فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 47413
تحميل: 9768


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47413 / تحميل: 9768
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

ويكفي في التصديق بما جاء به النبي، صلى الله عليه وآله، التصديق بما علم مجيئه به متواترا من أحوال المبدأ والمعاد، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان والجنة والنار إجمالا، مع تأمل في إعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسماني من تلك الامور في الايمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار، للاخبار المتقدمة المستفيضة والسيرة المستمرة، فإنا نعلم بالوجدان جهل كثير من الناس بها من أول البعثة إلى يومنا هذا.

ويمكن أن يقال: إن المعتبر هو عدم إنكار هذه الامور وغيرها من الضروريات، لا وجوب الاعتقاد بها، على ما يظهر من بعض الاخبار، من أن الشاك إذا لم يكن جاحدا فليس بكافر.

ففي رواية زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام: (لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا)، ونحوها غيرها.

ويؤيدها ما عن كتاب الغيبة للشيخ، قدس سره، بأسناده عن الصادق عليه السلام: (إن جماعة يقال لهم الحقية، وهم الذين يقسمون بحق علي ولا يعرفون حقه وفضله، وهم يدخلون الجنة).

وبالجملة، فالقول بأنه يكفي في الايمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد " ص " وبإمامة الائمة، عليهم السلام، والبراء‌ة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسماني الذي لا ينفك غالبا عن الاعتقادات السابقة غير بعيد، بالنظر إلى الاخبار والسيرة المستمرة.

وأما التدين بسائر الضروريات ففي إشتراطه أو كفاية عدم إنكارها أو عدم إشتراطه أيضا، فلا يضر إنكارها إلا مع العلم بكونها من الدين وجوه، أقواها الاخير، ثم الاوسط.

وما إستقربناه في ما يعتبر في الايمان وجدته بعد ذلك في كلام محكي عن المحقق الورع الاردبيلي في شرح الارشاد.

ثم إن الكلام إلى هنا في تمييز القسم الثاني، وهو ما لا يجب الاعتقاد به إلا بعد حصول العلم به عن القسم الاول، وهو ما يجب الاعتقاد به مطلقا، فيجب تحصيل مقدمته، أعني الاسباب المحصلة للاعتقاد، وقد عرفت أن الاقوى عدم الجواز العمل بغير العلم في القسم الثاني.

٢٨١

القسم الاول: الذي يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد

وأما القسم الاول الذي يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد، فالكلام فيه يقع تارة بالنسبة إلى القادر على تحصيل العلم وأخرى بالنسبة إلى العاجز، فهنا مقامان.

[ المقام ] الاول في القادر

والكلام في جواز عمله بالظن يقع في موضعين، الاول في حكمه التكليفي، والثاني في حكمه الوضعي من حيث الايمان وعدمه.

فنقول: أما حكمه التكليفي، فلا ينبغي التأمل في عدم جواز إقتصاره على العمل بالظن.

فمن ظن بنبوة نبينا محمد، صلى الله عليه وآله، أو بإمامة أحد من الائمة، صلوات الله عليهم، فلا يجوز له الاقتصار، فيجب عليه مع التفطن لهذه المسألة زيادة النظر، ويجب على العلماء أمره بزيادة النظر ليحصل له العلم إن لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحق، لانه حينئذ يدخل في قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحق، فإن بقاء‌ه على الظن بالحق أولى من رجوعه إلى الشك أو الظن بالباطل فضلا عن العلم به.

والدليل على ما ذكرنا جميع الآيات والاخبار الدالة على وجوب الايمان والتفقه والعلم والمعرفة والتصديق والاقرار والشهادة والتدين وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة الظن، وهي أكثر من أن تحصى.

وأما الموضع الثاني، فالاقوى فيه بل المتعين الحكم بعدم الايمان، للاخبار المفسرة للايمان

٢٨٢

بالاقرار والشهادة والتدين والمعرفة وغير ذلك من العبائر الظاهرة في العلم.

وهل هو كافر مع ظنه بالحق؟ فيه وجهان، من إطلاق ما دل على أن الشاك وغير المؤمن كافر، وظاهر ما دل من الكتاب والسنة على حصر المكلف في المؤمن والكافر ومن تقييد كفر الشاك في غير واحد من الاخبار بالجحود فلا يشمل ما نحن فيه، ودلالة الاخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والايمان، وقد أطلق عليه في الاخبار الضلال، لكن أكثر الاخبار الدالة على الواسطة مختصة بالايمان بالمعنى الاخص، فيدل على أن من المسلمين من ليس بمؤمن ولا بكافر، لا على ثبوت الواسطة بين الاسلام والكفر، نعم بعضها قد يظهر منه ذلك.

وحينئذ فالشاك في شئ مما يعتبر في الايمان بالمعنى الاخص ليس بمؤمن ولا كافر، فلا يجري عليه أحكام الايمان.

وأما الشاك في شئ مما يعتبر في الاسلام بالمعنى الاعم، كالنبوة والمعاد، فإن إكتفينا في الاسلام بظاهر الشهادتين وعدم الانكار ظاهرا وإن لم يعتقد باطنا فهو مسلم، وإن إعتبرنا في الاسلام الشهادتين مع إحتمال الاعتقاد على طبقهما حتى يكون الشهادتان أمارة على الاعتقاد الباطني فلا إشكال في عدم إسلام الشاك لو علم منه الشك، فلا يجري عليه أحكام المسلمين، من جواز المناكحة والتوارث وغيرهما.

وهل يحكم بكفره ونجاسته حينئذ فيه إشكال من تقييد كفر الشاك في غير واحد من الاخبار بالجحود.

هذا كله في الظان بالحق.وأما الظان بالباطل، فالظاهر.كفره.

