الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول0%

الرافد في علم الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 342

  • البداية
  • السابق
  • 342 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35083 / تحميل: 6040
الحجم الحجم الحجم
الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول

مؤلف:
العربية

العلاقة الوضعية أمر ذهني يختلف باختلاف الأذهان والظروف ففي بعض الأذهان لبعض العوامل ربما لم تتحقق بعد ولكنها تحققت في غيره.

إذن فما نريد قوله هو : أن الملحوظ وجداناً عندنا أنه بعد الاحساس باللفظ تكون هناك صورة واحدة في الذهن وهي صورة اللفظ وهذه الصورة نفسها مشيرة للمعنى على نحو يكون المفهوم اللفظي مغفولاً عنه والتوجه الأساسي للمعنى ، وليس هناك صورتان احداهما مستلزمة لحضور الأخرى ، والشواهد التي عرضناها محاولات لتقريب هذه الفكرة عندنا والا فالدليل الوحيد في القضايا النفسية والذهنية هو الوجدان.

١٦١

المقام الثاني : بيان حقيقة الوضع

اختلف الأعلام في تحديد حقيقة الوضع وطرحوا عدة نظريات في هذا المقام ، وقبل التعرض لمناقشات نظرياتهم في الوضع نذكر مقدمة نشرح فيها وجهة نظرنا في حقيقة الوضع اجمالاً مما يساعدنا على فهم النظريات الأخرى ومعرفة كيفية مناقشتها.

المقدمة : وتتضمن أربعة أمور :

أ ـ ان البحث في نشأة اللغات ، ومتى بدأت أول كلمة على لسان البشر ، ومن هو الواضع اللغوي ، وكيفية تكامل اللغات وتطورها ، بحث لا نتعرض له لوجهين :

١ ـ عدم وصول العلماء في الفلسفة واللغة والأصول حتى الآن إلى أدلة قاطعة وقناعات كافية في هذا المجال وما زال الرأي تخميناً وتقريباً فقط.

٢ ـ عدم مدخلية ذلك في البحوث الأصولية ، لعدم توقف البحث الأصولي عليه على الصعيدين العلمي والعملي ، لذلك نقتصر على بيان حقيقة الوضع اللغوي في العصر الحاضر ، وبيان مراحله وصور تطوره. وفهم حقيقة الوضع اللغوي المعاصر يفيدنا في تحديد انطلاقة اللغة ونشأتها عند الإنسان مادام الاندفاع نحو عملية الوضع والقيام بها أمراً فطرياً عند الإنسان ومقوماً لانسانيته ، والأمر الفطري لا يتغير بتغير العصور والحضارات والمجتمعات ، فيمكن استكشاف كيفية بداية اللغة وتطورها من خلال تحديد حقيقة الوضع في العصر الحاضر.

ب ـ ان العلاقة بين اللفظ والمعنى الموضوع له كما سبق تمر بمراحل

١٦٢

أربع :

١ ـ مرحلة الانتخاب : وهي المسماة عندهم بالوضع.

٢ ـ مرحلة الاشارة : وهي الاشارة باللفظ للمعنى لعوامل كمية أو كيفية تساعد على ذلك.

٣ ـ مرحلة التلازم والسببية الذهنية : وهي كون صورة اللفظ سبباً لتصور المعنى.

٤ ـ مرحلة الهوهوية : وهي اندماج تصور المعنى في تصور اللفظ.

وهنا بحثان يتعلقان بهذه المراحل :

الأول : هل ان نتيجة المرحلتين الأوليين حصول المرحلة الثالثة فقط بحيث تكون العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى هي مرحلة التلازم والسببية فقط ، أم تتطور العلاقة إلى مستوى المرحلة الرابعة بحيث تكون هي حقيقة العلاقة الوضعية وما قبلها مبادئ ومقدمات لحصولها ؟

وهذا ما تعرصنا له سابقاً في المقام الأول ، واخترنا التصور الثاني وهو كون العلاقة الوضعية عبارة عن الهوهوية والاندماج بين تصور وتصور المعنى.

الثاني : يتعلق بالمرحلتين الأوليين ، وهو أننا سواء قلنا بأن العلاقة الوضعية ـ أي الوضع بالمعنى الاسم المصدري ـ تعني التلازم أو قلنا بأنها تعني الهوهوية ما هو الطريق الممهد لحصول هذه العلاقة ، وهو المعبر عنه بالوضع بالمعنى المصدري ؟

وهل هذا الطريق عبارة عن التخصيص أو التعهد أو القرن المؤكد أو غير ذلك من النظريات ؟

وهذا ما يتم البحث عنه في هذا المقام الثاني.

