كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٦

كتاب شرح نهج البلاغة20%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 297

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 297 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31789 / تحميل: 5694
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

کتاب شرح نهج البلاغة

الجزء السادس عشر

ابن ابي الحديد

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما‌السلام ) للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

٢٩ و من كتاب له ع إلى أهل البصرة

وَ قَدْ كَانَ مِنِ اِنْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ اَلسَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ اَلْأُمُورُ اَلْمُرْدِيَةُ وَ سَفَهُ اَلآْرَاءِ اَلْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلاَفِي فَهَأَنَذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلُتْ رِكَابِي وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى اَلْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لاَ يَكُونُ يَوْمُ اَلْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ لاَعِقٍ مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي اَلطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ وَ لِذِي اَلنَّصِيحَةِ حَقَّهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لاَ نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ ما لم تغبوا عنه أي لم تسهوا عنه و لم تغفلوا يقال غبيت عن الشي‏ء أغبي غباوة إذا لم يفطن و غبي الشي‏ء علي كذلك إذا لم تعرفه و فلان غبي على فعيل أي قليل الفطنة و قد تغابى أي تغافل يقول لهم قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة

٣

و نشركم حبل الجماعة و شقاقكم لي ما لستم أغبياء عنه فغفرت و رفعت السيف و قبلت التوبة و الإنابة.و المدبر هاهنا الهارب و المقبل الذي لم يفر لكن جاءنا فاعتذر و تنصل.ثم قال فإن خطت بكم الأمور خطا فلان خطوة يخطو و هو مقدار ما بين القدمين فهذا لازم فإن عديته قلت أخطيت بفلان و خطوت به و هاهنا قد عداه بالباء.و المردية المهلكة و الجائرة العادلة عن الصواب و المنابذة مفاعلة من نبذت إليه عهده أي ألقيته و عدلت عن السلم إلى الحرب أو من نبذت زيدا أي أطرحته و لم أحفل به.قوله قربت جيادي أي أمرت بتقريب خيلي إلى لأركب و أسير إليكم.و رحلت ركابي الركاب الإبل و رحلتها شددت على ظهورها الرحل قال

رحلت سمية غدوة أجمالها

غضبى عليك فما تقول بدا لها

كلعقة لاعق مثل يضرب للشي‏ء الحقير التافه و يروى بضم اللام و هي ما تأخذه الملعقة.ثم عاد فقال مازجا الخشونة باللين مع أني عارف فضل ذي الطاعة منكم و حق ذي النصيحة و لو عاقبت لما عاقبت البري‏ء بالسقيم و لا أخذت الوفي بالناكث.خطب زياد بالبصرة الخطبة الغراء المشهورة و قال فيها و الله لآخذن البري‏ء بالسقيم و البر باللئيم و الوالد بالولد و الجار بالجار أو تستقيم إلي قناتكم فقام أبو بلال مرداس

٤

ابن أدية يهمس و هو حينئذ شيخ كبير فقال أيها الأمير أنبأنا الله بخلاف ما قلت و حكم بغير ما حكمت قال سبحانه( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏) فقال زياد يا أبا بلال إني لم أجهل ما علمت و لكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل خوضا.و في رواية الرياشي لآخذن الولي بالولي و المقيم بالظاعن و المقبل بالمدبر و الصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم.

٥

٣٠ و من كتاب له ع إلى معاوية

فَاتَّقِ اَللَّهَ فِيمَا لَدَيْكَ وَ اُنْظُرْ فِي حَقِّهِ عَلَيْكَ وَ اِرْجِعْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لاَ تُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ أَعْلاَماً وَاضِحَةً وَ سُبُلاً نَيِّرَةً وَ مَحَجَّةً نَهْجَةً وَ غَايَةً مُطَّلَبَةً يَرِدُهَا اَلْأَكْيَاسُ وَ يُخَالِفُهَا اَلْأَنْكَاسُ مَنْ نَكَبَ عَنْهَا جَارَ عَنِ اَلْحَقِّ وَ خَبَطَ فِي اَلتِّيهِ وَ غَيَّرَ اَللَّهُ نِعْمَتَهُ وَ أَحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ فَقَدْ بَيَّنَ اَللَّهُ لَكَ سَبِيلَكَ وَ حَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَى غَايَةِ خُسْرٍ وَ مَحَلَّةِ كُفْرٍ فَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْلَجَتْكَ شَرّاً وَ أَقْحَمَتْكَ غَيّاً وَ أَوْرَدَتْكَ اَلْمَهَالِكَ وَ أَوْعَرَتْ عَلَيْكَ اَلْمَسَالِكَ قوله و غاية مطلبة أي مساعفة لطالبها بما يطلبه تقول طلب فلان مني كذا فأطلبته أي أسعفت به قال الراوندي مطلبة بمعنى متطلبة يقال طلبت كذا و تطلبته و هذا ليس بشي‏ء و يخرج الكلام عن أن يكون له معنى.و الأكياس العقلاء و الأنكاس جمع نكس و هو الدني‏ء من الرجال و نكب عنها عدل.قوله و حيث تناهت بك أمورك الأولى ألا يكون هذا معطوفا و لا متصلا

٦

بقوله فقد بين الله لك سبيلك بل يكون كقولهم لمن يأمرونه بالوقوف حيث أنت أي قف حيث أنت فلا يذكرون الفعل و مثله قولهم مكانك أي قف مكانك.قوله فقد أجريت يقال فلان قد أجرى بكلامه إلى كذا أي الغاية التي يقصدها هي كذا مأخوذ من إجراء الخيل للمسابقة و كذلك قد أجرى بفعله إلى كذا أي انتهى به إلى كذا و يروى قد أوحلتك شرا أو أورطتك في الوحل و الغي ضد الرشاد.و أقحمتك غيا جعلتك مقتحما له.و أوعرت عليك المسالك جعلتها وعرة.وأول هذا الكتاب أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي و تستقبح موازرتي و تزعمني متحيرا و عن الحق مقصرا فسبحان الله كيف تستجيز الغيبة و تستحسن العضيهة أي لم أشاغب إلا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر و لم أتجبر إلا على باغ مارق أو ملحد منافق و لم آخذ في ذلك إلا بقول الله سبحانه( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ ) و أما التقصير في حق الله تعالى فمعاذ الله و إنما المقصر في حق الله جل ثناؤه من عطل الحقوق المؤكدة و ركن إلى الأهواء المبتدعة و أخلد إلى الضلالة المحيرة و من العجب أن تصف يا معاوية الإحسان و تخالف البرهان و تنكث الوثائق التي هي لله عز و جل طلبة و على عباده حجة مع نبذ الإسلام و تضييع الأحكام و طمس الأعلام

٧

و الجري في الهوى و التهوس في الردى فاتق الله فيما لديك و انظر في حقه عليك الفصل المذكور في الكتاب.و في الخطبة زيادات يسيرة لم يذكرها الرضيرحمه‌الله منها

و إن للناس جماعة يد الله عليها و غضب الله على من خالفها فنفسك نفسك قبل حلول رمسك فإنك إلى الله راجع و إلى حشره مهطع و سيبهظك كربه و يحل بك غمه في يوم لا يغني النادم ندمه و لا يبل من المعتذر عذره( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ )

٨

٣١ و من وصيته ع للحسن ع كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين

مِنَ اَلْوَالِدِ اَلْفَانِ اَلْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ اَلْمُدْبِرِ اَلْعُمُرِ اَلْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ اَلذَّامِّ لِلدُّنْيَا اَلسَّاكِنِ مَسَاكِنَ اَلْمَوْتَى اَلظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً إِلَى اَلْمَوْلُودِ اَلْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرِكُ اَلسَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ غَرَضِ اَلْأَسْقَامِ وَ رَهِينَةِ اَلْأَيَّامِ وَ رَمِيَّةِ اَلْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ اَلدُّنْيَا وَ تَاجِرِ اَلْغُرُورِ وَ غَرِيمِ اَلْمَنَايَا وَ أَسِيرِ اَلْمَوْتِ وَ حَلِيفِ اَلْهُمُومِ وَ قَرِينِ اَلْأَحْزَانِ وَ نُصُبِ اَلآْفَاتِ وَ صَرِيعِ اَلشَّهَوَاتِ وَ خَلِيفَةِ اَلْأَمْوَاتِ

ترجمة الحسن بن علي و ذكر بعض أخباره

قال الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش ولد الحسن بن علي ع للنصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة و سماه رسول الله ص حسنا و توفي لليال خلون من شهر ربيع الأول سنة خمسين.قال و المروي أن رسول الله ص سمى حسنا و حسينارضي‌الله‌عنه ما يوم سابعهما و اشتق اسم حسين من اسم حسن.

