فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 47420
تحميل: 9768


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47420 / تحميل: 9768
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

إدراك نفس الاحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الامر، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك، كما يدل عليه الاخبار الكثيرة الواردة، بمضمون (إن دين الله لا يصاب بالعقول)، و (إنه لا شئ أبعد عن دين الله من عقول الناس).

وأوضح من ذلك كله رواية أبان بن تغلب عن الصادق عليه السلام: (قال: قلت له: رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة، كم فيها من الدية؟.

قال: عشر من الابل.

قال: قلت: قطع إصبعين؟ قال: عشرون.

قلت: قطع ثلاث، قال: ثلاثون.

قلت: قطع أربعا.

قال: عشرون.

قلت: سبحان الله ! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون، كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق، فقلنا: إن الذي جاء به شيطان.

قال عليه السلام: مهلا، يا أبان ! هذا حكم رسول الله " ص " إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغ الثلث رجع إلى النصف‌ء يا أبان ! إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين).

وهي وإن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على رد الرواية الظنية التي سمعها في العراق بمجرد إستقلال عقله بخلافه أو على تعبجه مما حكم به الامام عليه السلام، من جهة مخالفته لمقتضى القياس، إلا أن مرجع الكل إلى التوبيخ على مراجعة العقل في إستنباط الاحكام.

فهو توبيخ على المقدمات المفضية إلى مخالفة الواقع.

وقد أشرنا، هنا وفي أول المسألة، إلى عدم جواز الخوض لاستكشاف الاحكام الدينية في المطالب العقلية والاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم والانتقال منه إليه على طريق اللم، لان أنس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل إليه من الاحكام التوقيفية، فقد يصير منشأ لطرح الامارات النقلية الظنية، لعدم حصول الظن له منها بالحكم.

وأوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية لادراك ما يتعلق بأصول الدين، فإنه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد.

وقد أشير إلى ذلك عند النهى عن الخوض في مسألة القضاء والقدر، وعند نهي بعض أصحابهم، عليهم السلام، عن المجادلة في المسائل الكلامية.

لكن الظاهر من بعض تلك الاخبار أن الوجه في النهي عن الاخير عدم الاطمينان بمهارة الشخص المنهي في المجادلة، فيصير مفحما عند المخالفين ويوجب ذلك وهن المطالب الحقة في نظر أهل الخلاف.

٢١

الامرالثالث: قد إشتهر في ألسنة المعاصرين أن قطع القطاع لا إعبار به

ولعل الاصل في ذلك ما صرح به كاشف الغطاء قدس سره، بعد الحكم بأن كثير الشك لا إعتبار بشكه.

قال: (وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو في ظنه فيلغو إعتبارهما في حقه) إنتهى.

أقول: أما عدم إعتبار ظن من خرج عن العادة في ظنه، فلان أدلة إعتبار الظن في مقام يعتبر فيه مختصة بالظن الحاصل من الاسباب التي يتعارف حصول الظن منها لمتعارف الناس لو وجدت تلك الاسباب عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص، فالحاصل من غيرها يساوي الشك في الحكم.

وأما قطع من خرج قطعه عن العادة: فإن أريد بعدم إعتباره عدم إعتباره في الاحكام التي يكون القطع موضوعا لها، كقبول شهادته وفتواه ونحو ذلك فهو حق، لان أدلة إعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا، لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشك إرادة غير هذا القسم.

وإن أريد يه عدم إعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها من حيث الكاشفية والطريقية إلى الواقع: فإن أريد بذلك أنه حين قطعه كالشاك، فلا شك في أن أحكام الشاك وغير العالم لا تجري في حقه.

وكيف يحكم على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دل على عدم الوجوب عند عدم العلم، والقاطع بأنه صلى ثلاثا بالبناء على أنه صلى أربعا، ونحو ذلك.

وإن أريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه وتنزيله إلى الشك أو تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه ولو بأن يقال له: (إن الله سبحانه لا يريد منك الواقع)، لو فرض عدم تفطنه، لقطعه بأن الله يريد

٢٢

الواقع منه ومن كل احد، فهو حق.

لكنه يدخل في باب الارشاد، ولا يختص بالقطاع، بل بكل من قطع بما يقطع بخطائه فيه من الاحكام الشرعية والموضوعات الخارجية المتعلقة بحفظ النفوس والاعراض، بل الاموال في الجملة.

وأما في ما عدا ذلك مما يتعلق بحقوق الله سبحانه، فلا دليل على وجوب الردع في القطاع، كما لا دليل عليه في غيره.

ولو بنى على وجوب ذلك في حقوق الله سبحانه من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى، لم يفرق أيضا بين القطاع وغيره.

وإن أريد بذلك أنه بعد إنكشاف الواقع لا يجزي ما أتى به على طبق قطعه، فهو أيضا حق في الجملة، لان المكلف إن كان تكليفه حين العمل مجرد الواقع من دون مدخلية للاعتقاد، فالمأتي به المخالف للواقع لا يجزي عن الواقع، سواء القطاع وغيره.

وإن كان للاعتقاد مدخل فيه، كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلة، فإن قضية هذا كفاية القطع المتعارف، لا قطع القطاع، فيجب عليه الاعادة وإن لم تجب على غيره.

ثم إن بعض المعاصرين وجه الحكم بعدم إعتبار قطع القطاع - بعد تقييده بما إذا علم القطاع أو احتمل أن يكون حجية قطعه مشروطة بعدم كونه قطاعا بأنه يشترط في حجية القطع عدم منع الشارع عنه وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع، إلا أنه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع.