ج ـ في تحليل المرحلة الأولى ، وهي مرحلة الانتخاب بحسب مسلكنا ووجهة نظرنا ، فنقول : مرحلة الانتخاب والوضع بالمعنى المصدري لها حقيقة

١٦٣

ولها مصحح ، أما حقيقتها فهي اعتبار ادبي من الاعتبارات الأدبية ، فإن الاعتبار الادبي معناه اعطاء حد شيء لشيء آخر لنقل الاحاسيس للشيء الآخر وتوجيهها نحوه ، فعندما يقال على سبيل الاستعارة جاء أسد ويقصد به الرجل الشجاع فإن الشجاع هنا قد اعطى حد الأسد المفترس لنقل احاسيس الهيبة والخوف من الأسد الحقيقي إلى الأسد المجازي وهو الرجل الشجاع ، فكذلك عملية الوضع لون من ألوان الاعتبار الأدبي ، فعندما يقال هذه نار ويكرر الاطلاق فانما المقصود بذلك اعطاء حد النار وهو الصورة الخاصة لمفهوم النار للفظ نفسه ولتظل الحالة الاحساسية للانسان عندما يرى النار موجودة مع سماع لفظ النار أيضاً.

وأما المصحح لهذا الاعتبار الأدبي فهو التمهيد لحصول العلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى ، فالوضع والجعل والتخصيص اعتبار أدبي غير متأصل قصد به التمهيد لحصول العلاقة بين اللفظ والمعنى ، لما ذكره علماء البيان من كون المجاز طريقاً للحقيقة ، فالاعتبار في بدئه أدبي غير متأصل وبوصوله لمرحلة الاشارة والتفهيم يتحول الاعتبار لكونه حقيقة متأصلة تكوينية بين اللفظ والمعنى.

د ـ في بيان نظريتنا في الوضع ؛ خلاصة وجهة نظرنا في الوضع تبرز في نقاط :

الأولى : إن الأصوليين عندما بحثوا عن تحديد حقيقة الوضع كانوا مهتمين بعدة ملاحظات ، منها ان الهدف الأساسي من الوضع هو الوصول للعلاقة الذهنية الراسخة بين اللفظ والمعنى ، ولذلك تسائلوا عن اقرب الطرق وأقوى الأسباب المؤثرة في حدوث العلاقة المذكورة ، فهل هذا السبب القريب هو التخصيص أو التعهد أو القرن أو جعل الملازمة.

ومنها ادراكهم ان العملية الاعتبارية وهي جعل اللفظ بازاء المعنى غير

١٦٤

كافية في حدوث العلاقة المذكورة ، فإن مليار تعهد ومليار جعل وتخصيص لا يخلق تلازماً بين تصور اللفظ وتصور المعنى ما لم تنضم المرحلة الثانية إليه ، وهي مرحلة وضوح المعنى من اللفظ عبر القرائن المساهمة في هذا الوضوح بكمها أو كيفها. المعبر عنها سابقاً بمرحلة الاشارة.

ومنها أن المرحلة الثانية لا تنفصل عن المرحلة الأولى في حيثية التمهيد للعلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى ، بل هذه مترتبة على المرحلة الأولى ترتباً طبعياً كترتب اجزاء العلة الاعدادية ، فمن الواضح ان المرحلة الثانية هي مرحلة اظهار المعنى باللفظ واظهار المعنى باللفظ ولو بالقرينة فرع وجود ربط واختصاص بين اللفظ والمعنى ولو كان ربطاً اعتبارياً الذي هو المرحلة الأولى ، فالمرحلة الثانية متفرعة من المرحلة الأولى في مقام التمهيد للعلاقة الوضعية ، كما قال علماء الأصول بأن مرحلة الاتباع فرع مرحلة الاختراع.

وبناءاً على هذه الملاحظات الثلاث يحاول كل مسلك من المسالك المذكورة في باب الوضع صياغة الوضع صياغة تجمع بين المرحلتين الأولى والثانية ، لمدخليتهما معاً في حدوث العلاقة الوضعية وعدم انفكاك الثانية عن الأولى وتفرعها عنها. وظنوا ان ذلك هو أقرب الأسباب والطرق لحدوث العلاقة الوضعية المذكورة.

فقال بعضهم كصاحب الكفاية بمسلك الاختصاص بين اللفظ والمعنى(١) ، لتصوره أن الاختصاص عنوان جامع بين المرحلتين المؤثرتين ، وذهب الاستاذ السيد الخوئي (قده) لمسلك التعهد(٢) ، وقد يعمم للتعهد الفردي والعقلائي والتعهد بالجعل والتعهد عبر الاستعمال حتى يكون شاملاً

__________________

(١) الكفاية : ٩.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ١ : ٣٨ و ٤٣ ، تعليقة أجود التقريرات ١ : ١٢.

١٦٥

للمرحلتين الأوليين ، وذهب بعضهم إلى كون الوضع هو القرن الموثق بين اللفظ والمعنى ، الخ.

الثانية : ان هذه المسالك المذكورة ان كانت تعبر عن مرحلة واحدة من المراحل الثلاث للوضع ، وهي مرحلة الجعل أو مرحلة الاستعمال مع القرينة أو مرحلة الترابط بين صورة اللفظ وصورة المعنى ، فهي غير وافية بعكس حقيقة الوضع وتجليتها على واقعها ، لأن حقيقة الوضع تعنى تدرج هذه المراحل ومساهمتها معاً في حصول الترابط الوضعي بين اللفظ والمعنى ، فلا يمكن فصل مرحلة منها عن مرحلة اخرى.

