فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24781 / تحميل: 6017
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٤٦٣

ومما ذركنا يظهر أنه يمكن التمسك في عدم وجوب الاكثر بأصالة عدم وجوبه، فإنها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الاقل، لان وجوب الاقل معلوم تفصيلا فلا يجري فيه الاصل.

وتردد وجوبه بين الوجوب النفسي والغيري مع العلم التفصيلي لورود الخطاب التفصيلي بوجوبه بقوله: (وربك فكبر)، وقوله: (وقوموا لله قانتين)، وقوله: (فاقرء‌وا ما تيسر منه)، وقوله: (واركعوا واسجدوا)، وغير ذلك من الخطابات المتضمنة للامر بالاجزاء لا يوجب جريان أصالة عدم الوجوب وأصالة البراء‌ة.

لكن الانصاف أن التمسك بأصالة عدم وجوب الاكثر لا ينفع في المقام بل هو قليل الفائدة، لانه إن قصد به نفي أثر الوجوب الذي هو إستحقاق العقاب بتركه فهو، وإن كان غير معارض بأصالة عدم وجوب الاقل كما ذكرنا، إلا أنك قد عرفت فيما تقدم في الشك في التكليف المستقل أن إستصحاب عدم التكليف المستقل وجوبا أو تحريما لا ينفع في رفع إستحقا العقاب على الترك أو الفعل، لان عدم إستحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة والواقعيين حتى يحتاج إلى إحرازهما بالاستصحاب، بل يكفي فيه عدم العلم بهما.

فمجرد الشك فيهما كاف في عدم إستحقاق العقاب القاطع، وقد أشرنا إلى ذلك عند التمسك في حرمة العمل بالظن باصالة عدم حجيته، وقلنا إن الشك في حجيته كاف في التحريم فلا يحتاج إلى إحراز عدمها بالاصل.

وإن قصد به نفي الاثار المترتبة على الوجوب النفسي المستقل.فاصالة عدم هذا الوجوب في الاكثر معارضة بأصالة عدمه في الاقل.

فلا يبقى لهذا الاصل فائدة إلا في نفي ما عدى العقاب من الاثار المترتبة على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري.

ثم بما ذكرنا، في منع جريان الدليل العقلي المتقدم في المتباينين فيما نحن فيه، يقدر على منع سائر يتمسك به لوجوب الاحتياط في هذا المقام: مثل إستصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالاقل، وأن الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبراء‌ة.

ومثل أدلة إشتراك الغائبين مع الحاضرين في الاحكام المقتضية لاشتراكنا معاشر الغائبين مع الحاضرين العالمين بالمكلف به تفصيلا.

ومثل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل قطعا، وبعبارة أخرى، وجوب المقدمة العلمية للواجب.

ومثل أن قصد القربة غير ممكن بالاتيان بالاقل لعدم العلم بمطلوبيته في ذاته، فلا يجوز الاقتصار عليه

٦١

الصفحة ٤٦٤

في العبادات، بل لا بد من الاتيان بالجزء المشكوك.

فإن الاول مندفع مضافا إلى منع جريانه على الاقل في مورد الاحتياط، كما تقدم في المتبائنين بأن بقاء وجوب الامر المردد بين الاقل والاكثر بالاستصحاب لا يجدي بعد فرض كون وجود المتيقن قبل الشك غير مجد في الاحتياط.

نعم لو قلنا بالاصل المثبت وأن الاستصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالاقل يثبت كون الواجب هو الاكثر فيجب الاتيان به، أمكن الاستدلال بالاستصحاب، لكن يمكن أن يقال: إنا نفينا في الزمان السابق وجوب الاكثر لقبح المؤاخذة من دون بيان، فتعين الاشتغال بالاقل، فهو منفي في الزمان السابق [ فكيف يثبت في الزمان اللاحق ].

وأما الثاني، فهو حاصل الدليل المتقدم في المتباينين المتوهم جريانه في المقام، وقد عرفت الجواب وأن الاشتغال اليقيني إنما هو بالاقل وغيره مشكوك فيه.

وأما الثالث، ففيه أن مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة.

ولا ريب أن وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين فيما نحن فيه عين الدعوى.

وأما الرابع، فلانه يكفي قصد القربة الاتيان بما علم من الشارع الالزام به وأداء تركه إلى إستحقاق العقاب لاجل التخلص عن العقاب، فإن هذا المقدار كاف في نية القربة المعتبرة في العبادات حتى لو علم باجزائها تفصيلا.

وأما الخامس، فلان وجوب المقدمة فرع وجوب ذي المقدمة، وهو الامر المتردد بين الاقل والاكثر، وقد تقدم أن وجوب المعلوم إجمالا مع كون أحد طرفيه متيقن الالزام من الشارع ولو بالالزام المقدمي، غير مؤثر في وجوب الاحتياط، لكون الطرف الغير المتيقن وهو الاكثر فيما نحن فيه موردا لقاعدة البراء‌ة.كما مثلنا له بالخمر المردد بين إنائين أحدهما المعين نجس.

نعم لو ثبت أن ذلك، أعني تيقن أحد طرفي المعلوم بالاجمال تفصيلا وترتب أثره عليه، لا يقدح في وجوب العمل بما يقتضيه من الاحتياط، فيقال في المثال: إن التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر المردد بين الانائين يقتضي إستحقاق العقاب على تناوله بتناول أي الانائين اتفق كونه خمرا فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما، فكذلك فيما نحن فيه.

والدليل العقلي على البراء‌ة من هذه الجهة يحتاج إلى مزيد تأمل.

بقي الكلام في أنه كيف يقصد القربة بإتيان الاقل مع عدم العلم بكونه مقربا لتردده بين الواجب النفسي المقرب الغير المقرب.

