وتُهامَة وصَنعاء. وكانَ للشيعةِ غَلَبَةٌ في بَعض المُدن مِثل: عُمان وهَجَر وصَعدَة، وفي بلاد خوزستان التي تَلي العراق، فكانَ نِصفُ أهلِها على مذهبِ الشيعةِ، أمّا إيران، فكانت سُنيَّةً، عدى قُم، وكان أهلُ أصفهان يُغالونَ في معاوية، حتّى اعتقدَ بعضُهُم أنّهُ نَبيٌّ مُرسَل (2) .

5 - المُستَشرِق جولد تسيهر قال:

إنّ مِن الخطأ القولَ: إنّ التَشَيُّع في مَنشئِهِ، ومَراحلِ نُموِّهِ يمثلُ الأثرَ التعديلي، الذي أحدَثَتهُ أفكارُ الأُممِ الإِيرانيّة في الإِسلام، بَعدَ أن اعتَنَقَتهُ وخضعت لسُلطانِهِ عن طريق الفَتحِ والدعاية، وهذا الوهمُ الشائعُ مَبنيٌّ على سوءِ فَهمِ الحوادثِ التاريخيّةِ، فالحَرَكةُ العَلَويَّةُ نشأت في أرضٍ عربيّةٍ بَحتَة (3) .

6 - المُستَشرِق نولدكه قال:

ظَلَّتْ بِلادُ فارسٍ في أجزاءٍ كبيرةٍ مِنها تُدينُ بالمَذهَبِ السُنّي، واستمرَّ ذلكَ حتّى سنة 1500م، عندما أُعلِنَ التَشَيُّعُ مَذهَباً رَسميّاً فيها بقيامِ الدَولةِ الصَفويَّة (4) .

بعدَ استعراضِ هذه المُقتَطَفاتِ مِن أقوالِ الباحثينَ، التي تُؤكِّد عُروبَةَ التَشَيُّعِ

____________________

(1) الشيعةُ والخَوارِج: ص241.

(2) الحضارةُ الإسلاميّة: 1/101.

(3) العقيدةُ والشريعة، ص204.

(4) دراساتٌ في الفِرَقِ والعَقائد: ص326.

٨٦

في طابعِهِ العام في نَفسِ الوقتِ الذي لا تنفي امتدادَهُ إلى جِنسيَّاتٍ أُخرى، فإنّ باقي الجِنسيّات هيَ مَوضِعُ احترامِنا وتَقديرِنا، فما كُنّا إلاّ مسلمينَ، شِعارُنا قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات: 13، ولكنّنا نُقابِلُ بِذلكَ الأصواتَ التي تُشَّهِرُ بالمذهبِ الشيعي، وتَنسِبُهُ للفارسيّةِ، وإتماماً للبحثِ سَنُقَدِّمُ هُنا عَيّنَةً مِن أقطابِ المذهبِ الشيعي، الذي قامَ الفِكرُ الشيعي على أقلامِهِم ومَواقِفِهِم، وبَعدَ ذلكَ نَضَعُ مُقابِلَ عناوينِ عُروبَةِ التَشَيُّعِ، ما يُقابِلُها مِن عناوين في أبعادِ المذاهبِ الإسلاميّة الأُخرى.

٨٧

الفَصلُ الرابِع

أئمَةُ الشيعَةِ مَنْ هُمْ؟

إنّ أئمة الشيعَةِ الإِثني عَشَر، ابتداءً مِن الإِمام عليٍّ (ع) حتّى الإِمامِ الثاني عَشَر محمّد بن الحَسن (ع)، الّذينَ تَعتَبِرُهُم الشيعَةُ بأنّهُم الامتدادُ الطبيعي للنُبوَّةِ، هُم سادَةُ العَرَبِ ومِن صَميمِهِم، وبَيتُ هاشمٍ - كما هو المعروف - أشرفُ البُيوتاتِ العَربيّةِ، فلا حاجةَ للإِفاضةِ بذلك.