وان كانت المسالك ـ كما ذكرنا في النقطة السابقة ـ تحاول أن تدمج المرحلة الأولى والثانية وتصهرهما في صياغة واحدة تعبر عن حقيقة الوضع فهذا خطأ واضح ، لان المرحلتين متغايرتان فالأولى وهي مرحلة الجعل اعتبارية والثانية وهي مرحلة اظهار المعنى باللفظ مع القرينة مرحلة واقعية تكوينية ترجع لسببية اللفظ مع القرائن المولدة للانتقال إلى المعنى بكمها وكيفها.

فدمج المرحلتين حينئذٍ في صياغة واحدة ولو بعنوان انتزاعي جامع بينهما لا يعكس اختلاف المرحلتين في درجة التأثير وتفرع الثانية على الأولى وترتبها عليها ، فهذا التدرج والترقي من بداية الجعل ثم للاستعمال مع القرينة ثم لحصول الترابط بين اللفظ والمعنى لا ينعكس في صياغة واحدة تجمع المرحلتين.

الثالثة : ان حقيقة الوضع في نظرنا هي الهوهوية بين تصور اللفظ وتصور المعنى الحاصلة من مقدمات ثلاث :

١ ـ الجعل.

٢ ـ الاستعمال مع القرينة.

٣ ـ التلازم.

١٦٦

أما مرحلة الجعل والانتخاب فهي عملية اعتبارية كما سبق بيانه ، وتعنى جعل اللفظ بإزاء المعنى. وهذا الاعتبار الأدبي يمكن صياغته بعدة صور وألوان ، منها التخصيص ومنها جعل الملازمة ومنها جعل الهوهوية ومنها التعهد ومنها القرن المؤكد ، فهذه المسالك كلها مقبولة عندنا على مستوى المرحلة الأولى ، لأنها صياغات متعددة لاعتبار ادبي واحد ، واختلافها يكشف عن اختلاف المستوى الثقافي والذوقي والظرف الحضاري الذي ينمو فيه هذا التفكير وهذا المسلك.

وأما مرحلة الاشارة فقد تكون عملية مقصودة من قبل الواضع في تكراره الاستعمال وتكثير القرائن المشيرة والعوامل المرسخة للعلاقة بين اللفظ والمعنى ، وفي الغالب لا تكون عملية مقصودة بل هي أمر تكويني ، وهو كثرة الاستعمال والاطلاق وحمل اللفظ على المعنى مع القرائن وهذا ما يسمى بالعامل الكمي ، أو توافر قرائن سياقية ومقامية مع عوامل مثيرة تساعد على تأكد العلاقة الوضعية بين اللقظ والمعنى وهذا ما يسمى بالعامل الكيفي.

وأما المرحلة الثالثة فهي٤ مرحلة تحقق العلاقة الوضعية في نظرية المشهور ، وهي سببية تصور اللفظ لتصور المعنى. وهي عندنا مقدمة قريبة لحصول العلاقة الوضعية ، والعلاقة عندنا هي درجة أرقى من ذلك وهي حصول الهوهوية والاندماج بين صورة اللفظ وصورة المعنى ، وهذا ما تعرضنا لشرحه سابقاً.

١٦٧

المسالك في حقيقة الوضع

وهي عدة مسالك ونظريات نتحدث عنها تفصيلاً :

الأول : مسلك الملازمة : وقد طرحه المحقق العراقي (قده) وبيانه يتم بذكر نقطتين :

أ ـ ان تعبيرات المحقق العراقي مختلفة ، فتارة يقول : بأن الوضع هو الملازمة الاعتبارية ، وتارة يقول : بأنه الملازمة الواقعية ، وصار هذا سبباً للايراد على المحقق المذكور من قبل الاعلام بأن الملازمة الاعتبارية تختلف عن الملازمة الواقعية فهما مسلكان متغايران لا مسلك واحد فكيف جعلهما مسلكاً واحداً ؟!

ولكن الصحيح أن مقصود المحقق العراقي (قده) أن الوضع عبارة عن كلي الملازمة الجامع بين مراحل الوضع ودرجاته ، فهذه الملازمة في المرحلة الأولى من مراحل الوضع ملازمة اعتبارية ، وهي عبارة عن جعل التلازم بين اللفظ والمعنى واعتبارهما متلازمين. وهذه الملازمة أيضاً في المرحلة الأخيرة من الوضع ملازمة واقعية ، وهي عبارة عن استلزام تصور اللفظ لتصور المعنى ، فاختلاف التعبير عن الملازمة ناظر لاختلاف مراحلها ودرجاتها ، والا فالوضع بالمعنى العام الشامل هو العنوان الانتزاعي ، وهو عنوان الملازمة الشامل للملازمتين الاعتبارية والواقعية.

ب ـ ليس المقصود بالملازمة معناها اللغوي ، وهو المفاعلة القائمة بالطرفين ، إذ الاستلزام هنا قائم بطرف واحد وهو اللفظ لكون تصور اللفظ مستلزماً لتصور المعنى ولا عكس حيث لا يكون تصور المعنى مستلزماً لتصور اللفظ في نظرهم. فلا توجد ملازمة لغوية بل استلزام من طرف اللفظ فقط ، اذن فالمقصود بالملازمة طبيعي التلازم القائم بتصور اللفظ ، كلفظ المهاجرة

١٦٨

والمسافرة المراد منه طبيعي المبدأ لا المشاركة القائمة بالطرفين(١) .

