الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول0%

الرافد في علم الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 342

  • البداية
  • السابق
  • 342 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35037 / تحميل: 6033
الحجم الحجم الحجم
الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول

مؤلف:
العربية

البحث عنه في العلوم ، كما ذكر السبزواري في منظومته(١) وحاشيته على الأسفار(٢) .

المقدمة الرابعة : بحث الأصوليون بحثاً مفصلاً حول الدليل على وجود موضوع لكل علم وعدمه ، وطرحت ثلاثة أدلة على اعتبار الموضوع.

الأول : إن لكل علم غرضاً واحداً يتحقق بمعرفة مسائله ، والمسائل بما هي كثيرة لا تؤثر في الواحد بما هو واحد ، لأن الواحد لا يصدر الا من واحد ، فلا محالة تكون وحدة الغرض كاشفة عن وحدة المؤثر فيه وهو موضوع العلم الجامع بين مسائله ، ويبتني على ذلك اعتبار وجود الموضوع في كل علم. وهذا الاستدلال طرح في المحاضرات(٣) وبعض حواشي الكفاية ونوقش مناقشات عديدة لا يهمنا التعرض لها.

وإنما تعليقنا على ذلك أننا لم نجد أحداً من الفلاسفة والأصوليين استدل على وجود الموضوع بكبرى لا يصدر الواحد من الكثير حتى نتجشم مناقشته والاشكال عليه كما عرفت.

الثاني : الكبرى المطروحة في كلمات الفلاسفة « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » حيث استفاد منها بعض الأصوليين أنها تدل على لزوم وجود موضوع لكل علم ، وتعليقنا على ذلك أن هنا كبريين إحداهما لزوم الموضوع لكل علم والأخرى تفسير ذلك الموضوع بأنه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، والثانية لا تثبت الأولى كما هو واضح والحديث إنما هو عن الثانية بعد فرض تسليم الأولى.

الثالث : الملازمة العقلية بين فائدة العلم ووجود الموضوع ، فإن العقل

__________________

(١) شرح المنظومة ١: ١٥٤.

(٢) حاشية السبزواري على الاسفار: ١ / ٣٢.

(٣) محاضرات في أصول الفقه ١: ١٦.

١٠١

النظري يدرك أنه لا يمكن حصول فائدة لأي كلام أو بحث أو علم في أي مجال بدون محور ومركز يدور عليه الكلام والبحث والعلم ، ولو كان هذا المحور عبارة عما يؤدي لغاية العلم وهدفه فوجود الموضوع بمعنى محور البحوث والمسائل ضروري لكل علم سواء أكان الموضوع واحداً أم متعدداً ، وهو الصحيح ، فلابد من وجود الموضوع والمحور لكل علم.

النقطة الثانية : في تفسير العبارة السابقة « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » ، وهنا تفسيران :

١ ـ أخص.

٢ ـ أعم.

التفسير الأخص : ما قد يستفاد من عبارة الشيخ الرئيس في الاشارات(١) والمحقق الطوسي في شرحه على الاشارات(٢) والتفتازاني في أوائل شرح المقاصد(٣) وبعض المتأخرين في حاشيته على الاسفار(٤) ، من نظر هذا التعريف للعلوم البرهانية التي تكون محمولاتها من الامور الواقعية ، إما لواقعية ما بحذائها خارجاً أو لواقعية منشا انتزاعها ، فلا ينطبق على العلوم الاعتبارية كالعلوم الأدبية ولا على العلوم القانونية كعلم الفقه وإن كان لها موضوع محقق.

والنكتة في اختصاص التعريف بالعلوم البرهانية كالحكمة بأقسامها الثلاثة المتعالية والطبيعية والرياضية : كون المراد بالعارض الذاتي هو ذاتي باب البرهان الذي هو من الامور الواقعية البرهانية فمن الطبيعي حينئذٍ اختصاص التعريف بالعلوم البرهانية.

__________________

(١) الاشارات ١ : ٣٠١.

(٢) شرح الاشارات ١: ٣٠٢ ـ ٣٠٤.

(٣) شرح المقاصد ١: ١٧١.

(٤) حاشية الطباطبائي على الاسفار: ١ / ٣٢.

١٠٢

التفسير الأعم : وهو ما قد يستفاد من كلام القطب الرازي في شرح المطالع(١) والملا اسماعيل في حاشيته على الشوارق نقلاً عن بعض مشايخه والسبزواري(٢) في حاشيته على الاسفار ، من كون التعريف المذكور شاملاً لكل علم حقيقي أو اعتباري ، فإن الموضوع إذا اريد به ما كان محور البحث والكلام فلا موجب لتخصيص العارض الذاتي حينئذٍ بذاتي باب البرهان بل يكون منطبقاً على كل عارض على ذلك المحور ، سواء أكان العارض واقعياً أم اعتبارياً بشرط كونه عارضاً بلا واسطة جلية في العروض ، سواء أكان الموضوع واحداً أم متعدداً.