فنقول: يكفي في قصد القربة قصد التخلص من العقاب

٦٢

الصفحة ٤٦٥

فإنها إحدى الغايات المذكورة في العبادات.وأما الدليل النقلي فهو الاخبار الدالة على البراء‌ة الواضحة سندا ودلالة.

ولذا عول عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط بناء على مراعاة العلم الاجمالي، وإن كان اللازم في احد طرفيه معلوما بالتفصيل، وقد تقدم أكثر تلك الاخبار في الشك في التكليف التحريمي والوجوبي: منها: قوله عليه السلام: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)(١).فإن وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.فدل على أن الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على الجاهل.كما دل على أن الشئ المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في الظاهر على الجاهل.ويمكن تقريب الاستدلال بأن وجوب الاكثر مما حجب علمه فهو موضوع.

ولا يعارض بأن وجوب الاقل كذلك، لان العلم بوجوبه المردد بين النفسي والغيري غير محجوب، فهو غير موضوع.

و [ منها ] قوله صلى الله عليه وآله: (رفع عن أمتي..ما لا يعلمون)(٢).

فان وجوب الجزء المشكوك مما لم يعلم فهو مرفوع عن المكلفين، أو إن العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمد ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكل مرفوع عن الجاهل.

إلى غير ذلك من أخبار البراء‌ة الجارية في الشبهة الوجوبية.

وكان بعض مشايخنا، رحمه الله، يدعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك وعدم جريانها في الشك في الوجوب الغيري.

ولا يخفى على المتأمل عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتب على من إستحقاق العقاب، لان ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي.

نعم لو كان الظاهر من الاخبار نفي العقاب المترتب على ترك الشئ من حيث خصوص ذاته

____________________

(١) التوحيد، ص ٤١٣.

(٢) التوحيد، ص ٣٥٣.

٦٣

الصفحة ٤٦٦

أمكن دعوى ظهورها في ما ادعى.

مع إمكان أن يقال إن العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته، لان ترك الجزء عين ترك الكل، فافهم.

هذا كله إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة.

وأما لو عممناه لمطلق الاثار الشرعية المترتبة على الشئ المجهول كانت الدلالة اوضح، لكن سيأتي ما في ذلك.

ثم إنه لو فرضنا عدم تمامية الدليل العقلي المتقدم، بل كون العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الاجمالى بالتكليف المردد بين الاقل والاكثر كانت هذه الاخبار كافية في المطلب حاكمة على ذلك الدليل العقلي، لان الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الاكثر لو كان واجبا في الواقع، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط الراجح إلى وجوب دفع العقاب المحتمل.

وقد توهم بعض المعاصرين عكس ذلك وحكومة أدلة الاحتياط على هذه الاخبار فقال: (لا نسلم حجب العلم في المقام لوجود الدليل في المقام وهي أصالة الاشتغال في الاجزاء والشرائط المشكوكة.

ثم قال: لان ما كان لنا طريق إليه في الظاهر لا يصدق في حقه الحجب إلا لدلت هذه الاخبار على عدم حجية الادلة الظنية، كخبر الواحد وشهادة العدلين وغيرهما.

قال: ولو التزم تخصيصها بما دل على حجية تلك الطرق تعين تخصيصها أيضا بما دل على حجية أصالة الاشتغال من عمومات أدلة الاستصحاب ووجوب المقدمة العلمية.

ثم قال: والتحقيق بهذه الاخبار على نفي الحكم الوضعي وهي الجزئية والشرطية)(١)، إنتهى.

أقول: قد ذكرنا في المتبائنين وفيما نحن فيه أن إستصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط، إلا على القول بإعتبار الاصل المثبت الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل، وأن العمدة في وجوب الاحتياط هو حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد إثبات تنجز التكليف وأنه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل به وتردده بين متباينيين أو الاقل أو الاكثر.

ولا ريب

____________________

(١) الفصول الغرويه، ص ٥٠ بحر الفوائد، ج ٢ ص ١٦١.

٦٤

الصفحة ٤٦٧

أن ذلك الحكم مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلف.

وحينئذ فإذا أخبر الشارع في قوله (ما حجب الله) وقوله (رفع عن أمتي) وغيرهما بأن الله سبحانه وتعالى لا يعاقب على ترك ما لم يعلم جزئيته، فقد إرتفع إحتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك وحصل الامن منه، فلا يجري فيه حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل.

نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعية، فإنه يخرج بذلك عن باب المقدمة، لان المفروض تركها لا يفضي إلى العقاب.

نعم لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط كان لحكومة تلك الاخبار على أخبار البراء‌ة وجه أشرنا إليه في الشبهة التحريمية من أقسام الشك في التكليف.

ومما ذكرنا يظهر حكومة هذه الاخبار على إستصحاب الاشتغال على تقدير القول بالاصل المثبت أيضا، كما اشرنا إليه سابقا، لانه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الاكثر الذي حجب العلم بوجوبه كان المستصحب، وهو الاشتغال المعلوم سابقا، غير متيقن إلا بالنسبة إلى الاقل وقد إرتفع بإتيانه.واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة الاكثر ملقى بحكم هذه الاخبار.

وبالجملة، فما ذكره من حكومة أدلة الاشتغال على هذه الاخبار ضعيف جدا، نظرا إلى ما تقدم.

وأضعف من ذلك أنه، رحمه الله، عدل، من أجل هذه الحكومة التي زعمها لادلة الاحتياط على هذه الاخبار، عن الاستدلال بها لمذهب المشهور من حيث نفي الحكم التكليفي إلى التمسك بها في نفي الحكم الوضعي، أعني جزئية الشئ المشكوك أو شرطيته، وزعم أن ماهية المأمور به تبين ظاهرا كونها للاقل بضميمة نفي جزئية المشكوك ويحكم بذلك على أصالة الاشتغال.

قال في توضيح ذلك: (إن مقتضي هذه الروايات أن ماهيات العبادات عبارة عن الاجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة، فيتبين مورد التكليف ويرتفع منها الاجمال والابهام)(١).