بقي الكلام في أنه إذا لم يكتف بالظن وحصل الجزم من تقليد، فهل يكفي ذلك أو لا بد من النظر والاستدلال؟ ظاهر الاكثر الثاني، بل إدعى عليه العلامة، قدس سره، في الباب الحادي عشر الاجماع، حيث قال: (أجمع العلماء على وجوب معرفة الله وصفاته الثبوتية وما يصح عليه وما يمتنع عنه والنبوة والامامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد).

فأن صريحه أن المعرفة بالتقليد غير كافية.ومثلها عبارة الشهيد الاول والمحقق الثاني.

وأصرح منهما عبارة المحقق في المعارج، حيث إستدل على بطلان التقليد بأنهإ جزم في غير محله.

لكن مقتضى إستدلال العضدي على منع التقليد بالاجماع على وجوب معرفة الله وأنها لا تحصل بالتقليد هو أن الكلام في التقليد الغير المفيد للمعرفة.وهو الذي يقتضيه أيضا ما ذكره شيخنا في العدة، كما سيجئ كلامه، وكلام الشهيد في

٢٨٣

القواعد من عدم جواز التقليد في العقليات ولا في الاصول الضرورية من السمعيات ولا في غيرها مما لا يتعلق به عمل ويكون المطلوب فيها العلم، كالتفاضل بين الانبياء السابقة.

ويعضده أيضا ظاهر ما عن شيخنا البهائي في حاشية الزبده من أن النزاع في جواز التقليد وعدمه يرجع إلى النزاع في كفاية الظن وعدمها.

ويؤيده أيضا إقتران التقليد في الاصول في كلماتهم بالتقليد في الفروع، حيث يذكرون في أركان الفتوى أن المستفتي فيه هي الفروع دون الاصول.

لكن الظاهر عدم المقابلة التامة بين التقليدين، إذ لا يعتبر في التقليد في الفروع حصول الظن، فيعمل المقلد مع كونه شاكا.وهذا غير معقول في أصول الدين التي يطلب فيها الاعتقاد حتى يجري فيه الخلاف.

وكذا ليس المراد من كفاية التقليد هنا كفايته عن الواقع مخالفا كان في الواقع أو موافقا كما في الفروع، بل المراد كفاية التقليد في الحق وسوقط النظر به عنه، إلا أن يكتفي فيها بمجرد التدين ظاهرا وإن لم يعتقد.

لكنه بعيد.ثم إن ظاهر كلام الحاجبي والعضدي إختصاص الخلاف بالمسائل العقلية.

وهو في محله، بناء على ما إستظهرنا منهم، من عدم حصول الجزم من التقليد، لان الذي لا يفيد الجزم من التقليد إنما هو في العقليات المبتنية على الاستدلالات العقلية.

وأما النقليات، فالاعتماد فيها على قول المقلد، كالاعتماد على قول المخبر الذي قد يفيد الجزم بصدقه بواسطة القرائن وفي الحقيقة يخرج هذا عن القليد.

وكيف كان فالاقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد، لعدم الدليل على إعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد، وتقييدها بطريق خاص لا دليل عليه.

مع أن الانصاف: أن النظر والاستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطن لوجوب النظر في الاصول لا يفيد بنفسه الجزم، لكثرة الشبه الحادثة في النفس والمدونة في الكتب، حتى أنهم ذكروا شبها يصعب الجواب عنها للمحققين الصارفين لاعمارهم في فن الكلام، فكيف حال المشتغل به مقدارا من الزمان لاجل تصحيح عقائدة، ليشتغل بعد ذلك بأمور معاشه ومعاده، خصوصا، والشيطان يغتنم الفرصة لالقاء الشبهات والتشكيك في البديهيات، وقد شاهدنا جماعة قد صرفوا أعمارهم ولم يحصلوا منها شيئا إلا القليل.

* * *

٢٨٤

المقام الثاني في غير المتمكن من العلم

والكلام فيه تارة في تحقق موضوعه في الخارج، وأخرى في أنه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظن أم لا، وثالثة في حكمه الوضعي قبل الظن وبعده.

أما الاول، فقد يقال فيه بعدم وجود العاجز، نظرا إلى العمومات الدالة على حصر الناس في المؤمن والكافر، مع ما دل على خلود الكافرين بأجمعهم في النار، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر، فيكشف ذلك عن تقصير كل غير مؤمن، وأن من تراه قاصرا عاجزا عن العلم قد تمكن من تحصيل العلم بالحق ولو في زمان ما وإن صار عاجزا قبل ذلك أو بعده، والعقل لا يقبح عقاب مثل هذا الشخص.

ولهذا إدعى غير واحد في مسألة التخطئة والتصويب الاجماع على أن المخطئ في العقائد غير معذور.

لكن الذي يقتضيه الانصاف: شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين.

وقد تقدم عن الكليني ما يشير إلى ذلك، وسيجئ من الشيخ، قدس سره، في العدة من كون العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم.هذا مع ورود الاخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر.

وقضيه مناظرة زرارة وغيره مع الامام، عليه السلام، في ذلك مذكورة في الكافي.

ومورد الاجماع، على أن المخطى ء آثم، هو المجتهد الباذل جهده بزعمه، فلا ينافي كون الغافل والملتفت العاجز عن بذل الجهد معذورا غير آثم.

وأما الثاني، فالظاهر فيه عدم وجوب تحصيل الظن عليه، لان المفروض عجزه عن الايمان والتصديق المأمور به، ولا دليل آخر على عدم جوازإ الوقف، وليس المقام من قبيل الفروع في وجوب العمل بالظن مع تعذر العلم، لان المقصود ولا معنى للتوقف فيه، لا بد عند إنسداد باب العلم من العمل على طبق أصل أو ظن.

والمقصود فيما نحن فيه الاعتقاد.

فإذا عجز عنه، فلا دليل على وجوب تحصيل الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا، فيندرج في عموم قولهم عليهم السلام: (إذا جاء‌كم ما لا تعلمون فها).