وبذلك يتبين لنا وجه تقديم التفسير الثاني على الأول ، وهو شموليته لسائر العلوم والفنون مع عدم الموجب لتخصيص العارض الذاتي بذاتي باب البرهان بعد كون المراد بالموضوع مطلق محور الكلام والبحث سواءاً كان واحداً أم متعدداً.

النقطة الثالثة : في دفع المناقشات الواردة على الكبرى المذكورة « موضوع كل علم » بالتفسيرالمختار لها.

المناقشة الأولى : ما ذكره الاستاذ السيد الخوئي (قده) في تعليقة اجود التقريرات ، وحاصله : أن مقتضى الكبرى المذكورة وحدة موضوع العلم(٣) ، وهو أمر لا واقعية له ، فإن موضوع بعض العلوم متعدد لا واحد ، فعلم النحو مثلاً موضوعه الكلمة والكلام حيث أن هناك أحوالاً للكلمة كإعراب المضارع وأحوالاً للكلام ككون الجملة حالية أو وصفية ، ولكن الملاحظ على هذا

__________________

(١) شرت المطالع : ١٨ ـ ٢٠.

(٢) حاشية السبزواري على الاسفار ١ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) اجود التقريرات ١ : ٣.

١٠٣

المناقشة أمران :

الأول : إن العبارة المذكورة بصدد تعريف موضوع العلم بعد الفراغ عن كبرى وجود الموضوع سواءاً كان واحداً أم متعدداً ، فلا تكون هذه الكبرى متعرضة للكبرى الأخرى أصلاً حتى تفيد وحدة موضوع العلم ، بل بيان لمعنى الموضوع سواء أكان واحداً أم كثيراً.

الثاني : إن الفلاسفة الذين طرحوا هذا التفسيرلموضوع العلم لم يعتبروا الوحدة فيه ، بل لا مانع عندهم من كونه متعدداً إذا كانت هناك جهة تناسب بين الموضوعات المتعددة حتى يصح اعتبار العلم علما واحداً ، والا كان تعدد الموضوع بلا جهة جامعة موجباً لتعدد العلم كما ذكر الشيخ الرئيس في الاشارات(١) ، وذكره الطوسي أيضاً في حاشيته عليه(٢) ، ومثل له بعلم الطب فإن موضوعه متعدد وهو بدن الإنسان وأجزاؤه وأحواله والادوية والاغذية ولولا جهة التناسب بينها لكان العلم بتعددها متعدداً. كما أن وحدة جهة التناسب لا تستلزم وحدة الموضوع بمعنى المحور ، لأن الموضوع هو نفس الكثرات بدون مدخلية تناسبها في الموضوعية.

المناقشة الثانية : ما في تعليقة أجود التقريرات أيضاً ، وحاصلها : أن العارض الذاتي وهو الخالي عن واسطة في العروض لا يطرد لسائر العلوم ، فإن عوارض بعض العلوم مع واسطة في العروض لا بدونها فمثلاً في علم النحو لو قيل الكلمة ـ على نحو القضية المهملة ـ مرفوعة فإن الرفع من عوارض الكلمة بواسطة كونها مبتدأ أو فاعلاً ، ومع وجود الواسطة في العروض فقد عد الرفع والنصب من الحالات الإعرابية المبحوث عنها في علم النحو مما يدل على عدم

__________________

(١) الاشارات ١ : ٢٩٨.

(٢) شرح الاشارات ١ : ٢٩٨.

١٠٤

اشتراط كون العوارض ذاتية بل يصح جعلها من مسائل العلم ولو كانت غريبة.

والذي نلاحظه على هذه المناقشة هو : أن العارض الذاتي المقصود في التعريف ما كان بلا واسطة جلية في العروض لا ما كان بلا واسطة أصلاً ، فلا يرد عليه النقض بعروض الرفع للكلمة بواسطة الابتداء أو الفاعلية لأنها واسطة خفية لعدم التمايز الحسي بين نفس الكلمة وفاعليتها ، ومع خفاء الواسطة فالاسناد حقيقي بنظر العرف والعرض ذاتي لا غريب.

المناقشة الثالثة : ما طرحه بعض الأعاظم (قده)(١) ومحصله : إن كثيراً من العلوم تتعلق بحوثها بأمور انتزاعية كالبحث في الحكمة عن الامكان والوجوب والامتناع أو بأمور اعتبارية كالبحث عن الأحكام الخمسة في علم الفقه ، فلا وجه لتخصيص تعريف موضوع العلم بالبحث عن الأعراض التسعة.

ولكن الحق عدم ورود هذه المناقشة على كلا تفسيري عنوان العوارض الذاتية ، فإننا إذا اخترنا تفسير العوارض الذاتية بذاتي باب البرهان شمل التعريف حينئذٍ البحث عن الأعراض المقولية المتأصلة والمحمولات الانتزاعية أيضاً ، وإذا اخترنا تفسير الذاتي هنا بالعارض بلا واسطة جلية في العروض فشموله للمقولات التسع والانتزاعيات والاعتباريات أوضح ، وتفسير العوارض الذاتية بالاعراض التسعة بلا وجه ولا قرينة على التفسير المذكور بعد وصفها بالذاتية.