وأنت خبير بأنه يكفي في فساد ذلك عدم تصور القطع بشئ عدم ترتيب آثار ذلك الشئ عليه مع فرض كون الآثار آثارا له.

والعجب أن المعاصر مثل لذلك بما إذا قال المولى لعبده: (لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدي إليه حدسك، بل إقتصر على ما يصل إليك مني بطريق المشافهة والمراسلة).

وفساده يظهر مما سبق من أول المسألة إلى هنا.

٢٣

الامرالرابع: إن المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار أم لا؟

والكلام فيه يقع تارة في إعتباره من حيث إثبات التكليف به وأن الحكم المعلوم بالاجمال هل هو كالمعلوم بالتفصيل في التنجز على المكلف أم هو كالمجهول رأسا.

وأخرى في أنه بعدما ثبت التكيلف بالعلم التفصيلي أو الاجمالي المعتبر فهل يكتفى في إمتثاله بالموافقة الاجمالية ولو مع تيسر العلم التفصيلي أم لا يكتفى به إلا مع تعذر العلم التفصيلي.

فلا يجوز إكرام شخصين أحدهما زيد مع التمكن من معرفة زيد بالتفصيل، ولا فعل الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة في ثوب طاهر.

والكلام من الجهة الاولى يقع من جهتين، لان إعتبار العلم الاجمالي له مرتبتان، الاولى حرمة المخالفة القطعية، والثانية وجوب الموافقة القطعية.

والمتكفل للتكلم في المرتبة الثانية هي مسألة البراء‌ة والاشتغال عند الشك في المكلف به، فالمقصود في المقام الاول التكلم في المرتبة الاولى.

ولنقدم الكلام في:

المقام الثاني وهو كفاية العلم الاجمالي في الامتثال

فنقول: مقتضى القاعدة جواز الاقتصار في الامتثال بالعلم الاجمالي بإتيان الملكف به.

أما فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الاطاعة ففي غاية الوضوح، وأما فيما يحتاج إلى قصد الاطاعة فالظاهر أيضا تحقق الاطاعة إذا قصد الاتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به.

٢٤

ودعوى: (أن العلم بكون المأتي به مقربا معتبر حين الاتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه)، ممنوعة، إذ لا شاهد لها بعد تحقق الاطاعة بغير ذلك ايضا، فيجوز لمن تمكن من تحصيل العلم التفصيلي باداء العبادات العمل بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيلي.

لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة، بل ظاهر المحكي عن الحلي، في مسألة الصلاة في الثوبين، عدم جواز التكرار للاحتياط حتى مع عدم التمكن من العلم التفصيلي وإن كان ما ذكره من التعميم ممنوعا.

وحينئذ فلا يجوز لمن تمكن من تحصيل العلم بالماء المطلق أو بجهة القبلة أو في ثوب طاهر أن يتوضأ وضوئين يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق أو يصلي إلى جهتين يقطع بكون أحدهما القبلة أو في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.

لكن الظاهر من صاحب المدارك، قدس سره، التأمل بل ترجيح الجواز في المسألة الاخيرة.

ولعله متأمل في الكل، إذ لا خصوصية لمسألة الاخيرة.

وأما إذا لم يتوقف الاحتياط على التكرار، كما إذا أتي بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزء‌ا، فالظاهر عدم ثبوت إتفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيلي.

لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك، بل ظاهر كلام السيد الرضي، رحمه الله، في مسألة الجاهل بوجوب القصر وظاهر تقرير أخيه السيد المرتضى، رحمه الله، له ثبوت الاجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها.

هذا كله في تقديم العلم التفصيلي على الاجمالي.

وهل يلحق بالعلم التفصيلي الظن التفصيلي المعتبر، فيقدم على العلم الاجمالي ام لا؟ التحقيق أن يقال: إن الظن المذكور إن كان مما لم يثبت إعتباره إلا من جهة (دليل الانسداد) المعروف بين المتأخرين لاثبات حجية الظن المطلق، فلا إشكال في جواز ترك تحصيله والاخذ بالاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار والعجب ممن يعمل بالامارات من باب الظن المطلق، ثم يذهب إلى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والاخذ بالاحتياط.

ولعل الشبهة من جهة إعتبار قصد الوجه.

ولابطال هذه الشبهة وإثبات صحة عبادة المحتاط محل آخر.

وأما لو توقف الاحتياط على التكرار، ففي جواز الاخذ به وترك تحصيل الظن بتعيين المكلف به أو عدم الجواز وجهان: من أ، العمل بالظن المطلق لم يثبت إلا جوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه، أما تقديمه

٢٥

على الاحتياط فلم يدل عليه دليل.

ومن أن الظاهر أن تكرار العبادة إحتياطا في الشبهة الحكمية مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعي ولو كان الظن المطلق خلاف السيرة المستمرة بين العلماء، مع أن جواز العمل بالظن إجماعي، فيكفي في عدم جواز الاحتياط بالتكرار إحتمال عدم جوازه وإعتبار الاعتقاد التفصيلي في الامتثال.

والحاصل: أن الامر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي ولو كان ظنا وبين تحصيل العلم بتحقق الاطاعة ولو إجمالا.

فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي يكون الثاني مقدما على الاول في مقام الطاعة، بحكم العقل والعقلاء.

لكن بعد العلم بجواز الاول والشك في جواز الثاني في الشرعيات من جهة منع جماعة من الاصحاب عن ذلك وإطلاقهم إعتبار نية الوجه، فالاحوط ترك ذلك وإن لم يكن واجبا، لان نية الوجه لو قلنا بإعتباره فلا نسلمه إلا مع العلم بالوجه أو الظن الخاص، لا الظن المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه إلا بعدم وجوب الاحتياط لا بعدم جوازه، فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط.

