فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24778 / تحميل: 6017
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٧٤٣

وأما القسم الثاني وهو ماإذا كان الشك في كليهما مسببا عن أمر ثالث فمورده ما إذا علم إرتفاع الحادثين لا بعينه وشك في تعيينه.فإما أن يكون العمل.

بالاستصحابين مسلتزما لمخالفة قعطعية لذلك العلم الاجمالي، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين، وإما أن لا يكون.

وعلى الثاني فإما أن يقوم دليل عقلي أو نقلي على عدم الجمع، كما في الماء النجس المتمم كرا بماء طاهر، حيث قام الاجماع على إتحاد حكم المائين أولا.

وعلى الثاني إما أن يترتب أثر شرعي على كل من المستصحبين في الزمان اللاحق، كما في إستصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن في من توضأ غافلا بمايع مردد بين الماء والبول.

ومثله إستصحاب طهارة المحل في كل واحد من واجدي المني في الثوب المشترك، وإما أن يترتب الاثر على أحدهما دون الاخر، كما في دعوى الموكل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية.

فهناك صور اربع: [ الصورة الاولى والصورة الثانية ] أما الاوليان، فيحكم فيهما بالتساقط، دون الترجيح والتخيير فهنا دعويان.

إحداهما: عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجحات خلافا لجماعة.

قال في محكي تمهيد القواعد: (إذا تعارض أصلان عمل بالارجح منهما، لاعتضاده بمايرجحه، فإن تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا.

ثم مثل له بأمثلة، منها الصيد الواقع في الماء)، إلى

٣٤١

الصفحة ٧٤٤

آخر ماذكره(١).وصرح بذلك جماعة من متأخري المتأخرين.والحق على المختار، من إعتبار الاستصحاب من باب التعبد، هو عدم الترجيح بالمرجحات الاجتهادية، لان مؤدى الاستصحاب هو الحكم الظاهري، فالمرجح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يجدي في تقوية الدليل الدال على الحكم الظاهري لعدم موافقة المرجح لمدلوله، حتى يوجب إعتضاده.وبالجملة فالمرجحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون للاصول حتى تعاضدها.

وكذا الحال بالنسبة إلى الادلة الاجتهادية، فلا يرجح بعضها على بعض لموافقة الاصول التعبدية.

نعم لو كان إعتبار الاستصحاب من باب الظن النوعي أمكن الترجيح بالمرجحات الاجتهادية، بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الادلة الاجتهادية، كما ادعاه صريحا بعضهم.

لكنك عرفت فيما مضى عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الاخبار الدالة على كونه حكما ظاهريا، فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الامارات الواقعية ومخالفتها.

هذا كله مع الاغماض عما سيجئ من عدم شمول (لا تنقض) للمتعارضين وفرض شمولها لهما من حيث الذاتية، نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلا، لامتناع ذلك، بناء على المختار في إثبات الدعوى الثانية.

فلا وجه لاعتبار الراجح أصلا، لانه إنما يكون مع التعارض وقابلية المتعارضين في أنفسهما للعمل.

الدعوى الثانية: إنه إذا لم يكن مرجح فالحق التساقط دون التخيير لا لما ذكره بعض المعاصرين، من: (أن الاصل في تعارض الدليلين التساقط، لعدم تناول دليل حجيتها لصورة التعارض، لما تقرر في باب التعارض، من أن الاصل في المتعارضين التخيير إذا كان إعتبارهما من باب التعبد لا من باب الطريقية) بل لان العلم الاجمالي هنا بإنتقاض أحد الضدين يوجب خروجهما عن مدلول (لا تنقض)، لان قوله: (لا تنقض بالشك ولكن تنقضه بيقين مثله)، يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين.فإذا فرض اليقين بإرتفاع الحالة السابقة

____________________

(١) تمهيد القواعد، ص ٤٠.

٣٤٢

الصفحة ٧٤٥

في أحد المستصحبين، فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لانه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله، ولا إبقاء أحدهما المعين لاشتراك الاخر معه في الدخول من غير مرجح.

وأما أحدهما المخير فليس من أفراد العام، إذا ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخصين في الخارج، فإذا خرجا لم يبق شئ.

وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة، وأن قوله، عليه السلام: (كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام)، لا يشمل شيئا من المشتبهين.

وربما يتوهم أن عموم دليل الاستصحاب، نظير قوله: أكرم العلما، وأنقذ كل غريق، واعمل بكل خير، في أنه إذا تعذر العمل بالعام في فردين متنافيين لم يجز طرح كلهما، بل لا بد من العمل بالممكن وهو أحدهما تخييرا وطرح الاخر، لان هذا غاية المقدور.

ولذا ذكرنا في باب التعارض أن الاصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح التخيير بالشرط المتقدم لا التساقط.

والاستصحاب أيضا أحد الادلة، فالواجب بالعمل باليقين السابق بقدر الامكان.

فإذا تعذر العمل باليقين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ولا يجوز طرحهما.

ويندفع هذا التوهم بأن عدم التمكن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما فالخارج هو غير المقدرو، وهو العمل بكل منهما مجامعا مع العمل بالاخر.وأما فعل أحدهما المنفرد عن الاخر فهو مقدور فلا يجوز تركه.

وفي ما نحن فيه ليس كذلك، إذ بعد العلم الاجمالي لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدم القدرة.

نعم مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك إستصحابان بشكين مستقلين إمتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما من دون علم إجمالي بإنتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع، فإنه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخير وطرح المخير، فيكون الحكم الظاهري مؤدى أحدهما.

