الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول0%

الرافد في علم الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 342

  • البداية
  • السابق
  • 342 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35029 / تحميل: 6033
الحجم الحجم الحجم
الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول

مؤلف:
العربية

ترشح المعلول من علته ، وهذا المعنى لوضوح بطلانه حيث انه لا يعقل الترشح المعلولي في الاعتباريات بل الاعتباري خاضع للجعل والابداع فلا وجه لربط تصنيف علم الأصول به.

٣ ـ الملازمة العرفية : بمعنى أن الجاعل إذا أنشأ الوجوب لشيء فمن المستهجن عند العرف والعقلاء عدم إنشاء الوجوب لمقدمته ، فإن علاقة المقدمية التكوينية بينهما تولد تلازماً في الاعتبار كالمتضايفين ، فإن اعتبار شخص أباً عند العقلاء ملازم لاعتبار الطرف الآخر ابناً له ويستهجن العقلاء التفكيك بينهما في الاعتبار لعلاقة التضايف فكذلك في بحث مقدمة الواجب ، وهذا المعنى على فرض صحته في نفسه لا يدرج بحث مقدمة الواجب في الملازمات العقلية بين الأحكام.

فإن التلازم بحسب هذا المعنى تلازم عرفي لا عقلي ، مضافاً لكونه تلازماً بين الاعتبارين لا بين المعتبرين الا ثانياً وبالعرض.

٤ ـ الاندماج الاثباتي : ومعناه أن العرف يرى أن وجوب المقدمة مستبطن ومندمج في وجوب ذيها ، فالمولى وإن احتاج ثبوتاً للقيام بجعلين ولكنه إذا رأى أن الوجوب النفسي إثباتا مستبطن للوجوب الغيري فيكتفي بالصياغة الواحدة التي تعبر عن هذين الوجوبين على نحو الاندماج والاستبطان ، وسنشير لأسباب الاندماج في بحث مقدمة الواجب ولكن نقول هنا : لعل من أسباب الاندماج تقارن الجعلين في الحمل بمعنى أنه حمل الوجوب الغيري على مورد الوجوب النفسي فترة طويلة ولَّدت الاندماج بينهما واستبطان أحدهما في الآخر بحيث لا يمكن للجاعل التفكيك بينهما إلا بخلق أسباب أقوى لعدم الاندماج ، ونظير ذلك فكرة الاندماج يين الحكم الوضعي والحكم التكليفي ، فالنجاسة مستبطنة لوجوب الاجتناب باعتبار أنّ تقارن الجعلين في الحمل فترة طويلة ولَّدت اندماجهما ، وكذلك فكرة الاندماج في عقد البيع وخيار الغبن مثلاً ،

٤١

حيث ذكر المحقق النائيني (قده) أن منشأ خيار الغبن في عقد البيع هو الشرط الضمني الارتكازي وهو عدم زيادة مالية المنتقل عنه عن المنتقل إليه(١) .

ونحن نقول : لعل من أسباب ارتكازية الشرط المذكور واندماجه في نفس العقد تقارن الاعتبار لهما فترة كافية في ذلك ، ومثله الاندماج بين مفهوم الالزام ومفهوم الوعيد فمعنى الوجوب بنظرنا هو البعث المستبطن للوعيد على الترك ، وذلك لكثرة تقارن الوعيد مع إصدار البعث فحصل الاندماج بينهما ، وبناءاً على هذا التصور لوجوب المقدمة لا يوجد أي تلازم عقلي بين الوجولين حتى يدخل بحث المقدمة في بحث الملازمات العقلية بل هو اندماج إثباتي ، إذن على جميع المعاني للملازمة لا نرى وجهاً في ادخال بحث مقدمة الواجب تحت عنوان الملازمات العقلية فإنّها بين معنى باطل في نفسه ومعنى لا ينسجم مع الملازمات العقلية.

هذا هو تعليقنا على ادخال بحث مقدمة الواجب في بحث الملازمات العقلية.