وأما لو كان الظن مما ثبت إعتباره بالخصوص، فالظاهر أن تقديمه على الاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار مبني على إعتبار قصد الوجه.

وحيث قد رجحنا في مقامه عدم إعتبار نية الوجه فالاقوى جواز ترك تحصيل الظن والاخذ بالاحتياط.

ومن هنا يترجح القول بصحة عبادة المقلد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد، إلا إنه خلاف الاحتياط من جهة وجود القول بالمنع من جماعة.

وإن توقف الاحتياط على التكرار فالظاهر أيضا جواز التكرار بل أولويته على الاخذ بالظن الخاص، ما تقدم من أن تحصيل الواقع بطريق العلم ولو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظني به ولو كان تفصيلا.

وأدلة الظنون الخاصة إنما دلت على كفايتها عن الواقع، لا تعين العمل بها في مقام الامتثال.

إلا أن شبهة إعتبار نية الوجه، كما هو قول جماعة بل المشهور بين المتأخرين، جعل الاحتياط في خلاف ذلك، مضافا إلى ما عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرة.

مع إمكان أن يقال: إنه إذا شك بعد القطع بكون داعي الامر هو التعبد بالمأمور به.

لا حصوله بأي وجه إتفق، في أن الداعي هو التعبد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد، أو التعبد بخصوصه متميزا عن غيره، فالاصل عدم سقوط الغرض الداعي إلا بالثاني، وهذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يرفع بإطلاقه، كما لا يخفى.

وحينئذ فلا ينبغي بل لا يجوز ترك الاحتياط في جيمع موارد إرادة التكرار بتحصيل الواقع أولا

٢٦

بظنه المعتبر من التقليد أو الاجتهاد بأعمال الظنون الخاصة أو المطلقة وإتيان الواجب مع نية الوجه، ثم الاتيان بالمحتمل الاخر بقصد القربة من جهة الاحتياط.

وتوهم: (أن هذا قد يخالف الاحتياط من جهة إحتمال كون الواجب ما أتي به بقصد القربة، فيكون قد أخل فيه بنية الوجوب)، مدفوع بأن هذا المقدار من المخالفة للاحتياط مما لا بد منه، إذ لو أتي به بنية الوجوب كان فاسدا قطعا، لعدم وجوبه ظاهرا على المكلف بعد فرض الاتيان بما وجب عليه في ظنه المعتبر.

وإن شئت قلت: إن نية الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب الاحتياط، إجماعا، حتى من القائلين بإعتبار نية الوجه، لان لازم قولهم بإعتبار نية الوجه في مقام الاحتياط عدم مشروعية الاحتياط وكونه لغوا.

ولا أظن أحدا يلتزم بذلك، عدى السيد أبي المكارم في ظاهر كلامه في الغنية في رد الاستدلال على كون الامر للوجوب بأنه أحوط، وسيأتي ذكره عند الكلام على الاحتياط في طي مقدمات دليل الانسداد.

اما المقام الاول وهو كفاية العلم الاجمالي في تنجز التكليف وإعتباره كالتفصيلي

فقد عرفت أن الكلام في إعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعية وعدم كفاية الموافقة الاحتمالية راجع إلى مسألة البراء‌ة والاحتياط.

والمقصود هنا بيان إعتباره في الجملة الذي أقل مراتبه حرمة المخالفة القطعيه، فنقول: إن للعلم الاجمالي صورا كثيرة، لان الاجمال الطاري، إما من جهة متعلق الحكم مع تبين نفس الحكم تفصيلا، كما لو شككنا أن حكم الوجوب في يوم الجمعة يتعلق الظهر أو الجمعة، و حكم الحرمة يتعلق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين أو بذاك، وإما من جهة نفس الحكم مع تبين موضوعه، كما لو شك في أن هذا الموضوع المعلوم الكلي أو الجزئي يتعلق به الوجوب أو الحرمة، وإما من جهة الحكم والمتعلق جميعا، مثل أن نعلم أن حكما من الوجوب والتحريم تعلق بأحد هذين الموضوعين.

ثم الاشتباه في كل من الثلاثة، إما من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر من الشارع كما في مثال الظهر والجمعة، وإما من جهة إشتباه مصاديق متعلق ذلك الخطاب كما في المثال الثاني.

٢٧

والاشتباه في هذا القسم إما في المكلف به كما في الشبهة المحصورة وإما في المكلف.

وطرفا الشبهة في المكلف إما أن يكونا إحتمالين في مخاطب واحد كما في الخنثى، وإما أن يكونا إحتمالين في مخاطبين كما في واجدي المني في الثوب المشترك.

ولا بد قبل التعرض لبيان حكم الاقسام من التعرض لامرين.

أحدهما: إنك قد عرفت في أول مسألة إعتبار العلم أن إعتباره قد يكون من باب محض الكشف والطريقية وقد يكون من باب الموضوعية بجعل الشارع.

والكلام هنا في الاول، إذ إعتبار العلم الاجمالي وعدمه في الثاني تابع لدلالة ما دل على جعله موضوعا.

فإن دل على كون العلم التفصيلي داخلا في الموضوع، كما لو فرضنا أن الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب إلا عما علم تفصيلا نجاسته، فلا إشكال في عدم إعتبار العلم الاجمالي بالنجاسة.

الثاني: أنه إذا تولد من العلم الاجمالي العلم التفصيلي بالحكم الشرعى في مورد، وجب إتباعه وحرم مخالفته، لما تقدم من إعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاص.