وتعليقنا على هذا المسلك يتلخص في ملاحظتين :

الأولى : ان التعبيرعن الوضع بأنه الملازمة الجامع بين الملازمة الواقعية بين اللفظ والمعنى والملازمة الاعتبارية لا يكشف عن حقيقة الوضع لأمرين :

أولاً : لأن هذا الجامع هو عين الملازمتين المذكورتين وكلاهما لا يعبران عن حقيقة الوضع ، فالملازمة الواقعية يلاحظ عليها أنا قد اقمنا البرهان فيما سبق على كون الوضع بالمعنى الاسم المصدري هو الهوهوية والاندماجية بين تصور اللفظ وتصور المعنى لا الملازمة بين التصورين ، والملازمة الاعتبارية يلاحظ عليها أنها لون من ألوان الاعتبار الأدبي والاعتبار الأدبي يحتاج لمصحح ، والمصحح المذكور سابقاً وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى لأجل التمهيد والاعداد لحصول الملازمة الواقعية بين صورة اللفظ وصورة المعنى ، هذا المصحح مشترك بين صياغات الاعتبار الأدبي المختلفة التي منها التعهد ومنها القرن المؤكد ومنها الاختصاص ، فلا يوجد مصحح معين لهذا الاعتبار الأدبي الخاص وهو جعل الملازمة ، فما هو المصحح لاعتباره بخصوصه ؟

ثانياً : ان هذا التعريف للوضع فاقد لركيزة مهمة في مسيرة العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى ، وهي المرحلة الثانية من مراحل الوضع التي هي عبارة عن سببية اللفظ مع القرينة للانتقال إلى المعنى ، حيث لا يوجد في تعريف الوضع بأنه الملازمة أي اشارة لهذه المرحلة الضرورية لمسيرة الوضع ، وهي مرحلة سببية اللفظ مع القرينة للمعنى.

الثانية : ما طرحه في المحاضرات بقوله : ان الملازمة ان قصد بها الملازمة الواقعية فهي تارة تقاس بالنسبة للجاهل بالوضع وتارة تقاس بالنسبة للعالم

__________________

(١) مقالات الاصوليين : ١٣ ـ ١٥.

١٦٩

به ، فإن قيست بالنسبة للجاهل فهو مستحيل ، إذ لا يمكن للجاهل بالوضع ادراك الملازمة بين اللفظ والمعنى والا لاستحال الجهل باللغات كلها إذا كان هناك ملازمة واقعية بين اللفظ والمعنى شاملة للجاهل والعالم ، وان قيست بالنسبة للعالم بالوضع فهي حاصلة عنده لكنها متفرعة عن الوضع مترتبة عليه لا أنها هي الوضع نفسه.

وان أريد بها الملازمة الاعتبارية فتارة تلاحظ بالنسبة للجاهل بالوضع وتارة تلاحظ بالنسبة للعالم به ، فإن لوحظت بالنسبة للجاهل بالوضع فصدورها لغو لأن الجاهل بالوضع لا علم له به حتى ينتقل من تصور اللفظ لتصور المعنى فاعتبار الملازمة في حقه لا يجدي شيئاً ولا اثر له ، وان لوحظت بالنسبة للعالم بالوضع فيرد عليها أنها تحصيل حاصل لأن العالم بالوضع عنده ملازمة ذهنية بين اللفظ والمعنى فتحصيل هذه الملازمة باعتبارها في حقه تحصيل ما هو حاصل بالوجدان عن طريق التعبد ، وهو من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل(١) .

ولكن هذا النقاش مدفوع :

أولاً : أننا نختار ان المراد بالملازمة الواقعية هي المقاسة بالنسبة للعالم بالوضع لا بالنسبة للجاهل به ومع ذلك لا يرد الاشكال بأن هذه الملازمة ليست هي بالوضع بل هي متفرعة عن الوضع ، وذلك لأن الوضع على نوعين الوضع بالمعنى المصدري والوضع بالمعنى الاسم المصدري ، والملازمة الواقعية وان كانت متفرعة عن الأول لكنها هي الوضع بالمعنى الثاني ومراد صاحب هذا المسلك عندما يعرف الوضع بالملازمة الواقعية هو المعنى الثاني لا الأول ، فلا يرد الاشكال المذكور.

وثانياً : أننا قد نختار أن المراد بالملازمة في التعريف الملازمة الاعتبارية

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ١ : ٣٩ ـ ٤٠.

١٧٠

لكن في حق الجاهل بالوضع لا في حق العالم به لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، والاشكال المذكور بأن الملازمة الاعتبارية في حق الجاهل لغو لعدم انتقاله من اللفظ للمعنى بمجرد هذه الملازمة فيه : ان اعتبار الملازمة في حق الجاهل لم يقصد منه حصول الانتقال للمعنى عن طريق اللفظ بعد اعتبار الملازمة مباشرة وبدون واسطة حتى يرد اشكال اللغوية ، بل المقصود منه حصول الانتقال للمعنى بواسطة المرور بالمرحلة الثانية وهي سببية اللفظ مع القرينة للمعنى ، فالاعتبار للملازمة مع شريطة المرحلة الثانية من مراحل الوضع لا يكون لغواً بالنسبة للجاهل بهذا الوضع.