المناقشة الرابعة : ما في تهذيب الأصول(٢) أيضاً ، ومحصلها : إن نسبة

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٦.

(٢) تهذيب الأصول ١ : ٧.

١٠٥

موضوعات المسائل في بعض العلوم لموضوع العلم نفسه نسبة الجزء للكل ، وعوارض الجزء عوارض الكل مع الواسطة الجلية في العروض بحيث يكون الاسناد مجازياً لا حقيقياً بنظر العرف ، فمثلاً موضوع علم الجغرافيا هو الأرض بينما يتم البحث في بعض مسائله عن أحوال أرض معينة ، وكذلك موضوع علم الهيئة مثلاً الجرم السماوي في العالم العلوي مع أنه قد يبحث في أحوال جرم خاص فيها ، وذلك كاشف عن عدم اختصاص العوارض المبحوث عنها في العلوم بالعوارض بلا واسطة جلية في العروض بل المبحوث عنه مطلق العوارض(١) .

ويرد على المناقشة المذكورة : أن الظاهر من المنقول عن أرباب هذه العلوم كون موضوعها متعدداً لا واحداً ، ففي دائرة المعارف لفريد وجدي : « الجغرافيا علم الغرض منه وصف الأرض ودرس الحوادث التي تحدث على سطحها وتقسيماتها المتفق عليها »(٢) .

وذكر في كشف الظنون : « الجغرافيا كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض(٣) ، قال الشيخ داود : « إنه علم باحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى الأقاليم والجبال والأنهار وما يختلف حال السكان باختلافه »(٤) . وظاهر هذه الكلمات أن موضوع الجغرافيا متعدد لا واحد يكون بمثابة الكل وباقي موضوعات المسائل أجزاؤه.

وقال في دائرة المعارف : « علم الهيئة يعرف به أحوال الأجرام البسيطة والعلوية ، وموضوعه الأجسام المذكورة »(٥) وظاهره أن موضوعه الأجسام على

__________________

(١) تهذيب الأصول ١ : ٧.

(٢) دائرة المعارف ٣ : ١١٩.

(٣ و٤) كشف الظنون ١ : ٥٩٠.

(٥ ) دائرة المعارف ٦ : ٦٢٨.

١٠٦

نحو العام الاستغراقي لا العام المجموعي ، فالموضوع حينئذٍ متعدد لا واحد ، وعلى فرض وحدته فنسبة موضوعات المسائل له نسبة الجزئي للكلي لا نسبة الجزء للكل.

المناقشة الخامسة : ما في التهذيب(١) أيضاً ، وحاصلها : أن ظاهر العبارة المشهورة : « موضوع كل علم ما يبحث فيه » وجود الموضوع لكل علم مع أن كثيراً من البحوث في مختلف العلوم تكون مسائلها من قبيل السالبة المحصلة التي لا تحتاج للموضوع أصلاً ، كالبحث في علم الأصول عن عدم حجية القياس والشهرة الفتوائية والاجماع المنقول ونحو ذلك ، فلا وجه حينئذٍ لاشتراط وجود الموضوع لكل علم(٢) .

ولكن هذه المناقشة غير واردة لوجهين :

أولاً : قد سبق أن العبارة المذكورة بصدد تفسير موضوع العلم بعد الفراغ عن أصل وجوده فلا ظهور فيها لاشتراط وجود الموضوع وعدمه.

ثانياً : إن أريد بكلمة الموضوع موضوع المسألة في مقابل محمولها فلابد منه حتى في القضايا السالبة المحصلة ، وإنّما المنفي حاجة السالبة المحصلة لوجود المحكي عنه في وعائه الخاص لا حاجتها للموضوع في مقام التقرر اللفظي والذهني فإنه من المستحيل عدمه ، والا لما صارت القضية قضية ، وإن أريد به الموضوع بمعنى محور الكلام ومركزه فلابد منه عقلاً في كل بحث ومسائله سواءاً كان محمولها إيجاباً أم سلباً.

المناقشة السادسة : ما في تعليقة أجود التقريرات ، وحاصلها : إنه لا وجه لتخصيص العوارض المبحوث عنها في العلوم بالعوارض الذاتية ولا مانع من

__________________

(١) تهذيب الأصول للإمام الخمينى ١ : ٨ ـ ٩.

(٢) تهذيب الأصول للإمام الخميني ١ : ٨ ـ ٩

١٠٧

شمول البحث للعوارض الغريبة أصلاً ، فإن المدار في تعيين العارض المبحوث عنه على الغرض من العلم ، فإذا كان حصول الغرض يتوقف على البحث عن العارض الذاتي فيصح البحث عنه وإذا كان يتوقف على البحث عن العارض الغريب صح البحث عنه أيضاً ، ولا موجب عقلاً للتخصيص بالعارض الذاتي(١) .