وأما بحث مسالة الضد ، وهي أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده العام والخاص أم لا ففيها ثلاثة مسالك :

أ ـ وجود الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي الشرعي عن ضده ، وعلى هذا المسلك يصح إدخال مسألة الضد في بحث الملازمات العقلية ، بمعنى أن العقل النظري يدرك وجود ملازمة بين الأمر بشيء والنهي شرعاً عن ضده.

ب ـ وجود الملازمة بين الأمر بالشيء شرعاً والنهي عن ضده عقلاً لا شرعاً وكفاية هذا الردع العقلي عن الردع الشرعي ، وعلى هذا المعنى فلا يدخل بحث الضد في الملازمات العقلية بين الأحكام الشرعية إذ لا يوجد حكمان شرعيان.

__________________

(١) حاشية النائيني على المكاسب : ص ٢٠.

٤٢

ج ـ العينية الاعتبارية بين الوجوب والحرمة هنا ، والمقصود بذلك ليس العينية المفهومية فإنه من الواضح الفرق مفهوماً بين قول المولى « صلّ » وقوله « لا تترك الصلاة » ، بل المقصود أن المجعول الاعتباري واحد والفارق في الصياغة الاثباتية المبرزه فالمجعول هو الالزام مع الوعيد ، الا أن هناك عبارتين مبرزتين لهذا الاعتبار إما على نحو الأصالة أو أن إحداهما هي التعبير الأصيل والأخرى اعتبار أدبي حاك عنه.

ونفس التحليل قد يذكر في بحث التلازم بين النهي عن شيء والأمر بضده.

وعلى هذا المعنى فلا يوجد حكمان حتى نبحث عن وجود الملازمة بينهما وعدمها.

والخلاصة : أن صحة ادخال مسألة الضد في بحث الملازمات بناءاً على مبنى صحيح بنظر القائل بذلك ، لا يعني اندراج المسألة في بحث الملازمات حتى على المباني الأخرى.

والخلاصة : أن المناقشات العديدة التي عرضناها أوضحت لنا النكتة في توسعة مباحث الألفاظ عند القدماء بلا حاجة لتغيير هذا المنهج الا لمنهج أفضل كما سيأتي بيانه.

المنهج المقترح : وهو عندنا طريقتان :

أ ـ البحث حول محور الحجية.

ب ـ البحث حول محور الاعتبار.

الطريقة الأولى : بما أن علم الأصول وضع كمقدمة لعلم الفقه فلابد أن يكون تصنيفه ومنهجه منسجماً مع مقدميته ، وحيث أن علم الفقه هو العلم الباحث عن تحديد الحكم الشرعي فالمناسب لتصنيف علم الأصول أن يدور مدار الحجة المثبتة للحكم الشرعي فإن ذلك هو النافع في مقدميته لعلم الفقه ،

٤٣

ولذلك اخترنا أن موضوع علم الأصول كما سيأتي بيانه هو الحجة في الفقه فابحاثه تدور حول محور الحجية وعدمها ، وبناءاً على هذا يصح تصنيف علم الأصول على ثلاثة أقسام :

أ ـ قسم الاحتمال.

ب ـ قسم الكشف.

ج ـ قسم الميثاق العقلائي.

الأول : الاحتمال : وهو على خمسة أصناف :

١ ـ الاحتمال الواصل لدرجة القطع والبحث في حجيته بحث في حجية القطع.

٢ ـ الاحتمال الواصل لدرجة الاطمئنان والبحث عنه هو المتعلق بحجية الاطمئنان.

٣ ـ الاحتمال المعتمد على قوة المحتمل وإن كانت درجة الاحتمال ضعيفة وهو المتحقق في موارد الأعراض والأموال والدماء ، والبحث عن حجيته هو البحث المتعلق بأصالة الاشتغال.

٤ ـ الاحتمال المعتمد على العلم الاجمالي وهو يكتسب قوة من خلال استمداده من العلم الاجمالي ، الا إذا بلغت الأطراف كثرة تؤدي إلى موهومية الاحتمال في أطراف العلم الاجمالي ، وهذا البحث هو المعبر عنه بمباحث العلم الاجمالي والشبهتين المحصورة وغير المحصورة.