نعم لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ورأى العالم منه التمكن من تحصيل الظن بالحق ولم يخف عليه إفضاء نظره الظني إلى الباطل، فلا يبعد وجوب إلزامه بالتصحيل، لان

٢٨٥

إنكشاف الحق، ولو ظنا، أولى من البقاء على الشك فيه.

وأما الثالث، فإن لم يقر في الظاهر بما هو مناط الاسلام فالظاهر كفره، وإن أقر به مع العلم بأنه شاك باطنا فالظاهر عدم إسلامه، بناء على أن الاقرار الظاهري مشروط بإحتمال إعتقاده لما يقر به.

وفي جريان حكم الكفر عليه حينئذ إشكال: من إطلاق بعض الاخبار بكفر الشاك، ومن تقييده في غير واحد من الاخبار بالجحود.

مثل رواية محمد بن مسلم، قال: (سأل أبوبصير أبا عبدالله عليه السلام، قال: ما تقول فيمن شك في الله؟ قال: كافر، يا أبا محمد ! قال: فشك في رسول الله " ص "؟ قال: كافر.ثم إلتفت إلى زرارة، فقال: إنما يكفر إذا جحد).

وفي رواية أخرى: (لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا).

ثم إن جحود الشاك يحتمل أن يراد به إظهار عدم الثبوت وإنكار التدين به، لاجل عدم الثبوت، ويحتمل أن يراد به الانكار الصوري على سبيل الجزم.

وعلى التقديرين، فظاهرها أن المقر ظاهرا، الشاك باطنا الغير المظهر لشكه، غير كافر.

ويؤيد هذا رواية زرارة الواردة في تفسير قوله تعالى: (وآخرون مرجون لامر الله)، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (قوم كانوا مشركين، فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشبهاهما من المؤمنين، ثم إنهم دخلوا الاسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الايمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فيجب لهم الجنة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار، فهم على تلك الحالة، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم).

وقريب منها غيرها.

* * *

ولنختم الكلام بذكر كلام السيد الصدر الشارح للوافية، في أقسام المقلد في أصول الدين، بناء على القول بجواز التقليد وأقسامه، بناء على عدم جوازه.

قال: (إن أقسام المقلد على القول بجواز التقليد ستة، لانه إما أن يكون مقلدا في مسألة حقة أو في باطل.

وعلى التقديرين إما أن يكون جازما بها أو ضانا.وعلى

٢٨٦

تقديري التقليد في الباطل إما أن يكون إصراره على التقليد مبتنيا على عناد و تعصب بأن حصل له طريق علم إلى الحق فما سلكه وإما لا.فهذه أقسام ستة.

فالاول: وهو من قلد في مسألة حقة جازما بها.مثلا، قلد في وجود الصانع وصفاته وعدله، فهذا مؤمن.واستدل عليه بما تقدم حاصله.

من أن التصديق معتبر من اي طريق حصل إلى أن قال: - الثاني: من قلد في مسألة حقة ظانا بها من دون جزم، فالظاهر إجراء حكم المسلم عليه في الظاهر، إذ ليس حاله بأدون من حال المنافق، سيما إذا كان طالبا للجزم مشغولا بتحصيله فمات قبل ذلك.

أقول: هذا مبني على أن الاسلام مجرد الاقرار الصوري وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد.

وفيه: ما عرفت من الاشكال وإن دل عليه غير واحد من الاخبار.

الثالث: من قلد في باطل، مثل إنكار الصانع أو شئ مما يعتبر في الايمان وجزم به من غير ظهور حق ولا عناد.

الرابع: من قلد في باطل وظن به كذلك.

والظاهر في هذين إلحاقهما بمن يقام عليه الحجة في يوم القيامة.

وأما في الدنيا فيحكم عليهما بالكفر إن إعتقدا ما يوجبه، وبالاسلام إن لم يكونا كذلك.

فالاول كمن أنكر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مثلا.

والثاني كمن أنكر إماما.

الخامس: من قلد في باطل جازما مع العناد.

السادس: من قلد في باطل ظانا كذلك.وهذان يحكم بكفرهما مع ظهور الحق والاصرار.ثم ذكر أقسام المقلد على القول بعدم جواز التقليد.

قال: إنه إما أن يكون مقلدا في حق أو في باطل.وعلى التقديرين مع الجزم أو الظن.وعلى تقديري التقليد في الباطل بلا عناد أو به.وعلى التقادير كلها دل عقله على الوجوب أو بين له غيره، وعلى الدلالة أصر على التقليد أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعد أولا.

فهذه أقسام أربعة عشر.

الاول التقليد في الحق جازما مع العلم بوجوب النظر والاصرار، فهذا مؤمن

٢٨٧

فاسق، لاصراره على ترك الواجب.

الثاني: هذه الصورة مع ترك الاصرار والرجوع، فهذا مؤمن غير فاسق الثالث: المقلد في الحق الظان مع الاصرار، والظاهر أنه مؤمن مرجى في الاخرة وفاسق، للاصرار.

الرابع: هذه الصورة مع عدم الاصرار، فهذا مسلم ظاهرا غير فاسق.

الخامس والسادس: المقلد في الحق جازما أو ظانا مع عدم العلم بوجوب الرجوع، فهذان كالسابق بلا فسق.

أقول: الحكم بإيمان هؤلاء لا يجامع مع فرض القول بعدم جواز التقليد، إلا أن يريد بهذا القول قول الشيخ، قدس سره، من وجوب النظر مستقلا، لكن ظاهره ارادة قول المشهور، فالاولى الحكم بعد إيمانهم على المشهور، كما يقتضيه إطلاق معقد إجماع العلامة في أول باب الحادي عشر، لان الايمان عندهم المعرفة الحاصلة عن الدليل لا التقليد.

ثم قال: السابع: المقلد في الباطل جازما معاندا مع العلم بوجوب النظر والاصرار عليه.

فهذا اشد الكافرين.

الثامن: هذه الصورة من غير عناد ولا إصرار، فهذا أيضا كافر.