٩

قال و روى جعفر بن محمد ع أن فاطمة ع حلقت حسنا و حسينا يوم سابعهما و وزنت شعرهما فتصدقت بوزنه فضة

قال الزبير و روت زينب بنت أبي رافع قالت أتت فاطمة ع بابنيها إلى رسول الله ص في شكوه الذي توفي فيه فقالت يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئا فقال أما حسن فإن له هيبتي و سوددي و أما حسين فإن له جرأتي و جودي.و روى محمد بن حبيب في أماليه أن الحسن ع حج خمس عشرة حجة ماشيا تقاد الجنائب معه و خرج من ماله مرتين و قاسم الله عز و جل ثلاث مرات ماله حتى أنه كان يعطي نعلا و يمسك نعلا و يعطي خفا و يمسك خفا.وروى أبو جعفر محمد بن حبيب أيضا أن الحسن ع أعطى شاعرا فقال له رجل من جلسائه سبحان الله أ تعطي شاعرا يعصي الرحمن و يقول البهتان فقال يا عبد الله إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك و إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.و روى أبو جعفر قال قال ابن عباسرحمه‌الله أول ذل دخل على العرب موت الحسن ع.وروى أبو الحسن المدائني قال سقي الحسن ع السم أربع مرات فقال لقد سقيته مرارا فما شق علي مثل مشقته هذه المرة فقال له الحسين ع أخبرني من سقاك قال لتقتله قال نعم قال ما أنا بمخبرك إن يكن صاحبي الذي أظن فالله أشد نقمة و إلا فما أحب أن يقتل بي بري‏ء.

١٠

و روى أبو الحسن قال قال معاوية لابن عباس و لقيه بمكة يا عجبا من وفاة الحسن شرب علة بماء رومة فقضى نحبة فوجم ابن عباس فقال معاوية لا يحزنك الله و لا يسوءك فقال لا يسوءني ما أبقاك الله فأمر له بمائة ألف درهم.و روى أبو الحسن قال أول من نعى الحسن ع بالبصرة عبد الله بن سلمة نعاه لزياد فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفي فنعاه فبكى الناس و أبو بكرة يومئذ مريض فسمع الضجة فقال ما هذا فقالت امرأته ميسة بنت سخام الثقفية مات الحسن بن علي فالحمد لله الذي أراح الناس منه فقال اسكتي ويحك فقد أراحه الله من شر كثير و فقد الناس بموته خيرا كثيرا يرحم الله حسنا.قال أبو الحسن المدائني و كانت وفاته في سنة تسع و أربعين و كان مرضه أربعين يوما و كانت سنه سبعا و أربعين سنة دس إليه معاوية سما على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن و قال لها إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف و أزوجك يزيد ابني فلما مات وفى لها بالمال و لم يزوجها من يزيد قال أخشى أن تصنع بابني كما صنعت بابن رسول الله ص.وروى أبو جعفر محمد بن حبيب عن المسيب بن نجبة قال سمعت أمير المؤمنين ع يقول أنا أحدثكم عني و عن أهل بيتي أما عبد الله ابن أخي فصاحب لهو و سماح و أما الحسن فصاحب جفنة و خوان فتى من فتيان قريش و لو قد التقت حلقتا البطان لم يغن عنكم شيئا في الحرب و أما أنا و حسين فنحن منكم و أنتم منا

١١

قال أبو جعفر و روى ابن عباس قال دخل الحسن بن علي ع على معاوية بعد عام الجماعة و هو جالس في مجلس ضيق فجلس عند رجليه فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث ثم قال عجبا لعائشة تزعم أني في غير ما أنا أهله و أن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق ما لها و لهذا يغفر الله لها إنما كان ينازعني في هذا الأمر أبو هذا الجالس و قد استأثر الله به فقال الحسن أ و عجب ذلك يا معاوية قال إي و الله قال أ فلا أخبرك بما هو أعجب من هذا قال ما هو قال جلوسك في صدر المجلس و أنا عند رجليك فضحك معاوية و قال يا ابن أخي بلغني أن عليك دينا قال إن لعلي دينا قال كم هو قال مائة ألف فقال قد أمرنا لك بثلاثمائة ألف مائة منها لدينك و مائة تقسمها في أهل بيتك و مائة لخاصة نفسك فقم مكرما و اقبض صلتك فلما خرج الحسن ع قال يزيد بن معاوية لأبيه تالله ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به ثم أمرت له بثلاثمائة ألف قال يا بني إن الحق حقهم فمن أتاك منهم فاحث له وروى أبو جعفر محمد بن حبيب قال قال علي ع لقد تزوج الحسن و طلق حتى خفت أن يثير عداوة قال أبو جعفر و كان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة جلس إليها فقال أ يسرك أن أهب لك كذا و كذا فتقول له ما شاءت أو نعم فيقول هو لك فإذا قام أرسل إليها بالطلاق و بما سمى لها.و روى أبو الحسن المدائني قال تزوج الحسن بن علي ع هندا بنت سهيل ابن عمرو و كانت عند عبد الله بن عامر بن كريز فطلقها فكتب معاوية إلى أبي هريرة أن يخطبها على يزيد بن معاوية فلقيه الحسن ع فقال أين تريد قال أخطب هندا بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية قال الحسن ع

١٢

فاذكرني لها فأتاها أبو هريرة فأخبرها الخبر فقالت اختر لي فقال أختار لك الحسن فتزوجته فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن إن لي عند هند وديعة فدخل إليها و الحسن معه فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن عامر فرق لها رقة عظيمة فقال الحسن أ لا أنزل لك عنها فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني قال لا ثم قال لها وديعتي فأخرجت سفطين فيهما جوهر ففتحهما و أخذ من أحدهما قبضة و ترك الآخر عليها و كانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فكانت تقول سيدهم جميعا الحسن و أسخاهم ابن عامر و أحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب.و روى أبو الحسن المدائني قال تزوج الحسن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر و كان المنذر بن الزبير يهواها فأبلغ الحسن عنها شيئا فطلقها فخطبها المنذر فأبت أن تتزوجه و قالت شهر بي فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب فتزوجها فأبلغه المنذر عنها شيئا فطلقها فخطبها المنذر فقيل لها تزوجيه فقالت لا و الله ما أفعل و قد فعل بي ما قد فعل مرتين لا و الله لا يراني في منزله أبدا.و روى المدائني عن جويرية بن أسماء قال لما مات الحسن ع أخرجوا جنازته فحمل مروان بن الحكم سريره فقال له الحسين ع تحمل اليوم جنازته و كنت بالأمس تجرعه الغيظ قال مروان نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال.وروى المدائني عن يحيى بن زكريا عن هشام بن عروة قال قال الحسن عند وفاته ادفنوني عند قبر رسول الله ص إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر فلما أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم لا يدفن عثمان في حش كوكب و يدفن الحسن هاهنا