يأتي بعدَ ذلكَ الروّاد الأوائلُ مِن حَمَلَةَ عُلومٍ أهلِ البيتِ، وبُيوتاتِ وأُسَرِ الشيعَةِ، الّذين حَملوا التَشَيُّعَ، وبَشَّروا بِه، فإنَّهمُ مِن صَميمِ العَرَبِ، وذلكَ ابتداءً مِن أقطابِ مَدرَسَةِ الإِمامِ الصادقِ (ع)، مِثل: أبان بن تَغلُب بن رباح الكِندي، وبيتُ آلِ أعيُن، وبيتُ آل حيّان التَغلُبي، وآلُ عَطيّة، وبَني دَرّاج وغيرهُم (1) . ثمّ الطَبَقَةُ التي تَلي هؤلاءِ، كالشيخِ المُفيدِ محمّد بنَ النُعمان، والشَريفِ المُرتضى عَلَمِ الهُدى عليّ بن أبي الحسين، والعَلاّمةِ الحِلّي جَمالِ الدين الحَسن بن يوسف بن المُطَهّر، وعبدِ العَزيز بن نِحرير البَرّاج، وجَمالِ الدين أحمد بن موسى بن طاوس، وأُسرةِ آلِ طاوس، ومُحمّد بن أحمد بن إدريس العَجَلي، ونجمِ الدين جَعفر بن الحسن الهَذَلي المعروف بالمُحَقّق، وجَمالِ الدينِ المُقداد بن عبدِ الله السيوري، والشهيدِ الأوّل محمّد بن مَكّي، والشهيدِ الثاني زينِ الدينِ العاملي وغيرِهِم، فإنّ كلّ هؤلاءِ مِن صَميمِ العَرَب.

____________________

(1) طَبَقاتُ ابن سعد: ج6 تراجم مِن سكن الكوفة مِن التابعين.

٨٨

أمّا أصحابُ الصِحاحِ الشيعة، وهُم كلٌّ مِن: محمّد بن يَعقوب الكُليني، صاحب الكافي، ومحمّد بن عليّ بن الحسين المعروف بابن بابويه القُمّي، صاحب مَن لا يَحضَرُهُ الفقيه، ومحمّد بن الحسن بن علي الشيخ الطوسي صاحب التهذيب والإِستبصار، فإنّ هؤلاءِ لا يوجَد نَصٌّ على عَدَمِ عُروبَتِهم، ومَن وَجَدَ دليلاً على أعجَميَّتِهِم فَليُفِدنا.

وختاماً لهذا الفصل، أذكر أوّلاً رأيَ دائرةِ المعارفِ الإسلاميَّة، فقد قالت:

إنّ أقدَمَ الأئمّة الكِبارِ مِن الشيعَةِ كانوا عَرَباً خُلَّصَاً، وإن كانوا مِن اليمنيين خاصَّة. (1) كما أذكُرُ لِكلِّ مَن يُريدُ التَوسُّعَ بعضَ كُتُبِ التراجِمِ الشيعيّة وغيرها؛ ليَطَّلعَ مِنها على نِسبَةِ العَرَبِ مِن الشيعة، ومِن أهمِّ هذه الكُتُب: الأعلامُ للزركلي، وتأسيسُ الشيعةِ لِعُلومِ الإِسلامِ للسيِّد حَسن الصَدر، وأعيانُ الشيعةِ للسيّد مُحسن الأمين العاملي.

السُنّة والفُرس

قَبلَ الدُخولِ في صَميمِ هذا الموضوعِ، لِنَبدَأ أوّلاً بإيران، وما هي هُويَّةُ سُكّانِها العقائديّةِ؟، وبالتحديد أينَ موقِعُ سُكّانِها مِن المَذهَبين السُنّي والشيعي؟ ففي ذلكَ بَعضُ الأضواءِ التي لا بُدَّ مِنها؛ لإِنارَةِ طريقِ البَحثِ.

لقد ذَكَرَ لنا المؤرِّخونَ: أنّ فُتوحاتِ إيران بِكلِّ أجزائها، امتدَّت فَغَطَّت فَترَةَ الخِلافةِ الإسلاميّة إلى نِهايةِ فَترةِ حُكمِ الإِمامِ عليٍّ (ع)، وكانت هذهِ البُلدان عندما يَتمُّ فَتحُها قد يَتَخلَّفُ بَعضُ جُنودِ الحَملةِ في تِلكَ المُدُن، وبَعضُ هؤلاءِ كانوا مِن الشيعةِ، ومِن الّذين حَملوا مَعَهُم مبادئهم وعَرَّفُوا بها، وفي فَترَة حُكمِ زيادِ بنِ أبيهِ للكوفةِ، كانت في جُملَةِ تخطيطاتِهِ للقضاء على التَشَيُّع بالكوفةِ أن هَجّرَ خمسينَ ألفاً مِن الشيعةِ، وسَفّرَهُم إلى خُراسان.