ثم ذكرك الباقي وقال: إن حكمها يظهر مما سبق).

أقول: مقتضى هذا القول الحكم بكفرهم، لانهم، أولى به من السابقين.

* * *

بقي الكلام فيما نسب إلى الشيخ في العدة من القول بوجوب النظر مستقلا مع العفو، فلا بد من نقل عبارة العدة، فنقول: قال في باب التقليد، بعدما ذكر إستمرار السيره على التقليد في الفروع والكلام في عدم جواز التقليد في الاصول، مستدلا بأنه لا خلاف في أنه يجب على العامي معرفة الصلاة وأعدادها: (وإذا كان لا يتم ذلك إلا بعد معرفة الله ومعرفة عدله ومعرفة النبوه وجب أن لا يصح التقليد في ذلك).

ثم اعترض: بأن السيرة كما جرت له على تقدير المقلدين في الفروع كذلك

٢٨٨

جرت على تقدير المقلدين في الاصول عدم الانكار عليهم.

فأجاب: بأن على بطلان التقليد في الاصول أدلة عقلية وشرعية من كتاب وسنة وغير ذلك، وهذا كاف في النكير.

ثم قال: إن المقلد للحق في أصول الديانات وإن كان مخطئنا في تقليده غير مؤاخذ به وأنه معفو عنه.

وإنما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدمناها، لاني لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الائمة، عليهم السلام، قطع مولاة من يسمع قولهم واعتقد مثل إعتقادهم إن لم يستند ذلك إلى حجة من عقل أو شرع.

ثم اعترض: على ذلك بان ذلك لا يجوز، لانه يؤدي إلى الاغراء بما لا يأمن أن يكون جهلا.

وأجاب: يمنع ذلك، لان هذا المقلد لا يمكنه أن يعلم سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد، لانه إنما يمكنه معرفة ذلك إذا عرف الاصول وقد فرضنا أنه مقلد في ذلك كله، فكيف يكون إسقاط العقاب مغريا، وإنما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم بالاصول وسبروا أحوالهم أن العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم، ولا يسوغ ذلك لهم إلا بعد العلم بسقوط العقاب عنهم.وذلك يخرجه من باب الاغراء.وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله.

وأقوى مما ذكرنا أنه لا يجوز التقليد في الاصول إذا كان للمقلد طريق إلى العلم به، إما على جملة أو تفصيل.

ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس بمكلف، وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلفة بحال)، إنتهى.

وذكر، عند الاحتجاج على حجية أخبار الآحاد، ما هو قريب من ذلك.

قال: (وأما ما يرويه قوم من المقلدة، فالصحيح الذي أعتقده أن المقلد للحق وإن كان مخطئا معفو عنه ولا أحكم فيه بحكم الفساق، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه)، إنتهى.

أقول: ظاهر كلامه، قدس سره، في الاستدلال على منع التقليد بتوقف معرفة الصلاة وأعدادها على معرفة أصول الدين، أن الكلام في القلد الغير الجازم، وحينئذ فلا دليل على العفو.

٢٨٩

وما ذكره من عدم قطع العلماء والائمة موالاتهم مع المقلدين، بعد تسليمه والغض عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم لعدم العلم بأحوالهم، لا يدل على العفو وإنما يدل على كفاية التقليد.

وإمساك النكير عليهم في ترك النظر والاستدلال إذا لم يدل على وجوبه عليهم، لما اعترف به قبل ذلك من كفاية النكير المستفاد من الادلة الواضحة على بطلان التقليد في الاصول، لم يدل على العفو من هذا الواجب المستفاد من الادلة، فلا دليل على العفو من هذا الواجب المعلوم وجوبه.

والتحقيق أن إمساك النكير لو ثبت ولم يحتمل كونه لحمل أمرهم على الصحة ولعملهم بالاصول دليل على عدم الوجوب، لان وجود الادلة لا يكفي في إمساك النكير من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كفى فيه من حيث الارشاد والدلاله على الحكم الشرعي، لكن الكلام في ثبوت التقرير وعدم إحتمال كونه لاحتمال العلم في حق المقلدين.

فالانصاف: أن المقلد الغير الجازم المتفطن لوجوب النظر عليه فاسق مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزمية بعقائده، بل قد عرفت إحتمال كفره، لعموم أدلة كفر الشاك.

وأما الغير المتفطن لوجوب النظر لغفلته أو القاصر عن تحصيل الجزم فهو معذور في الاخرة.وفي جريان حكم الكفر إحتمال تقدم.

وأما الجازم فلا يجب عليه النظر والاستدلال وإن علم من عمومات الآيات والاخبار وجوب النظر والاستدلال، لان وجوب ذلك توصلي لاجل حصول المعرفة.

فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها بالنظر، اللهم إلا أن يفهم هذا الشخص منها كون النظر والاستدلال واجبا تعبديا مستقلا أو شرطا شرعيا للايمان، لكن الظاهر خلاف ذلك، فإن الظاهر كون لك من المقدمات العقلية.

الامر السادس: إذا بنينا على عدم حجية ظن فهل يترتب عليه آثار أخر غيرها

إذا بنينا على عدم حجية ظن أو عدم حجية الظن المطلق، فهل يترتب عليه آثار أخر غير الحجية بالاستقلال، مثل كونه جابرا لضعف سند أو قصور دلالة، أو كونه موهنا لحجة أخرى، أو كونه مرجحا لاحد المتعارضين على الآخر.

ومجمل القول في ذلك أنه كما يكون الاصل في الظن عدم الحجية، كذلك الاصل فيه عدم ترتب الاثار المذكورة من الجبر والوهن والترجيح.وأما تفصيل الكلام في ذلك فيقع في مقامات ثلاثة:

٢٩٠

المقام الاول: الجبر بالظن الغير المعتبر

فنقول: عدم إعتباره إما أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ونحوه، وإما من جهة دخوله تحت عمومات أصالة حرمة العمل بالظن.