وإنما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين، لعدم العثور على مصداق له، فإن الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بإرتفاع أحد المستصحبين، وقد عرفت أن عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوغها العجز، لانه نقض اليقين باليقين، فلم يخرج عن عموم عن عموم (لا تنقض) عنوان ينطبق على الواحد التخييري.

وأيضا فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معينا في الواقع غير معين عندنا ليكون الفرد الاخر الغير المعين باقيا تحت العام.كما إذا قال أكرم العلماء وخرج فرد واحد غير معين عندنا.

فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقلي في الافراد، إذ لا إستصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر، لان الواقع بقاء إحدى الحاليتن وإرتفاع الاخرى.

٣٤٣

الصفحة ٧٤٦

نعم نظيره في الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الاخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ووجب نقض الاخر به.

ومعلوم أن ما نحن فيه ليس كذلك، لان المعلوم إجمالا في ما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين لا بوصف زائد وإرتفاع الاخر، لا إعتبار الشارع لاحد الاستصحابين وإلقاء الاخر.

فتبين أن الخارج من عموم (لا تنقض) ليس واحدا من المتعارضين، لا معينا ولا مخيرا، بل لما وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما، فيرجع إلى قواعد أخر غير الاستصحاب.

كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة.

ولذا لا نفرق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة وبين عدم حالة سابقة معلومة.

فإن مقتضى الاحتياط فهيما، وفيما تقدم من مسألة الماء النجس المتمم كرا الرجوع إلى قاعدة الطهارة.وهكذا.

ومما ذكرنا يظهر أنه في التساقط بين أن يكون في كل من الطرفين أصل واحد وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد.

فالترجيح بكثرة الاصول بناء على إعتبارها من باب التعبد لا وجه له، لان المفروض أن العلم الاجمالي يوجب خروج جيمع مجاري الاصول عن مدلول (لا تنقض)، على ما عرفت.

نعم الترجيح بناء على إعتبار الاصول من باب الظن النوعي.

وأما الصورة الثالثة وهو ما يعمل فيه بالاستصحابين فهو ما كان العلم الاجمالي بإرتفاع أحد المستصحبين فيه غير مؤثر شيئا، فمخالفته لا توجب مخالفة عملية لحكم شرعي.

كما لو توضأ إشتباها بمائع مردد بين البول والماء، فإنه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الاعضاء إستصحابا لهما.

وليس العلم الاجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك، إذ الواحد المردد بين الحدث وطهارة اليد لا يترتب على حكم شرعي حتى يكون ترتيبه مانعا عن العمل بالاستصحابين، ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الاعضاء، مخالفة عملية لحكم شرعي أيضا.

نعم ربما يستشكل ذلك في الشبهة الحكمية.

وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدمات حجية الظن عند التكلم في حجية العلم.

٣٤٤

الصفحة ٧٤٧

وأما الصورة الرابعة وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم إرتفاع أحدهما مما يكون موردا لابتلاء المكلف دون الاخر، بحيث لا يتوجه على المكلف تكليف منجز يترتب أثر شرعي عليه.

وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين، إذ قوله: (لا تنقض اليقين)، لا يشمل اليقين الذي لا يترتب عليه في حق المكلف أثر شرعي بحيث لا تعلق له به أصلا.

كما إذا علم إجمالا بطرو الجناية عليه أو على غيره، وقد تقدم أمثلة ذلك.

ونظير هذا كثير، مثل أنه علم إجمالا بحصول التوكيل من الموكل، إلا أن الوكيل يدعي وكالته في شئ، والموكل ينكر توكيله في ذلك الشئ، فإنه لا خلاف في تقديم قول الموكل لاصالة عدم توكيله فيما يدعيه الوكيل، ولم يعارضه أحد بأن الاصل عدم توكيله فيما يدعيه الموكل أيضا.

وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا، فإن الاصل عدم النكاح الدائم من حيث أنه سبب للارث ووجوب النفقة والقسم.

ويتضح ذلك بتتبع كثير من فروع التنارع في أبواب الفقه.

ولك أن تقول بتساقط الاصلين في هذه المقامات والرجوع إلى الاصول الاخر الجارية في لوازم المشتبهين.

إلا أن ذلك إن ذلك إنما يتمشى في إستصحاب الامور الخارجية.

أما مثل أصالة الطهارة في كل من واجدي المني، فإنه لا وجه للتساقط هنا.

ثم لو فرض في هذه الامثلة أثر لذلك الاستصحاب الاخر، دخل في القسم الاول، إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم إجمالي معتبر في العمل ولا عبرة بغير المعتبر، كما في الشبهة الغير المحصورة، وفي القسم الثاني إن لم يكن هناك مخالفة عملية لعلم إجمالي معتبر.

فعليك بالتأمل في موارد إجتماعين سابقين مع العلم الاجمالي من عقل أو شرع أو غيرهما بإرتفاع أحدهما وبقاء الاخر.

والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في الشبهات الموضوعية، ولازمه جواز إجراء المقلد لها بعد أخذ فتوى جواز الاخذ بها من المجتهد، إلا أن تشخيص سلامتها من الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفه كل أحد.

فلا بد إما من قدرة المقلد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها وإما من أخذ خصوصيات الاصول السليمة عن الحاكم من المجتهد.

وإلا فربما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون إلتفات إلى الاستصحاب الحاكم.وهذا

٣٤٥

الصفحة ٧٤٨

يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي.نظير تشخيص حجية أصل الاستصحاب وعدمها.

عصمنا الله وإخواننا من الزلل في القول والعمل بحق محمد وآله المعصومين صلوات الله عليهم إجمعين إلى يوم الدين.