ثم أيد هذا المعنى، بل استدل عليه بفهم العلماء منها ذلك حيث قال: (إن من الاصول المعروفة عندهم أصالة العدم، وعدم الدليل دليل العدم،

____________________

(١) الفصول الغرويه، ص ٥٠

٦٥

الصفحة ٤٦٨

ويستعملونه في نفي الحكم التكليفي والوضعي.

ونحن قد تفحصنا، فلم نجد لهذا الاصل مستندا يمكن التمسك له غير عموم هذه الاخبار، فتعين تعميمها للحكم الوضعي ولو بمساعدة افهامهم، فيتناول الجزئية المبحوث عنها في المقام)(١)، إنتهى.

أقول: أما ما ادعاه، من عموم تلك الاخبار لنفي غير الحكم الالزامي التكليفي، فلولا عدوله عنه في باب البراء‌ة والاحتياط من الادلة العقلية، لذكرنا بعض ما فيه من منع العموم أولا، ومنع كون الجزئية أمرا مجعولا شرعيا غير الحكم التكليفي وهو إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء ثانيا.

وأما ما استشهد به، من فهم الاصحاب وما ظهر بالتفحص، ففيه: أن: أول ما يظهر للمتفحص في هذا المقام أن العلماء لم يستندوا في الاصلين المذكورين إلى هذه الاخبار.

أما أصل العدم، فهو الجاري عندهم في غير الاحكام الشرعية [ أيضا من الاحكام اللفظية، كأصالة عدم القرينة وغيرها ] فكيف يستند فيه بالاخبارالمتقدمة.

وأما عدم الدليل دليل العدم، فالمستند فيه عندهم شئ أخر، ذكره كل من تعرض لهذه القاعدة، كالشيخ وإبن زهرة [ والفاضلين ] والشهيد وغيرهم، ولا إختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي.

وبالجملة فلم نعثر على من يستدل بهذه الاخبار في هذين الاصلين: أما رواية الحجب ونظائرها فظاهر.

وأما النبوي المتضمن لرفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون، فأصبحنا بين من يدعي ظهورها في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفي، كأخواته من رواية الحجب وغيرها، وهو المحكي عن أكثر الاصوليين، وبين من يتعدى عن ذلك إلى الاحكام الغير التكليفية، لكن في موارد وجود الدليل على ذلك الحكم وعدم جريان الاصلين المذكورين، بحيث لولا النبوي لقالوا بثبوت ذلك الحكم.

ونظرهم في ذلك أن النبوي، بناء على عمومه لنفي الحكم الوضعي، حاكم على تلك الادلة المثبتة لذلك الحكم الوضعي.

ومع ما عرفت كيف يدعي أن مستند الاصلين المذكورين المتفق عليهما هو هذه الروايات التي ذهب الاكثر إلى إختصاصها بنفي المؤاخذة.

____________________

(١) الفصول الفروية، ص ٥٠

٦٦

الصفحة ٤٦٩

نعم يمكن التمسك به أيضا في مورد جريان الاصلين المذكورين، بناء على أن صدق رفع أثر هذه الامور، أعني الخطأ والنسيان وأخواتهما، كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الاثر تحقيقا، كما في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الاثر الشامل لصورة الخطأ والنسيان، كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي، ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقق، لكن تصادق بعض موارد الاصلين والرواية مع تباينهما الجزئي لا يدل على الاستناد لهما بها، بل يدل على العدم.

ثم إن في الملازمة التي صرح بها في قوله: (وإلا لدلت هذه الاخبار على نفي حجية الطريق الظنية كخبر الواحد وغيره)، منعا واضحا، ليس هنا محل ذكره، فافهم.

* * *

واعلم أن هنا أصولا ربما يتمسك بها على المختار: منها: أصالة عدم وجوب الاكثر.وقد عرفت سابقا حالها.

ومنها: أصالة عدم وجوب الشئ المشكوك في جزئية.

حاله حال سابقه بل أردء، لان الحادث المجعول هو وجوب المركب المشتمل عليه، فوجوب الجزء في ضمن الكل عين وجوب الكل ووجوبه المقدمي بمعنى.

اللابدية لازم له غير حادث بحدوث مغاير كزوجية الاربعة، وبمعنى الطلب الغيري حادث مغير، لكن لا يترتب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه إلا على القول بإعتبار الاصل المثبت ليثبت بذلك كون الماهية هي الاقل.

ومنها: أصالة عدم جزئية الشئ المشكوك.

وفيه: أن جزئية الشئ المشكوك، كالسورة للمركب الواقعي وعدمها، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.

وإن أريد أصالة عدم صيرورة السورة جزء لمركب مأمور به، ليثبت بذلك خلو المركب المأمور به منه، ومرجعه إلى أصالة عدم الامر بما يكون هذا جزء منه، ففيه: ما مر من أنه أصل مثبت.

وإن اريد أصالة عدم دخل هذه المشكوك في المركب عند إختراعه له الذي هو عبارة عن ملاحظة عدة أجزاء غير مرتبطة في نفسها شيئا واحدا، ومرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشئ مع المركب المأمور به شيئا واحدا، فإن الماهيات المركبة لما كان تركبها جعليا حاصلا بالاعتبار وإلا فهي أجزاء لا إرتباط بينها في أنفسها ولا وحدة تجمعها إلا بإعتبار معتبر توقف جزئية شئ لها على ملاحظته معها واعتبارها مع هذا الشئ أمرا واحدا.

فمعنى جزئية السورة للصلاة ملاحظة السورة مع

٦٧

الصفحة ٤٧٠

باقي الاجزاء شيئا واحدا، وهذا معنى إختراع الماهيات وكونها مجعولة.