وأما الاول، فلا ينبغي التأمل في عدم كونه مفيدا للجبر، لعموم ما دل على عدم جواز الاعتناء به وإستعماله في الدين.

وأما الثاني، فالاصل فيه وإن كان ذلك إلا أن الظاهر أنه إذا كان المجبور محتاجا إليه من جهة إفادته للظن بالمضمون كالخبر إذا قلنا بكونه حجة بالخصوص لوصف كونه مظنون الصدور، فأفاد تلك الامارة الغير المعتبرة الظن بصدور ذلك الخبر إنجبر قصور سنده به.

إلا أن يدعى أن الظاهر إشتراط حجية ذلك الخبر بإفادته للظن بالصدور، لا مجرد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظن

٢٩١

بصدوره من غير سنده.وبالجملة فالمتبع هو ما يفهم من دليل حجية المجبور.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في عدم إنجبار قصور الدلالة بالظن المطلق، لان المعتبر في باب الدلالات هو ظهور الالفاظ نوعا في مدلولاتها، لا مجرد الظن بمطابقة مدلولها للواقع ولو من الخارج.

فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة فهو، وإلا - بأن كان مجملا أو كان دلالته في الاصل ضعيفة، كدلالة الكلام بمفهومه الوصفي - فلا يجدي الظن بمراد الشارع من أمارة خارجية غير معتبرة بالفرض، إذ التعويل حينئذ على ذلك الظن من غير.مدخلية للكلام، بل ربما لا تكون تلك الامارة موجبة للظن بمراد الشارع من هذا الكلام.

غايته إفادته للظن بالحكم الفرعي، ولا ملازمة بينه وبين الظن بإرادته من اللفظ، فقد لا يريده بذلك اللفظ.

نعم قد يعلم من الخارج كون المراد هو الحكم الواقعي.فالظن به يستلزم الظن بالمراد، لكن هذا من باب الاتفاق.

ومما ذكرنا ظهر أن ما إشتهر - من أن ضعف الدلالة منجبر بعمل الاصحاب - غير معلوم المستند، بل وكذلك دعوى إنجبار قصور الدلالة بفهم الاصحاب لم يعلم لها بينة.

والفرق أن فهم الاصحاب وتمسكهم به كاشف ظني عن قرينة على المراد، بخلاف عمل الاصحاب، فإن غايته الكشف عن الحكم الواقعي الذي قد عرفت أنه لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ، كما عرفت.

بقي الكلام في مستند المشهور في كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر.

فإنه إن كان من جهة إفادتها الظن بصدق الخبر، ففيه - مع أنه قد لا يوجب الظن بصدور ذلك الخبر، نعم يوجب الظن بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر -: أن جلهم لا يقولون بحجية الخبر المظنون الصدور مطلقا، فإن المحكي عن المشهور إعتبار الايمان في الراوي، مع أنه لا يرتاب في إفادة الموثق للظن.

فإن قيل: إن ذلك لخروج خبر غير الامامي بالدليل الخاص، مثل منطوق آية النبأ، ومثل قوله عليه السلام: (لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا).

قلنا: إن كان ما خرج بحكم الاية والرواية مختصا بما لا يفيد الظن فلا يشمل الموثق، وإن كان عاما لما ظن بصدوره كان خبر غير الامامي المنجبر بالشهرة والموثق متساويين في الدخول تحت الدليل المخرج.

ومثل الموثق خبر الفاسق المتحرز عن الكذب والخبر المعتضد بالاولوية والاستقراء

٢٩٢

وسائر الامارات الظنية، مع أن المشهور لا يقولون بذلك، وإن كان لقيام دليل خاص عليه، ففيه المنع من وجود هذا الدليل.

وبالجملة، فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها من الامارات وبين الخبر الموثق المفيد لمثل الظن الحاصل من الضعيف المنجبر في غاية الاشكال، خصوصا مع عدم العلم بإستناد المشهور إلى تلك الرواية.

وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأن جبر الضعيف بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة.

وربما يدعى كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصة حيث أدعي الاجماع على حجيته ولم يثبت.

وأشكل من ذلك دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه، بناء على أن التبين يعم الظن الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر.

وهو بعيد، إذ لو أريد مطلق الظن فلا يخفى بعده، لان المنهي عنه ليس إلا خبر الفاسق المفيد للظن، إذ لا يعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه.

وإن أريد البالغ حد الاطمينان فله وجه، غير أنه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت ولو بضميمة المجبور حد الاطمينان ولا يختص بالشهرة.فالاية تدل على حجية الخبر المفيد للوثوق والاطمينان، ولا بعد فيه.

وقد مر في أدلة الاخبار ما يؤيده أو يدل عليه من حكايات الاجماع والاخبار.

وأبعد من الكل دعوى إستفادة حجيته مما دل من الاخبار، كمقبولة إبن حنظلة والمرفوعة إلى زرارة، على الامر بالاخذ بما إشتهر بين الاصحاب من المتعارضين.

فإن ترجيحه على غيره في مقام التعارض يوجب حجيته في مقام عدم المعارض بالاجماع والاولوية.

وتوضيح فساد ذلك أن الظاهر من الروايتين شهرة الخبر من حيث الرواية.

كما يدل عليه قول السائل فيما بعد ذلك: (فإنهما معا مشهوران)، مع أن ذكر الشهرة من المرجحات يدل على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة.

٢٩٣

المقام الثاني: في كون الظن الغير المعتبر موهنا

والكلام هنا أيضا يقع تارة فيما علم بعدم إعتباره، وأخرى فيما لم يثبت إعتباره.

وتفصيل الكلام في الاول أن المقابل له إن كان من الامور المعتبرة، لاجل إفادة الظن النوعي، أي لكون نوعه لو خلي وطبعه مفيدا للظن، وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاص، فلا إشكال في عدم وهنه بمقابلة ما علم عدم إعتباره، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح بناء على كونه من الظنون الخاصة على هذا الوجه ومن هذا القبيل: القياس في مقابلة الظواهر اللفظية فإنه لا عبرة به أصلا، بناء على كون إعتبارها من باب الظن النوعي.