ولا بُدَّ أنّ هؤلاءِ توالدوا، كَما أنّهم بَشَّروا بأفكارِهِم وعَقائدِهِم، فتَبِعَهُم على

____________________

(1) دائرة المعارف: 14/66.

٨٩

ذلك جماعةٌ، كما أنّ مَدينةَ قُم تَمَّ تَمصيرُها أيّامَ الحجّاجِ؛ وذلك أنّ عَبدَ الرحمان بن الأشعث كان أميرَ سجستان مِن قِبَلِ الحَجّاج، ثمّ خَرجَ على الحجّاجِ وقاتَله، وعندما فَشِلَت حَرَكَتهُ كان بِجيشِهِ مَجموعةٌ مِن عُلَماءِ التابعين، مِنهُم: عبد الله، والأحوص، وعبد الرحمان، وإسحاق، ونعيم، وهُم بنو سَعد بن مالك الأشعري، فَنَزَلَ هؤلاءِ على سَبعةِ قُرى في مَنطقة قُم، استَولَوا عليها، وجعلوها سَبعَ مَحلاّت لمدينة قُم، والتَحَقَ بعبد اللهِ بن سعد وَلَدٌ له كان إماميّاً تَرَبّى بالكوفة، فَنَقَلَ التَشَيُّعَ لأهلِها، فليسَ بها سُنّيٌ قط (1) .

هذه هي بذورُ التَشَيُّعِ في إيران، تَنمو في مَجالٍ مَحدودٍ حتّى بِدايةِ القَرنِ العاشرِ، حيث تَحوّلت بَعدَ ذلكَ مَناطقُ كَثيرَةٌ للتشيُّعِ أيّامَ الصَفَويّين.

أمّا البدايات مُنذُ الفتحِ، وإلى القرنِ العاشر، فكانت إيران في جُملَتِها سُنيّةً مُتَوَزِعَةً بين المَذاهبِ، ويُستَثنى مِن ذلكَ جٌيوبٌ صَغيرةٌ كان فيها بعضُ الشيعةِ، وقد أكَّدَ ذلك مؤرِّخوا السُنّة، وإليك أقوالُهم:

____________________

(1) مُعجَمُ البُلدانِ لياقوتِ الحموي: 4/397.

٩٠

إيرانُ السُنّيّة

1 - شَمسُ الدينِ محمّد بن أحمد يقول:

إقليم خُراسان للمُعتزِلَةِ والشيعَةِ، والغَلبَةُ لأصحابِ أبي حَنيفة، إلاّ في كورة الشاش، فإنّهُم شَوافعُ، وفيهم قَومٌ على مَذهبِ عبدِ اللهِ السرخسي، وإقليم الرَحاب مَذاهَبُهُم مُستَقِيمةٌ، إلاّ أنّ أهلَ الحديثِ حَنابِلَةٌ، والغالب بدبيل - لَعلّهُ يُريدُ أردبيل - مَذهبُ أبي حَنيفة، وبالجبال، أمّا بالرَي فَمذاهِبُهُم مُختَلِفةٌ، والغَلَبةُ فيهم للحَنَفيّةِ، وبالرَي حَنابِلةٌ كَثيرَةٌ، وأهلُ قُمٍ شيعةٌ، والدينور غَلَبَةٌ لمذهبِ سُفيان الثَوري، وإقليمُ خوزستان مَذاهِبُهُم مُختَلِفةٌ، أكثرُ أهلِ الأهوازِ ورامهُرمُز والدورق حنابلة، ونِصفُ الأهوازِ شيعةٌ، وبِهِ مِن أصحابِ أبي حَنيفةٍ كَثيرٌ، وبالأهواز مالكيون. إقليمُ فارسٍ العَمَلُ فيه على أصحابِ الحَديثِ، وأصحاب أبي حنيفة، إقليمُ كِرمان المذاهِب الغالبة للشافعي، إقليمُ السِندِ مذاهِبُهُم أكثرُها أصحابُ الحديثِ، وأهلُ الملتان شيعةٌ يُحيعلونَ في الأذانِ - أي يَقولونَ حيَّ على خيرِ العَمَل - ويُثنّونَ في الإِقامَةِ - أي يقولونَ اللهُ أكبَرُ مَرَّتين، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله مرّتين أيضاً، وهكذا - ولا تَخلو القَصَباتُ مِن فُقَهاءٍ على مذهبِ أبي حَنيفة (1) .