فالجعل والاختراع فيها من حيث التصور والملاحظة لا من حيث الحكم حتى يكون الجزئية حكما شرعيا وضعيا في مقابل الحكم التكليفي، كما إشتهر في ألسنة جماعة إلا أن يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى.

وتمام الكلام يأتي في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى عند ذكر التفصيل بين الاحكام الوضعية والاحكام التكليفية.

ثم إنه إذا شك في الجزئية بالمعنى المذكور فالاصل عدمها.

فإذا ثبت عدمها في الظاهر يترتب عليه كون الماهية المأمور بها هي الاقل، لان تعين الماهية في الاقل يحتاج إلى جنس وجودى وهي الاجزاء المعلومة، وفصل عدمي هو عدم جزئية غيرها وعدم ملاحظته معها، والجنس موجود بالفرض والفصل ثابت بالاصل.فتعين المأمور به فله وجه.

إلا أن يقال: إن جزئية الشئ مرجعها إلى ملاحظة المركب منه ومن الباقي شيئا واحدا.

كما أن عدم جزئيته راجع إلى ملاحظة غيره من الاجزاء شيئا واحدا.

فجزئية الشئ وكلية المركب المشتمل عليه مجعول بجعل واحد، فالشك في جزئية الشئ شك في كلية الاكثر ونفي جزئية الشئ نفي لكليته، فإثبات كلية الاقل بذلك إثبات لاحد الضدين بنفي الآخر وليس أولى من العكس.

ومنه يظهر عدم جواز التمسك بأصالة عدم إلتفات الامر حين تصور المركب إلى هذا الجزء حتى يكون بملاحظته شيئا واحدا مركبا من ذلك ومن باقي الاجزاء، لان هذا أيضا لا يثبت أنه اعتبر بالتركيب بالنسبة إلى باقي الاجزاء.

هذا، مع أن أصالة عدم الالتفات لا تجري بالنسبة إلى الشارع المنزه عن الغفلة، بل لا يجري مطلقا في ما دار أمر الجزء بين كونه جزء‌ا واجبا أو جزء‌ا مستحبا لحصول الالتفات فيه قطعا، فتأمل.

٦٨

الصفحة ٤٧١

المسألة الثانية ما إذا كان الشك في الجزئية ناشيا من إجمال الدليل كما إذا علق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردد بأحد أسباب الاجمال بين مركبين يدخل أقلهما جزء‌ا تحت الاكثر بحيث يكون الاتي بالاكثر آتيا بالاقل.

والاجمال قد يكون في المعنى العرفي، كأن وجب غسل ظاهر البدن، فيشك في أن الجزء الفلاني، كباطن الاذن أو عكرة؟ البطن، من الظاهر أو الباطن، وقد يكون في المعنى الشرعي كالاوامر المتعلقة، في الكتاب والسنة بالصلاة وأمثالها، بناء على أن هذه الالفاظ موضوعة للماهية الصحيحة يعني الجامعة لجميع الاجزاء الواقعية.

والاقوى هنا أيضا جريان أصالة البراء‌ة، لعين ما أسلفناه في سابقه من العقل والنقل.

وربما يتخيل جريان قاعده ألاشتغال هنا، وإن جرت أصالة البراء‌ة في المسألة المتقدمة، لفقد الخطاب التفصيلي المتعلق بالامر المجمل في تلك المسألة ووجوده هنا، فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب المجمل، كما هو الشأن في كل خطاب تعلق بأمر مجمل.

ولذا فرعوا على القول بوضع الالفاظ للصحيح، كما هو المشهور، وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البراء‌ة فيها.

وفيه: ان وجوب الاحتياط في المحتمل المردد بين الاقل والاكثر ممنوع، لان المتيقن من مدلول هذا الخطاب وجوب الاقل بالوجوب المردد بين النفسي والمقدمي، فلا محيص عن الاتيان به، لان تركه مستلزم للعقاب.

واما وجوب الاكثر فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقى مشكوكا، فسيجئ فيه ما مر من الدليل العقلي والنقلي.

والحاصل: أن مناط وجوب الاحتياط عدم جريان أدلة البراء‌ة في واحد معين من المحتملين، لمعارضته بجريانها في المحتمل الاخر حتى يخرج المسألة بذلك عن مورد البراء‌ة ويجب الاحتياط فيها،

٦٩

الصفحة ٤٧٢

لاجل تردد الواجب المستحق على تركه العقاب بين أمرين لا معين لاحدهما، من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلق بالمجمل وبين وجود خطاب مردد بين خطابين.

وإذا فقد المناط المذكور وأمكن البراء‌ة في واحد معين لم يجب الاحتياط من غير فرق في ذلك بين الخطاب التفصيلي وغيره.

فإن قلت: إذا كان متعلق الخطاب مجملا فقد تنجز التكليف بمراد الشارع من اللفظ، فيجب القطع بالاتيان بمراده واستحق العقاب على تركه مع وصف كونه مجملا وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن إستحقاق العقاب.

قلت: التكليف ليس متعلقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله حتى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبين المشتبه مصداقه بين أمرين حتى يجب الاحتياط فيه ولو كان المصداق مرددا بين الاقل والاكثر نظرا إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعين المطلوب من العبد، كما سيجئ في المسألة الرابعة.

وإنما هو متعلق بمصداق المراد والمدلول، لانه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه و إتصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال.

فنفس متعلق التكليف مردد بين الاقل والاكثر لا مصداقه.

ونظير هذا التوهم: أنه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح، والصحيح مردد مصداقه بين الاقل والاكثر، فيجب فيه الاحتياط.

ويندفع: بأنه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق، فافهم.

وأما ما ذكره بعض متأخري المتأخرين من (الثمرة بين القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح وبين وضعها للاعم)، فغرضه بيان الثمرة على مختاره من وجوب الاحتياط في الشك في الجزئية، لا أن كل من قال بوضع الالفاظ للصحيحة فهو قائل بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البراء‌ة في أجزاء العبادات.