كتب في النجف الاشرف على مشرفها آلاف التحية والسلام، على يد أحقر عباد الله وأقل الطلاب محمد صالح بن محمد قاسم الخراساني مشهدي المسكن ودولابي المولد من قراء‌ه بلوك الدر داب في شهر ربيع الثاني في ١٢٦٩.

اللهم اغفر لنا ولوالديه بجاه محمد وآله.

٣٤٦

الصفحة ٧٤٩

٣٤٧

الصفحة ٧٥٠

خاتمة في التعادل والترجيح

وحيث أن موردهما الدليلان المتعارضان، فلا بد من تعريف التعارض وبيانه.

وهو، لغة من العرض بمعنى الاظهار، وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما بإعتبار ملدولهما.

ولذا ذكروا أن التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد.

وكيف كان، فلا يتحقق إلا بعد إتحاد الموضوع وإلا لم يمتنع إجتماعهما.

ومنه يعلم أنه لا تعارض بين الاصول وما يحصله المجتهد من الادلة الاجتهادية، لان موضوع الحكم، في الاصول، الشي بوصف أنه مجهول الحكم.

والدليل المفروض إن كان بنفسه يفيد العلم صار المحصل له عالما بحكم العصير فلا يقتضي الاصل حليته، لانه إنما إقتضى حلية مجهول الحكم.

فالحكم بالحرمة ليس طرحا للاصلن بل هو بنفسه غير جار وغير مقتض، لان موضوعه مجهول الحكم وإن كان بنفسه لا يفيد العلم، بل هو محتمل الخلاف، لكن ثبت إعتباره بدليل علمي.

فإن كان الاصل مما كان مؤداه بحكم العقل، لان موضوع البراء‌ة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين، فالدليل أيضا وارد عليه ورافع لموضوعه، لان موضوع الاول عدم البيان، وموضوع الثاني إحتمال العقاب، ومورد الثالث عدم الترجيح لاحد طرفي التخيير.وكل ذلك مرتفع بالدليل العلمي المذكور.

وإن كان مؤداه من المجعولات الشرعية، كالاستصحاب ونحوه، كان ذلك الدليل حاكما على الاصل، بمعنى أنه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الاصل.

فالدليل العلمي المذكور وإن لم يرفع موضوعه، أعني الشك، إلا أنه يرفع حكم الشك، أعني الاستصحاب.

وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الاخر ورافعا

٣٤٨

الصفحة ٧٥١

للحكم الثابت بالدليل الاخر عن بعض أفراد موضوعه.فيكون مبينا لمقدار مدلوله، مسوقا لبيان حاله، عليه.

نظير الدليل الدال على أنه لا حكم للشك في النافلة او مع كثرة الشك أو مع حفظ الامام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل، فإنه حاكم على الادلة المتكلفة لاحكام هذه الشكوك.

فلو فرض أنه لم يرد من الشارع حكم الشكوك لا عموما ولا خصوصا، لم يكن مورد للادلة النافية لحكم الشك في هذه الصور.

والفرق بينه وبين التخصيص: أن كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع القرينة الصارفة، وهذا بيان بلفظه للمراد ومفسر للمراد من العام فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير.

ثم الخاص إن كان قطعيا تعين طرح عموم العام، وإن كان ظنيا دار الامر بين طرحه وطرح العموم.

ويصلح كل منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الاخر، فلا بد من الترجيح، بخلاف الحاكم، فإنه يكتفي به في صرف المحكوم عن ظاهره، فلا يكتفي بالمحكوم وصرف الحاكم عن ظاهره، بل يحتاج إلى قرينة أخرى، كما يتضح ذلك بملاحظة الامثلة المذكورة.

فالثمرة بين التخصيص والحكومة تظهر في الظاهرين حيث لا يقدم المحكوم ولو كان الحاكم أضعف منه، لانه صرفه عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة أخرى هي مدفوعة بالاصل.

وأما الحكم بالتخصيص فيتوقف على ترجيح ظهور الخاص وإلا أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه.

فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجيح حكومة الادلة الظنية من الاصول، فنقول: قد جعل الشارع للشئ المحتمل للحل والحرمة حكما شرعيا أعني الحل، ثم حكم بأن الامارة الفلانية، كخبر العادل الدال على حرمة العصير، حجة، بمعنى أنه لا يعبأ بإحتمال مخالفة مؤداه للواقع.

فإحتمال حلية العصير المخالف للامارة بمنزلة العدم لا يترتب عليه حكم شرعي، كأن يترتب عليه لولا هذه الامارة.

وهو ما ذكرنا من الحكم بالحلية الظاهرية.فمؤدى الامارات بحكم الشارع كالمعلوم لا يترتب عليه الاحكام الشرعية المجعولة للمجهولات.ثم إن ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الاصول اللفظية أيضا.فإن أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يكن هناك قرينة على المجاز.فإن كان المخصصن مثلا، دليلا علميا، كان واردا على الاصل المذكور.فالعمل بالنصل

٣٤٩

الصفحة ٧٥٢

القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الاصل العملي، وإن كان المخصص ظنيا معتبرا كان حاكما على الاصل، لان معنى حجية الظن جعل إحتمال مخالفة مؤداه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتب ما كان يترتب عليه من الاثر لولا حجية هذه الامارة، وهو وجوب العمل بالعموم، فإن الواجب عرفا وشرعا العمل بالعموم عند إحتمال وجود المخصص وعدمه.فعدم العبرة بإحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم.

فثبت: أن النص وارد على أصالة الحقيقة في الظاهر إذا كان قطعيا من جميع الجهات وحاكم عليه إذا كان ظنيا في الجملة، كالخاص الظني السند مثلا.

ويحتمل أن يكون الظن أيضا واردا، بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا معلقا على عدم التعبد بالتخصيص.