المسلك الثاني : مسلك الهوهوية :

وحاصله : ان الاعتبار الأدبي الصادر من الواضع فرداً أو مؤسسة أو مجتمعاً هو جعل الهوهوية بين اللفظ والمعنى بهدف الوصول للهوهوية ، وقد أورد الاستاذ السيد الخوئي (قده) على هذا المسلك ثلاثة ايرادات :

الأول : ما ذكر في المحاضرات ومحصله : ان تنزيل شيء مكان شيء آخر يحتاج إلى مصحح والمصحح للتنزيل ترتيب آثار المنزل عليه على المنزل ، فمثلاً في قول الشارع ( الطواف بالبيت صلاة )(١) نوع من التنزيل لم يصح ذلك الا باعتبار ترتيب آثار الصلاة ولوازمها على الطواف ، وهنا في مقامنا عندما يقوم الواضع بجعل الهوهوية بين اللفظ والمعنى فهذا نوع من التنزيل أي تنزيل وجود اللفظ منزلة وجود المعنى للهوهوية بينهما ، مع أنه لا تترتب آثار المعنى من طلبه أو النفور منه على اللفظ بمجرد هذا التنزيل فلا مصحح له(٢) .

ويلاحظ على هذا الايراد بأن اعتبار الهوهوية بين صورة اللفظ وصورة

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢١٥ ، سنن النسائي ٥ : ٢٢٢.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ١ : ٤١.

١٧١

المعنى لون من ألوان التنزيل والاعتبارات الأدبية المتوقفة على وجود المصحح ، والمصحح كما ذكر هو ترتب آثار المنزل عليه على المنزل ، الا ان هذا الترتب يكفي في كونه مصححاً حصوله ولو بالواسطة ولا وجه لتوقف مصححيته على الترتب المباشر.

فتنزيل الشجاع منزلة الأسد من الهيبة والعظمة في النفوس يتم ولو بواسطة كثرة الحمل والاطلاق ولا يحتاج المصحح إلى الترتب المباشر ، وكذلك في محل كلامنا يكفي في تنزيل وجود اللفظ منزلة وجود المعنى واعتبار الهوهوية بينهما ترتب لوازم المعنى وآثاره على الوجود الذهني للفظ ولو بواسطة كثرة الحمل والاطلاق بدون حاجة للترتب المباشر.

الثاني : إن الهدف من الوضع هو حصول الدلالة أي دلالة اللفظ على المعنى ، ومن الواضح ان الدلالة تتوقف على طرفين متغايرين دال وهو صورة اللفظ ومدلول وهو صورة المعنى فجعل الهوهوية بينهما لا ينسجم مع الهدف وهو الدلالة ، اذن هذا النوع من الوضع وهو جعل الهوهوية لا يتلائم مع هدف الوضع من حصول الدلالة المتوقفة على الطرفين(١) .

ويلاحظ على هذا الايراد : ان الدلالة في نظر المورد عبارة عن علاقة السببية والتلازم بين تصور اللفظ وتصور المعنى لذلك يراها متقومة بطرفين فلا وجه لاعتبار الهوهوية بينهما ، بينما الصحيح ما ذكرنا سابقاً من كون الدلالة والعلاقة الوضعية عبارة عن الهوهوية واندماج صورة المعنى في صورة اللفظ لذلك يكون اعتبار الهوهوية بينهما منسجماً تماماً مع نتيجة الوضع وهدفه.

الثالث : ان تفسير الوضع بالهوهوية بين اللفظ والمعنى تفسير يحتاج إلى عمق في النظر ودقة في التفكير وهذا بعيد عن الاذهان العامية التي بيدها عملية

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ١ : ٤١ ـ ٤٢.

١٧٢

الوضع غالباً ، بينما إذا تأملنا في حقيقة الوضع نجدها أمراً ميسوراً يصدر حتى من الاطفال والمجانين بل من الحيوانات فكيف يصح تفسير هذا الأمر الميسور بهذا المعنى الدقيق الذي لا تناله الافهام السطحية الساذجة(١) .

ويلاحظ على هذا الايراد :

أولاً : النقض بمسلك التعهد فإن الاستاذ السيد الخوئي (قده) مع ايراد هذا الاعتراض على مسلك الهوهوية يتبنى مسلك التعهد النفساني بين الواضع ونفسه ـ أي أنني متى ذكرت اللفظ الكذائي فاقصد المعنى الفلاني ـ مع أن مسلك التعهد مورد لنفس الاشكال ، وهو بعده عن الاذهان العامية الساذجة التي تمارس عملية الوضع غالباً.

ثانياً : ان جعل الهوهوية أمر سهل يسير لا يحتاج لعمق الفكر ولا دقة التأمل لأنه لون من ألوان المجاز ، وهو ما يسمى بالاستعارة أي إلباس أحد الشيئين لباس الآخر وهذا ما يقوم به أغلب أبناء العرف في محاوراتهم ، فمثلاً قولهم فلان أسد وهي قمر وجاءني أسد لا اشكال أنه من مصاديق الاستعارة ، وهي اعتبار الهوهوية بين النوعين وأن الرجل الشجاع مصداق للأسد بل هو اسد حقيقي.