كيف ! والمشهور، مع قولهم بالوضع للصحيحة، قد ملاوا طواميرهم من إجراء الاصل عند الشك في الجزئية والشرطية بحيث لا يتوهم من كلامهم أن مرادهم بالاصل غير أصالة البراء‌ة.

والتحقيق: أن ما ذكروه ثمرة للقولين من وجوب الاحتياط على القول بوضع الالفاظ للصحيح و عدمه على القول بوضعها للاعم محل نظر.

أما الاول، فلما عرفت من أن غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح كون هذه الالفاظ مجملة، وقد عرفت أن المختار والمشهور في المجمل المردد بين الاقل والاكثر عدم وجوب الاحتياط.

٧٠

الصفحة ٤٧٣

وأما الثاني، فوجه النظر موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتب تلك الثمرة، أعني عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للاعم.

وهو أنه إذا قلنا بأن المعنى الموضوع له اللفظ هو الصحيح، كان كل جزء من أجزاء العبادة مقوما لصدق حقيقة معنى لفظ الصلاة.فالشك في حزئيته شئ شك في صدق الصلاة.

فلا إطلاق للفظ الصلاة على هذا القول بالنسبة إلى واجدة الاجزاء وفاقدة بعضها، لانه الفاقدة ليست بصلاة.

فالشك في كون المأتي به فاقدا أو واجدا شك في كونها صلاة أو ليست بها.

وأما إذا قلنا بأن الموضوع له هو القدر المشترك بين الواجدة لجميع الاجزاء والفاقدة لبعضها نظير السرير الموضوع للاعم من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها الغير المقوم لحقيقته بحيث لا يخل فقده، لصدق إسم السرير على الباقي كان لفظ الصلاة من الالفاظ المطلقة الصادقة على الصحيحة والفاسدة.

فإذا أريد بقوله: (أقيموا الصلاة)، فرد مشتمل على جزء زائد على مسمى الصلاة، كالصلاة مع السورة، كان ذلك تقييداللمطلق، وهكذا إذا أريد المشتملة على جزء آخر، كالقيام، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق.

فإرادة الصلاة الجامعة لجميع الاجزاء تحتاج إلى تقييدات بعدد الاجزاء الزائدة على ما يتوقف عليها صدق مسمى الصلاة.

أما القدر الذي يتوقف عليه صدق الصلاة، فهي من مقومات معنى المطلق، لا من القيود المقسمة له.

وحينئذ فإذا شك في جزئية شئ للصلاه، فإن شك في كونه جزء‌ا مقوما لنفس المطلق، فالشك فيه راجع إلى الشك في صدق إسم الصلاة.

ولا يجوز فيه إجراء البراء‌ة، لوجوب القطع بتحقق مفهوم الصلاة كما أشرنا إليه فيما سبق ولا إجراء أصالة إطلاق اللفظ وعدم تقييده، لانه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك.

فحكم هذا المشكوك عند القائل بالاعم حكم جميع الاجزاء عند القائل بالصحيح.

وأما إن علم أنه ليس من مقومات حقيقة الصلاة، بل هو على تقدير إعتباره وكونه جزء‌ا في الواقع ليس إلا من الاجزاء التى يقيد معنى اللفظ بها، لكون اللفظ موضوعا للاعم من واجده وفاقده.

وحينئذ فالشك في إعتباره وجزئيته راجع إلى الشك في تقييد إطلاق الصلاة في (أقيموا الصلاة) بهذا الشئ، بأن يراد منه مثلا أقيموا الصلاة المشتملة على جلسة الاستراحة.

ومن المعلوم: أن الشك في التقييد يرجع فيه إلى أصالة الاطلاق وعدم التقييد، فيحكم بأن مطلوب الامر غير مقيد بوجود هذا المشكوك، وبأن الامتثال يحصل بدونه، وأن هذا المشكوك غير

٧١

الصفحة ٤٧٤

معتبر في الامتثال.وهذا معنى نفي جزئيته بمقتضى الاطلاق.نعم هنا توهم، نظير ما ذكرناه سابقا، من الخلط بين المفهوم والمصداق.

وهو توهم: (أنه إذا قام الاجماع بل الضرورة على أن الشارع لا يأمر بالفاسدة، لان الفاسد ما خالف المأمور به، فكيف يكون مأمورا به، فقد ثبت تقييد الصلاة دفعة واحدة بكونها صحيحة جامعة لجميع الاجزاء.

فكلما شك في جزئية شئ كان راجعا إلى الشك في تحقق العنوان المقيد للمأمور به، فيجب الاحتياط ليقطع بتحقق ذلك العنوان على تقييده.

لانه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو الصلاة، فلا بد من إتيان كل ما يحتمل دخله في تحققها كما أشرنا إليه، كذلك يجب القطع بتحصيل القيد المعلوم الذي قيد به العنوان.

كما لو قال: (أعتق مملوكا مؤمنا)، فإنه يجب القطع بحصول الايمان، كالقطع بكونه مملوكا).

ودفعه: يظهر مما ذكرناه، من أن الصلاة لم تقيد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع الاجزاء، وإنما قيدت بما علم من الادلة الخارجية إعتباره.

فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للامور التي دل الدليل على تقييد الصلاة بها، لا أن مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة.

فكلما شك في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوع إلى الاحتياط لاحراز مفهوم الصحيحة.

وهذه المغالطة جارية في جميع المطلقات بأن يقال: إن المراد بالمأمور به في قوله: (أعتق رقبة) ليس إلا الجامع لشروط الصحة، لان الفاقد للشرط غير مراد قطعا.

فكلما شك في شرطية شئ كان شكا في تحقق العنوان الجامع للشرائط، فيجب الاحتياط، للقطع بإحرازه.