١٣

فاجتمع بنو هاشم و بنو أمية و أعان هؤلاء قوم و هؤلاء قوم و جاءوا بالسلاح فقال أبو هريرة لمروان أ تمنع الحسن أن يدفن في هذا الموضع وقد سمعت رسول الله ص يقول الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة قال مروان دعنا منك لقد ضاع حديث رسول الله ص إذ كان لا يحفظه غيرك و غير أبي سعيد الخدري و إنما أسلمت أيام خيبر قال أبو هريرة صدقت أسلمت أيام خيبر و لكنني لزمت رسول الله ص و لم أكن أفارقه و كنت أسأله و عنيت بذلك حتى علمت من أحب و من أبغض و من قرب و من أبعد و من أقر و من نفى و من لعن و من دعا له فلما رأت عائشة السلاح و الرجال و خافت أن يعظم الشر بينهم و تسفك الدماء قالت البيت بيتي و لا آذن لأحد أن يدفن فيه و أبى الحسين ع أن يدفنه إلا مع جده فقال له محمد بن الحنفية يا أخي إنه لو أوصى أن ندفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك و لكنه قد استثنى و قال إلا أن تخافوا الشر فأي شر يرى أشد مما نحن فيه فدفنوه في البقيع.قال أبو الحسن المدائني وصل نعي الحسن ع إلى البصرة في يومين و ليلتين فقال الجارود بن أبي سبرة:

إذا كان شر سار يوما و ليلة

و إن كان خير أخر السير أربعا

إذا ما بريد الشر أقبل نحونا

بإحدى الدواهي الربد سار و أسرعا

و روى أبو الحسن المدائني قال خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة و صلح الحسن ع له فأرسل معاوية إلى الحسن ع يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج فقال الحسن سبحان الله تركت قتالك و هو لي حلال لصلاح الأمة و ألفتهم أ فتراني أقاتل معك فخطب معاوية أهل الكوفة فقال يا أهل الكوفة

١٤

أ تروني قاتلتكم على الصلاة و الزكاة و الحج و قد علمت أنكم تصلون و تزكون و تحجون و لكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم و على رقابكم و قد آتاني الله ذلك و أنتم كارهون ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول و كل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين و لا يصلح الناس إلا ثلاث إخراج العطاء عند محله و إقفال الجنود لوقتها و غزو العدو في داره فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم ثم نزل.

قال المدائني فقال المسيب بن نجبة للحسن ع ما ينقضي عجبي منك بايعت معاوية و معك أربعون ألفا و لم تأخذ لنفسك وثيقة و عقدا ظاهرا أعطاك أمرا فيما بينك و بينه ثم قال ما قد سمعت و الله ما أراد بها غيرك قال فما ترى قال أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه فقد نقض ما كان بينه و بينك فقال يا مسيب إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء و لا أثبت عند الحرب مني و لكني أردت صلاحكم و كف بعضكم عن بعض فارضوا بقدر الله و قضائه حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر.قال المدائني و دخل عبيدة بن عمرو الكندي على الحسن ع و كان ضرب على وجهه ضربة و هو مع قيس بن سعد بن عبادة فقال ما الذي أرى بوجهك قال أصابني مع قيس فالتفت حجر بن عدي إلى الحسن فقال لوددت أنك كنت مت قبل هذا اليوم و لم يكن ما كان إنا رجعنا راغمين بما كرهنا و رجعوا مسرورين بما أحبوا فتغير وجه الحسن و غمز الحسين ع حجرا فسكت فقال الحسن ع يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب و لا رأيه كرأيك و ما فعلت إلا إبقاء عليك و الله كل يوم في شأن.

١٥

قال المدائني و دخل عليه سفيان بن أبي ليلى النهدي فقال له السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال الحسن اجلس يرحمك الله إن رسول الله ص رفع له ملك بني أمية فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له( وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ ) و سمعت عليا أبيرحمه‌الله يقول سيلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم كبير البطن فسألته من هو فقال معاوية و قال لي إن القرآن قد نطق بملك بني أمية و مدتهم قال تعالى( لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) قال أبي هذه ملك بني أمية.

قال المدائني فلما كان عام الصلح أقام الحسن ع بالكوفة أياما ثم تجهز للشخوص إلى المدينة فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري و ظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه فقال الحسن : الحمد لله الغالب على أمره لو أجمع الخلق جميعا على ألا يكون ما هو كائن ما استطاعوا فقال أخوه الحسين ع : لقد كنت كارها لما كان طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي أخي فأطعته و كأنما يجذ أنفي بالمواسي فقال المسيب إنه و الله ما يكبر علينا هذا الأمر إلا أن تضاموا و تنتقصوا فأما نحن فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه فقال الحسين يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا فقال الحسن ع سمعت أبي يقول سمعت رسول الله ص يقول من أحب قوما كان معهم فعرض له المسيب و ظبيان بالرجوع فقال ليس لي إلى ذلك سبيل فلما كان من غد خرج فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة و قال:

و لا عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي و ذماري

١٦

ثم سار إلى المدينة.قال المدائني فقال معاوية يومئذ للوليد بن عقبة بن أبي معيط بعد شخوص الحسن ع يا أبا وهب هل رمت قال نعم و سموت.قال المدائني أراد معاوية قول الوليد بن عقبة يحرضه على الطلب بدم عثمان:

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فإنك من أخي ثقة مليم

قطعت الدهر كالسدم المعنى

تهدر في دمشق و لا تريم

فلو كنت القتيل و كان حيا

لشمر لا ألف و لا سئوم

و إنك و الكتاب إلى علي

كدابغة و قد حلم الأديم

وروى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن زيد بن أسلم قال دخل رجل على الحسن ع بالمدينة و في يده صحيفة فقال له الرجل ما هذه قال هذا كتاب معاوية يتوعد فيه على أمر كذا فقال الرجل لقد كنت على النصف فما فعلت فقال له الحسن ع أجل و لكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون ألفا تشخب أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه.قال أبو الحسن و كان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول و الله ما وفى معاوية للحسن بشي‏ء مما أعطاه قتل حجرا و أصحاب حجر و بايع لابنه يزيد و سم الحسن.

١٧

قال المدائني و روى أبو الطفيل قال قال الحسن ع لمولى له أ تعرف معاوية بن خديج قال نعم قال إذا رأيته فأعلمني فرآه خارجا من دار عمرو ابن حريث فقال هو هذا فدعاه فقال له أنت الشاتم عليا عند ابن آكلة الأكباد أما و الله لئن وردت الحوض و لم ترده لترينه مشمرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه يذود عنه المنافقين قال أبو الحسن و روى هذا الخبر أيضا قيس بن الربيع عن بدر بن الخليل عن مولى الحسن ع.

قال أبو الحسن و حدثنا سليمان بن أيوب عن الأسود بن قيس العبدي إن الحسن ع لقي يوما حبيب بن مسلمة فقال له يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله فقال أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال بلى و الله و لكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك و لو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كان ذلك كما قال عز و جل( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً ) و لكنك كما قال سبحانه( كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ )

قال أبو الحسن طلب زياد رجلا من أصحاب الحسن ممن كان في كتاب الأمان فكتب إليه الحسن من الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا و قد ذكر لي فلان أنك تعرضت له فأحب ألا تعرض له إلا بخير و السلام.