ويمكن الملاحظة على هذه المناقشة بوجهين :

١ ـ إن عدم توسعة العوارض المبحوث عنها للعوارض الغريبة لعدم وجود الداعي والحاجة للبحث عنها ، فإن البحث عنها مع عدم الحاجة لغو لا يليق بصناعة التصنيف والتدوين ، وذلك لأن العارض الذي يتوقف حصول الغرض على البحث عنه إذا كان غريباً بالنسبة لموضوع العلم أو موضوع المسألة فهو ليس غريباً عن الواسطة في العروض بل يكون ذاتياً لها والا لم تكن واسطة في عروضه ، وإذا كان ذاتياً للواسطة فالمناسب لفن التدوين جعل الواسطة نفسها موضوعاً للمسألة لا جعل ذي الواسطة هو الموضوع فإنه لا حاجة له أصلاً ، وحينئذٍ فلا تعم العوارض المبحوث عنها للعوارض الغريبة.

٢ ـ إن جعل الواسطة في العروض موضوعاً للمسألة أو العلم دون جعل ذي الواسطة قد يستلزم تعدد الموضوع ، لاختلاف وسائط العروض في كل مسألة أحياناً ، أو كون العارض ذاتياً لموضوع المسألة غريباً بالنسبة لموضوع العلم ، أو يكون عارض غريباً لموضوع مسألة ذاتياً لموضوع مسألته ، وتعدد موضوع العلم لا مانع منه في نظر السيد (قده) بل في نظر الفلاسفة إذا كانت هناك جهة تناسب بين الموضوعات كما سبق بيانه.

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٦.

١٠٨

المبحث التاسع

تمايز العلوم

ما هو المعيار في تمايز العلوم بعضها عن بعض ، وما ملاك وحدة المسائل المختلفة بحيث تصير علماً واحداً ، وما هو ملاك كثرتها بحيث تصير علوماً متعددة ؟ وتطرح هنا خمس نظريات :

النظرية الأولى : ما ذهب له قدماء الفلاسفة من كون المعيار في الوحدة والكثرة والتمايز هو الموضوع ، فالمسائل المتحدة موضوعاً علم واحد والمختلفة موضوعاً علوم متمايزة.

النظرية الثانية : ما ذهب له صاحب الكفاية والمحقق الاصفهاني من كون معيار التمايز بالغرض ، فالغرض جامع للمسائل المختلفة بوحدته في علم واحد ، وتعدده يعني تعدد العلم ولو اتحدت المسائل موضوعاً ومحمولاً(١) .

النظرية الثالثة : ما طرحه بعض الأعاظم (قده) تبعاً لبعض الفلاسفة ، من كون ملاك الوحدة والكثرة التسانخ الذاتي بين المسائل ، فوجود التسانخ الذاتي يجمع المسائل في علم واحد وعدمه يوجب تعدد العلم(٢) .وبناءاً على هذه النظريات الثلاث تكون وحدة العلم وحدة واقعية باعتبار كون الجهة الجامعة بين المسائل جهة واقعية وهي الموضوع والغرض والتسانخ الذاتي ، بينما

__________________

(١) الكفاية : ٨ ، بحوث في علم الأصول للمحقق الاصفهاني : ١٩.

(٢) تهذيب الاصول ١ : ٩.

١٠٩

على ضوء النظريتين الرابعة والخامسة تكون وحدة العلم اعتبارية لا واقعية.

النظرية الرابعة : ما طرحه الاستاذ السيد الخوئي (قده) في تعليقة أجود التقريرات ، من كون الميزان في وحدة العلم وكثرته مختلف حسب اختلاف غرض التدوين للعلم ، فإذا كان الغرض من تدوين العلم هو البحث عن حقائق الموجودات مثلاً كما في علم الحكمة فالمعيار حينئذٍ هو الموضوع ، وإذا كان الغرض منه البحث عن بعض المحمولات كالحركة مثلاً في أي موضوع كان سواء أكانت أيناً أم كيفاً أم جوهراً فالميزان بالمحمول ، وإذا كان الغرض من البحث متعلقاً بما يوصل لغاية معينة وهدف معين فالمعيار حينئذٍ بالغرض كعلم المنطق الموصل لعدم الخطأ في الفكر ، فلا يصح جعل ميزان واحد للتمايز والاجتماع(١) .

النظرية الخامسة : وهي الصحيحة عندنا ، وبيانها في جانبين :

١ ـ الصحيح عندنا أن وحدة العلم وكثرته بالاعتبار والوضع لا أن الوحدة والكثرة أمران واقعيان ، وذلك لوجود الفرق الكبير بين الأمر الواقعي والأمر الاعتباري فإن الواقعي شيء ثابت سواءاً علم به الإنسان أم لا ولا يتغير بتغير الأنظار والاتجاهات بخلاف الأمر الاعتباري فإن واقعيته باعتبار المعتبر ، ولذلك يختلف باختلاف الأنظار والآراء. ومن هنا نرى أن العلم الواحد قد يتحول لعلوم متعددة كعلم الطب مثلاً وعلم الهندسة ، أو تجتمع العلوم المتعددة في علم واحد كعلم المعرفة وعلم الوجود في الحكمة المتعالية ، مما يرشدنا لدوران وحدة العلم وكثرته مدار الاعتبار لا أنها أمر واقعي لا يتخلف ولا يختلف.