وبالجملة، فاندفاع هذا التوهم غير خفي بأدنى إلتفات، فلنرجع إلى المقصود ونقول: إذا عرفت أن ألفاظ العبادات على القول بوضعها للاعم كغريها من المطلقات كان لها حكمها، ومن المعلوم أن المطلق ليس يجوز دائما التمسك به بإطلاقه، بل له شروط، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضية المهملة بحيث لا يكون المقام مقام بيان.

ألا ترى أنه لو راجع المريض الطبيب فقال له في غير وقت الحاجة: (لا بد لك من شرب الدواء والمسهل)، فهل يجوز للمريض أن يأخذ بإطلاق الدواء والمسهل.

وكذا لو قال المولى لعبده: (يجب عليك المسافرة غدا).

وبالجملة، فحيث لا يقبح من المتكلم ذكر اللفظ المجمل لعدم كونه إلا في مقام هذا المقدار من البيان، لا يجوز أن يدفع القيود المحتملة للمطلق بالاصل، لان جريان الاصل لا يثبت الاطلاق و عدم إرادة المقيد، إلا بضميمة أنه إذا فرض ولو بحكم الاصل عدم ذكر القيد وجب إرادة الاعم من

٧٢

الصفحة ٤٧٥

المقيد وإلا قبح التكليف، لعدم البيان.

فإذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح الاخلال بذكر القيد مع إرادته في الواقع.

والذي يقتضيه التدبر في جميع المطلقات الواردة في الكتاب في مقام الامر بالعبادة كونها في غير مقام بيان كيفية العبادة، فإن قوله تعالى: (أقيموا الصلاة)، إنما هو في مقام بيان تأكيد الامر بالصلاة والمحافظة عليها، نظير قوله: (من ترك الصلاة فهو كذا وكذا).

و (أن صلاة الفريضة خير من عشرين أو ألف حجة)، نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء‌ن إما قبل بيانه له حتى يكون إشارة إلى ما يفصله له حين العمل، وإما بعد البيان له حتى يكون إشارة إلى المعهود المبين له في غير هذا الخطاب.

والاوامر الواردة بالعبادات فيه، كالصلاة والصوم والحج، كلها على أحد الوجهين، والغالب فيها الثاني.

وقد ذكر موانع أخر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك فيها بأصالة الاطلاق وعدم التقييد، لكنها قابلة للدفع أو غير مطردة في جميع المقامات، وعمدة الموهن لها ما ذكرناه.

فحينئذ إذا شك في جزئية شئ لعبادة لم يكن هنا ما يثبت به عدم الجزئية من أصالة عدم التقييد، بل الحكم هنا هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح في رجوعه إلى وجوب الاحتياط أو إلى أصالة ألبراء‌ة، على الخلاف في المسألة.

فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والاعمي هو لزوم الاجمال على القول بالصحيح وحكم المجمل مبني على الخلاف في وجوب الاحتياط أو جريان أصالة البراء‌ة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية، لاصالة عدم التقييد على القول بالاعم، فافهم.

٧٣

الصفحة ٤٧٦

المسألة الثالثة فيما إذا تعارض نصان متكافئان في جزئية شئ لشئ وعدمها كأن يدل أحدهما على جزئية السورة والاخر على عدمها.

ومقتضى إطلاق أكثر الاصحاب القول بالخيير بعد التكافؤ ثبوت التخيير هنا.لكن ينبغي أن يحمل هذا الحكم منهم على ما إذا لم يكن هناك إطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده عدم جزئية المشكوك، كان يكون هنا إطلاق معتبر للامر بالصلاة بقول مطلق.

وإلا فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق، لسلامته عن المقيد بعد إبتلاء ما يصلح لتقييده بمعارض مكافئ.

وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة، لانها كأمثالها من مسائل هذه المقصد مفروضة فيما إذا لم يكن هناك دليل إجتهادي سليم عن المعارض متكفلا لحكم المسألة حتى تكون موردا للاصول العلمية.

فإن قلت: فأي الفريقين بين وجود هذا المطلق وعدمه، وما المانع من الحكم بالتخيير هنا؟ كما لو لم يكن مطلق.

فإن حكم المتكافئين إن كان هو التساقط، حتى أن المقيد المبتلى بمثله بمنزلة العدم فيبقى المطلق سالما، كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق التي حكم فيها بالتخيير هو التساقط والرجوع إلى الاصل المؤسس فيما لا نص فيه من البراء‌ة والاحتياط على الخلاف.

وإن كان حكمهما التخيير، كما هو المشهور نصا وفتوى، كان اللازم عند تعارض المقيد للمطلق الموجود بمثله الحكم بالتخيير ههنا، لا تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للقيد.

قلت: أما لو قلنا بأن المتعارضين مع وجود المطلق غير متكافئين، لان موافقة احدهما للمطلق الموجود مرجح له فيؤخذ به ويطرح الاخر، فلا إشكال في الحكم وفي خروج مورده عن محل الكلام.

وإن قلنا: إنهما متكافئان، والمطلق مرجح، لا مرجح، نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد

٧٤

الصفحة ٤٧٧

تعبديا، لا من باب الظهور النوعي، فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين دعوى ظهور إختصاص تلك الاخبار بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة وأنها مسوقة لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاصول العقلية والنقلية المقررة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها، والمفروض وجود قول الشارع هنا ولو بضميمة أصالة الاطلاق المتعبد بها عند الشك في المقيد.

والفرق بين هذا الاصل وبين تلك الاصول الممنوع في هذه الاخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين، هو ان تلك الاصول عملية فرعية مقررة لبيان العمل في المسألة الفرعية عند فقد الدليل الشرعي فيها.

وهذا الاصل، مقرر لاثبات كون الشئ وهو المطلق دليلا وحجة عند فقد ما يدل على عدم ذلك.

فالتخيير مع جريان هذا الاصل تخيير مع وجود الدليل الشرعي المعين لحكم المسألة المتعارض فيها النصان.