وكقول الشاعر:

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

بل اعتبار الهوهوية يصدر حتى من الأطفال كما في مقام الشتم حيث يقال ( يا كلب بن الكلب ) فإن هذا الاطلاق استعارة حقيقية واعتبار للهوهوية. فإذا كان اعتبار الهوهوية من المرتكزات المستقرة في أذهان المجتمعات فلا مانع من تصوير الوضع بالمعنى المصدري بمعنى الهوهوية

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ١ : ٤٣.

١٧٣

ودخوله تحت هذا المرتكز العام وإن لم يعبرهذا المفهوم عن تمام مراحل الوضع ودرجاته.

المسلك الثالث : مسلك التعهد : وقد ذهب اليه مجموعة من أعلام الأصول ، أولهم كما نعلم المحقق ملا علي النهاوندي في كتابه شرح الأصول ، والمحقق الحائري في كتاب الدرر(١) ، وآغا رضا الاصفهاني في كتاب وقاية الأذهان(٢) ، ووافقهم الاستاذ الخوئي (قده)(٣) .

وقبل استعراض الملاحظات الواردة على هذا المسلك نطرح مقدمة تشتمل على تصويره :

مقدمة : سبق ان قسمنا الدلالة إلى الدلالة الانسية وهي خطور المعنى عند خطور اللفظ وتحدثنا عن حقيقتها وأنها من باب التلازم أو من باب الهوهوية ، والدلالة التفهيمية وهي الحكم على كون المتكلم الملتفت قاصداً لتفهيم الظاهر من كلامه ، والدلالة التصديقية وهي الحكم على كون المتكلم مريداً للمعنى الظاهر من كلامه ارادة جدية فالظاهر حجة له وعليه.

وما نركز عليه الآن من الأقسام هو القسم الثاني وهو الدلالة التفهيمية أي كون المتكلم الملتفت قاصداً لتفهيم معنى كلامه ، وأما الدلالة الانسية فقد سبق البحث عنها وعن حقيقتها ومنشئها ، وأما الدلالة التصديقية فليست دلالة لفظية بل دلالة سياقية مقامية ، أي ظاهر كون المتكلم في مقام البيان والتفهيم هو كونه مريداً واقعاً للمعنى الظاهر ، وكلامنا الآن في الدلالة اللفظية أي الدلالة المستندة للفظ ، ودلالة الكلام على كون ظاهره مراداً جدياً للمتكلم وان اكتسبها اللفظ ولكن حقيقتها هي ظهور حال المتكلم في كون ظاهركلامه مراداً

__________________

(١) درر الفوائد ١ : ٤.

(٢) وقاية الأذهان : ٦٢.

(٣) اجود التقريرات ١ : ١٢ ، محاضرات في أصول الفقه ١ : ٣٨ و ٤٣.

١٧٤

جدياً له ، فهي دلالة مقامية أولاً وبالذات ودلالة لفظية ثانياً وبالعرض ، وكلامنا في الدلالة اللفظية النابعة من اللفظ.

فالحديث مختص بالدلالة التفهيمية وبيان حقيقتها وأنها هل هي دلالة عقلية أم دلالة عقلائية ، فهنا نظريتان :

١ ـ مختارنا ، وهو كونها عقلية بناءاً على قانون السببية.

٢ ـ مختار الاستاذ السيد الخوئي (قده) من كونها عقلائية بناءاً على قانون التطابق.

أما مختارنا : فهو ان الدلالة التفهيمية عبارة عن حكم العقل بكون المتكلم الملتفت قاصداً لتفهيم معناه بناءاً على قانون السببية.

وشرح قانون السببية في ثلاث مقدمات :

أ ـ كون المتكلم في مقام البيان ذاتاً وقصداً ، فبالنسبة لذاته لا يكون ساهياً ولا نائماً ولا فاقداً للوعي ، وبالنسبة لقصده أن لا يقصد بالتلفظ هدفاً نفسياً يعود لذاته كالتدريب على الكلام أو التخفيف عن النفس أو الدعاء ، وطريق احراز كون المتكلم في مقام البيان القرائن الحالية والعقلية.

ب ـ بعد تمامية المقدمة السابقة فإننا ندرك أن لكل فعل غاية سواء كانت غاية سفهية أم غاية عقلائية ، والغاية عندهم علة لفاعلية الفاعل بوجودها الذهني ومعلولة لفعله الخارجي ، والكلام فعل من أفعال الإنسان فلابد له من غاية بعد احراز كون المتكلم في مقام البيان.

ج ـ حكم العقل ان من اوجد سبباً معيناً وهو ملتفت لمسببه فلا محالة يريد بذلك السبب التوصل للمسبب ، فمن وضع الماء على النار وهو ملتفت لكون النار سبباً للحرارة فهو قاصد بذلك العمل التوصل لتسخين الماء.

وتطبيق ذلك في المقام أن يقال : بعد احراز كون المتكلم في مقام البيان واحراز ان لكلامه غاية بمقتضى حكم العقل ، والمفروض ان المتكلم قد اوجد

١٧٥

السبب وهو اللفظ مع التفاته للمسبب وهو كون ذكر اللفظ سبباً لخطور المعنى في ذهن المخاطب ، سواء كان ذلك الخطور على نحو التلازم أم على نحو الهوهوية ، اذن فهو قاصد للتوصل للمسبب وهو تفهيم المعنى من اللفظ.