فلا فرق بين من علم تفصيلا ببطلان صلاته بالحدث أو بواحد مردد بين الحدث والاستدبار، أو بين ترك ركن وفعل مبطل، أو بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه وفقد شرط من شرائط صلاة إمامه بناء على إعتبار وجود شرائط الامام في علم المأموم، إلى غير ذلك.

وبالجملة فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي وبين غيره من العلوم التفصيلية.

إلا أنه قد ورد في الشرع مواورد توهم خلاف ذلك.

منها: ما حكم به بعض فيما إذا إختلفت الامة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل، من أن يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى الاصل، فإن إطلاقه يشمل ما لو علمنا بمخالفة مقتضى الاصل للحكم الواقعي المعلوم وجوده بين القولين، بل ظاهر كلام الشيخ، رحمه الله، القائل بالتخيير هو التخيير الواقعي المعلوم تفصيلا مخالفته لحكم الله الواقعي في الواقعة.

ومنها: حكم بعض بجواز إرتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعة أو تدريجا، فإنه قد يؤدي إلى العلم التفصيلي بالحرمة أو النجاسة.كما لو إشترى بالمشتبهين بالميتة جارية.

فإنا نعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية لكون بعض ثمنها ميتة، فنعلم تفصيلا بحرمة وطيها، مع أن القائل بجواز الارتكاب لم يظهر من كلامه إخراج هذه الصور.

ومنها: حكم بعض بصحة إئتمام أحد واجدي المنيي في الثوب المشترك بينهما بالاخر مع أن

٢٨

المأموم يعلم تفصيلا ببطلان صلاته من جهة حدثه أو حدث إمامه.

ومنها: حكم الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان بحيث يعلم صدق أحدهما وكذب الاخر، فإن لازم ذلك جواز شراء ثالث للنصفين من كل منهما مع أنه يعلم تفصيلا عدم إنتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي.

ومنها: حكمهم بأنه لو كان لاحد درهم ولاخر درهمان، فتلف أحد الدراهم من عند الودعي، أن لصاحب الاثنين واحدا ونصفا وللاخر نصفا، فإنه قد يتفق إفضاء ذلك إلى مخالفة تفصيليلة.

كما لو أخذ الدرهم المشترك بينهما ثالث، فإنه يعلم تفصيلا بعدم إنتقاله من مالكه الواقعي إليه.

ومنها: ما لو أقر بعين لشخص ثم أقر بها لآخر، فإنه يغرم للثاني قيمة العين بعد دفعها إلى الاول، فإنه قد يؤدي ذلك إلى إجتماع العين والقيمة عند واحد وبيعهما بثمن واحد، فيعلم عدم إنتقال تمام الثمن إليه، لكون بعض مثمنه مال المقر في الواقع.

ومنها: الحكم بإنفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه أو مثمنه على وجه يقضى فيه بالتحالف.

كما لو إختلفا في كون المبيع بالثمن المعين عبدا أو جارية، فإن رد الثمن إلى المشتري بعد التحالف مخالف للعلم التفصيلي بصيرورته ملك البائع ثمنا للعبد أو الجارية، وكذا لو إختلفا في كون ثمن الجارية المعينة عشرة دنانير أو مائة درهم، فإن الحكم برد الجارية مخالف للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري.

ومنها: حكم بعضهم بأنه لو قال أحدهما: بعتك الجارية بمائة، وقال الآخر: وهبتني إياها بأنهما يتحالفان وترد الجارية إلى صاحبها، مع أنا نعلم تفصيلا بإنتقالها من ملك صاحبها إلى الاخر.

إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع.

فلا بد في هذه الموارد من إلتزام أحد أمور على سبيل منع الخلو: أحدها: كون العلم التفصيلي في كل من أطراف الشبهة موضوعا للحكم.

بأن يقال: الواجب الاجتناب عما علم كونه بالخصوص بولا، فالمشتبهان طاهران في الواقع.

وكذا المانع للصلاة الحدث المعلوم صدوره تفصيلا من مكلف خاص، فالمأموم والامام متطهران في الواقع.

الثاني: أن الحكم الظاهري في حق كل أحد نافذ واقعا في حق الاخر، بأن يقال: إن من كانت صلاته بحسب الظاهر صحيحة عند نفسه، فللاخر أن يترتب عليها آثار الصحة الواقعية فيجوز له الائتمام، وكذا من حل له أخذ الدار، ممن وصل إلى نصفه إذا لم يعلم كذبه في الدعوى بأن إستند إلى بينة أو إقرار أو إعتقاد من القرائن، فإنه يملك هذا النصف في الواقع.وكذلك إذا إشترى

٢٩

النصف الاخر فيثبت ملكه للنصفين في الواقع.وكذا الاخذ ممن وصل إليه نصف الدرهم في مسألة الصلح وفي مسألتي التحالف.

الثالث: أن يلتزم بتقييد الاحكام المذكورة بما إذا لم يفض إلى العلم التفصيلي بالمخالفة والمنع مما يستلزم المخالفة تفصيلا، كمسألة إختلاف الامة على قولين وحمل أخذ المبيع في مسألتي التحالف على كونه تقاصا شرعيا قهريا عما يدعيه من الثمن أو إنفساخ البيع بالتحالف من أصله أو من حينه وكون أخذ نصف الدرهم مصالحة قهرية.

وعليك بالتأمل في دفع الاشكال عن كل مورد بأحد الامور المذكورة، فإن إعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي وحرمة مخالفته مما لا يقبل التخصيص بإجماع أو نحوه.

* * *

إذا عرفت هذا فلنعد إلى حكم مخالفة العلم الاجمالي، فنقول: مخالفة الحكم المعلوم بالاجمال يتصور على وجهين.