فحالها حال الاصول العقلية، فتأمل.هذا كله على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة.

وأما إذا كان من جهة الظن النوعي الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصلة من الغلبة أو من غيرها، فالظاهر أن النص وارد عليها مطلقا وإن كان النص ظنيا، لان الظاهر أن دليل حجية الظن الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند أصالة الظهور مقثد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه.فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل.نظير إرتفاع موضوع الاصل بالدليل.

ويكشف عما ذكرنا: أنا لم نجد ولا نجد من أنفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص وإن فرض كونه اضعف الظنون المعتبرة.

فلو كان حجية ظهور العام غير معلق على عدم الظن المعتبر على خلافه لوجد مورد نفرض فيه أضعفيه مرتبة الظن الخاص من الظن العام حتى يقدم عليه، أو مكافئته له حتى يتوقف.

مع أنا لم نسمع موردا يتوقف في مقابلة العام من حيث هو والخاص، فضلا على أن يرجح عليه.

نعم لو فرض الخاص ظاهرا أيضا خرج عن النص وصارا من باب التعارض الظاهرين وربما يقدم العام.

وهذا نظير الاستصحاب على القول به، فإنه لم يسمع مورد يقدم الاستصحاب على الامارة المعتبرة المخالفة له، فيكشف على أن إفادته للظن أو إعتبار ظنه النوعي مقيد بعدم [ قيام ] ظن آخر على خلافه، فافهم.

ثم إن التعارض، على ما عرفت من تعريفه، لا يكون في الادلة القطعية، لان حجيتها إنما هي من حيث صفة القطع، والقطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظن بالاخر غير ممكن.

ومنه يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين يكون حجيتهما بإعتبار صفة الظن الفعلي، لان

٣٥٠

الصفحة ٧٥٣

إجتماع الظنين بالمتنافيين محال.فإذا تعارض سببان للظن الفعلي، فإن بقى الظن في أحدهما فهو المعتبر، وإلا تساقطا.

وقولهم: (إن التعارض لا يكون إلا في الظنين)، يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظن.

وإنما أطلقوا في ذلك، لان أغلب الامارات بل جميعا عند جل العلماء، بل ما عدا جمع ممن قارب عصرنا معتبرة من هذه الحيثية، لا لافادة الظن الفعلي بحيث يناط الاعتبار به.

ومثل هذا في القطعيات غير موجودة، إذ ليس هنا ما يكون إعتباره من باب إفادة نوعه للقطع، لان هذا يحتاج إلى جعل الشارع، فيدخل حينئذ في الادلة الغير القطعية، لان الاعتبار في الادلة القطعية من حيث صفة القطع.

فهي في المقام منتفية، فيدخل في الادلة الغير القطعية.لا أن المراد من الدليل هو ما يكون إعتباره بجعل الشارع وإعتباره.

إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أن الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين، لان المتعارضين إما أن يكون لاحدهما مرجح على الاخر، وإما أن لا يكون، بل يكونان متعادلين متكافئين.وقبل الشروع في بيان حكمهما لا بد من الكلام في القضيه المشهورة.

وهي: أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح والمراد من الكلام في القضية المصرح به في كلام بعضهم وفي معقد إجماع بعض آخر أعم من طرح أحدهما لمرجح في الاخر فيكون الجمع من التعادل أولى من التخيير ومع وجود المرجح اولى من الترجيح.

قال الشيخ إبن أبي جمهور الاحسائي في عوالي اللئالي، على ما حكي عنه: (إن كل حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أولا البحث عن معناهما وكيفية دلالة ألفاظهما.

فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله، فإن العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء.فإذا لم تتمكن من ذلك أو لم يظهر لك وجهه، فارجع إلى العمل بهذا الحديث.واشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة)(١)، إنتهى.

واستدل عليه، تارة، بأن الاصل في الدليلين الاعمال، فيجب الجمع بينهما مهما أمكن،

____________________

(١) عوالي اللئالي، ج ٤، ص ١٣٦.

٣٥١

الصفحة ٧٥٤

لاستحالة الترجيح من غير مرجح.وأخرى، بأن دلالة اللفظ على تمام معناه أصلية وعلى جزئه تبعية.

وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعية، وهو أولى مما يلزم على تقدير عدمه، وهو إهمال دلالة أصلية.

ولا يخفى: أن العمل بهذه القضية على ظاهرها يوجب سد باب الترجيح والهرج في الفقه، كما لا يخفى.

ولا دليل عليه، بل الدليل على خلافه من الاجماع والنص.

أما عدم الدليل عليه، فلان ما ذكر من أن الاصل في الدليل الاعمال مسلم، لكن المفروض عدم إمكانه في المقام، فإن العمل بقوله، عليه السلام: (ثمن العذرة سحت)(١)، وقوله: (لا بأس ببيع العذرة)(٢)، على ظاهرهما غير ممكن، وإلا لم يكونا متعارضين.

وإخراجهما عن ظاهرهما بحمل الاول على عذرة غير مأكول اللحم والثاني على عذرة مأكول اللحم ليس عملا بهما، إذ كما يجب مراعادة السند في الرواية والتعبد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجية، كذلك يجب التعبد بإرادة المتكلم ظاهر الكلام المفروض وجوب التعبد بصدوره إذا لم يكن هنا قرينة صارفة.

ولا ريب أن التعبد، بصدور أحدهما المعين إذا كا هناك مرجح والمخير إذا لم يكن، ثابت على تقدير الجمع وعدمه، فالتعبد بظاهره واجب.كما أن التعبد بصدور الاخر أيضا واجب.