ولو كان من باب التعبد فالامر أوضح.

نعم لو كان حجيته، سواء كان من باب الظن النوعي او كان من باب التعبد.

مقيدة بصورة عدم الظن على خلافه، كان للتوقف مجال.

ولعله الوجه، فيما حكاه لي بعض المعاصرين عن شيخه: أنه ذكر له مشافهة: (انه يتوقف في الظواهر المعارضة بمطلق الظن على الخلاف حتى القياس وأشباهه).

لكن هذا القول، أعني تقييد حجية الظواهر بصورة عدم الظن على خلافها، بعيد في الغاية.

وبالجملة فيكفي في المطلب ما دل على عدم جواز الاعتناء بالقياس مضافا إلى إستمرار سيرة الاصحاب على ذلك.

مع أنه يمكن أن يقال: إن مقتضى النهي عن القياس - معللا بما حاصله غلبة مخالفته للواقع - يقتضي أن لا يترتب شرعا على القياس أثر، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو كاشف بالذات، فحكمه حكم عدمه، فكان مضمونه مشكوك لا مظنون، بل مقتضى ظاهر التعليل أنه كالموهوم.

فكما أنه لا ينجبر به ضعيف لا يضعف به قوي.

ويويد ما ذكرنا الرواية المتقدمة عن أبان الدالة على ردع الامام له في رد الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرد مخالفته للقياس، فراجع.وهذا حسن.

٢٩٤

لكن الاحسن منه تخصيص ذلك بما كان إعتباره من قبل الشارع.كما لو دل الشرع على حجية الخبر ما لم يكن ظن على خلافه.فإن نفي الاثر شرعا من الظن القياسي يوجب بقاء إعتبار تلك الامارة على حاله.

وأما ما كان إعتباره من باب بناء العرف وكان مرجع حجيته شرعا إلى تقرير ذلك البناء، كظواهر الالفاظ، فإن وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم فلا يرتفع ذلك بما ورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع.

فتأثير الظن بالخلاف في القدح في حجية الظواهر ليس مثل تاثيره في القدح في حجية الخبر المظنون الخلاف في كونه مجعولا شرعيا يرتفع بحكم الشارع بنفي الاثر عن القياس، لان المنفي في حكم الشارع من آثار الشئ الموجود حسا هي الاثار المجعولة دون غيرها.

نعم يمكن أن يقال: إن العرف بعد تبين حال القياس لهم من قبل الشارع لا يعبأون به في مقام إستنباط أحكام الشارع من خطاباته، فيكون النهي عن القياس ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر لاجل مخالفتها للقياس.

ومما ذكرنا يعلم حال القياس في مقابل الدليل الثابت حجيته بشرط الظن.

كما لو جعلنا الحجة من الاخبار المظنون الصدور منها أو الموثوق به منها، فإن في وهنهما بالقياس الوجهين: من حيث رفعه للقيد المأخوذ في حجيتها على وجه الشرطية، فمرجعه إلى فقدان شرط وجداني، أعني وصف الظن بسبب القياس.

ونفي الآثار الشرعية للظن القياسي لا يجدي، لان الاثر المذكور، أعني رفع الظن، ليس من الامور المجعولة، ومن أن أصل إشتراط الظن من الشارع.

فإذا علمنا من الشارع أن الخبر المزاحم بالظن القياسي لا ينقص أصلا من حيث الايصال إلى الواقع وعدمه من الخبر السليم عن مزاحمته، وأن وجود القياس وعدمه في نظره سيان.

فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حد سواء.

ومن هنا يمكن جريان التفصيل السابق: بأنه إن كان الدليل المذكور المقيد إعتباره بالظن مما دل الشرع على إعتباره، لم يزاحمه القياس الذي دل الشرع على كونه كالعدم من جميع الجهات التي لها مدخل في الوصول إلى دين الله، وإن كان مما دل على إعتباره العقل الحاكم بتعيين الاخذ بالراجح عند إنسداد باب العلم والطرق الشرعية، فلا وجه لاعتباره مع مزاحمة القياس الرافع لما هو مناط حجيته أعني الظن.

فإن غاية الامر صيرورة مورد إجتماع تلك الامارة والقياس مشكوكا، فلا يحكم العقل فيه بشئ، إلا أن يدعي المدعى أن العقل بعد تبين حال القياس لا يسقط عنده الامارة المزاحمة به عن القوة التي تكون لها على تقدير عدم المزاحم وإن كان لا يعبر عن تلك القوة حينئذ بالظن وعن مقابلها بالوهم.

٢٩٥

والحاصل: أن العقلاء، إذا وجدوا في شهرة خاصة أو إجماع منقول مقدارا من القوة والقرب إلى الواقع، والتجأوا إلى العمل على طبقهما مع فقد العلم، وعلموا حال القياس ببيان الشارع أنه لا عبرة بما يفيده من الظن ولا يرضى الشارع بدخله في دين الله، لم يفرقوا بين كون الشهرة والاجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أم لا، لانه لا ينقصهما عما هما عليه من القوة والمزية المسماة بالظن الشأني والنوعي والطبعي.

ومما ذكرنا صح للقائلين بمطلق الظن لاجل الانسداد، إلا ما خرج، أن يقولوا بحجية الظن الشأني، بمعنى أن الظن الشخصي إذا إرتفع عن الامارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب الامارات الخارجة عنه لم يقدح ذلك في حجيتها، بل يجب القول بذلك على رأي بعضهم ممن يجري دليل الانسداد في كل مسألة مسألة، لانه إذا فرض في مسألة وجود أمارة مزاحمة بالقياس، فلا وجه للاخذ بخلاف تلك الامارة، فافهم.