أحدهما: مخالفته من حيث الالتزام، كالالتزام بإباحة وطي المرأة المرددة بين من حرم وطيها بالحلف ومن وجب وطيها به مع إتحاد زماني الوجوب والحرمة، وكالالتزام بإباحة موضوع كلي مردد أمره بين الوجوب والتحريم مع عدم كون أحدهما المعين تعبديا يعتبر فيه قصد الامتثال، فإن المخالفة في المثالين ليس من حيث العمل، لانه لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب أو الترك الموافق للحرمة.فلا قطع بالمخالفة إلا من حيث الالتزام بإباحة الفعل.

الثاني: مخالفته من حيث العمل، كترك الامرين اللذين يعلم بوجوب أحدهما، وإرتكاب فعلين يعلم بحرمة أحدهما، فإن المخالفة هنا من حيث العمل.

وبعد ذلك فنقول: أما المخالفة الغير العملية، فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعية والحكمية معا، سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين لموضوع واحد كالمثالين المتقدمين، أو بين حكمين لموضوعين كطهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضأ غفلة بمائع مردد بين الماء والبول.

أما في الشبهة الموضوعية، فلان الاصل فيها إنما يخرج مجراه عن موضوع التكليفين، فيقال: الاصل عدم تعلق الحلف بوطي هذه وعدم تعلق الحلف بترك وطيها، فتخرج المرأة بذلك عن موضوع حكمي التحريم والوجوب، فيحكم بالاباحة لاجل الخروج من موضوع الوجوب والحرمة، لا لاجل طرحهما.

وكذا الكلام في الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء بالمائع المردد.

وأما الشبهة الحكمية، فلان الاصول الجارية فيها وإن لم يخرج مجراها عن موضوع الحكم

٣٠

الواقعي، بل كانت منافية لنفس الحكم، كأصالة الاباحة مع العلم بالوجوب أو الحرمة، فإن الاصول في هذه منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا، لا مخرجة عن موضوعة، إلا أن الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا يترتب عليه أثر إلا وجوب الاطاعة وحرمة المعصية والمفروض أنه لا يلزم من إعمال الاصول مخالفة عملية له ليتحقق المعصية، ووجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل غير ثابت.

لان الالتزام بالاحكام الفرعية إنما يجب مقدمة للعمل وليست كالاصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث الذات.

ولو فرض ثبوت الدليل عقلا أو نقلا على وجوب الالتزام بحكم الله الواقعي لم ينفع، لان الاصول تحكم في مجاريها بإنتفاء الحكم الواقعي، فهي كالاصول في الشبهة الموضوعية مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم، أعني وجوب الاخذ بحكم الله، هذا.

ولكن التحقيق أنه لو ثبت هذا التكليف، أعني وجوب الاخذ بحكم الله والالتزام مع قطع النظر عن العمل، لم تجر الاصول، لكونها موجبة للمخالفة العملية للخطاب التفصيلي، أعني وجوب الالتزام بحكم الله، وهو غير جائز حتى في الشبهة الموضوعية، كما سيجئ، فيخرج عن المخالفة الغير العملية.

فالحق - مع فرض عدم قيام الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع على ما جاء به - أن طرح الحكم الواقعي ولو كان معلوما تفصيلا ليس محرما إلا من حيث كونها معصية دل العقل على قبحها وإستحقاق العقاب بها.

فإذا فرض العلم تفصيلا بوجوب الشئ فلم يلتزم به المكلف إلا أنه فعله لا لداعي الوجوب، لم يكن عليه شئ.

نعم لو أخذ في ذلك الفعل نية القربة فالاتيان به لا للوجوب مخالفة عملية و معصية لترك المأمور به.

ولذا قيدنا الوجوب والتحريم في صدر المسألة بغير ما علم كون أحدهما المعين تعبديا.

فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي، فإذا علم إجمالا بحكم مردد بين الحكمين وفرضنا إجراء الاصل في نفي الحكمين اللذين علم بكون أحدهما حكم الشارع، والمفروض أيضا عدم مخالفتهما في العمل، فلا معصية ولا قبح، بل وكذلك لو فرضنا عدم جريان الاصل، لما عرفت من ثبوت ذلك في العلم التفصيلي.

فملخص الكلم أن المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة، ومخالفة الاحكام الفرعية إنما هي في العمل، ولا عبرة بالالتزام وعدمه.

٣١

ويمكن أن يقرر دليل الجواز أى جواز المخالفة فيه بوجه أخصر: وهو أنه لو وجب الالتزام: فإن كان بأحدهما المعين واقعا فهو تكليف من غير بيان ولا يلتزمه أحد، وإن كان بأحدهما على وجه التخيير فهذا لا يمكن أن يثبت بذلك الخطاب الواقعي المجمل، فلا بد له من خطاب آخر.

وهو، مع أنه لا دليل عليه، غير معقول، لان الغرض من هذا الخطاب المفروض كونه توصليا حصول مضمونه، أعني إيقاع الفعل أو الترك تخييرا، وهو حاصل من دون الخطاب التخييري، فيكون الخطاب طلبا للحاصل، وهو محال.

إلا أن يقال: إن المدعي للخطاب التخييري إنما يدعي ثبوته بأن يقصد منه التعبد بأحد الحكمين، لا مجرد حصول مضمون أحد الخطابين الذي هو حاصل، فينحصر دفعه حينئذ بعدم الدليل، فافهم، هذا.

وأما دليل وجوب الالتزام بما جاء به النبي، صلى الله عليه وآله، فلا يثبت إلا الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه، لا الالتزام بأحدهما تخييرا عند الشك، فافهم، هذا.