١٨

فلما أتاه الكتاب و ذلك بعد ادعاء معاوية إياه غضب حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان فكتب إليه من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك و شيعة أبيك و ايم الله لأطلبنه بين جلدك و لحمك و إن أحب الناس إلي لحما أن آكله للحم أنت منه و السلام.فلما قرأ الحسن ع الكتاب بعث به إلى معاوية فلما قرأه غضب و كتب من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد أما بعد فإن لك رأيين رأيا من أبي سفيان و رأيا من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم و حزم و أما رأيك من سمية فما يكون من مثلها إن الحسن بن علي ع كتب إلي بأنك عرضت لصاحبه فلا تعرض له فإني لم أجعل لك عليه سبيلا و إن الحسن ليس ممن يرمى به الرجوان و العجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أو إلى أمه فالآن حين اخترت له و السلام.قلت جرى في مجلس بعض الأكابر و أنا حاضر القول في أن عليا ع شرف بفاطمة ع فقال إنسان كان حاضر المجلس بل فاطمة ع شرفت به و خاض الحاضرون في ذلك بعد إنكارهم تلك اللفظة و سألني صاحب المجلس أن أذكر ما عندي في المعنى و أن أوضح أيما أفضل علي أم فاطمة فقلت أما أيهما أفضل فإن أريد بالأفضل الأجمع للمناقب التي تتفاضل بها الناس نحو العلم و الشجاعة و نحو ذلك فعلي أفضل و إن أريد بالأفضل الأرفع منزلة عند الله فالذي

١٩

استقر عليه رأي المتأخرين من أصحابنا أن عليا أرفع المسلمين كافة عند الله تعالى بعد رسول الله ص من الذكور و الإناث و فاطمة امرأة من المسلمين و إن كانت سيدة نساء العالمين و يدل على ذلك أنه قد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بحديث الطائر و فاطمة من الخلق و أحب الخلق إليه سبحانه أعظمهم ثوابا يوم القيامة على ما فسره المحققون من أهل الكلام و إن أريد بالأفضل الأشرف نسبا ففاطمة أفضل لأن أباها سيد ولد آدم من الأولين و الآخرين فليس في آباء علي ع مثله و لا مقارنه و إن أريد بالأفضل من كان رسول الله ص أشد عليه حنوا و أمس به رحما ففاطمة أفضل لأنها ابنته و كان شديد الحب لها و الحنو عليها جدا و هي أقرب إليه نسبا من ابن العم لا شبهة في ذلك.فأما القول في أن عليا شرف بها أو شرفت به فإن عليا ع كانت أسباب شرفه و تميزه على الناس متنوعة فمنها ما هو متعلق بفاطمة ع و منها ما هو متعلق بأبيها ص و منها ما هو مستقل بنفسه.فأما الذي هو مستقل بنفسه فنحو شجاعته و عفته و حلمه و قناعته و سجاحة أخلاقه و سماحة نفسه و أما الذي هو متعلق برسول الله ص فنحو علمه و دينه و زهده و عبادته و سبقه إلى الإسلام و إخباره بالغيوب.و أما الذي يتعلق بفاطمة ع فنكاحه لها حتى صار بينه و بين رسول الله ص الصهر المضاف إلى النسب و السبب و حتى إن ذريته منها صارت ذرية لرسول الله ص و أجزاء من ذاته ع و ذلك لأن الولد إنما يكون من مني الرجل و دم المرأة و هما جزءان من ذاتي الأب و الأم ثم هكذا أبدا في ولد الولد و من بعده من البطون دائما فهذا هو القول في شرف علي ع بفاطمة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وهذا مردود؛ حيث إنه من الواضح أن فاعل العزم هو الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والظهور العرفي (1) شاهد على أن المراد هو تصميم نفس فاعل العزم؛ أي بعد أن نظرتَ أنت إلى هذه الأقوال المختلفة والآراء المتضادة، فاختر منها ما شئت، واستصوب منها ما تراه مناسباً واعزم.

ويؤيد ذلك ما ورد في الأمر بالتوكل على اللَّه وعدم خشية الآخرين؛ أي أن مورد العزم قد يكون على خلاف ما عليه أراء الأكثرية؛ فتوكَّلْ على اللَّه فيما عزمت مهما كان ذلك، وإن كان على خلاف ما يرونه. وواضح أن الآيات الكريمة وردت في غزوة أُحد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلَّف البعض الأخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنِّهم باللَّه بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا كله يدلُّ على أن الرأي هو ما اختاره الرسول الأكرم وما عزم عليه، بغض النظر أنه وافق الأكثرية أم لا.

مضافاً إلى أن الرسول الأكرم هو القسطاس المستقيم ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) ، والجادة الواضحة، والذي يجب أن يتبعه الآخرون. وقد أمره اللَّه عزَّوجل ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يُتصوَّر بمَن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام أنه ملزَم بأن يتَّبع رأي الأكثرية والأغلبية وإن كان رأيها على خطأ.

____________________

(1) بقرينة ما قدمناه مفصَّلا؛ مثل: العفو عنهم والاستغفار لهم الدال على خطئهم مثل قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) فهذه شهادة من الله تعالى بخطأهم في كثير من الموارد، وكذا لينه لهم المذكور في الآية الدال على مقام المربي لمَن تحت يده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغيرها من القرائن فراجع، مع أن المعنى على إدعاء صاحب تفسير المنار مؤدَّاه لزوم طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله لِمَا يريدوه، وهو باطل. وكلٌّ لِمَا ذكرناه من أن الشورى، معنى ومادة، عنوان للفعل الفكري للنفس، وهم يجعلونه عنواناً للفعل العملي للنفس كالإرادة والسلطة والقدرة، فيتناقض عندهم الكلام.

١٨١

الخلاصة:

إن لفظ الشورى مشتق من تشاور واشتور، والإشارة والمشورة هي إراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأرى رأيه، وشرت العسل أشوره جنيته، وأشار بيده إشارة أي لوح بشي‏ء يفهم من النطق.

فمادة الشورى تعطي معنى الاستفادة من الخبرات والعقول الأخرى؛ لكي يكون العزم على بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن أعقل الناس مَن جمع عقول الناس إلى عقله، وأعلم الناس مَن جمع علوم الناس على علمه، فهي توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الأذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللُّغويون: إنها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.

إن استبداد الإنسان برأيه يؤدِّي به إلى الجهالة، سواء كان الأمر بيده وحده أم لا، كما هو الحال في سلطة الإنسان على أمواله إذا أراد أن يقدم على بيع أو عقد معاملي، بخلاف ما إذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط: سلطة المشير على المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير، وإنما يعني اعتماد الوالي على منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة، وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الإشارة والمشورة والاستشارة والشورى؛ أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع، بل الفصل والنقض والإبرام والترجيح بين وجهات النظر يكون للولي على الشي‏ء بعد اطلاعه على الآراء المختلفة، كما هو دارج قديماً وحديثاً في

١٨٢

الزعامات الوضعية البشرية؛ حيث تعتمد على لجان وخبرات (مستشارين) (1) في كل حقل ومجال، مع عدم إفادة ذلك - لدى المدرسة العقلية البشرية - ولايةً لأفرادِ تلك اللجان يشاركون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عدَّ الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة، بل أفضلها، والاستخارة هي طلب الخير، لا تولية المشيرين مع المستشير، فلا يُتوهَّم أن فتح باب الاستشارة والشورى في الرأي، إن لم يكن بمعنى التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، فهو لغو؛ إذ أي فائدة أبلغ وأتم من استكشاف الوالي واقع الأشياء وحقائق الأمور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم إلى علمه؟ فإن ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي كولاية الفرد على أمواله أم على الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص على المجتمع.