بخلاف التخيير مع جريان تلك الاصول، فإنه تخيير بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في موردهما، هذا.

ولكن الانصاف: أن أخبار التخيير حاكمة على هذا الاصل وإن كان جاريا في المسألة الاصولية، كما أنها حاكمة على تلك الاصول الجارية في المسألة الفرعية، لان مؤداها بيان حجية أحد المعارضين كمؤدى أدلة حجية الاخبار، ومن المعلوم حكومتها على مثل هذا الاصل.فهي دالة على مسألة أصولية، وليس مضمونها حكما عمليا صرفا.

فلا فرق بين أن يرد في مورد هذا الدليل المطلق: (إعمل بالخبر الفلاني المقيد لهذا المطلق)، وبين قوله: (إعمل بأحد هذين المقيد أحدهما له).

فالظاهر أن حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق وعدم التخيير مبني على ما هو المشهور فتوى ونصا من ترجيح أحد المتعارضين بالمطلق أو العام الموجود في تلك المسألة، كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى.

وسيأتي توضيح ما هو الحق من المسلكين في باب التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى.

٧٥

الصفحة ٤٧٨

المسألة الرابعة فيما إذا شك في جزئية شئ للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي

كما إذا أمر بمفهوم مبين مردد مصداقه بين الاقل والاكثر.ومنه ما إذا وجوب صوم شهر هلالى وهو ما بين الهلالين فشك في أنه ثلاثون أو ناقص.

ومثل ما أمر بالطهور لاجل الصلاة، أعني الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة، فشك في جزئية شئ للوضوء أو الغسل الرافعين.

واللازم في المقام الاحتياط، لان المفروض تنجز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلا وإنما الشك في تحققه بالاقل.

فمقتضى أصالة عدم تحققه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الاتيان بالاكثر.

ولا يجري هنا ما تقدم من الدليل العقلي والنقلي الدال على البراء‌ة، لان البيان الذي لا بد منه في التكليف قد وصل من الشارع، فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بينه تفصيلا.فإذا شك في تحققه في الخارج فالاصل عدمه.

والعقل أيضا يحكم بوجوب القطع بإحراز ما علم وجوبه تفصيلا، أعني المفهوم المعين المبين المأمور به.

ألا ترى أنه لو شك في وجود باقي الاجزاء المعلومة، كأن لم يعلم أنه أتى بها أم لا، كان مقتضى العقل والاستصحاب وجوب الاتيان بها.

والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكمية من المسائل المتقدمة التي حكمنا فيها بالبراء‌ة، هو أن نفس متعلق التكليف مردد بين إختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلقه بالمشكوك.

وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل، لان مرجعه إلى المؤخذة على ترك المشكوك، وهي قبيحة بحكم العقل.

فالعقل والنقل الدالان على البراء‌ة مبينان لمتعلق التكليف من أول الامر في مرحلة الظاهر.

وأما ما نحن فيه فمتعلق التكليف فيه مبين معين معلوم تفصيلا، لاتصرف للعقل والنقل فيه.

وإنما يشك في تحققه في الخارج بإتيان الاجزاء المعلومة.

والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحققه في الخارج، بل الاصل عدم تحققه، والعقل أيضا مستقل بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقق.

٧٦

الصفحة ٤٧٩

القسم الثاني وهو الشك في كون الشئ قيدا للمأمور به

فقد عرفت أنه على قسمين، لان القيد قد يكون منشاؤه فعلا خارجيا مغايرا للمقيد في الوجود الخارجي، كالطهارة الناشية من الوضوء، وقد يكون قيدا متحدا معه في الوجود الخارجي.

أما الاول، فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدم، فلا نطيل بالاعادة، وأما الثاني فالظاهر إتحاد حكمهما.

وقد يفرق بينهما بإلحاق الاول بالشك في الجزئية دون الثاني، نظرا إلى جريانت العقل والنقل الدالين؟ على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الاول، فإن وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدمة منفيا بحكم العقل والنقل، والمفروض أن الشرط الشرعي إنما انتزع من الامر بالوضوع في الشريعة فينتفي بإنتفاء إنتزاعه في الظاهر.

وأما ما كان متحدا من القيد في الوجود الخارجي، كالايمان في الرقبة المؤمنة.

فليس مما يتعلق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو مقدمة، فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد.

والحاصل: أن أدلة البراء‌ة ولو مقدمة، فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد.

والحاصل: أن أدلة البراء‌ة من العقل والنقل إنما تنفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتب على تركه مع إتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلا، فإن الاتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك في وجوبه معذور في ترك التسليم لجهله.

وأما الاتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتى يكون معذورا في الزائد المجهول، بل هو تارك للمأمور به رأسا.وبالجملة فالمطلق والمقيد من قبيل المتبائنين، لا الاقل والاكثر.

وكان هذا هو السر فيما ذكره بعض القائلين بالبراء‌ة عند الشك في الشرطية والجزئية كالمحقق القمي، رحمه الله، في باب المطلق والمقيد، من تأييد استدلال العلمة، رحمه الله، في النهاية على

٧٧

الصفحة ٤٨٠

وجوب حمل المطلق على المقيد بقاعدة الاشتغال، ورد ما اعترض عليه، بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبراء‌ة بقوله: (وفيه: أن المكلف به حينئذ هو المردد بين كونه نفس المقيد أو المطلق، ونعلم أنا مكلفون بأحدهما، لاشتغال الذمة بالمجمل، ولا يحصل البراء‌ه إلا بالمقيد إلى أن قال: - وليس هنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالاصل، لان الجنس الموجود في ضمن المقيد لا ينفك عن الفصل، ولا تفارق لهما، فليتأمل)(١) إنتهى، هذا.

ولكن الانصاف: عدم خلو المذكور عن النظر، فإنه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البراء‌ة من العقل والنقل، لان المنفي فيها الالزام بما لا يعلم ورفع كلفته.