ولكن الظاهر من جماعة من الاصحاب، في مسألة الاجماع المركب، إطلاق القول بالمنع عن الرجوع إلى حكم علم عدم كونه حكم الامام في الواقع.وعليه بنوا.عدم جواز الفصل فيما علم كون الفصل فيه طرحا لقول الامام عليه السلام.

نعم صرح غير واحد من المعاصرين، في تلك المسألة فيما إذا إقتضى الاصلان حكمين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع، بجواز العمل بكليهما.وقاسه بعضهم على العمل بالاصلين المتنافيين في الموضوعات.

لكن القياس في غير محله، لما تقدم من أن الاصول في الموضوعات حاكمة على أدلة التكليف، فإن البناء على عدم تحريم المرأة لاجل البناء بحكم الاصل على عدم تعلق الحلف بترك وطيها، فهي خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطي من حلف على ترك وطيها.

وكذا الحكم بعدم وجوب وطيها لاجل البناء على عدم الحلف على وطيها، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف على وطيها وهذا بخلاف الشبهة الحكمية، فإن الاصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالاجمال وليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتى لا ينافيه جعل الشارع.

لكن هذا المقدار من الفرق غير مجد، إذ اللازم من منافاة الاصول لنفس الحكم الواقعي، حتى مع العلم التفصيلي ومعارضتها له، هو كون العمل بالاصول موجبا لطرح الحكم الواقعي من حيث الالتزام.

فإذا فرض جواز ذلك، لان العقل والنقل لم يدلا إلا على حرمة المخالفة العملية، فليس

٣٢

الطرح من حيث الالتزام مانعا عن إجراء الاصول المتنافية في الواقع.

ولا يبعد حمل إطلاق كلمات العلماء في عدم جواز طرح قول الامام، عليه السلام، في مسألة الاجماع على طرحه من حيث العمل، إذ هو المسلم المعروف من طرح قول الحجة.

فراجع كلماتهم فيما إذا إختلفت الامة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل، فإن ظاهرالشيخ، رحمه الله، الحكم بالتخيير الواقعى وظاهر المنقول عن بعض طرحهما والرجوع إلى الاصل.

ولا ريب أن في كليهما طرحا للحكم الواقعي، لان التخيير الواقعي كالاصل حكم ثالث.

نعم ظاهرهم في مسألة دوران الامر بين الوجوب والتحريم الاتفاق على عدم الرجوع إلى الاباحة وإن إختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الاخذا بالحرمة.

والانصاف: أنه لا يخلو عن قوة، لان المخالفة العملية التي لا تلزم في المقام هي المخالفة دفعة وفي واقعة عن قصد وعمد، وأما المخالفة تدريجا وفي واقعتين فهي لازمة البتة.

والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد وعمد، كذلك يحكم بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليهما من غير تقييد بحكم ظاهري عند كل واقعة.وحينئذ فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك.

إذ في عدمه إرتكاب لما هو مبغوض للشارع يقينا عن قصد.

وتعدد الواقعة إنما يجدي مع الاذن من الشارع عند كل واقعة.

كما في تخيير الشارع للمقلد بين قولي مجتهدين تخييرا مستمرا يجوز معه الرجوع عن احدهما إلى الاخر.

وأما مع عدمه فالقادم على ما هو مبغوض للشارع يستحق عقلا العقاب على إرتكاب ذلك المبغوض.

أما لو إلتزم بأحذ الاحتمالين قبح عقابه على مخالفة الواقع لو إتفقت.

ويمكن إستفادة الحكم أيضا من فحوى أخبار التخيير عند التعارض، لكن هذا الكلام لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدد فيها الواقعة حتى تحصل المخالفة العملية تدريجا.

فالمانع في الحقيقة هي المخالفة العملية القطعية ولو تدريجا مع عدم التعبد بدليل ظاهري، فتأمل جدا.

هذا كله في المخالفة القطعية للحكم المعلوم إجمالا من حيث الالتزام، بأن لا يلتزم به أو يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر إذا إقتضت الاصول ذلك.

وأما المخالفة العملية، فإن كانت لخطاب تفصيلي، فالظاهر عدم جوازها، سواء كانت في الشبهة الموضوعية، كإرتكاب الانائين المشتبهين المخالف لقول الشارع: (إجتنب عن النجس)، أو كترك القصر والاتمام في موارد إشتباه الحكم، لان ذلك معصية لذلك الخطاب.

لان المفروض وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الانائين، ووجوب صلاة الظهر والعصر، مثلا، قصرا أو

٣٣

إتماما.

وكذا لو قال: (أكرم زيدا)، واشتبه بين شخصين، فإن ترك إكرامهما معصية.

فإن قلت: إذا أجرينا أصالة الطهارة في كل من الانائين وأخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع فليس في إرتكابهما، بناء على طهارة كل منهما، مخالفة لقول الشارع: (إجتنب عن النجس).

قلت: أصالة الطهارة في كل مهما بالخصوص إنما يوجب جواز إرتكابه من حيث هو.

وأما الاناء النجس الموجود بينهما فلا أصل يدل على طهارته، لانه نجس يقينا، فلا بد إما من إجتنابهما تحصيلا للموافقة القطعية، وإما أن يجتنب أحدهما فرارا عن المخالفة القطعية على الاختلاف المذكور في محله.

هذا، مع أن حكم الشارع بخروج مجرى الاصل عن موضوع المكلف به الثابت بالادلة الاجتهادية لا معنى له إلا رفع حكم ذلك الموضوع، فمرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف لقوله: (إجتنب عن النجس)، فافهم.