٢ ـ الوحدة الاعتبارية وإن كانت خاضعة لاعتبار المعتبر ولكنها لا تكون

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٧.

١١٠

موضعاً لترتيب الآثار العقلائية الا مع وجود المصحح المنسجم مع المصالح العقلائية والمنبعث عن تمام الجهات الدخيلة في تشكيل هذه الوحدة ، فمثلاً لو أراد الجهاز الاداري في بلد ما اعتبار منطقة من المناطق مدينة مستقلة في شؤونها البلدية والاقليمية فلابد في تشكيل هذه الوحدة من ملاحظة تمام الجهات الدخيلة في ذلك ، كحدود المنطقة ، ومقدار بعدها عن المناطق الأخرى ، وعدد السكان في بلوغه النصاب الكافي للاستقلال وعدمه ، وإمكانية التعايش مع سكان المناطق الأخرى وعدمه ، وتوحد اللغة السائدة وكثرتها ، فلا يكتفي في مقام اعتبار الوحدة بوجود جهة واحدة بل لابد من ملاحظة تمام الجهات الدخيلة ليكون الاعتبار منسجماً مع المصالح العقلائية وموضعاً لترتيب الآثار عليه.

وهذا هو المراعى في وحدة العلم أيضاً ، فالمصنف والمدون لعلم معين لابد له في تشكيل الوحدة من ملاحظة تمام الجهات الدخيلة في ذلك كوحدة الهدف ، أو وجود التسانخ الذاتي في الموضوع أو المحمول بين مسائل العلم ، أو ملاحظة الفترة الزمنية لاستيعاب العلم أيضاً ، فإن هذه جهة مهمة فإن أقصى مدة لدراسة أي علم تستغرق لا محالة ثلث عمر الإنسان الاعتيادي بحيث يمكنه الانتفاع به وإبراز آثاره في المجتمع العقلائي وإلا فالعلم المستغرق لعمر الإنسان في دراسته لا يعد عند العقلاء علماً واحداً ، فمثلاً علم الطب كان يكتفى في دراسته قديماً بكتاب القانون لابن سينا ويصبح الإنسان بعد ذلك طبيباً ، ولكن لما اتسعت جهاته بحيث لا يمكن للشخص العبقري التخصص في أكثر من ثلائة فروع حسب العمر الاعتيادي للانسان أصبح علوماً متعددة وتخصصات مختلفة ، وإن كان بين هذه العلوم تسانخ في الموضوع أو المحمول.

وكذلك علم الهندسة حيث كان تابعاً فيما سبق لعلم الحساب وأصبح

١١١

بعد ذلك علوماً مختلفة ، كالهندسة المعمارية والبترولية والمدنية والكهربائية والصوتية. فالنتيجة أن المعيار في وحدة العلم وكثرته الاعتبار الخاضع لرؤية تمام المصالح والجهات الدخيلة في التدوين والتصنيف ، لا خصوص جهة معينة كالموضوع والمحمول والهدف أو اختلاف ذلك باختلاف الأغراض.

هذا تمام الكلام حول النظرية الخامسة.

وأما النظرية الأولى وهي جعل معيار الوحدة والكثرة في وحدة الموضوع وكثرته فيلاحظ عليها أمران :

١ ـ إن القائلين بهذه النظرية فسروا العارض الذاتي في تعريف موضوع العلم بذاتي باب البرهان ، وبما أنه من الأمور الواقعية البرهانية فلا محالة يختص التعريف بالعلوم البرهانية وهي الحكمة بأقسامها ، ومن المعلوم الواضح أن المعارف الحكمية متحدة باتحاد موضوعها لذلك صرح هؤلاء بأن وحدة العلم بوحدة موضوعه نظراً لواقع العلوم البرهانية ، بينما على المختار من تفسير العارض الذاتي بما يعرض بلا واسطة جلية لا يختص التعريف بالعلوم البرهانية المتحدة باتحاد موضوعها بل يشمل سائر العلوم المتحدة بالاعتبار الخاضع للمصالح العامة ، فلا موجب حينئذٍ لجعل معيار الوحدة هو الموضوع فقط.

٢ ـ قلنا فيما سبق إن من الجهات الدخيلة في توحيد العلم عدم استغراق دراسته لما يزيد على ثلث عمر الإنسان الاعتيادي ، وحينئذٍ فالوحدة بوحدة الموضوع غير كافية لاعتبار وحدة العلم ما لم يضم لها سائر الجهات الدخيلة في ذلك.