وهذه هي الدلالة التفهيمية التي هي في الحقيقة حكم عقلي أولاً وبالذات ويكتسبها اللفظ ثانياً وبالتبع بحيث تعد من الدلالات اللفظية ، مع أنها في الواقع مصداق من مصاديق قانون السببية الذي يكون محصله : ان من أوجد سبباً وهو ملتفت لسببيته ـ هذا القيد اشارة للمقدمة الأولى وهي احراز التفات المتكلم ـ فهو قاصد للتوصل لمسببه ، والحكم عليه بأنه قاصد بمقتضى المقدمة الثانية وهي ان لكل فعل غاية ، فغايته التوصل لاخطار المعنى بعد التفاته للسببية المذكورة.

وهذه الدلالة كما ترى لا تتوقف على وجود تعهد من المتكلم بأني إذا ذكرت اللفظ الفلاني فأنا أريد المعنى الفلاني بل هي تتحقق وتحصل إذا تحققت المرحلة الثانية من مراحل الوضع وهي سببية اللفظ مع القرينة للانتقال إلى المعنى ، فإنه إذا تمت هذه المرحلة وترسخت العلاقة بين اللفظ ، والمعنى ، سواء أكانت العلاقة على نحو التلازم أم على نحو الهوهوية ، فإن الدلالة التفهيمية تتحقق بعد ذلك ، سواء أكان هناك في المرحلة الأولى للوضع عملية تعهد نفساني من الواضع بذكر اللفظ عند ارادة المعنى أم لم تكن هناك هذه العملية ، بل كانت صياغة أخرى للوضع كالتخصيص أو جعل الملازمة أو غيره من المسالك.

مختار الاستاذ السيد الخوئي (قده) : من كون الدلالات التفهيمية ناشئة عن التعهد ، وبيانه في خمس نقاط :

الأولى : حاجة الإنسان للتعهد : لما كان الإنسان اجتماعياً بالطبع احتاج للتعايش مع المجتمع ، والتعايش لا يتم الا عن طريق التفهم والتفهيم ،

١٧٦

وبما أن الاشارات غير وافية بذلك تعهد الإنسان بأني كلما ذكرت اللفظ الفلاني فأنا أريد المعنى الفلاني ، وهدفه من هذا التعهد تكوين العلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى بحيث يستطيع تفهيم مقاصده وتفهم مقاصد الآخرين عن طريق اللغة بلا حاجة للاشارات في مقام التفاهم.

الثانية : شمولية التعهد : لا فرق في اجراء وثيقة التعهد بين الواضع والمستعمل ، فكما أن الواضع تعهد باطلاق اللفظ عند ارادة المعنى فكذلك المستعمل تعهد السير على هذا القانون الموضوع وهو ذكر اللفظ الفلاني عند ارادة المعنى الكذائي ، ولولا تعهد المستعمل كالواضع لم تحصل الدلالة التفهيمية بين ابناء اللغة.

الثالثة: متعلق التعهد : ان الطرف الذي يتعلق به التعهد هو قصد التفهيم ، حيث أن صياغة التعهد هي أني أذكر اللفظ الفلاني عندما اقصد المعنى الكذائي ، وإنّما لم يجعل متعلق التعهد هو خطور المعنى ـ بأن يقول كلما ذكرت اللفظ خطر المعنى ـ بل جعل المتعلق قصد التفهيم لوجهين :

أ ـ أن التعهد عملية اختيارية فلا بد أن يكون متعلقها أمراً اختيارياً وقصد التفهيم عمل اختياري ، بينما خطور المعنى أمر غير اختياري فكيف يتعلق به التعهد الاختياري.

ب ـ أن موضوع عملية الوضع تحدده الحاجة إلى الوضع ، ومادام المنطلق لشرارة الوضع هو الحاجة للتفهيم والتفهم فلا محالة لابد ان يكون متعلق التعهد الوضعي هو قصد التفهيم ، لأنه الباعث لنفس عملية الوضع ، والنتيجة بحدود بواعثها وأسبابها.

الرابعة : الدلالة المتفرعة عن الوضع : لقد اتضح من النقاط السابقة ان الدلالة المتفرعة عن الوضع هي الدلالة التفهيمية مباشرة ، إذ لا وجه لتفرع الدلالة التصورية عنه مع كون متعلقه هو الدلالة التفهيمية فكيف تتفرع عنه

١٧٧

الدلالة الخالية من التفهيم والنتيجة تتبع أخس المقدمات ولا تكون اوسع منها ، ومؤدى ذلك كون الدلالة التصويرية الأنسية من قبيل الأمور الانتزاعية لا من الأمور الواقعية المتأصلة ، وهي التي لها ما بازاء في الخارج كالدلالة التفهيمية حيث ان وراءها خارجاً وهو قصد تفهيم المعنى ، ولا من الأمور الاعتبارية كصياغة التعهد نفسه حيث إنه اعتبار أدبي هدفه التمهيد لعلاقة اللفظ بالمعنى.