هذا كله مع إستمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموار الفقهية وعدم الاعتناء به في الكتب الاصولية.

فلو كان له أثر شرعي ولو في الوهن، لوجب التعرض لاحكامه في الاصول، والبحث والتفتيش عن وجوده في كل مورد من موارد الفروع، لان الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب، وقد تركه أصحابنا في الاصول والفروع، بل تركوا روايات من اعتنى به منهم وإن كان من المؤسسين لتقرير الاصول وتحرير الفروع، كالاسكافي، الذي نسب إليه أن تدوين (أصول الفقه) من الامامية منه ومن العماني يعني إبن عقيل، قدس سرهما، وفي كلام آخر: إن تحرير الفتاوى في الكتب المستقلة منهما أيضا، جزاهما الله وجميع من سبقهما ولحقهما خير الجزاء.

ثم إنك تقدر بملاحظة ما ذكرنا في التفصي عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد من الوجوه على التكلم فيما سطرنا ههنا نقضا وإبراما.

هذا تمام الكلام في وهن الامارة المعتبرة بالظن المنهي عنه بالخصوص، كالقياس وشبهه.

وأما الظن الذي لم يثبت إلغاؤه إلا من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظن، فلا إشكال في وهنه لما كان من الامارات إعتبارها مشروطا بعدم الظن بالخلاف، فضلا عما كان إعتباره مشروطا بإفادة الظن، والسر فيه إنتفاء الشرط.

كما أنه لا إشكال في عدم الوهنية إذا كان إعتبارها من باب الظن النوعي.

وتوهم (جريان ما ذكرنا في القياس هنا من جهة أن النهي يدل على عدم كونه مؤثرا أصلا، فوجوده كعدمه من جميع الجهات)، مدفوع.

٢٩٦

المقام الثالث: في الترجيح بالظن الغير المعتبر

وقد عرفت أنه على قمسين:

أحدهما ما ورد النهي عنه بالخصوص، كالقياس وشبهه.

والآخر ما لم يعتبر، لاجل عدم الدليل وبقائه تحت أصالة الحرمه.

القسم الاول: وهو الظن الذي ورد النهي عنه بالخصوص

أما الاول، فالظاهر من أصحابنا عدم الترجيح به.

نعم يظهر من المعارج وجود القول به بين أصحابنا، حيث قال في باب القياس: (ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما، كان ذلك وجها يقتضى ترجيح ذلك الخبر على معارضه.

ويمكن أن يحتج لذلك بأن الحق في أحد الخبرين، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما، فتعين العمل بأحدهما.

وإذا كان التقدير تقدير التعارض، فلا بد في العمل باحدهما من مرجح، والقياس يصلح أن يكون مرجحا لحصول الظن به، فتعين العمل بما طابقه.

لا يقال: أجمعنا على أن القياس مطروح في الشريعة.

لانا نقول: بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لاحد الخبرين على الآخر.

وهذا لان فائدة كونه مرجحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض، فيكون العمل به، لا بذلك القياس، وفيه نظر)، إنتهى.

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين، قدست أسرارهم، بعض الميل والحق خلافه، لان رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة، فإنه لولا القياس كان العمل به جائزا.

والمقصود تحريم العمل به، لاجل القياس، وأي عمل أعظم من هذا.والفرق بين المرجح

٢٩٧

والدليل ليس إلا أن الدليل مقتض لتعين العمل به والمرجح رافع للمزاحم عنه.

فلكل منهما مدخل في العلة التامة لتعين العمل به.

فإذا كان إستعمال القياس محظورا وأنه لا يعبأ به في الشرعيات كان وجوده كعدمه غير مؤثر، مع أن مقتضى الاستناد في الترجيح به إلى إفادته للظن كونه من قبيل الجزء لمقتضي تعيين العمل، لا من قبيل دفع المزاحم، فيشترك مع الدليل المنضم إليه في الاقتضاء.هذا كله على مذهب غير القائلين بمطلق الظن.

وأما على مذهبهم: فيكون القياس تمام المقتضى بناء على كون الحجة عندهم الظن الفعلي، لان الخبر المنضم إليه ليس له مدخل في حصول الظن الفعلي بمضمونه.نعم قد يكون الظن مستندا إليهما فيصير من قبيل جزء المتقضي.

ويؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه إستمرار سيرة أصحابنا الامامية، رضوان الله عليهم، في الاستنباط على هجره وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظن القياسي أحيانا، فضلا عن أن يتوقفوا في التخيير بين الخبرين المعارضين مع عدم مرحج آخر أو الترجيح بمرجح موجود إلى أن يبحثوا عن القياس.

كيف ولو كان كذلك لاحتاجوا إلى عنوان مباحث القياس والبحث فيه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجية.

وأما القسم الآخر وهو الظن الغير المعتبر، لاجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل.فالكلام في الترجيح به يقع في مقامات.

الاول: الترجيح به في الدلالة بأن يقع التعارض بين ظهوري الدليلين، كما في العامين من وجه وأشباهه.

وهذا لا إختصاص له بالدليل الظني السند، بل يجري في الكتاب والسنة المتواترة.

الثاني: الترجيح به في وجه الصدور، بأن نفرض الخبرين صادرين وظاهري الدلالة، وانحصر التحير في تعيين ما صدر لبيان الحكم وتمييزه عما صدر على وجه التقية أو غيرها من الحكم المقتضية لبيان خلاف الواقع.

وهذا يجري في مقطوعي الصدور وفي مظنوني الصدور مع بقاء الظن بالصدور في كل منهما.

الثالث: الترجيح به من حيث الصدور بأن صار بالمرجح أحدهما مظنون الصدور.

أما المقام الاول [ وهو الترجيح بالظن الغير المتعبر في الدلالة ]

فتفصيل القول فيه: أنه إن قلنا بأن مطلق الظن على خلاف الظواهر يسقطها عن الاعتبار

٢٩٨

لاشتراط حجيتها بعدم الظن على الخلاف، فلا إشكال في وجوب الاخذ بمقتضى ذلك الظن المرجح.