وأما النظرية الثانية وهي كون معيار الوحدة والكثرة بالتسانخ الذاتي بين المسائل فيلاحظ عليها أمران :

أ ـ إن التسانخ كلي مشكك ، فهل المراد منه التسانخ الجنسي أم النوعي أم الصنفي ؟

١١٢

فمع عدم تحديد ضابط في ذلك لا يمكن جعل المسائل المتسانخة ولو في جنس بعيد علماً واحداً ، فإنه مستهجن عند العقلاء.

٢ ـ إن مجرد التسانخ لا يكفي في الوحدة الاعتبارية كما سبق ما لم يضم له اعتبار عدم زيادة فترة دراسة العلم لما يزيد على ثلث عمر الإنسان الاعتيادي وأشباهه.

وأما النظرية الثالثة القائلة بأن وحدة العلم وكثرته بوحدة الغاية وتعددها فيلاحظ عليها ما ذكرناه سابقاً ، وهو أن وحدة الغرض والغاية كلي مشكك يصدق على الاتحاد الجنسي أو النوعي أو الصنفي ، نظير ما يقال بأن الغرض من علم الطب هو الصحة مع تفاوت الأفراد في ذلك ، مضافاً لعدم كفاية وحدة الغرض في وحدة العلم ما لم يراعى فترة استيعاب العلم ودراسته ونحوها.

وأما النظرية الرابعة القائلة بأن معيار الوحدة مختلف باختلاف الموارد في غرض البحث ففيه ما سبق أيضاً ، من كون وحدة الموضوع أو المحمول أو الغاية كلياً مشككاً فلا يمكن جعله معياراً للوحدة مع تفاوت مصاديقه وأفراده تفاوتاً كبيراً مضافاً لعدم كفاية تلك المعايير بدون لحاظ فترة استيعاب العلم ودراسته.

فالصحيح : هو ملاحظة جميع ما هو دخيل في الوحدة الاعتبارية المعتبرة في المجتمع العقلائي لا كفاية واحد منها الذي يختلف تعيينه باختلاف الموارد.

وبعبارة أدق : إن المدار في الوحدة والكثرة الاعتباريتين الصالحتين لترتيب الآثار في المجتمع العقلائي على الاعتبار الناشىء عن مراعاة المصالح العقلائية والجهات الدخيلة في ذلك ، سواءاً كانت جميع الامور المذكورة أو بعضها ، وليس المدار على الغرض الشخصي للمدون والباحث في تعلقه تارة بالموضوع وأخرى بالمحمول وثالثة بالغاية والهدف كما ذكر الاستاذ السيد الخوئي ( قده) ، ولا على الموضوع وحده أو المحمول وحده أو الغاية وحدها أو التسانخ

١١٣

الذاتي وحده ، فإن كل هذه الأمور لا تكفي في بعض الموارد لتشكيل الوحدة الاعتبارية بحيث تكون في نظر العقلاء موضعاً لترتيب الآثار العامة ما لم يلاحظ معها جهات أخرى لها مساس بذلك.

١١٤

المبحث العاشر

موضوع علم الأصول

بحث الأصوليون حول تحديد موضوع علم الأصول وكونه واحداً أم متعدداً وعلاقته بموضوعات مسائله. وهذا البحث مهم جداً ، لأنه يتبين به المعيار في أصولية المسألة ، فإن الفارق الجذري بين المسألة الأصولية وغيرها من المسائل المساهمة في عملية الاستنباط يتوقف معرفته على معرفة موضوع علم الأصول.

وهنا مسالك أربعة :

الأول : ما طرحه صاحب الكفاية بقوله : « موضوع علم الأصول وهو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله انطباق الكلي على أفراده »(١) .

وبيانه : أن موضوع علم الأصول ليس هو الأدلة الأربعة لا بما هي هي ولا بما هي أدلة كما وقع البحث في ذلك عند القدماء ، بل هو جامع واقعي واحد منطبق على مسائله انطباق الكلي على أفراده ، وكون هذا الجامع الذاتي مجهول العنوان لا ضير فيه ، فإن العنونة لا مدخلية لها في موضوعية الموضوع أصلاً.

ونورد هنا ملاحظتين :

الأولى : إذا كان مقصود صاحب الكفاية تعريف موضوع علم الأصول وبيان خصائصه الدخيلة في موضوعيته فيلاحظ عليه : أن غاية ما يدركه العقل النظري ضرورة وجود موضوع بمعنى المحور والمركز لأبحاث العلم كما مر

__________________

(٢) الكفاية : ٨.

١١٥

سابقاً الحديث فيه ، ومن الواضح أنه لا مدخلية للوحدة ولا للكثرة ولا للجامعية الذاتية ولا للجامعية العرضية في المحورية والمركزية كما لا دخالة للعنوان في ذلك كما صرح به صاحب الكفاية نفسه.

فلا وجه حينئذٍ لاعتبار كون موضوع علم الأصول واحداً وجامعاً ذاتياً بين موضوعات مسائله. وإذا كان مقصوده الاشارة إلى أن موضوع علم الأصول متصف بهذه الصفات من الوحدة والجامعية الذاتية وإن لم تكن هذه الصفات دخيلة في موضوعيته فيرد عليه كلمات المسالك الثلاثة الآتية.