2 - ابن بَطّوطَة في رِحلَتِهِ قال بالتلخيص:

لَمّا أعلَنَ خدابنده - حَفيدُ هولاكو - التَشَيُّعَ، حَمَلَ الناسَ على التَشَيُّعِ في مَطلَعِ القَرنِ

____________________

(1) أحسن التقاسيم للبشاري: ص199.

٩١

الثامن، وكانَ مَعهُ أحَدُ الزنادِقَةِ الروافض، ويُدعى بجمال الدين بن المُطهَّر - يَعني العلاّمة الحِلي - كَتَبَ إلى بلادِ آذربايجان، وكرمان، وأصفهان، وخراسان، وشيراز، والعراق بإدخال اسم عليٍّ، وبعضِ شيعتِهِ في خُطبَةِ الجُمعة، وعَدَمِ ذِكرِ الصحابَةِ بها، كان أولَّ بِلادٍ وَصلَ إليها الأمرُ: بغداد، وشيراز وأصفهان، فأمّا أهلُ بغدادٍ فَخَرَجَ مِنهم أهلُ بابِ الأزج، يقولون: لا سَمِعاً ولا طاعة، وجاؤوا للجامع، وهدَّدوا الخطيبَ بالقتلِ إن غَيَّرَ الخُطبَةَ، وهكذا فَعَلَ أهلُ شيراز، وأهلُ أصفهان.

3 - القاضي عياض في مُقدّمة ترتيب المدارك قال:

وقد حَكى مِن انتشارِ مَذهبِ مالك: وأمّا خُراسان، وما وراءِ العراقِ مِن بلادِ المَشرِقِ فَدَخَلَها هذا المَذهبُ أولاً: بيحيى بن يحيى التَميمي، وعبدِ اللهِ بن المُبارك، وقُتَيبة بن سعيد، فكان لهُ هُناكَ أئمةٌ على مَرِّ الأزمان، وتَفشَّى بِقزوين وما والاها مِن البلاد الجبل، وكان آخرُ مَن دَرَسَ منه بنيسابور: أبو إسحاق بن القَطّان، وغَلَبَ على تِلكَ البلادِ مَذهبا أبي حَنيفة والشافعي (1) .

4 - بروكلمان قال في تاريخ الشعوب:

إنّ الشاه إسماعيلَ الصَفَوي بَعدَ انتِصارِهِ على الوند تَوجَّه نحوَ تَبريز، فأعلَمَهُ عُلماءُ الشيعةِ التبريزيّون أنّ ثُلُثَي سُكّانِ المَدينةِ الّذينَ يَبلُغُ عَدَدُهُم ثَلثمائة ألف مِن السُنّةِ (2) ، مع لَفتِ النظرِ إلى أنّ هذهِ الكَميّةِ مِن السُنّة في بَلَدٍ واحدٍ كانت في القَرنِ العاشرِ وفي بدايتِهِ.

5 - المُستَشرِق كيب يقول:

إنّ الفِكرَةَ الخاطِئةِ، والتي لا زالت مُنتَشِرَةً، التي تَقولُ بأنّ بلادَ فارسٍ كانت المَوطنَ الأصليَ للتَشيُّعِ لا أصل لها، بل الروايات التاريخيّة تُثبِتُ بأنّ الزرادشتيّين كانوا أميَلَ عُموماً لاعتناقِ المَذهَبِ السُنّي (3) .

____________________

(1) ترتيبُ المداركِ: 1/53.