من هنا فإن مجيء مادة المشورة في ‏قوله تعالى، يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البتُّ فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الأخرى. أمَّا مَن يكون له الرأي النهائي، فليست الآية في ‏صدده؛ لاختلاف ذلك التعبير مع ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى ) حيث إن اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالى: ( وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الأصعدة المختلفة.

وممَّا يعزِّز ما تقدم، قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) فإنه تعالى ندب إلى التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل، مع أن

____________________

(1) كالمستشارين العسكريين والماليين والسياسيين والاجتماعيين وغيرهم.

١٨٣

ولاية الرضاعة ذات الأجرة بيد الزوج فقط، وإن كانت الحضانة في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) ففيه ندبة من اللَّه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والاستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه‏(صلَّى الله عليه وآله ) (والعياذ باللَّه)؛ إذ ذيل الآية صرّح بأن العزم على الفعل مخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل إن الأمر بالتوكُّل فيه إشعار بنفوذ عزمه وحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن خالف آراءهم؛ ولذلك ذكر أكثر المفسِّرين وجوهاً في أمره بالمشاورة:

الأوَّل: أن ذلك لتطييب أنفسهم والتألُّف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: أن يُقتدى به في المشاورة، كي لا تُعد نقيصة، وليتميَّز الناصح من الغاش كتشاوره صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل واقعة بدر - الكبرى والصغرى - وغيرها من‏ الوقائع.

الثالث: لتشجيعهم وتحفيزهم على الأدوار المختلفة، والتسابق إلى الخيرات والأعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكي يتعرَّفوا على حكمة قرارات الرسول وأفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد على كون الشورى ملزمة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بدعوى أن رأيه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه على الخروج، ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج إلى جبل أُحد. وقدمنا مفصَّلاً خطأ هذا الاعتقاد.

وممَّا يستأنس لكون معنى الشورى بمعنى المشورة والاستشارة، لا تحكيم السلطة الجماعية، أن الآية مكية ولم يكن ثمَّة كيان سياسي للمسلمين، بل إن ظاهر

١٨٤

الآية - حين نزولها - ترغيب المؤمنين في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله المطلقة؟ ولذلك ترى أن كثيراً من مفسِّري العامة فسروا الآية بمعنى الاستشارة واستخراج الرأي، لا تحكيم السلطة الجماعية.

مناقشة الاستدلال على نظرية التلفيق بين النص والشورى

قام بعض المفكِّرين بمحاولة الجمع بين أدلة التعيين والنصب - ككثير من الآيات القرآنية الدالة على أن الإمامة عهد وجعل إلهي، وأن المنصوب هو علي‏ عليه‌السلام وذرِّيته - وبين ما يُزعم من مفاد آية الشورى ودلالتها على أن السلطة للأمة، بأنَّ مورد الأدلة الأولى هو مع وجود المعصوم‏ عليه‌السلام وتقلُّده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده عليه‌السلام كما في زمن الغيبة. وهذا الرأي مردود؛ لأنه إن جُعل المدار لسلطة الأمة والشورى، وعدم تَقلُّد المعصوم الزعامة بالفعل، فذلك يعني شرعية سلطة الأمة في الفترة التي كان فيها علي‏ عليه‌السلام مُبعداً عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن‏ عليه‌السلام إلى عصر الغيبة؛ حيث إنهم عليهم‌السلام ‏لم يكونوا متقلِّدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص و جعل المدار على وجودهم عليهم‌السلام ‏وإن لم يتقلَّدوا زمام الأمور و

الحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الأرض (اللَّهُم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحججه، إمَّا ظاهر مشهور أو خائفاً مغمور، لكي لا تبطل حجج اللَّه وبيِّناته) (1) .

____________________

(1) رواه الصدوق في الإكمال بأسانيد مستفيضة عن كميل عن عليٍّ عليه‌السلام ، وأسانيد أخرى في الخصال والأمالي، والحديث موجود في النهج وتحف العقول وكتاب الغارات،بل هذا المضمون روي في أحاديث متواترة في أكثر كتبنا الروائية.

١٨٥

ولا فرق بين حضور الإمام وغيبته بعد كون عدم تقلُّده زمام الأمور بالفعل غير مؤثِّر في كونه إماماً بالفعل - بما للإمامة من عهد إلهيٍّ معهود ذا شؤون عظيمة بالغة - كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين: (الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا) فقعودهما عليهما‌السلام ‏بسبب جور الأمة لا يفقدهما الجعل الإلهي والخلافة الإلهية على الأمة.

وهل من الإمكان إبداء الاحتمال أنه(عج) في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الإلهي؟! إذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين. ومن هنا كان تمسُّك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبرى بنصبه لهم نوَّاباً في قوله المروي مسنداً في غيبة الشيخ الطوسي: (وأمَّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه) فقوله‏ عليه‌السلام : (فإنهم حجتي عليكم) استنابة منه‏ عليه‌السلام للفقهاء.

وهل يُتعقَّل أن يكون للَّه حجتان بالأصل في عرض واحد بالفعل؛ بأن يكون الحجة(عج) في غيبته حجة بالأصل، ومُنْتَخَب الأمة حجة أخرى بالأصل، ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه؟! ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية - على ضوء مبدأ النص والتعيين - على القول أن ولاية الفقيه مستمدة، في الغيبة، منه‏(عليه السلام وعجَّل اللَّه فرجه الشريف)، لا أنها للفقيه بالأصالة مع خلعه‏ عليه‌السلام عن ذلك المنصب.

هذا؛ ولا يغفل عن أن سبب عدم تقلُّده(عج) زمام الأمور والحكم وعدم الظهور، هو المذكور في قوله‏ عليه‌السلام : (لو كنتم على اجتماع من أمركم؛ لعُجِّل لكم الفرج) ولذلك قال السيد المرتضى والخواجة وغيرهما أن سبب غيبته منَّا نحن.

نعم، إذا أمكن أن تخلو الأرض من الحجة المعصوم، وأن يتْرُك اللَّه البشر وحالهم مع قوانين دينه على ‏أوراق، وتكون - والعياذ باللَّه تعالى - يد اللَّه مغلولة، أمكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الأدلة.

ومن الطريف أن الدعوى المزبورة تُذعن في طيَّاتها بشروط المرشَّح بالانتخاب؛

١٨٦

من الفقاهة والكفاءة والأمانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس إلى غير ذلك من الشروط التي لا تتوفَّر بنحو الإطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه إلاّ في المعصوم عليه‌السلام ، وكأن ذلك أوْبٌ إلى النص مرة أخرى؛ إذ الاشتراط في جذوره تعيين.

نعم، نصبه(عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استُفيد من قوله: (فارجعوا) الإيكال للأمة في اختيار أحد مصاديق النائب العام ‏الجامع للشرائط، ولا يعني ذلك أن النصب بالأصالة من الأمة بالذات، بل منه(عج) بالأصالة ومن الأمة بتبع إيكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والإفتاء عند التساوي في الأوصاف.

ولا يُتوهَّم أن تولية الأمة ذلك يلزمه إمكان توليتها السلطة على نفسها بالأصالة من اللَّه تعالى في اختيار خليفة اللَّه في أرضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق؛ حيث إنه لابدَّ من العصمة في قمة الهرم الإداري للمجتمع دون بقيَّة درجات ذلك الهرم، إذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.