الثانية : إن الجمع بين كون محور أبحاث الأصول وموضوعها جامعاً ذاتياً لموضوعات المسائل وبين وجود موضوع لكل مسألة باستقلالها لا وجه له ، وذلك لأن مركز البحوث الأصولية إذا كان هو الكلي الجامع بين موضوعات المسائل فلا خصوصية في موضوع المسألة في جهة المحورية بل المفروض إلغاؤه ، مع أننا نرى أن صناعة تصنيف العلوم ومنها علم الأصول قائمة على جعل موضوع ومحمول لكل مسالة ، مما يكشف عن عدم كون الموضوع والمحور للأبحاث العلمية جامعاً ذاتياً بين موضوعات المسائل.

المسلك الثاني : ما طرحه المحقق الاصفهاني في كتابه الأصول على النهج الحديث ، من كون موضوع علم الأصول عبارة عن أمور متكثرة بالذات متحدة بالعرض بلحاظ إضافتها للغاية والغرض(١) ، وبيان ذلك في ثلاثة أمور :

أ ـ إن موضوع علم الأصول عبارة عن موضوعات متعددة بالذات ، فمثلاً موضوع البحث في الأوامر نفس الصيغة والمحمول هو الظهور في الوجوب التعييني العيني ، بينما الموضوع في بحث حجية الظواهر نفس الظهور والمحمول هو الحجية ، والموضوع في بحث مقدمة الواجب الملازمة الشرعية بين

__________________

(١) بحوث في علم الأصول للمحقق الاصفهاني : ٢١.

١١٦

الوجوبين ومحمولها الوجود على نحو الهلية البسيطة ، والموضوع في بحث خبر الواحد الحكاية عن السنة والمحمول هو الحجية ، والموضوع في بحث الاستصحاب نفس اليقين السابق مع الشك اللاحق والمحمول هو إثبات البقاء به تعبداً ، ومن الواضح وجود التباين الذاتي بين هذه الموضوعات فهي متعددة لا واحدة بالذات.

ب ـ إن التباين الذاتي بين هذه الموضوعات لا يمنع وجود جامع عرضي بينها ، فعلى القول بلزوم وجود جامع بين موضوعات المسائل يكفي وجود هذا الجامع العرضي بينها.

ج ـ إن الجامع العرضي المتصور في المقام هو حيثية الاضافة للغرض ، فإن الغرض من علم الأصول إقامة الحجة على حكم عمل الإنسان ، فالجامع حينئذٍ بين الموضوعات هو إيصالها لإقامة الحجة على حكم العمل ، وهو جامع عرضي يصلح لأن يكون موضوعاً لعلم الأصول.

وهنا عدة ملاحظات تتجه على هذا المسلك.

الأولى : إنه مبني على تفسير الموضوع في قولهم « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » بموضوع القضية مقابل المحمول ، لذلك استدل على تعدد موضوعات علم الأصول بعدم وجود جامع بين موضوعات المسائل ، مع أن الصحيح في تفسير الموضوع هو ما كان محور الكلام والبحث سواءاً كان موضوعاً في المسائل أم محمولاً أم كان هو حيثية الاضافة للغرض والغاية ، وبناءاً على هذا فعدم اتحاد موضوعات المسائل بالذات لا يدل على تعدد موضوع علم الأصول بمعنى المحور للبحث.

الثانية : إن الذهاب لتعدد موضوع علم الأصول بالذات ووحدته بالعرض فرع عدم تصور موضوع واحد بالذات جامع بين محاور البحوث في علم الأصول ، وسيأتي تصويره في المسلك الرابع فلا حاجة لهذا المسلك حينئذٍ.

١١٧

الثالثة : إذا كان موضوع علم الأصول مطلق القواعد الموصلة لإقامة الحجة على حكم العمل فلازمه دخول ما ليس من المسائل الأصولية في علم الأصول ، لمشاركة بعض العلوم الأدبية في تشخيص أصل الظهور الموصل لإقامة الحجة على حكم العمل ، ومساهمة البحوث الرجالية في ذلك أيضاً ، فلا يكون التعريف مانعاً.

الرابعة : ذكر المحقق الإصفهاني نفسه في بعض كلماته خروج مباحث البراءة والاشتغال عن حريم المسألة الأصولية ودخولها في خاتمة علم الأصول ، مع أن عليها مدار البحث الأصولي وركائز الاستنباط في الفروع(١) .

والسر في إخراجها أمران :

أ ـ إن المسألة الأصولية هي ما كانت نتيجتها تحقق الحجة على حكم العمل ، والمراد بالحجة البيان الكاشف عن حكم الشارع ، ومن المعلوم أن الأصول العملية لا كاشفية لها عن الحكم الشرعي فلا تسمى بحجة ولا يكون البحث فيها أصولياً.