(2) تاريخُ الشُعوبِ الإسلاميّة: ص497.

(3) دِراساتٌ في الفِرَقِ والعقائد: ص26.

٩٢

ولا أُريدُ أن أُطيلَ عليكَ بالإكثارِ مِن إيرادِ الشواهِدَ والنصوص، التي تَذكُرُ أنّ إيرانَ هي مَعقَلُ التَسَنُّن حتّى القَرنِ العاشرِ، بل وحَتّى الآن، فإنّ فيها مُقاطَعاتٍ بِكاملِها سُنّيَة تَستَمتِعُ بِكُلِّ حُرّياتَها الدينيّة، وهي مُنبَثَّةٌ في إيران شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فأين مَوقعُ إيران يا تُرى مِن التَشَيُّعِ والتَسَنُّن، هَل لهؤلاء الكُتّابِ أن يُجيبونا على هذا السؤال، ومتى كان مَنطِقُ الحِقدِ يَعقِلُ أو يُفَكِّرُ؟

٩٣

الفَصلُ الخامِس

اللُغَةُ والمَذاهِبُ الإسلاميَّة

سَبَقَ أن ذَكَرتُ مَوقِفَ المَذاهِبِ الإسلاميّة في مَوضوعِ اشتراطِ عُروبَةِ الخَليفَةِ مِن حيث الُلزومِ وعَدَمِهِ، وكَذلكَ اشتِراطُ اللُغَةِ العَربيّةِ في العبادات والعقود، فلا داعي لإِعادَةِ ذلك، وإنّما أُريدُ الإِشارةَ هُنا إلى أنّ في السُنّةِ مَن يَشترِطُ العَربيّةِ، وفيهم مَن لا يشتَرِطُها في حين يُؤكِّد المَذهبُ الشيعي على اشتراطها، وذلك يَكونُ مُؤشِّراً على عُروبَةِ التَشَيُّع، ووضوح انتمائه للعربيَّة شَكلاً ومَضموناً.

مَن هُم أئمَة السُنّة وأقطابَهُم؟

لا أُريد أن أُعيد إلى ذهن القارئ أنّ أمثال هذه البُحوث إنّما هي مِن باب إشعار الطَرَف الآخر بأنّه لا يلتزم بما هو لازم، ولا أُريد - والله يعلم - أن انتقص أيَّ إنسان ينتمي لأيِّ قوميّة، كما لا أستطيع في هذه المُقتطفات أن أستوعب كلّ الأقطاب الّذين قام بِناء الفكر السُنّي عليهم، وعلى أقلامهم ومواقفهم، وإنّما سأُقدِّم مِنهم شريحة كافية للتدليل على المطلوب.

إنّ تاريخ الدُنيا مُنذ وُجِد يُصنِّف الناس إلى صِنفين: صِنف يَقومُ مَقام الروح في الجسد، وآخر يُمثِّل الجَسد، وصِنف يَقومُ مَقام المُحرِّك، وآخر يُمثِّلُ القاطرة التي يسحبها المُحرِّك. وسَنَرى أنّ مَن يقوم مَقام المُحرِّك في الهيكل السُنّي فارسيٌّ في الأعمِّ الأغلب، ولِنَبدأ بمَن يُسمّى بالمذاهب الأربعة:

٩٤

أئمّةُ المَذاهِب الأربعة:

تَذهبُ جُملةُ المصادر المُعتَبَرَة إلى أنَّ ثَلاثةً مِن هؤلاءِ الأربعة هُم مِن الفُرس، والعَربيُّ فيهم هو الرابع فقط، أمّا الثلاثة فأوَّلهم:

الإِمام أبو حنيفة النُعمان بن ثابت بن زوطي: وهو مولى لِبَني تيم الله، ومولده بالكوفة (1) .

الثاني: الإِمام الشافعي محمّد بن إدريس بن العبّاس بن عُثمان بن شافع: مولى أبي لهب، وقد طَلَب مِن الخليفة عُمَر أن يَجعله مِن موالي قريش فامتنع، فطلب بعدها مِن الخليفة عُثمان ذلك ففعل، فهو مِن موالي قُريش، وقد ذكر ذلك كُلٌّ مِن الرازي في كتابه مناقب الشافعي، وأبو زُهرة في كتابه المعروف الإِمام الشافعي (2) .