٥ ـ الاحتمال الذي لا يستند لقوة في درجته ولا أهمية في المحتمل وهو على نوعين.

أ ـ الاحتمال المصطدم باحتمال معاكس له لوجود علم اجمالي بالجامع وهذا مورد أصالة التخيير.

ب ـ الاحتمال الغير مصطدم باحتمال معاكس وهو مورد أصالة البراءة ،

٤٤

وهو على قسمين لأنه إذا ورد من الشارع بيان لعدم أهميته فهذا هو البراءة الشرعية وإن لم يرد بيان فهذا هو البراءة العقلية.

إذا فعنوان حجية الاحتمال هو العنوان الجامع بين هذه البحوث.

الثاني : حجية الكشف : والكشف على نوعين إدراكي وإحساسي ، فالكشف الادراكي هو المتوفر في الامارات العقلائية والشرعية التي قام الشرع أو المجتمع العقلائي بتتميم الكشف فيها ، وهذا هو بحث حجية الامارات والطرق.

والكشف الاحساسي هو المتوفر في بحث الاستصحاب ، فإن الإنسان إذا أحس بشيء ما ثم غاب الشيء عن وعيه فإنه قد يبقى ذلك الكشف الاحسامي عنده وهو شعوره بأن الشيء ما زال موجوداً كما كان ، فهل هذا الكشف الاحساسي حجة أم لا ، وهذا بحث الاستصحاب.

الثالث : حجية الميثاق العقلائي : والمقصود به كل طريق تبانى عليه المجتمع العقلائي كميثاق يؤخذ بلوازمه وآثاره ، سواءاً كان ذلك التباني بسبب الكاشفية النوعية لهذا الطريق عن الواقع كما يدعى ذلك في خبر الثقة ، أو للمصلحة الاجتماعية العامة ، ولعل الظواهر من هذا الباب فيبحث عنها من حيث الكبرى وهو حجية الظهور ومن حيث الصغرى كالبحث في صيغة الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد ونحوها من مباحث الألفاظ ، كما أن بحث تعارض الأدلة داخل في صورة الترجيح لأحد الخبرين في قسم حجية الكشف أو قسم حجية الميثاق العقلائي ، وكذلك في صورة التكافؤ مع القول بالتخيير ، وأما على القول بالتساقط والرجوع للأصل العملي فيدخل البحث فيه في قسم حجية الاحتمال.

فهذه هي الطريقة الأولى من المنهج المقترح لتصنيف علم الأصول المبنية على محور الحجية للدليل المستخدم عند الفقيه للوصول إلى الحكم الشرعي.

٤٥

ولكن لبعد هذه الطريقة عن المألوف في التصنيف الحوزوي لعلم الأصول ، ومن شرائط فن التصنيف أن لا يعد طفرة مستنكرة ما دامت خطوات التدريج كافية في تحقيق الهدف ، لذلك نرى أن الطريقة الثانية أقرب للتصنيف المألوف.

الطريقة الثانية : حيث إن المبادئ التصديقية لكل علم إما أن تكون بديهية فلا تحتاج للبحث وإما أن تكون نظرية فتبحث في علم آخر يكون مقدمة لهذا العلم ، وعلم الفقه لما كان محور بحثه هو الحكم الشرعي والحكم نوع من الاعتبار ، احتجنا لعلم آخر يبحث عن المبادئ التصديقية للحكم الشرعي ، وذلك بالحديث عن الاعتبار بصفة عامة والاعتبار الشرعي بصفة خاصة وعوارض هذا الاعتبار وأقسامه ولواحقه ، وذلك العلم هو علم الأصول ، فنقول : بأن التصنيف المقترح يدور حول الاعتبار وشؤونه وتفصيلاته في خمسة عشر بحثاً وهي :

١ ـ تعريف الاعتبار.

٢ ـ تقسيمه للاعتبار الأدبي والقانوني.

٣ ـ العلاقة بين الاعتبارين.