ولكن الملاحظ على هذا التعليل أن الحجية عرفاً واصطلاحاً هي المنجزية والمعذرية فالحجة ما كان مفيداً لهما ، ومن الواضح صحة إطلاق الحجة بهذا المعنى على الأصول العملية ، حيث أن مفاد البراءة المعذرية عن الحكم المجهول ، ومفاد الاشتغال مثلاً منجزية الواقع ، ومفاد التخيير منجزية أحد الاحتمالين أو المحتملين ، وليست الحجة خصوص البيان الكاشف عن المراد الشرعي فإنه بلا مخصص ، بل هي كل ما يحتج به من المولى على العبد وبالعكس.

ب ـ ما ذكره في الأصول على النهج الحديث من كون أصل البراءة

__________________

(١) بحوث في علم الأصول للمحقق الاصفهاني : ٢٢.

١١٨

الشرعية حكماً شرعياً بنفسه لا أنه دليل يستنبط منه الحكم(١) ، وذلك لأن مفاد حديث الرفع وأمثاله جعل الشارع لعدم الحكم والاباحة في موارد احتمال التكليف الغير المنجز ، فإذا كان مفاد أدلة البراءة حكماً شرعياً لم تكن البراءة حجة موصلة لحكم العمل ، بل هي نفسها حكم كلي يقوم الفقيه بتطبيقه على الموارد الجزئية كبقية القواعد الفقهية ، كقاعدة اليد والتجاوز والفراغ ولا ضرر التي تكون علاقتها بالحكم الجزئي علاقة الانطباق لا علاقة التوسيط الاثباتي كالقواعد الأصولية.

وتعليقنا على هذه النظرة أن المستفاد من أدلة البراءة الشرعية كما سيأتي في محله عدم تنجز احتمال التكليف وتنزيل وجود التكليف واقعاً بمنزلة عدمه ، لا أن مفادها إنشاء رفع الحكم أو جعل الترخيص واطلاق العنان حتى يكون مؤادها حكماً شرعياً ، والا لكان عدم كل من الأحكام الخمسة حكماً شرعياً أيضاً فتصبح الأحكام عشرة لا خمسة ولا قائل بذلك ، فإذا لم تكن البراءة الشرعية حكماً شرعياً فاعمالها في مورد احتمال التكليف واسطة لإثبات المعذرية عن التكليف المحتمل ، وهذا بنفسه كاف لعدها من لب المسائل الأصولية.

فإن قلت : إذا كان مفاد البراءة الشرعية عدم تنجز احتمال التكليف فهو متحد مع مفاد البراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان ، فلا فائدة في البحث عنها والغور في أدلتها ، للاستغناء عنها بحكم العقل العملي بأن العقاب بلا بيان ظلم قبيح.

قلت : هناك فرق واضح بين مفادي البراءتين بحيث لا يستغنى بالبحث في البراءة العقلية عنه في البراءة الشرعية وبالعكس ، لأن البراءة الشرعية أقوى ضماناً وأشد تأميناً للمكلف من العقوبة المحتملة عند احتمال التكليف من البراءة العقلية ، وذلك لوجهين.

__________________

(١) بحوث في علم الأصول للمحقق الاصفهاني : ٢٢.

١١٩

أ ـ إن مفاد البراءة العقلية قبح العقاب بلا بيان ومفاد البراءة الشرعية بيان عدم العقوبة لقوله6 : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون »(١) ، ومن الواضح أن قبح العقاب مع البيان على عدمه أشد من قبحه مع عدم البيان.

ب ـ إن حيثية الامتنان في البراءة الشرعية أظهر منها في البراءة العقلية ، لحصول الامتنان في الشرعية من وجهين :

١ ـ رفع تنجز احتمال التكليف.

٢ ـ ورود هذا على لسان الشارع نفسه الذي بيده التكليف والعقوبة.

كما أن البحث في البراءة الشرعية لا يلغي الكلام في البراءة العقلية لعدم جريان الشرعية في بعض الموارد مع جريان العقلية فيها وبالعكس ، كما في مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين لشبهة الغرض أو الأصل المثبت على بعض المباني ، كما أن هناك من انكر البراءة العقلية مطلقاً عند احتمال التكاليف الشرعية مع قوله بجريان البراءة الشرعية فيها ، فالبحث في إحدى البراءتين لا يلغي البحث في الاخرى.

المسلك الثالث : ما يستفاد من كلام المحقق النائيني والاستاذ السيد الخوئي (قده) ، من كون موضوع علم الأصول هو القانون الممهد لاستنباط الحكم الشرعي بدون ضم قانون اخر(٢) ، وبيان ذلك في ثلاث نقاط.

أ ـ إن العبارة المشهورة « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » تدل على وجود موضوع واحد بالوحدة الحقيقية لكل علم ، مع أنه لا دليل من عقل أو اعتبار عقلائي على لزوم وجود أصل الموضوع فضلاً عن وحدته بالوحدة الحقيقية ، فلا موضوع لعلم الأصول فضلاً عن كونه واحداً

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / ٢٠٧٦٩.

(٢) اجود التقريرات ١ : ٣ ، محاضرات في أصول الفقه ١ : ٨٠.

١٢٠