الثالث: الإِمام مالك بن أنس بن مالك: ذَهَب كلٌّ مِن ابن عبد البر صاحب الاستيعاب في كتابه الاِنتقاء، والواقدي محمّد بن إسحاق، والسيوطي في تزيين الممالك إلى أنّه مولىً مِن موالي بني تيم، وليس بعربيّ (3) .

الرابع: الإِمام أحمد بن حَنبَل: وهو العربيُ الوحيد في المذاهب، وينتمي إلى بكر بن وائل (4) ، على أنّه هناك مَن يَروي أنّ الثلاثة الأوائل أيضاً عَرَب، ولكنّ ظروف الروايات لا تخفى على الناقد، وبوسع أيِّ باحث تقييم تلك الروايات، والانتهاء لرأي مُعيّن.

أصحابُ الصِحاحِ:

إنّ المصادر التي ترجمت لأصحاب الصحاح وزَّعتهم على النحو التالي مِن حيث أنسابهم:

____________________

(1) مناقب أبي حنيفة للموفّق بن أحمد: 1/16.

(2) انظر الإِمام الصادق لأسد حيدر: 3/220.

(3) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 2/200.

(4) طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1/4.

٩٥

أ - البُخاري محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم صاحب الصحيح الشهير، أعجمي.

ب - الترمذي ابن عيسى بن سورة الضرير تلميذ البُخاري، كذلك.

ج - محمّد بن يزيد بن ماجة مولى ربيعة، أعجمي.

د - أحمد بن علي بن شُعيب النسائي نسبة لمدينة نسا بخراسان، أعجمي.

هـ - سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني وهي بلدة بقرب هرات، يُنسَب إلى الأزد، ولم يَنصّوا على أنّ النسبة بالأصل أم بالولاء، ويبقى انتماؤه إلى بَلَد أعجمي.

و - مُسلِم بن الحجّاج بن مُسلِم القشيري النيسابوري عربيٌّ منصوص على عروبته (1) .

شَريحَةٌ ثالِثَةٌ:

هذه شريحة ثالثة مُتوزِّعة على المذاهب الأربعة في امتداد تاريخها الطويل غير مُلتزمةٍ بالتسلسل الزمني أُقدِّمها لتكون مُجرَّد مؤشِّر على نِسبةِ ما في المذاهب الأربعة مِن العلماء الفُرس، ولا أُريد الاستقصاء؛ لأنّه يستلزم إضاعة وقتٍ وجُهدٍ الأولى صرفهما في مجال آخر.

إنّ مُعظَم رواة الأحكام والأخبار، ومعظم الفُقهاء والمفسِّرين هم مِن الفُرس، ومنهم على سبيل المثال: مُجاهد، وعطاء بن أبي رياح، وعِكرِمة، وسعيد بن جُبَير.

ومُجاهد وعِكرمة مِمَّن يعتمد عليه البُخاري والشافعي، ويوثِّقه، ويأخذ بمرويّاته جُملة وتفصيلاً (2) .

ومنهم: الليث بن سعد تلميذ يزيد بن حبيب، والذي يُعتَبر مؤسّس المدرسة

____________________

(1) انظر في ذلك وَفَيَات الأعيان: 1/21، والكُنى والألقاب: 3/207، ومعجم المؤلِّفين: 12/115، ومقدَّمات الصِحاح السِتَّة في تراجم أصحابها.

(2) فجر الإِسلام: ص191، و204، ومُعجَم المؤلّفين: 1/59.

٩٦

العِلميّة الدينيّة بمصر، ويقول عنه الشافعي: الليث أفقه مِن مالك، إلاّ أنّ أصحابه لم يقوموا به، وهو فارسيٌّ مِن أهل أصفهان.

ومنهم: ربيعة الرأي شيخ الإِمام مالك، وهو ابن عبد الرحمان بن فروخ مِن أهل فارس، ومنهم: طاوس بن كيسان الفارسي، تَرجم له الشيرازي في طبقات الفقهاء، ومنهم: البَيهَقي صاحب السُنن، الذي قيل عنه: للشافعي فضل على كلّ أحد إلاّ البَيهَقي.