كما لا يُتوهَّم أنه حيث لابدَّ للناس من أمير برّ أو فاجر تدار به رحى إدارة النظام الاجتماعي البشري، وهذه اللَّابدَّية والضرورة العقلية التي نبَّه عليها علي‏ عليه‌السلام في النهج تقتضي تنصيب الأمير على الناس بالذات بالأصالة؛ من دون حديث النيابة عن المعصوم.

ووجه اندفاع التوهُّم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم. أمَّا شرائط كونه أمير برّ لا فاجر، فهو كون إمارته من تشريع اللَّه تعالى وإذنه؛ إذ الولاية للَّه تعالى الحق، والإمارة تجري على يد الفرد البشري المخوَّل منه تعالى في ذلك؛ ولذلك ترى أن عدة من الفقهاء(قدس سرُّهم‏ا) استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن إذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار أنهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة

١٨٧

في كلماتهم.

وبذلك ننتهي إلى أن الآية هي في صدد الإشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين؛ وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الأفق. وأما أين هي منطقة السلطة الجماعية؟ وأين هي منطقة السلطة الفردية؟ ومَن هو منهم؟ فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات، وهو اللَّه تعالى، ومن ثُمَّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه المعصومين، بالوقوف على حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالاً في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز على‏ هذه الجهة في الآية: أن مادة الشورى هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول، وفرق بين استطلاع رأي الآخرين وبين جمع إرادة الآخرين؛ فالأول هو موازنة بين الأفكار والآراء من المستطلِع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن إغفال التباين الماهوي بين الفكر والإرادة، وأن الشركة في الأول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الآية هي في اعتماد التلاقح الفكري في إعداد الفكرة. أما مرحلة البتّ والعزم والإرادة، فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد إضافة الأمر إلى ضمير الجماعة، لا يعني كونها في المقام الثاني، بعد كون مادة المشورة صريحة في المقام الأول، بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخصُّ وتتعلق بمجموعهم، هذا لو جمدْنا على استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (أمرهم)، ولم نستظهر معنى الشأن من الأمر - كما استظهره كثير من المفسِّرين - أي بمعنى: شأنهم وعادتهم ودأبهم على عدم الاستبداد بالرأي في الولاية والأمر بالمعروف، واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.

ونكتة الإضافة إلى ضمير الجماعة هي وحدة سَوق الأفعال في الآيات كما في:

١٨٨

( وَأَقِيمُوا الْصَّلاَةَ ) ( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ ) . وأمَّا لفظة (بينهم)، فهي ظرف لغوٍ متعلق بمادة الشورى؛ لكونها مداولة بين الآراء ومفاوضة لا تقلُّ عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيٌّ وفيما بينهم.

بعد هذا الاستعراض المطوَّل للطائفة الأولى من أدلة نظرية الشورى بالمعنى المصطلح؛ وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشورى والاستشارة، توصَّلنا إلى نتيجة: أن مفاد الشورى هو بيان منهج عقلائي؛ وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الآخرين، وأن لا يكون إقدام على مهام الأمور إلاّ بعد المداولة الفكرية، وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة، بل تبقى السلطة لذلك الفرد الذي يقوم بغربلة هذه الآراء واختيار الأصح منها والأوفق مع ما عليه قواعد الدين. وهذا المنهج أصبح ألان منهجاً حضارياً مُتَّبعاً، بعيداً عن الدكتاتورية المطلقة والاستبداد بالرأي الواحد.

ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف

وقد ورد ذلك في آيتين:

أ - قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) .

إن الظاهر من الآية الكريمة إسناد الولاية إلى الكل، فالمولى هو الكل، والمولى عليه كذلك؛ فهي ولاية الكل على الكل، وهذا يعني أن أمر الأمة بيدهم، وهذه الولاية تعمُّ ولاية النصرة (2) وولاية الأخوة والمودة. والأمر بالمعروف معنى عام شامل

____________________

(1) التوبة 71: 9.

(2) المنار، ج10، ص542 و105.

١٨٩

(ويذهب محمد رشيد رضا إلى أن الولاية معنى عام يشمل كلَّ معنى يحتمله، ولا يختص بأمر دون آخر) ويدخل في هذا السياق جميع الآيات الواردة فيها معنى الولاية كما في الأنفال 8 / 73.

ب - ( وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

فهو أمر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفَّة الأمور؛ حيث إن الأمر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الإسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولى مُثبِت لنحو من الولاية من الآمر والناهي على الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوى المستلزمة للضرب أو المنع الخارجي بالقوة؟

وبتقريب آخر: أن الأمر بالمعروف له صورتان:

أحدهما: صِرف الأمر والنهي الإنشائي والقولي.

  والأخر: أن يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر.

فإن كان الأمر الأول، فلا خصوصية فيه حتّى تختص به طائفة معينة، بل هو عام شامل لجميع المسلمين، فلابدَّ أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية، وحينئذ يُتعقَّل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الأمر، بل إن محمد رشيد رضا (2)يرى أن هذه الآية في دلالتها على كون الشورى أصل الحكم في الإسلام أقوى من دلالة آيتي الشورى.

وفي كل ما ذُكر نظر؛ بيان ذلك:

1 - مادة (أولياء) و(ولي) ورد استعمالها في القران في موارد كثيرة جداً (3)

____________________

(1) آل عمران 3: 104.

(2) المنار، ج4، 45.

(3) راجع: معجم ألفاظ القرآن الكريم، ج2، 840.

١٩٠

واختلفت معانيها تبعاً لموارد استخدامها، ويمكن من خلال نظرة عامة إلى تلك الموارد القول: إنّ أكثر مواردها التي بصيغة الجمع كان معناها النصرة والمحبة. والمراد من هذه الآية هو ذلك بقرينة نفس الآيات المحيطة بهذه الآية، فإنها قد وردت ضمن آيات يقارِن فيها الحقُ تعالى بين فئتين من الناس؛ هم المنافقون والمؤمنون، ومورد هذه المقارنة في غزوة تبوك (1) حيث تخلَّفوا عنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله واستهزؤوا به، فذكر ابتداءً وصف المنافقين؛ بأنّ بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويستمر في ذكر صفاتهم وبُعدهم عن الحق تعالى والعذاب في الآخرة. وفي قبال هذه الفئة يقف المؤمنون، وهم كالبنيان المرصوص في توادِّهم وتناصرهم وتحابِّهم، ويذكر صفاتهم التي هي على طرف النقيض من المنافقين، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعندما يقال: المؤمن ولي المؤمن. معناه: أنه ينصر أولياء اللَّه وينصر دينه، واللَّه وليه بمعنى: أولى بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه.

وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم؛ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة اللَّه ورسوله، والنتيجة الأخروية، وهي رحمة اللَّه تعالى والوعد بالجنة، وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.

فالمنافقون يأمرون بالمنكر، والمؤمنون يأمرون بالمعروف.

والمنافقون ينهون عن المعروف، والمؤمنون ينهون عن المنكر.

والمنافقون يقبضون أيديهم، والمؤمنون يؤتون الزكاة.

والمنافقون نسوا اللَّه فنسيهم، والمؤمنون يطيعون اللَّه ورسوله وسيرحمهم اللَّه.

والمنافقون وعدهم نار جهنم، والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها

____________________

(1) البيان في تفسير القرآن، ج5، 257.

١٩١

الأنهار.

فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء، والمؤمنون ينصر بعضهم بعصاً ولهم نفس الوصف والجزاء.

فالآية الكريمة غير ناظرة إلى الولاية بمعنى الحكم وإدارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.