ولا ريب أن التكليف بالمقيد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق وإن لم يزد المقيد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج.

ولا فرق عند المتأمل بين إتيان الرقبة الكافرة وإتيان الصلاة بدون الوضوء.

مع أن ما ذكره - من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء واتحادهما في الرقبة المؤمنة كلام ظاهري، فإن الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كل منهما أمرا واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط.

وأما وجوب إيجاد مقدمة لتحصيل ذلك المقيد في الخارج، فهو أمر يتفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة.

ونظيره قد يتفق في الرقبة المؤمنة يحث أنه قد يجب بعض المقدمات لتحصيلها في الخارج، بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الايمان مع التمكن إذا لم يوجد غيرها وانحصر الواجب في العتق.

وبالجملة، فالامر بالمشروط بشئ لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغائر له في الوجود الخارجي، بل قد يتفق وقد لا يتفق.

وأما الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له، فالفرق بين الشروط فاسد جدا.

فالتحقيق أن حكم الشرط بجميع أقسامه واحد، سواء ألحقناه بالجزء أم بالمتبائنين.

وأما ما ذكره القمي، رحمه الله، فلا ينطبق على ما ذكره، في باب البراء‌ة والاحتياط، من إجراء البراء‌ة حتى في المتبائنين فضلا عن غيره، فراجع.

____________________

(١) القوانين المحكمة، ص ١٥٧.

٧٨

الصفحة ٤٨١

ومما ذكرنا يظهر الكلام في ما لو دار الامر بين التخيير والتعيين، كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه وبين إحدى الخصال الثلاث.

فإن في إلحاق ذلك بالاقل والاكثر، فيكون نظير دوران الامر بين المطلق والمقيد أو المتبائنين، وجهين بل قولين: من عدم جريان أدلة البراء‌ة في المعين، لانه معارض بجريانها في الواحد المخير، وليس بينهما قدر مشترك خارجي أو ذهني يعلم تفصيلا وجوبه فيشك في جزء زائد خارجي أو ذهني، ومن أن الالزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة على الالزام باحدهما في الجملة، وهو ضيق على المكلف.

وحيث لم يعلم المكلف بتلك الكلفة فهي موضوعة عن المكلف بحكم (ما حجب الله علمه عن العباد)(١)، وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه، بحكم: (الناس في سعة ما لم يعلموا)(٢).

وأما وجوب الواحد المردد بين المخير والمعين فيه فهو معلوم، فليس موضوعا عنه ولا هو في سعة من جهته.

والمسألة في غاية الاشكال، لعدم الجزم بإستقلال العقل بالبراء‌ة عن التعيين بعد العلم الاجمالي وعدم كون المعين المشكوك فيه أمرا خارجا عن المكلف به مأخوذ فيه على وجه الشطرية أو الشرطية، بل هو على تقديره عين المكلف به.

والاخبار غير منصرفة إلى نفي التعيين، لانه في معنى نفي الواحد المعين، فيعارض بنفي الواحد المخير.

فلعل الحكم بوجوب الاحتياط وإلحاقه بالمتبائنين لا يخلو عن قوة، بل الحكم في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن إشكال، لكن الاقوى فيه الالحاق.

فالمسائل الاربع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء، فراجع.ثم إن مرجع الشك في المانعية إلى الشك في الشرطية وعدمه.

وأما الشك في القاطعية - بأن يعلم أن عدم الشئ لا مدخل له في العبادة إلا من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في نظر الشارع فالحكم فيه إستصحاب الهيئة الاتصالية وعدم خروج الاجزاء السابقة عن قابلية صيرورتها أجزاء فعلية، وسيتضح ذلك بعد ذلك إن شاء الله.

ثم إن الشك في الجزئية أو الشرطية قد ينشأ عن الشك في حكم تكليفي نفسي، فيصير أصالة البراء‌ة في ذلك الحكم التكليفي حاكما على الاصل في الشرطية والجزئية، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبراء‌ة، فيحكم بما يقتضيه الاصل الحاكم من جوب ذلك المشكوك في شرطيته أو عدم وجوبه.

____________________

(١) التوحيد، ص ٤١٣.

(٢) المحاسن، ص ٤٥٢.

٧٩

الصفحة ٤٨٢

وينبغي التنبيه على أمور متعلقة بالجزء والشرط [ الامر ] الاول إذا ثبت جزئية شئ وشك في ركنيته، فهل الاصل كونه ركنا أو عدم كونه كذلك أو مبني على مسألة البراء‌ة والاحتياط في الشك في الجزئية أو التبعيض بين أحكام الركن فيحكم ببعضها و نفي بعضها الاخر؟ وجوه، لا يعرف الحق منها إلا بعد معرفة معنى الركن، فنقول: إن الركن في اللغة والعرف معروف، وليس له في الاخبار ذكر حتى يتعرض لمعناه في زمان صدور تلك الاخبار، بل هو إصطلاح خاص للفقهاء.

وقد إختلفوا في تعريفه بين من قال بأنه ما تبطل العبادة بنقصه عمدا وسهوا، وبين من عطف على النقص زيادته.

والاول أوفق بالمعنى اللغوي والعرفي.

وحينئذ فكل جزء ثبت في الشرع بطلان العبادة بالاخلال في طرف النقيصة أو فيه وفي طرف الزيادة، فهو ركن.

فالمهم بيان حكم الاخلال بالجزء في طرف النقيصة أو الزيادة، وأنه إذا ثبت جزئية، فهل الاصل يقتضي بطلان المركب بنقصه سهوا كما يبطل بنقصه عمدا وإلا لم يكن جزء‌ا.

فهنا مسائل ثلاث: بطلان العبادة بتركه سهوا.وبطلانها بزيادته عمدا.وبطلانها بزيادته سهوا.

٨٠