٤ ـ اسلوب الجعل للاعتبار القانوني.

٥ ـ مراحل الاعتبار القانوني.

٦ ـ أقسام الاعتبار القانوني.

٧ ـ العلاقة بين هذه الاقسام.

٨ ـ أقسام القانون التكليفي والقانون الوضعي.

٩ ـ عوارض الأحكام القانونية.

١٠ـ وسائل ابراز الحكم القانوني.

١١ ـ وسائل استكشافه.

٤٦

١٢ ـ وثاقة هذه الوسائل.

١٣ ـ التعارض الاثباتي والثبوتي بين وسائل الاستكشاف.

١٤ ـ التنافي بين الاعتبارات القانونية حين التطبيق.

١٥ ـ تعيين القانون عند فقد الوسيلة الاعلامية.

الأول : تعريف الاعتبار : إن الفارق بين الأمر الاعتباري والتكويني يتلخص في كون التكويني حقيقة واقعية لا تختلف باختلاف الانظار والتوجهات وتكون نسبة الذهن البشري لها نسبة العلم الانفعالي لمعلومه ، بينما الأمر الاعتباري عمل ذهني إبداعي يقوم به الفرد أو المجتمع وتكون نسبة العقل البشري له نسبة العلم الفعلي لمعلومه ، فلذلك يختلف باختلاف النظرات والتوجهات والمجتمعات.

الثاني : اقسامه : ينقسم الأمر الاعتباري للاعتبار الأدبي والاعتبار القانوني ، والفارق بينهما أن الاعتبار الأدبي هو اعطاء حد شيء لشيء آخر بهدف التأثير في إحساس المجتمع ومشاعره كإعطاء حد الأسدية للرجل الشجاع بهدف زرع الهيبة والاكبار له في نفوس الآخرين ، وهو اعتبار غير متأصل لعدم كونه ظاهرة اجتماعية بل هو عمل فردي ، مضافاً لعدم تطابق المراد الاستعمالي فيه مع المراد الجدي ، فإن المراد الاستعمالي من ذكر الأسد مثلاً هو معناه المعروف بين الناس ولكن المقصود الجدي هو العناية في تطبيق ذلك المعنى على فرد ادعائي وهو الرجل الشجاع.

أما الاعتبار القانوني فهو صنع القرار المناسب للمصلحة الفردية أو الاجتماعية ، وهو اعتبار متأصل لكونه ظاهرة اجتماعية عامة ، مضافاً لتطابق المراد الاستعمالي فيه مع المراد الجدي ، إذن فالاعتبار الأدبي يختلف عن الاعتبار القانوني حقيقة وهدفاً وصفة ، أما اختلافهما في الحقيقة مع أنهما من مقولة الاعتبار والعمل الابداعي فهو أن الاعتبار القانوني قرار مرتبط بالجانب العملي

٤٧

للفرد والمجتمع باسلوب مباشر كما في القوانين التكليفية ، أو باسلوب غير مباشر كما في الأحكام الوضعية ، فالقانون هو المحرك العملي والزاجر الفعلي بشكل مباشر أو غير مباشر ، بينما الاعتبار الأدبي لا يرتبط بالجانب العملي للانسان وإنّما يرتبط بالجوانب الذوقية والنفسية للإنسان. وأما اختلافهما في الهدف فإن الهدف من الاعتبار القانوني قيادة إرادة الإنسان لتحقيق المصلحة والبعد عن المفسدة ، بينما الهدف من الاعتبار الأدبي هو التأثير على أحاسيس الجمهور ومشاعرهم وميولهم.

وأما اختلافهما في الصفة فصفة الاعتبار الأدبي عدم تأصله خارجاً وعدم تطابق المراد الاستعمالي فيه مع المراد الجدي ، وصفة الاعتبار القانوني هو التأصل خارجاً مع تطابق المرادين فيه.