وإن كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردد بين خطابين كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع أو بحرمة هذه المرأة، أو علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضاه، أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبي، صلى الله عليه وآله ففي المخالفة القطعية حنيئذ وجوه:

أحدهما: الجواز مطلقا، لان المردد بين الخمر والاجنبية لم يقع النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعية حتى يحرم إرتكابه، وكذا المردد بين الدعاء والصلاة، فإن الاطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيلية ومخالفتها.

الثاني: عدم الجواز مطلقا، لان مخالفة الشارع قبيحة عقلا مستحقة للذم عليها، ولا يعذر فيها إلا الجاهل بها.

الثالث: الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم، فيجوز في الاولى دون الثانية، لان المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية فوق حد الاحصاء، بخلاف الشبهات الحكمية، كما يظهر من كلماتهم في مسائل الاجماع المركب.

وكان الوجه ما تقدم، من أن الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلة التكليف.

بخلاف الاصول في الشبهات الحكمية، فإنها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا.

وقد عرفت ضعف ذلك، وأن مرجع الاخراج الموضوعي إلى رفع الحكم المترتب على ذلك، فيكون الاصل في الموضوع في الحقيقة منافيا لنفس الدليل الواقعي إلا أنه حاكم عليه لا معارض له، فافهم.

الرابع: الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحدالشيئين وبين

٣٤

إختلافه كوجوب الشئ وحمرمة آخر.

والوجه في ذلك أن الخطابات في الواجبات الشرعية بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكل، فترك البعض معصية عرفا، كما لو قال المولى: (إفعل كذا وكذا وكذا)، فإنه بمنزلة: (إفعلها جميعا)، فلا فرق في العصيان بين ترك واحد منها معينا أو واحد غير معين عنده.

نعم في وجوب الموافقة القطعية بالاتيان بكل واحد من المحتملين كلام آخر مبني على أن مجرد العلم بالحكم الواقعي يقتضي البرآة اليقينية العلمية عنه أو يكتفي بأحدهما حذرا عن المخالفة القطعية التي هي نفسها مذمومة عند العقلاء ويعد معصية عندهم وإن لم يلتزموا الامتثال اليقيني لخطاب مجمل.

والاقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني ثم الاول ثم الثالث ثم الرابع.

هذا كله في إشتباه الحكم من حيث الفعل المكلف به.

* * *

وأما الكلام في إشتباهه من حيث المكلف بذلك الحكم، فقد عرفت أنه يقع تارة في الحكم الثابت لموضوع واقعي مردد بين شخصين، كأحكام الجنابة المتعلقة بالجنب المردد بين واجدي المني، وقد يقع في الحكم الثابت لشخص من جهة تردده بين موضوعين، كحكم الخنثى المردد بين الذكر والانثى.

أما الكلام في الاول: فمحلصه: أن مجرد التكليف بين شخصين لا يوجب على أحدهما شيئا، إذ العبرة في الاطاعة والمعصية بتعلق الخطاب بالمكلف الخاص، فالجنب المردد بين شخصين غير مكلف بالغسل وإن ورد من الشارع أنه يجب الغسل على كل جنب، فإن كلا منهما شاك في توجه هذا الخطاب إليه، فيقبح عقاب واحد من الشخصين يكون جنبا بمجرد هذا الخطاب الغير الموجه إليه.

نعم لو إتفق لاحدهما أو لثالث علم بتوجه الخطاب إليه دخل في إشتباه متعلق التكليف الذي تقدم حكمه باقسامه.

ولا بأس بالاشارة إلى بعض فروع المسأله، ليتضح إنطباقها على ما تقدم في العلم الاجمالي بالتكليف.

فمنها: حمل احدهما الاخر وإدخاله في المسجد للطواف أو لغيره، بناء على تحريم إدخال الجنب او إدخال النجاسة الغير المتعدية.

٣٥

فإن قلنا إن الدخول والادخال متحققان بحركة واحدة، دخل في المخالفة المعلومة تفصيلا وإن تردد بين كونه من جهة الدخول أو الادخال.

وإن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن: فإن جعلنا الدخول والادخال راجعين إلى عنوان محرم واحد، وهو القدر المشترك بين إدخال النفس وإدخال الغير، كان من المخالفة المعلومة للخطاب التفصيلي، نظير إرتكاب المشتبهين بالنجس.

وإن جعلنا كلا منهما عنوانا مستقلا دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالاجمال الذي عرفت فيه الوجوه المتقدمة، وكذا من جهة دخول المحمول وإستيجاره الحامل مع قطع النظر عن حرمة الدخول والادخال عليه أو فرض عدمها حيث أنه علم إجمالا بصدور أحد المحرمين إما دخول المسجد جنبا او استجار جنب للدخول في المسجد.

إلا ان يقال بأن الاستيجار تابع لحكم الاجير، فاذا لم يكن هو في تكليفه محكوما بالجنابة وابيح له الدخول في المسجد صح استيجار الغير له.

ومنها: إقتداء الغير بهما في صلاة أو صلاتين.

فإن قلنا بأن عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعية، كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل إرتكاب الانائين والاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة كإرتكاب أحد الانائين.

وإن قلنا إنه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص في حكم نفسه، صح الاقتداء في صلاة، فضلا عن صلاتين، لانهما طاهران بالنسبة إلى حكم الاقتداء.والاقوى هو الاول، لان الحدث مانع واقعي لا علمي.

نعم لا إشكال في إستيجارهما لكنس المسجد، فضلا عن إستيجار أحدهما، لان صحة الاستيجار تابعة لاباحة الدخول لهما، لا للطهارة الواقعية، والمفروض إباحته لهما.

وقس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك مميزا بين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي وبين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث أنه مانع ظاهري للشخص المتصف به.