فيدور الامر بين عدم التعبد بصودر ما عدى الواحد المتفق على التعبد به وبين عدم التعبد بظاهر الواحد المتفق على التعبد به، ولا أولوية للثاني.

بل قد يتخيل العكس فيه من حيث أن في الجمع ترك التعبد بظاهرين وفي طرح أحدهما ترك التعبد بسند واحد.

لكنه فاسد، من حيث ترك التعبد بظاهر ما لم يثبت التعبد بصدوره ولم يحرز كونه صادرا عن المتكلم وهو ما عدى الواحد المتيقن العمل به ليس مخالفا للاصل، بل التعبد غير معقول، إذ لا ظاهر حتى يتعبد به، فليس مخالفا للاصل تركا للتعبد بما يجب التعبد به.

ومما ذكرنا يظهر فساد توهم أنه إذا عملنا بدليل حجية الامارة فيهما وقلنا بأن الخبرين معتبران سندا، فيصيران كمقوطعي الصدور.

ولا إشكال ولا خلاف في أنه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقوطوعي الصدور، كآيتين أو متواترين، وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما، فيكون

____________________

(١) تهذيب الاحكام، ج ٦، ص ٣٧٢.

(٢) تهذيب الاحكام، ج ٦، ص ٣٧٣.

٣٥٢

الصفحة ٧٥٥

القطع بصدورهما عن المعصوم، عليه السلام، قرينة صارفة لتأويل كل من الظاهرين.

وتوضيح الفرق وفساد القياس: أن وجوب التعبد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور.بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر.وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبد بالسند.

وبعبارة أخرى: العمل بمقتضى أدلة إعتبار السند والظاهر بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما غير ممكن، والممكن من هذه الامور الاربعة إثنان لا غير: إما الاخذ بالسندين وما الاخذ بظاهر وسند من أحدهما.

فالسند الواحد منهما متيقن الاخذ به.

وطرح أحد الظاهرين وهو ظاهر الاخر الغير المتيقن الاخذ بسنده ليس مخالفا للاصل، لان المخالف للاصل إرتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبد بصدوره، فيدور الامر بين مخالفة أحد الاصلين: إما مخالفة دليل التعبد بالصدور في غير المتيقن التعبد، وإما مخالفة الظاهر في متيقن التعبد.

وأحدهما ليس حاكما على الاخرن لان الشك فيهما مسبب عن ثالث، فيتعارضان.

ومنه يظهر فساد قياس ذلك بالنص الظني السند مع الظاهر حيث يوجب الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر، لا سند النص.

توضيحه: أن سند الظاهر لا يزاحم دلالته ولا سند النص ولا دلالته: أما دلالته فواضح، إذ لا يبقى مع طرح السند مراعاة للظاهر، وأما سند النص ودلالته، فإنما يزاحمان ظاهره لا سنده.

وهما حاكمان على ظهوره، لان من آثار التعبد به رفع اليد عن ذلك الظهور، لان الشك فيه مسبب عن الشك في التعبد بالنص.

وأضعف مما ذكمر توهم قياس ذلك بما إذا كان خبر بلا معارض، لكن ظاهره مخالف للاجماع، فإنه يحكم بمقتضى إعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله.

لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس، إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره.

بخلاف ما نحن فيه، فإنا إذا طرحنا سند أحد الخبرين أمكننا العمل بظاهر الاخر، ولا مرجح لعكس ذلك.

بل الظاهر هو الطرح، لان المرجح والمحكم في الامكان الذي قيد به وجوب العمل بالخبرين هو العرف، ولا شك في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله: (أكرم العلماء، ولا تكرم العلماء)، نعم لو فرض علمهم بصدور كليهما حملوا أمر الامر بالعمل بهما على إرادة ما يعم العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف.

ولاجل ما ذكرنا وقع من جماعة من أجلاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين، مع

٣٥٣

الصفحة ٧٥٦

ما هو مركوز في ذهن كل واحد.من أن كل دليل شرعي يجب العمل به مهما أمكن.فلو لم يفهموا عدم الامكان في المتعارضين لم يبق وجه للتحير الموجب للسؤال.مع أنه لم يقع الجواب في شئ من تلك الاخبار العلاجية بوجوب الجمع بتأويهما معا.

وحمل مورد السؤال على صورة تعذر تأويلهما ولو بعيدا تقييد بفرد غير واقع في الاخبار المتعارضة.

وهذا دليل آخر على عدم كلية هذه القاعدة.

هذا كله مضافا إلى مخالفتها للاجماع، فإن علماء الاسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا يستعملون المرجحات في الاخبار المتعارضة بظواهرها ثم إختيار أحدهما وطرح الاخر من دون تأويلهما معا، لاجل الجمع.

وأما ما تقدم من عوالي اللئالي فليس نصا بل ولا ظاهرا في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على التخيير والترجيح، فإن الظاهر من الامكان في قوله: (فإن أمكنك التوفيق بينهما)، هو الامكان العرفي في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان، فإن حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان، بخلاف حمل العام والمطلق على الخاص والمقيد.

ويؤيده قوله أخيرا: (فإذا لم تتمكن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث)، فإن مورد عدم التمكن نادر جدا.

وبالجملة، فلا يظن بصاحب العوالي ولا بمن هو دونه أن يقتصر في الترجيح على موارد لا يمكن تأويل كليهما، فضلا عن دعواه الاجماع على ذلك.

والتحقيق الذي عليه أهله: أن الجمع بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما على أقسام ثلاثة:

أحدهما ما يكون متوقفا على تأويلهما معا.

والثاني ما يتوقف على تأويل أحدهما المعين.

والثالث ما يتوقف على تأويل أحدهما لا بعينه.