وممَّا يدل على ما ذكرناه أيضاً أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أعمال فردية، وليست متفرِّعة عن ولاية البعض على البعض. مضافاً إلى أن ذيل الآية: ويطيعون اللَّه ورسوله، فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة على مجموع الأمة، فكيف يلتئم مع الحثِّ على طاعة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وانصياعهم ومتابعتهم؟

2 - أمَّا الآية الثانية، فإن غاية ما تدل عليه أن الأمة يجب عليها تشكيل مثْل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الأمة، بل السلطة تكون من قبل اللَّه تعالى، وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الأمة، وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل اللَّه تعالى، وعلى المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.

وبتعبير آخر: أن الآية تبيِّن الدور الذي يجب أن تقوم به الأمة في مجال الحكومة، وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة، لا أن التشريع والقدرة هو بيد الأمة، فالآية لا تتعرض لهذا المقام، بل تذكر ما هو تكليف الأمة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.

3 - أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل مَن تشاء وتسلِّطه على نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذة بزمام الأمور أنها داعية إلى الخير كل الخير؛ لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف؛ لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر؛ لذلك أيضاً، بما فيه المنكر الاعتقادي أو الاقتصادي أو المالي أو

١٩٢

الاجتماعي في كل المجالات والشؤون؟ ومن الظاهر أن الداعي إلى كل سبل الخير والآمر بكل معروف، دقَّ أو جلَّ وعظُم، وتوقُّفه، خبر بماهية المنكر، وحائز على العصمة العملية، كي لا يتوانى عن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، لا تأخذ في اللَّه لومة لائم، ولا يعدل به هوى عن ذلك؛ فتنحصر وظيفتهم - أي الأمة - في التكوين والرجوع الخارجي إلى تلك الجماعة غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

4 - أن الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسِّرة وحاكمة في الدلالة، ومبينة للفئة الخاصة التي يجب على الأمة الرجوع إليها وتمكينها خارجاً.

5 - أن في الآية احتمالاً آخر؛ وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف، بل العلم قيد واجب فيه؛ وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف؛ نظير: وجوب الحج الكفائي - غير المشروط - على كل المسلمين في كل سنة؛ أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت، وهو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشورط بالاستطاعة.

ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة، فالجاهل لا يتأتى منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب، وبضميمة أن التعلُّم لجميع الأحكام، أو غالباً غير ما يبتلى به نفس المكلف، واجب كفائي، فهذا يعني أن الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلُّم المزبور، فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن المحتمل أن تكون الآية الكريمة بصدد الإشارة إلى ضرورة حصول ذلك التوجه لدى فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة؛ نظير: الوجوب الكفائي، لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة؛ لئلاّ يخلو بيت اللَّه الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلاّ يعطّل.

وبتعبير آخر: أننا تارة ننظر إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى إقامة

١٩٣

العدل والحدود وحفظ النظام الذي هو وظيفة الدولة، وتارة ننظر إليه بنحو شامل وعام لجميع الأفراد، والآية ناظرة إلى الثاني؛ والدليل على ذلك هو ما سبق الآية من قوله تعالى: ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) وهذه كلها ناظرة إلى تكاليف اجتماعية يقوم بها أفراد المجتمع، ويتوجَّب على المجتمع إقامتها والعمل على إيجادها خارجاً، وأن الآية ليست في صدد بيان واجبات الدولة اتجاه المجتمع.

وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله‏ عليه‌السلام : (إنما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العالم). فوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الاحتمال وجوب كفائي؛ وهو واجب على الأمة بنحو الكفاية.

ثالثاً: آيات البيعة

1 - ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

2 - ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (2) .

تقريب الاستدلال:

ينطلق المُستدِل من المعنى اللغوي للبيعة؛ فالبيعة: الصفقة على إيجاب البيع، وبايعته من البيع، والمبايعة: عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع

____________________

(1) الفتح 48: 10.

(2) الممتحنة 60:12.

١٩٤

ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه (1) .

فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري، ونقل الولاية على هذه العين للمشتري، ولا يصح البيع إلاّ ممَّن له الولاية والصلاحية للتصرُّف في المبيع. والبيعة هي إنشاء ولاية من المبايِع للمبايَع على نفسه، وإسناد هذه المبايعة للأمة يدل على أن الولاية هي للأمة، وهي تنقلها إلى الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو للمعصوم في نظرية النص.

وقد استدل من الروايات:

ـ عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال: (ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة) (2) . وقال العلامة المجلسي: نكث الصفقة نقض البيعة، وإنما سُمِّيت البيعة صفقة؛ لأن المتبايعَين يضع أحدهما يده في يد الأخر عندها. ويؤيِّد ما مضى السبر التأريخي؛ حيث نرى الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الأولى والثانية، وبيعة الإمام علي وأبنيه الحسن والحسين عليهم‌السلام ، ومبايعة الإمام الرضا عليه‌السلام ، وما ورد في مبايعة الإمام المهدي(عجل اللَّه تعالى فرجه) (3) .

وتقريب الاستدلال بالروايات:

1 - نفس المعنى اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وإنشاء ولاية، فالطاعة وإنشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته/ الفصل الثالث/ فصل 29: أن

____________________

(1) لسان العرب، ج8، ص26؛ مادة: بيع.

(2) بحار الأنوار، ج2، ب32، ح26.

(3) سيرة ابن هشام، ج2، ص66 - 73، والكامل لابن الأثير، ج2، ص252، والإرشاد، ص116 - 170 ـ186، والاحتجاج، ج1، ص34، ونهج البلاغة، الخطب، ص137 - 229، وفي الغيبة للنعماني، ص175 - 176 في أمر الحجة عليه‌السلام : (فوالله، لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام؛ يبايع الناس بأمر جديد، وكتاب جديد، وسلطان جديد من السماء).

١٩٥

البيعة هي العهد على الطاعة؛ كأنما المبايع يعاهد أميره على أن يُسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهداً، جعلوا أيديهم في يده تأكيد للعهد، فأشبه فعل البايع والمشتري، فسُمِّي بيعة؛ مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي.

2 - ما ورد من التعبير أنه عهد اللَّه، وهذا ينسجم مع قوله تعالى: ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، ومنه يعلم أن الإمامة والحاكمية تنوجد وتتولَّد من البيعة.

3 - أن السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الإسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم، وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الإسلام.

4 - من تكرُّر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل على أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة، فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف؛ أحدهما: النص، والأخر: البيعة، فإذا ما وجدا معاً، فإنه يكون من باب التأكيد والثبوت، كما في تولية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث لم يقل أحد أن تولِّيه كان بالبيعة، بل بنص اللَّه عزَّوجلَّ الذي أوجب حاكمية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته. أما كون البعية له هي المنشئة لتولِّيه وإمرته، فهي بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومَن ادعى ذلك من المتأخرين، فهو عن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.

وفي هذا الاستدلال تأمل من جهات:

1 - إننا ننطلق من نفس مدلول البيع؛ فإن المحققين والفقهاء (1) نصُّوا على أن البيع ليس من الأسباب الأولية لحصول الملكية، فهو ليس والابتكار

____________________

(1) يراجع: الشيخ الأنصاري، المكاسب، أول كتاب البيع، كما نصَّ على ذلك السنهوري في الوسيط.

١٩٦

والإرث، بل هو يكون فرعاً عن ملكية سابقة، ففي الرتبة السابقة يجب أن يكون للبايع (المبايع) صلاحية وسلطان معين على مورد المبايعة، ثم ينقله إلى آخر. فنفس دليل البيعة لا يدل على وجود تلك الملكية السابقة والسيادة السابقة للأمة؛ إي إذا فرض كون سيادة موجودة، فحينئذ تكون المبايعة نقل لتلك السيادة من الأمة إلى الحاكم (1)؛ ويؤيِّد ذلك أن نفس المعاني التي ذكرها اللُّغويُّون بعيدة عن إنشاء الإمرة والحاكمية، بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام ببذل الطاعة. وفي مسند أحمد بن حنبل؛ قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شي‏ء بايعتم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية؟ قال: بايعته على الموت. فلم تكن المبايعة على الترشيح أو التولية.