وأما الكلام في الخنثى: فيع تارة في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكورية والانوثية أو مجهولهما، وحكمهما بالنسبة إلى التكاليف المختصة بكل من الفريقين، وتارة في معاملة الغير معهما، وحكم الكل يرجع إلى ما ذكرنا في الاشتباه المتعلق بالمكلف به.

أما معاملتها مع الغير، فمقتضى القاعدة إحترازها عن غيرها مطلقا، للعلم الاجمالي بحرمة نظرها

٣٦

إلى إحدى الطائفتين، فتجتنب عنهما مقدمة.

وقد يتوهم: (أن ذلك من باب الخطاب الاجمالي، لان الذكور مخاطبون بالغض عن الاناث وبالعكس، والخنثى شاك في دخوله في أحد الخطابين).

والتحقيق هو الاول، لانه علم تفصيلا بتكليفه بالغص عن إحدى الطائفتين، ومع العلم التفصيلي لا عبرة بإجمال الخطاب كما تقدم في الدخول والادخال في المسجد لواجدي المني مع أنه يمكن إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد، وهو تحريم نظر كل إنسان إلى كل بالغ لا يماثله في الذكورية والانوثية عدا من يحرم نكاحه.

ولكن يمكن أن يقال: إن الكف عن النظر إلى ما عدى مشقة عظيمة فلا يجب الاحتياط فيه، بل العسر فيه أولى من الشبهة الغير المحصورة، أو يقال: إن رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعية، لا في وجوب الموافقة القطعية، فافهم.

وهكذا حكم لباس الخنثى، حيث إنه يعلم إجمالا بحرمة واحد من مختصات الرجال كالمنطقة والعمامة أو مختصات النساء عليه، فيجتنب عنهما.

وأما حكم ستارته في الصلاة، فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه.

وأما حكم الجهر والاخفات، فإن قلنا بكون الاخفات في العشائين والصبح رخصة للمرأة جهر الخنثى بهما، وإن قلنا إنه عزيمة لها فالتخيير، إن قام الاجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقها.

وقد يقال بالتخيير مطلقا، من جهة ما ورد: من أن الجاهل في الجهر والاخفات معذور.

وفيه مضافا إلى أن النص إنما دل على معذورية الجاهل بالنسبة إلى لزوم الاعادة لو خالف الواقع، وأين هذا من تخيير الجاهل من أول الامر بينهما، بل الجاهل لو جهر أو أخفت مترددا بطلت صلاته، إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم أو العالم -: أن الظاهر من الجهل في الاخبار غير هذا الجهل.

وأما تخيير قاضي الفريضة المنسية عن الخمس في ثلاثية ورباعية وثنائية، فإنما هو بعد ورود النص في الاكتفاء بالثلاث المستلزم لالغاء الجهر والاخفات بالنسبة إليه، فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا.

وأما معاملة الغير معها، فقد يقال بجواز نظر كل من الرجل والمرأة إليها، لكونها شبهة في الموضوع، والاصل الاباحة.

وفيه: أن عموم وجوب الغض على المؤمنات، إلا عن نسائهن أو الرجال المذكورين في الاية، يدل على وجوب الغض عن الخنثى.ولذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين

٣٧

إليها، كتحريم نظرها إليهما.

بل إدعى سبطه الاتفاق على ذلك، فتأمل جدا.

ثم إن جميع ما ذكرنا إنما هو في غير النكاح.

وأما التناحك، فيحرم بينه وبين غيره قطعا، فلا يجوز له تزويج إمرأة، لاصالة عدم ذكوريته بمعنى عدم ترتب أثر الذكورية من جهة النكاح و وجوب حفظ الفرج إلا عن الزوجة وملك اليمين - ولا التزوج برجل، لاصالة عدم كونه إمرأة، كما صرح به الشهيد.

لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا أو زوجة، فافهم.

هذا تمام الكلام في إعتبار العلم.

٣٨

٣٩

المقصد الثاني في الظن ...المقام الاول: إمكان التعبد بالظن عقلا

أما الاول، فاعلم أن المعروف هو إمكانه.

ويظهر من الدليل المحكي عن إبن قبة، في إستحالة العمل بالخبر الواحد، عموم المنع لمطلق الظن، فإنه إستدل على مذهبه بوجهين:

(الاول: أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الاخبار عن النبي، صلى الله عليه وآله، لجاز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى، والتالي باطل إجماعا.

الثاني: أن العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما وبالعكس).

وهذا الوجه - كما ترى - جار في مطلق الظن، بل في مطلق الامارة الغير العلمية وإن لم يفد الظن.

وإستدل المشهور على الامكان: بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال.

وفي هذا التقرير نظر، إذ القطع بعدم لزوم المحال موقوف على إحاطة العقل جميع الجهات المحسنة والمقبحة وعلمه بإنتفائها، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

فالاولى أن يقرر هكذا: إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالامكان.

والجواب عن دليله الاول: أن الاجماع إنما قام على عدم الوقوع، لا على الامتناع، مع أن عدم الجواز قياسا على الاخبار عن الله تعالى، بعد تسليم صحة الملازمة، إنما هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة أصولا وفروعا على العمل بخبر الواحد، لا مثل ما نحن فيه، مما ثبت أصل الدين وجميع فروعه بالادلة القطعية، لكن عرض إختفاؤها في الجملة من جهة العوارض وإخفاء الظالمين للحق.

وأما دليله الثاني: فقد أجيب عنه تارة بالنقض بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم، كالفتوى والبينة واليد، بل القطع أيضا، لانه قد يكون جهلا مركبا.وأخرى بالحل بأنه إن أريد تحريم

٤٠