بل الدلالة التصورية من الأمور الانتزاعية الناشئة عن ترتب الدلالة التفهيمية على التعهد والمندرجة تحت قانون تداعي المعاني ، فإن كثرة حصول الدلالة التفهيمية بعد التعهد الاستعمالي توجب خطور أصل المعنى بمجرد سماع اللفظ ولو لم يكن معه تعهد.

الخامسة : نتيجة التعهد : ان الانتقال للمدلول التفهيمي عند سماع اللفظ ـ أي الحكم على المتكلم بكونه قاصداً لتفهيم المعنى من اللفظ ـ منشأه أصل عقلائي ، وهو أن الإنسان العاقل يسير على وفق القانون الذي التزم به ، وهذا هو مدرك أصالة الصحة في عمل الغير ، فإن أساسها أن الإنسان المسلم يسيرعلى طبق القانون الاسلامي الذي يدين به ويلتزم به.

وكذلك في المقام فإن الانتقال للمدلول التفهيمي لا يستند لقانون السببية بل لهذا الأصل العقلائي وهو سير العاقل على القانون الذي التزم به ، وبما أنه تعهد كواضع أو مستعمل بذكر اللفظ عند ارادة المعنى فمقتضى الأصل العقلائي المذكور هو قصده تفهيم المعنى الكذائي بعد ذكره اللفظ الفلاني.

هذا تمام الكلام في شرح مسلك التعهد.

١٧٨

الاعتراضات الواردة على مسلك التعهد

الأول : ان صياغة التعهد تتصور على عقدين ، العقد الايجابي والعقد السلبي.

العقد الايجاب : وهو الموجود في كلمات المحاضرات ، وله صيغتان : ١ ـ كلما ذكرت اللفظ فأنا أريد تفهيم المعنى.

٢ ـ كلما أردت تفهيم المعنى ذكرت اللفظ.

ويرد على كلا الصيغتين أنهما غير وافيتين بتحقيق الدلالة التفهيمية بحيث لا يمكن استكشاف المدلول التفهيمي من خلال الصيغتين فقط ، لكون النسبة بين ذكر اللفظ واردة تفهيم المعنى العموم من وجه فلا يدل أحدهما على الآخر ، فقد يذكر اللفظ من باب التمرين على النطق أو بداعي التلقين النفسي أو الدعاء أو التغني ، وقد يقصد تفهيم المعنى من غير طريقة ذكر اللفظ بل عن طريق الاشارة أو احضار المعنى بنفسه خارجاً ، فلما كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه لم يصلح ذكر اللفظ للكشف عن المدلول التفهيمي ، فهذا العقد الايجابي لصياغة العهد غير واف بتحقيق الدلالة التفهيمية ، مع أنها الهدف الأساس لهذا المسلك.

العقد السلبي : وهو المطروح في كلمات تشريح الأصول للنهاوندي ، وله صيغتان :

١ ـ لا أذكر اللفظ الا عند قصد تفهيم المعنى.

٢ ـ لا أقصد تفهيم المعنى الا وذكرت اللفظ.

١٧٩

ويرد على كلا الصيغتين أنهما وان كانتا كافيتين لاستكشاف المراد التفهيمي بخلاف العقد الايجابي الا أنهما لا يتطابقان مع واقع استعمال اللفظ خارجاً ، ولذلك يعد هذا التعهد تعهداً غير عقلائي وغير قانوني لعدم وفائه حينئذٍ بتلبية جميع الأهداف المنشودة وراء استعمال اللفظ ، فإن اطلاق اللفظ لا ينحصر الهدف منه بقصد تفهيم المعنى بل قد يكون بداعي الاهمال والاجمال أو بداعي التمرين على النطق أو بداعي التلقين النفسي أو بداعي الدعاء أو بداعي التغني ، فهناك دواعي وأهداف متعددة تبعث على التلفظ ، فحصر اللفظ بقصد تفهيم المعنى لا يتطابق مع حاجة الإنسان ودواعيه النفسية المختلفة ، فتعهده بالحصر المذكور تعهد غير عقلائي لعدم وفائه بالحاجات البيانية عند الانسان.

الثاني : ما أورده بعض المعاصرين(١) على مسلك التعهد بأنه لا يجتمع مع الاستعمال المجازي ، فإن المتعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند ارادة المعنى الكذائي بناءاً على العقد السلبي لمسلك التعهد كيف يتسنى له المجاز وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له وهو المعنى المتعهد به ، فإن هذا مخالف لتعهده السابق.

وإن تعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند ارادة أحد المعنيين على نحو العرضية بينهما صار الاستعمال المجازي استعمالاً حقيقياً لرجوعه للوضع.

وان تعهد بعدم ذكر اللفظ وحده وبدون قرينة الا عند ارادة المعنى الحقيقي بحيث لا يتنافى ذلك مع الاستعمال المجازي المستلزم لذكر اللفظ مع القرينة ، فإن هذا التعهد يتنافى مع الاستعمال المجازي المستند إلى غير القرينة اللفظية ، إذ يصدق عليه أنه ذكر اللفظ وحده بلا قرينة لفظية ومع ذلك اريد به غير معناه المتعهد به.

__________________

(١) لعل المقصود به السيد الصدر في بحث الوضع من أصوله ١ : ٧٩.

١٨٠