أما الاول، فهو الذي تقدم أنه مخالف للدليل والنص والاجماع.

وأما الثاني، فهو تعارض النص والظاهر الذي تقدم أنه ليس بتعارض في الحقيقة.

وأما الثالث، فمن أمثلته العام والخاص من وجه، حيث يحصل الجمع بتخصيص أحدهما مع بقاء الاخر على ظاهره.

وثمل قوله: (إغتسل يوم الجمعة)، بناء على أن ظاهر الصيغة الوجوب.

وقوله: (ينبغي غسل الجمعة)، بناء على ظهور هذه المادة في الاستحباب فإن الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما.

وحينئذ، فإن كان لاحد الظاهرين مزية وقوة على الاخر بحيث لو إجتمعا في كلام واحد، نحو

٣٥٤

الصفحة ٧٥٧

رأيت أسدا يرمي، أو إتصلا في كلامين لمتكلم واحد تعين العمل بالاظهر وصرف الظاهر إلى ما لا يخالفه كان حكم هذا حكم القسم الثاني في أنه إذا تعبد بصدور الاظهر يصير قرينة صارفة للظاهر من دون عكس.

نعم الفرق بينه وبين القسم الثاني أن التعبد بصدور النص لا يمكن إلا بكونه صارفا عن الظاهر، ولا معنى له غير ذلك.ولذا ذكرنا دوران الامر فيه بين طرح دلالة الظاهر وطرح سند النص.

وفيما نحن فيه يمكن التعبد بصدور الاظهر وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الاظهر، لان كلا من الظهورين مستند إلى أصالة الحقيقة.إلا أن العرف يرجحون أحد الظهورين على الاخر.

فالتعارض موجود والترجيح بالعرف بخلاف النص والظاهر.

وأما لو لم يكن لاحد الظاهرين مزية على الاخر، فالظاهر أن الدليل المتقدم في الجمع وهو ترجيح التعبد بالصدور على أصالة الظهور غير جار هنا، إذ لو جمع بينهما وحكم بإعتبار سندهما وبأن أحدهما لا بعينه مؤول لم يترتب على ذلك أزيد من الاخذ بظاهر أحدهما، إما من باب عروض الاجمال لهما بتساقط أصالتي الحقيقة في كل منهما لاجل التعارض فيعمل بالاصل الموافق لاحدهما، وإما من باب التخيير في الاخذ بواحد من أصالتي الحقيقة على أضعف الوجهين في حكم تعارض الاحوال إذا تكافئت.وعلى كل تقدير يجب طرح أحدهما.

نعم يظهر الثمرة في إعمال المرجحات السندية في هذا القسم، إذ على العمل بقاعدة الجمع يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما، كمقطوعي الصدور، بخلف ما إذا أدرجناه فيما لا يمكن الجمع، فإنه يرجع فيه إلى المرجحات.

وقد عرفت أن هذا هو الاقوى وأنه لا محصل للعمل بهما على أن يكونا مجملين ويرجع إلى الاصل الموافق لاحدهما، [ ليكون حاصل الامر بالتعبد بهما ترك الجمع بينهما والاخذ بالاصل المطابق لاحدهما ].

ويؤيد ذلك بل يدل عليه: أن الظاهر من العرف دخول هذا القسم في الاخبار العلاجية الآمرة بالرجوع إلى المرجحات.

لكن يوهنه: أن اللازم حينئذ بعد فقد المرجحات التخيير بينهما، كما هو صريح تلك الاخبار.

مع أن الظاهر من سيرة العلماء عدا ما سيجئ من الشيخ، رحمه الله، في النهاية والاستبصار في مقام الاستنباط التوقف والرجوع إلى الاصل المطابق لاحدهما.

إلا أن يقال: إن هذا من باب الترجيح بالاصل فيعملون بمطابق الاصل منهما لا بالاصل

٣٥٥

الصفحة ٧٥٨

المطابق لاحدهما.ومع مخالفتهما للاصل فاللازم التخيير على كل تقدير.

غاية الامر ان التخيير شرعي إن قلنا بدخولهما في عموم الاخبار، وعقلي على القول به في مخالفي الاصل إن لم نقل.

وقد يفصل: بين ما إذا في كل منهما سليم عن المعاض، وبين غيره، كقوله: إغتسل للجمعة، وينبغي غسل الجمعة.

فيرجح الجمع على الطرح في الاول، لوجوب العمل بكل منهما في الجملة، فيستبعد الطرح في مادة الاجتماع بخلاف الثاني، وسيجئ تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

بقي في المقام: أن شيخنا الشهيد الثاني، رحمه الله، فرع في تمهيده: (على قضية أولوية الجمع الحكم يتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما أو لا يد لاحدهما وأقاما بينة)، إنتهى المحكي عنه.

ولو خص المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقق القمي، رحمه الله، وإن كان ذلك أيضا لا يخلو عن مناقشة يظهر بالتأمل.

وكيف كان فالاولى التمثيل بها وبما أشبهها، مثل حكمهم بوجوب العمل بالبينات في تقويم المعيب والصحيح.

وكيف كان، فالكلام في مستند أولوية الجمع بهذا النحو، أعنى العمل بكل من الدليلين في بعض مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعية لمقتضي الدليلين، لان الدليل الواحد لا يتبعض في الصدق والكذب.ومثل هذا غير جار في أدلة الاحكام الشرعية.

والتحقيق: أن العمل بالدليلين، بمعنى الحركة والسكون، على طبق مدلولهما غير ممكن مطلقا.

فلا بد، على القول بعموم القضية المشهورة، من العمل على وجه يكون فيه جمع بينهما من جهة وإن كان طرحا من جهة أخرى في مقابل طرح أحدهما رأسا.