ومنهم: مكحول بن عبد الله، مولى بني ليث، ومحمّد بن سيرين مولى أنس ابن مالك، والحسن البصري الذي قيل عنه: إنّه أشبه الناس بِعُمر بن الخطّاب - على حَدِّ تعبير الشيرازي في الطبقات -.

ومنهم: الحاكم صاحب المستدرك، وعبد العزيز الماجشون الأصفهاني مولى بني تَميم، وعاصم بن عليّ بن عاصم مولى بني تيم، ومِن شيوخ البُخاري، وعبد الحق بن سيف الدين الدهلوي، صاحب مُقدّمة في مصطلح الحديث، وعبد الحكيم القندهاري، شارح البُخاري في حاشيته، وعبد الحميد الخسروشاهي، صاحب اختصار المذهب في الفقه الشافعي.

وعبد الرحمان رحيم، مولى بني أميّة، ومُحدِّث الشام على مذهب الأوزاعي، وعبد الرحمان العضد الإِيجي، صاحب كتاب المواقف، وعبد الرحمان الجامي، صاحب فصوص الحِكَم، وعبد الرحمان الكرماني، رئيس الأحناف بخراسان، وصاحب شرح التجريد، و شيخي زادة، صاحب كتاب مجمع الأنهار عبد الرحمان، و أحمد بن عامر المروزي، صاحب كتاب مُختصر المزني.

وسهل بن محمّد السجستاني، صاحب كتاب إعراب القرآن، و محمّد بن إدريس أبو حاتم الرازي، الذي يعدُّ بمستوى البُخاري، وأبو إسحاق الشيرازي صاحب كتاب التشبيه.

وعبد الله بن ذكوان أبو الزناد عالم المدينة بالفرائض والفقه، ومّمن روى عنه مالك والليث، وأحمد بن الحسين شهاب الدين الاصبهاني، صاحب كتاب غاية الاختصار، ويعقوب بن إسحاق النيسابوري، صاحب المسند الصحيح المخرج

٩٧

على كتاب مُسلِم بن الحجّاج، وأحمد بن عبد الله أبو نعيم،صاحب الحِلية، وابن خلكان، صاحب وَفَيَات الأعيان، وأحمد بن محمّد الثعلبي المُفَسِّر (1) .

ولو رِمتَ أن أمشي مَعك على هذا الخط، فَسَنصل إلى نِسَبٍ عاليةٍ جدّاً مِن الناحية الكمّيّة مِن نِسبَة العُلماء والمؤرِّخين والمفسِّرين مِن الفُرس، إنّ الفِكرَ السُنّي بكلِّ أبعاده مَدينٌ للفُرس، ومصبوغ بالفارسيّة، وحَتّى الإِمام محمّد بن عبد الوهّاب تربّى ونشأ وتَثقّف على أيدي الفُرس، وكانت تربيته وثقافته بين كردستان وهَمَدان، وأصفهان وقُم، كما نصَّ على ذلك جماعة (2) .

ومِن الجدير بالذكر، أنّ الألسِنة الطويلة والبذيئة والمتسرِّعة التي تفتري ما تشاء على الفِرق الإسلاميّة، وخصوصاً على الشيعة هي ألسِنَةٌ فارسيّة. وسأُقدِّم لك نموذجين مِن هذا الصِنف، الذي ليس على ضميره ولسانه رَقيب، وما عند قَلَمِهِ شُعور بالمسؤوليّة.

____________________

(1) انظر في تراجم هؤلاءِ مُعجم المؤلّفين لكحالة: 1/206، فجر الإِسلام: ص241، والكُنى والألقاب للقُمّي: 1/6 فصاعداً.

(2) زُعَماء الإِصلاح لأحمد أمين: ص10.

٩٨

نَموذَجَانِ مِن السُنَّةِ الفُرسِ

1 - الشهرستاني، محمّد بِن عَبدِ الكَريم، صاحب كِتاب المِلَل والنِحَل.

مِنْ أهلِ شَهرِستَان، وهي بليدة بين نيسابور وخُراسان.