لكن يخرج حينئذ عن كونه مرجحا، بل يصير سببا لسقوط الظهور المقابل له عن الحجية، لا لدفع مزاحمته للظهور المنضم إليه، فيصير ما وافقه حجة سليمة عن المعارض.

إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلا هذا الظن لاسقطه عن الاعتبار.

نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في الشواذ التي لا إعتبار بها، بل أمرنا بتركها ولو لم يكن في مقابلها خبر معتبر.

وأولى من هذا: إذا قلنا بإشتراط حجية الظواهر بحصول الظن منها أو من غيرها على طبقها.

لكن هذا القول سخيف جدا.

والاول أيضا بعيد، كما حققناه في مسألة حجية الظواهر.

وإن قلنا بأن حجية الظواهر من حيث إفادتها للظن الفعلي وأنه لا عبرة بالظن الحاصل من غيرها على طبقها، أو قلنا بأن حجيتها من حيث الاتكال على أصالة عدم القرينة التي لا يعتبر فيها إفادتها للظن الفعلي، فالاقوى عدم إعتبار مطلق الظن في مقام الترجيح، إذ المفروض على هذين القولين سقوط كلا الظاهرين عن الحجية في مورد التعارض، فأنه إذا صدر عنه قوله، مثلا: إغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه، وورد أيضا: كل شئ يطير لا بأس بخرئه وبوله، وفرض عدم قوة أحد الظاهرين من حيث نفسه على الاخر، كان ذلك مسقطا لظاهر كليهما عن الحجية في مادة التعارض، أعني خرء الطير الغير المأكول وبوله.

أما على القول الاول، فلان حجية الظواهر مشروطة بالظن المفقود في المقام.

وأما على الثاني، فلان أصالة عدم القرينة في كل منهما معارضة بمثلها في الآخر، والحكم في باب تعارض الاصلين مع عدم حكومة أحدهما على الاخر التساقط والرجوع إلى عموم أو أصل يكون حجيته مشروطا بعدم وجودهما على قابلية الاعتبار.

فلو عمل حينئذ بالظن الموجود مع أحدهما، كالشهرة القائمة في المسألة المذكورة على النجاسة، كنا قد عملنا بذلك الظن مستقلا، لا من باب كونه مرجحا، لفرض تساقط الظاهرين وصيرورتهما كالعدم.

فالمتجه حنيئذ الرجوع في المسألة، بعد الفراغ من المرجحات من حيث السند أو من حيث الصدور تقية أو لبيان الواقع، إلى قاعدة الطهارة.

القسم الثاني : وهو الترجيح بالظن الغير المعتبر في وجه الصدور

فتفصيل القول فيه أن اصالة عدم التقية - إن كان المستند فيها أصل العدم في كل حادث، بناء على أن دواعي التقية التي هي من قبيل الموانع لاظهار الحق حادثة - تدفع بالاصل، فالمرجع بعد

٢٩٩

معارضة هذا الاصل في كل خبر بمثله في الاخر هو التساقط وكذلك لو إستندنا فيها إلى أن ظاهر حال المتكلم بالكلام، خصوصا الامام، عليه السلام، في مقام إظهار الاحكام التي نصب لاجلها هو بيان الحق، وقلنا بأن إعتبار هذا الظهور مشروط بإفادته الظن الفعلي المفروض سقوطه من الطرفين.

وحينئذ فإن عملنا بمطلق الظن في تشخيص التقية وخلافها - بناء على حجية الظن في هذا المقام، لاجل الحاجة إليه من جهة العلم بصدور كثير من الاخبار تقية وأن الرجوع إلى أصالة عدمها في كل مورد يوجب الافتاء بكثير مما صدر تقية، فتعين العمل بالظن، أو لانا نفهم مما ورد في ترجيح ماخالف العامة على ما وافقهم كون ذلك من أجل كون الموافقة مظنة للتقية، فتعين العمل بما هو أبعد عنها بحسب كل أمارة - كان ذلك الظن دليلا مستقلا في ذلك المقام وخرج عن كونه مرجحا.

ولو إستندنا فيها إلى الظهور المذكور واشترطنا في إعتباره عدم الظن على خلافه، كان الخبر الموافق لذلك الظن حجة سليمة عن المعارض لا عن المزاحم كما عرفت نظيره في المقام الاول.

وإن إستندنا فيها إلى الظهور النوعي، نظير ظهور فعل المسلم في الصحيح وظهور تكلم المتكلم في كونه قاصدا، لا هازلا، ولم يشترط في إعتباره الظن الفعلي ولا عدم الظن بالخلاف، تعارض الظاهران، فيقع الكلام في الترجيح بهذا الظن المفروض، والكلام فيه يعلم مما سيجئ.

أما المقام الثالث وهو ترجيح السند بمطلق الظن

فالكلام فيه أيضا مفروض فيما إذا لم نقل بحجية الظن المطلق ولا بحجية الخبرين بشرط إفادة الظن ولا بشرط عدم الظن على خلافه، إذ يخرج الظن المفروض على هذه التقادير عن المرجحية بل يصير حجة مستقلة على الاول، سواء كان حجية المتعارضين من باب الظن المطلق أو من باب الاطمينان أو من باب الظن الخاص، فإن القول بالظن المطلق لا ينافي القول بالظن الخاص في بعض الامارات كالخبر الصحيح بعدلين ويسقط المرجوح عن الحجية على الاخيرين، فيتعين أن الكلام في مرجحيته فيما إذا قلنا بحجية كل منهما من حيث الظن النوعي كما هو مذهب الاكثر.

والكلام يقع تارة في الترجيح بالظن في مقام لولاه لحكم بالتخيير وأخرى في الترجيح به في مقام المرجحات المنصوصة في الاخبار العلاجية.

أما الكلام في الاول وملخصه:

٣٠٠