والجمع في أدلة الاحكام عندهم بالعمل بهما من حيث الحكم بصدقهما وإن كان فيه طرح لهما من حيث ظاهرهما.

وفي مثل تعارض البينات، لما لم يمكن ذلك، لعدم تأتي التأويل في ظاهرها كلمات الشهود، فهي بمنزلة النصين المتعارضين، إنحصر وجه الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق بأن يصدق كل من المتعارضين في بعض ما يخبر به.فمن أخبر بأن هذا كله لزيد فصدقه في نصف الدار.

وكذا من شهد بأن قيمة هذا الشئ صحيحا كذا ومعيبا كذا فصدقه في أن قيمة كل نصف منه منضما إلى نصفه الاخر نصف القيمة.

وهذا النحو غير ممكن في الاخبار، لان مضمون خبر العادل، أعني صدور هذا القول الخاص من الامام، عليه السلام، غير قابل للتبعيض، بل هو نظير تعارض البينات في الزوجه أو النسب.

٣٥٦

الصفحة ٧٥٩

نعم قد يتصور التبعيض في ترتيب الاثار على تصديق العادل إذا كان كل من الدليلين عاما ذا أفراد، فيؤخذ بقوله في بعضها وبقول الاخر في بعضها، فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم فيما إذا ورد: (أكرم العلماء)، وورد أيضا: (أهن العلماء)، سواء كانا نصين بحيث لا يمكن التجوز في أحدهما، أو ظاهرين، فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوز وعلى طريق التبعيض.

إلا أن المخالفة القطعية في الاحكام الشرعية لا ترتكب في واقعة واحدة، لان الحق فيها للشارع ولا يرضى بالمعصية القطعية مقدمة للعلم بالاطاعة، فيجب إختيار أحدهما وطرح الاخر.

بخلاف حقوق الناس، فإن الحق فيها لمتعدد، فالعمل بالبعض في كل منهما جمع بين الحقين من غير ترجيح لاحدهما على الاخر بالدواعي النفسانية.

فهو أولى من الاهمال الكلي لاحدهما وتفويض تعيين ذلك إلى إختيار الحاكم ودواعين النفسانية الغير المنضبطة في الموارد.

ولاجل هذا يعد الجمع بهذا النحو مصالحة بين الخصمين عند العرف، وقد وقع التعبد به في بعض النصوص أيضا.

فظهر مما ذكرنا: أن الجمع في أدلة الاحكام النحو المتقدم من تأويل كليهما لا أولوية له أصلا على طرح أحدهما والاخذ بالاخر، بل الامر بالعكس.

وأما الجمع بين البينات في حقوق الناس، فهو وإن كان لا أولوية فيه على طرح أحدهما بحسب أدلة حجية البينة، لانها تدل على وجوب الاخذ بكل منهما في تمام مضمونه، فلا فرق في مخالفتها بين الاخذ لا بكل منهما، بل بأحدهما أو بكل منهما، لا في تمم مضمونه بل في بعضه.

إلا أن ما ذكره من الاعتبار لعله يكون مرجحا للثاني على الاول.

ويؤيده ورود الامر بالجمع بين الحقين بهذا النحو في رواية السكوني المعمول بها فيمن أودعه رجل درهمين وآخر درهما فامتزجا بغير تفريط وتلف أحدهما، هذا.

ولكن الانصاف: أن الاصل في موارد تعارض البينات وشبهها هي القرعة.نعم يبقى الكلام في كون القرعة مرجحة للبينة المطابقة لها أو مرجعا بعد تساقط البينتين.

وكذا الكلام في عموم موارد القرعة أو إختصاصها بما لا يكون هناك أصل عملي كأصالة الطهارة مع إحدى البينتين، وللكلام مورد آخر.

فلنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: حيث تبين عدم تقدم الجمع على الترجيح ولا على التخيير، فلا بد من الكلام في المقامين اللذين ذكرنا أن الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما، فنقول: [ إن المتعارضين، إما أن لا يكون مع أحدهما مرجح فيكونان متكافئين متعادلين، وإما أن يكون مع أحدهما مرجح ].

٣٥٧

الصفحة ٧٦٠

المقام الاول في المتكافئين

والكلام فيه، أولا، في أن الاصل في المتكافئين التساقط وفرضهما كأن لم يكونا أولا.

ثم اللازم بعد عدم التساقط الاحتياط أو التخيير أو التوقف والرجوع إلى الاصل المطابق لاحدهما دون المخالف لهما، لانه معنى تساقطهما.

فنقول، وبالله المستعان: قد يقال، بل قيل: إن الاصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما، لان دليل الحجية مختص بغير صورة التعارض، أما إذا كان إجماعا، فلاختصاصه بغير المتعارضين وليس فيه عموم او إطلاق لفظي يفيد العموم [ ليكون مدعي الاختصاص محتاجا إلى المخصص والمقيد ] وأما إذا كان لفظا، فلعدم إمكان إرادة المتعارضين من عموم ذلك اللفظ، لانه يدل على وجوب العمل عينا بكل خبر مثلا.

ولا ريب أن وجوب العمل عينا بكل من المتعارضين ممتنع.

والعمل بكل منهما تخييرا لا دليل عليه، إذ لا يجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد.

وأما العمل بأحدهما الكلي عينا فليس من أفراد العام، لان أفراده هي المشخصات الخارجية، وليس الواحد على البدل فردا آخر، بل هو عنوان منتزع منها غير محكوم عليه بحكم نفس المشخصات بعد الحكم بوجوب العمل بها عينا، هذا.