إنّ هذا الرجل قد كتب عن الفِرَقِ الإسلاميّة، فَخَلَط وخَبَط خَبطَ عَشواء، وافترى ونَسبَ أُموراً بدون عِلمٍ وتَثبُّت حتّى شحن كتابه بزادٍ موبوء، وخَلَّف تَركة مِن الافتراء تأخذ مِنها الأقلام، والله تعالى سائله عن ذلك، وقبل أن أقدِّم لك نماذج مِن كتاباته أودُّ أن أذكر لك بعض آراء قومه فيه.

أ - الإِمام الرازي:

يقول في كتابه مُناظرات مع أهل ما وراء النهر: المسألة العاشرة - مُتحدِّثاً عن كتاب المِلَل والنِحَل - إنّه كتابٌ حَكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، إلاّ أنّه غير مُعتَمَد عليه؛ لأنّه نقل المذاهب الإسلاميّة مِن الكتاب المُسمّى بـ: الفَرْقُ بينَ الفِرَقِ، مِن تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الأُستاذ كان شديدَ التَعصُّبِ على المُخالفين، ولا يكاد يَنقُل مَذهَبَهم على الوجه الصحيح، ثمّ إنّ الشهرستاني نَقَلَ مَذاهب الفِرَقِ الإسلاميّة مِن ذلك الكتاب، فلهذا السبب وَقَعَ فيه الخَلل في نقل هذه المذاهب (1) .

____________________

(1) مُعجم البلدان: 3/ 377.

٩٩

هذا عن مدى توثيقه بالنقل، أمّا دينَهُ وصِدقهُ، فيقول فيه بعضُ قومه ما يلي:

ب - ياقوت الحموي في مُعجمه:

مادة شهرستان قال: ولولا تَخبُّطِه - أي الشهرستاني - في الاِعتقاد، وميلهِ إلى هذا الإِلحاد لكان الإِمام، وكثيراً ما كُنّا نَتعجَّب مِن وفور فَضله، وكمال عقله، كيف مال إلى شيءٍ لا أصل له، واختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً؟، ونعوذ بالله مِن الخُذلان والحِرمان مِن نور الإِيمان؛ وليس ذلك إلاّ لإِعراضه عن نورِ الشريعة، واشتغاله بظُلُمات الفلسفة، وقد حضرتُ عدةٍ مجالسَ مِن وَعْظِه، فلم يكن فيها قال الله، ولا قال رسول الله، ولا جواب مِن المسائل الشرعيّة، والله أعلم بحاله (1) .

وبعد تقييم الشهرستاني مِن قِبَلِ قومه، أذكر لك شيئاً مِمّا كَتَبَه عن الشيعة؛ لتعرف مدى صدقه ووثاقته.

يقول عن الإماميّة: إنّهم لم يَثبتوا في تعيين الأئمّة بعد الحسن والحسين وعليّ بن الحسين على رأي واحد، بل اختلافاتهم أكثر مِن اختلافات الفِرَقِ كُلّها إلى أن قال: إنّ الإِمام الصادق بريءٌ مِن خصائص مذاهب الرافضة وحماقاتهم مِن القول بالغَيبَة، والرجعة، والبِداء، والتناسخ، والحلول، والتشبيه، لكنّ الشيعة بعده - أي بعد الصادق (ع) - افترقوا، وانتحل كلُّ واحد مِنهم مذهباً (2) .

إنّ كلّ مَن له إلمام بتاريخ الإماميّة مِن الشيعة يعلم أنّهم لم يختلفوا في تَسلسل الأئمّة، ابتداءً مِن الإِمام عليٍّ (ع) حتّى الإِمام الثاني عشر محمّد بن الحسن (ع)، والإِماميّة على ذلك مُنذُ وُجِدوا. أمّا ما ذكره مِن أنّ الإِمام الصادق (ع) تَبرّأ مِن حماقات الشيعة، فهو مَحض افتراء، ولم يحدث قط، فإنّ أهل البيت أدرى بما فيه، ولو كان هنالك شيء مِن هذا القبيل لذكره غير الشهرستاني، أمّا ما تَفضَّل به على

____________________

(1) المناظرات للرازي: ص25 بتوسّط الإِمام الصادق: 5/48.

(2) المِلَل واللنِحَل، هامش الفصل: 1/193، وحَتّى: 2/3.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237