2 - لو لاحظنا ما ذُكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وأن المسلمين عندما بايعوا على ماذا بايعوا؟ وأن المؤمنات عندما بايعن على ماذا بايعن؟ هل بايعوا على أمور لهم صلاحية تركها والالتزام بها، فاختاروا الثاني؟ أم أن المبايعة كانت على الحاكمية؟

إننا نلاحظ أنه في الآيتين - وفي غيرها - لم يرد ذكر للحاكمية على الإطلاق، بل وردت المبايعة على المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الإسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها، فما الذي أفادته البيعة؟! إذن... البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام؛ فهي أولاً: لم يكن موردها الحاكمية، فإن حاكمية الرسول هي من اللَّه، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل أو إنشاء ولاية على الإطلاق، وهذا يعني أن للبيعة معنى آخر ليس هو نفس المعنى المأخوذ في البيع.

____________________

(1) ويمكن التنظير بالدليل التعليقي التقديري، فإنه يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه، ولا يتعرَّض لحالات الموضوع، فإذا ورد دليل يتعرَّض لنفي الموضوع للحكم المزبور في مورد معين، فإنه لا يعارض ذلك الدليل؛ لأنه لا يتعرَّض للموضوع، بل للمحمول فقط.

١٩٧

3 - النقض بالنذر والعهد واليمين؛ فإن مورد هذه الأمور قد يكون المباحات وقد يكون الواجبات أيضاً، فالصلاة الواجبة والثابت وجوبها قبل النذر يجعلها المكلف مورداً للنذر، وحينئذٍ يكون الوجوب آكد، ويكون وجوبان؛ أحدهما: سابق على النذر، والآخر: لاحق عليه، ويفسِّر الفقهاء ذلك بأنه إنشاء عهد للَّه عزَّوجل. ومورد البيعة قد لا يكون أمراً بيد المكلف اختياره، بل يكون من الواجبات ويكون النذر بها تعهُّداً زائداً، والبيعة كذلك؛ فالمبايع يُنشئ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايَع مع أن أصل الحاكمية ثابت في‏ رتبة سابقة، وليس سبب الحاكمية هو المبايعة، بل قد تكون في بعض صورها أداء لأمر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام .

إذن، فالبيعة تكون نوعُ توثيقٍ وزيادة تعهُّدٍ وتغليظ للتكليف والثبات على مَن نُصَّ على ولايته، وغاية ما يفرق بينها وبين النذر وأخويه، أن الأخير في الأمور العبادية، والأول في الأمور الاجتماعية والسياسية. ويشير لذلك عدة من الروايات؛ منها: موثَّقة مسعدة بن صدقة، عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنه قال له: (إن الإيمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟) فقال له: (إن كان ذلك كما تقول، فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنَّا لا ندري بزعمك لعل ضميره الإيمان، فهذا القول نقض لامتحان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن كان يجيئه يريد الإسلام، وأخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد) قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة مِن حيث لا يعلم) (البحار/ ج68 / ص241) نقلاً عن قرب الإسناد للحميري( ومفاده: أن الإيمان لو كان في القلب دون اللسان لتوجَّه النقض - والعياذ باللَّه - على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قتاله للمشركين؛ إذ قد يكون آمن وتحقَّق الإيمان في قلبه دون لسانه. ونقض آخر: أنه لم يطالب‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن أتاه يريد الإسلام بالتشهد بالشهادتين وأخذ البيعة بعد تشهده التي هي زيادة استيثاق وتأكيد للالتزام بالتشهد.

١٩٨

4 - إن ما ذُكر من موارد المبايعة في الآيتين، أمور يجب على المبايع الالتزام بها عند إنشائه للشهادتين ودخوله في الإسلام، ولا تحتاج إلى البيعة لأجل إيجابها عليه، ففي بيعة الشجرة كان الجهاد مفروضاً على المسلمين قبلها، وكان واجباً عليهم الإطاعة ممَّا يدل على أن البيعة لم تُنشأ أصل الالتزام، بل هو تغليظ وتعهُّد ظاهري.

5 - من المسلمات والبديهيات الدينية أن منشأ السلطة هو الله عزَّوجل ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) ، وهذا لا يتلائم مع ما استدل به المدعي من أنّ ماهية البيعة هي نقل سلطة الفرد للمبايَع، وهذا يعني وجود سلطنة للفرد على مورد البيعة في رتبة سابقة، وهذا ينافي تلك المسلمة البديهية وأن السلطنة للَّه عزَّوجلَّ وقد استخلف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أيَّام حياته.

6 - إن القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق، بل يجعلها مقيَّدة بقيود أوجبها الشارع والعقل، فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين، هما: الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفتان لا تكونان بنحوٍ واحد عند كل الأفراد، بل تختلف بنحوٍ متفاوت، فإذا انطبقت على أحدهما دون الآخر، فإن العقل سوف يعيِّن مَن هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال إلى حد العصمة بأدلة أخرى ونصوص تامة السند والدلالة - طبقاً لنظرية النص - فإنها سوف تكون هي المعينة. وعلى كل حال... فإنّ التعيين، إما أن يكون للعقل أو الشرع.

فيعود الأمر إلى أن الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد، ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.

7 - إن الروايات طافحة بعبائر أمثال: (الأمر للَّه يضعه حيث يشاء)، وهذا يعني أن البيعة ليست تولية، وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عامر بن

١٩٩

صعصعة حيث دعاهم إلى اللَّه وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك اللَّه على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الأمر للَّه يضعه حيث يشاء).

8 - إن البيعة نوع من العقود والعهود، وهذا يعني أنها تصنَّف في باب المعاملات، فيجب أن نعود قليلاً إلى الأدلة الواردة في باب المعاملات. فإن الفقهاء يصنِّفون الأدلة هناك إلى قسمين: أدلة صحة، وأدلة لزوم. ويعنون بأدلة الصحة: هي الأدلة التي تتعرَّض إلى ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها صحيحة أم لا، والثانية تتعرَّض إلى المعاملة الصحيحة وأنها لازمة ولا يجوز فسخها.

وبتعبير آخر؛ الفرق بينهما موضوعاً ومحمولاً:

أما موضوعاً، فموضوع أدلة الصحة هي الماهية المعاملية، بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع أدلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع.

أما محمولاً، ففي أدلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة، وإثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع. أما أدلة اللزوم، فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها. والتفريق بين هذين الصنفين من الأدلة مهم جداً؛ حيث لا يمكن التمسَّك بـ (المؤمنون عند شروطهم) إذا شك في صحة ماهية معاملية، فهي ليست من أدلة الصحة، بل من أدلة اللزوم التي يؤخذ في موضوعها ماهية معاملية أولية صحيحة ويتعرض لوصف يطرأ عليها، وهو وصف اللزوم.

وبناء عليه يطرح التساؤل: أين يمكن تصنيف أدلة البيعة أفي أدلة الصحة أم في أدلة اللزوم؟ بمقتضى التعاريف اللغوية وأنها بمعنى العهد، فإنها تصنَّف في الثانية، وهذا يعني أن هذه الأدلة لا تتعرَّض لمورد البيعة وأن المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا، بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة، ومن خلال أدلة أخرى، أنّ التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تكون البيعة نوع توثيق وتوكيد لذلك الأمر الثابت

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297