لكن ما ذكره من الفرق بين الاجماع والدليل اللفظي لا محصل ولا ثمرة له فيما نحن فيه، لان المفروض قيام الاجماع على أن كلا منهما واجب العمل لولا المانع الشرعي، وهو وجوب العمل بالاخر، إذ لا نعني بالمتعاضين إلا ما كان كذلك.

وأما ما كان وجود أحدهما مانعا عن وجوب العمل بالاخر فهو خارج عن موضوع التعارض، لان الامارة الممنوعة لا وجوب للعمل بها.

والامارة المانعة إن كانت واجبة العمل تعين العمل بها

٣٥٨

الصفحة ٧٦١

لسلامتها عن معارضة الاخرى.

فهي بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك، وتلك لا تمنع وجوب العمل بهذه، لا بوجودها ولا بوجوبها، فافهم.

والغرض من هذا التطويل حسم مادة الشبهة التي توهمها بعضهم: من أن القدر المتيقن من أدلة الامارات التي ليس لها عموم لفظي هو حجيتها مع الخلو عن المعارض.

وحيث إتضح عدم الفرق في المقام بين كون أدلة الامارات من العمومات او من قبيل الاجماع، فنقول: إن الحكم بوجوب الاخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ليس لاجل شمول العموم اللفظي لاحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع، لان ذلك غير ممك، كما تقدم وجهه في بيان الشبهة، وإنما هو حكم عقلي يحكم به العقل بعد ملاحظة وجوب كل منهما في حد نفسه بحيث لو أمكن الجمع بينهما وجب كلاهما، لبقاء المصلحة في كل منهما.

غاية الامر أنه يفوته إحدى المصلحتين ويدرك الاخرى.

ولكن، لما كان إمتثال التكليف [ بالعم بكل ] منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة، والمفروض أن كلا منهما مقدور في حال ترك الاخر وغير مقدور مع إيجاد الاخر، فكل منهما مع ترك الاخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله.ومع إيجاد الاخر يجوز تركه ولا يقاقب عليه.

فوجوب الاخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال [ والعمل ] بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة.

وهذا مما لا يحكم به بديهة العقل.

كما في كل واجبين إجتمعا على المكلف، ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله إلا تعيين الاخر عليه كذلك.

والسر في ذلك: أنا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل، لم يكن وجوب كل واحد منهما ثابتا بمجرد الامكان ولزم كون وجوب كل منهما مشروطا بعد إنضمامه مع الآخر.

وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كل منها في مقام الامتثال بأزيد من الامكان، سواء كان وجوب كل واحد منهما بأمرين أو كان بأمر واحد يشمل واجبين، وليس التخيير في القسم الاول لاستعمامل الامر في التخيير.

والحاصل: أنه إذا أمر الشارع بشئ إستقل العقل بوجوب إطاعته في ذلك الامر بشرط عدم المانع العقلي والشرعي.

وإذا أمر بشيئين واتفق إمتناع إيجادهما في الخارج إستقل العقل بوجو إطاعته في أحدهما لا بعينه، لانها ممكنة، فيقبح تركها.

لكن هذا كله على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببية بأن يكون قيام الخبر على

٣٥٩

الصفحة ٧٦٢

وجوب فعل واقعا سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على المكلف، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لاعمال الاخر، كما في كل واجبين متزاحمين.

أما لو جعلناه من باب الطريقيه، كما هو ظاهر أدلة حجية الاخبار بل غيرها من الامارات، بمعنى أن الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصل إليه من هذا الطريق، لغلبة إيصاله له إلى الواقع.

فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين، للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معا، لان أحدهما مخالف للواقع قطعا، فلا يكونان طريقين إلى الواقع ولو فرض محالا إمكان العمل بهما.

كما يعلم إرادته لكل من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع.

مثلا، لو فرضنا أن الشارع لاحظ كون الخبر غالب الايصال إلى الواقع فأمر بالعمل به في جميع الموارد، لعدم المايز بين الفرد الموصل منه وغيره.

فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجية لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كل منهما، بحيث لو أمكن الجميع بينهما أراد الشارع إدراك المصلحتين، بل وجود تلك المصلحة في كل منهما بخصوصه مقيد بعدم معارضته بمثله.

ومن هنا يتجه الحكم حنيئذ بالتوقف، لا بمعنى أن أحدهما المعين واقعا طريق ولا نعلمه بعينهن كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين، بل بمعنى أن شيئا منهما ليس طريقا في مؤداه بالخصوص.

ومقتضاه الرجوع إلى الاصول العملية إن لم يرجح بالاصل بالخبر المطابق له [ خ: وإلا فيكون مورد الكلام غير التكافؤ مختصا بما إذا لم يكن أحدهما مطابقا للاصل.فيتساقطان من..] وإن قلنا بأنه مرجح خرج عن مورد الكلام، أعني التكافؤ، فلا بد من فرض الكلام فيما لم يكن هناك أصل مع أحدهما، فيتساقطان من حيث جواز العمل بكل منهما، لعدم كونهما طريقين.كما أن التخيير مرجعه إلى التساقط من حيث وجوب العمل.

هذا ما يقتضيه القاعدة في مقتضى وجوب العمل بالاخبار من حيث الطريقية، إلا أن الاخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلت على عدم التساقط مع فقد المرجح.

وحينئذ فهل يحكم بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط، أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما، كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلتهما، وكذا بين القصر والاتمام؟ وجوه: المشهور، وهو الذي عليه جمهول المجتهدين، الاول، للاخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة عليه ولا يعارضها عدا ما في مرفوعه زرارة الاتية المحكية عن عوالي اللئالي الدالة على الوجه الثانى من الوجوه الثلاثة.

٣٦٠