الثالث : العلاقة بين الاعتبارين : إن علاقة الاعتبار الأدبي بالاعتبار القانوني تبرز في تولد الاعتبار القانوني من الاعتبار الأدبي ، فإن الاعتبار القانوني في بداية وجوده يكون اعتباراً أدبياً صرفاً ، فمثلاً اعتبار المال مملوكاً لزيد حقيقته اعطاء حد شيء لشيء آخر ، وهو اعطاء لوازم الأمور الشخصية كافعال الإنسان الجوارحية والجوانحية للأمور الأجنبية عنه ، فكما أن فعل الإنسان تحت ارادته قبضاً وبسطاً واعطاءاً ومنعاً فكذلك المال الاجنبي عنه يكون تحت تصرفه وارادته ، وهذه هي حقيقة الملكية ، فهي اعتبار أدبي في مبدأ وجوده لكنه يتحول بمرور الوقت وبعد اقرار المجتمع العقلائي له وكثرة استعماله إلى اعتبار قانوني يرتبط بعمل الفرد والمجتمع ، ويكون أمراً متأصلاً متصفاً بمطابقة المراد الاستعمالي فيه للمراد الجدي.

الرابع : عناصر القانون وأسلوب جعله : عناصر القانون أربعة :

١ ـ الملاك وهو المصلحة أو المفسدة الموجودة في المتعلق.

٢ ـ المصحح : حيث ان الحكم نوع من الاعتبار ، والاعتبار لا يكون ذا

٤٨

فاعلية وتأثير في المجتمع العقلائي حتى يكون له مصحح ، والمصحح للاعتبار القانوني هو صدق عنوان الداعي للخير والزاجر عن الشر عليه ، وهذا المصحح هو ملاك الحكم نفسه التابع للملاك الموجود في متعلقه وهو المصلحة والمفسدة.

٣ ـ الارادة وهي التصميم والعزم على تأسيس القانون.

٤ ـ الصياغة وهي صب القانون باسلوب مؤثر في قيادة إرادة الفرد أو المجتمع نحو فعل متعلق الأمر ، وهل يراعى في هذه الصياغة نوع الملاك ، فإذا كان الملاك مثلاً مفسدة فالمناسب كون الصياغة زجرية وإذا كان الملاك مصلحة فالمناسب كون الصياغة بعثية ، أم يراعى فيها المستوى النفسي للمكلفين فيختار الصياغة المؤثرة سواءاً تناسبت مع نوع الملاك أم لا ؟ والجواب عن ذلك يأتي في بحث الضد.

وأما أسلوب جعله فإن الاساليب المستخدمة في صياغة الاعتبار الأدبي كالمجاز المرسل والاستعارة والكناية ونحوها مذكورة بالتفصيل في كتب علم البيان ، وأما أساليب صياغة الاعتبار القانوني فهي على نوعين :

أ ـ اسلوب القضايا الحقيقة الراجعة لقضية شرطية مقدمها وجود الموضوع خارجاً وتاليها ثبوت المحمول له ، كقولنا كل مستطيع يجب عليه الحج الشامل للفرد الموجود بالفعل الواجد للشرائط وغير الواجد لها وللفرد المقدر الوجود.

ب ـ اسلوب القضايا الخارجية الراجعة لتوجيه خطاب تكليفي أو وضعي للأفراد الموجودين بالفعل الواجدين لشرائط الخطاب فقط ، فالاسلوبان يفترقان من حيث المفهوم والمصحح والأثر ، أما افتراقهما مفهوماً فإن مفهوم الجعل الحقيقي متقوم بالموضوع الفرضي ومفهوم الجعل الخارجي متقوم بالموضوع الفعلي ، وأما افتراقهما في المصحح فالمصحح للجعل القانوني الكلي هو الداعوية والزاجرية بالامكان بينما المصحح للخطاب الخارجي هو الداعوية

٤٩

والزاجرية بالفعل ، وأما افتراقهما في الأثر فإن أثر الخطابات الحقيقية هو الشمول للأفراد المقدرة الوجود باعتبار مرور الحكم بمراحل كمرحلة الانشاء والفعلية والتنجز ، بينما أثر الخطاب الخارجي هو انطواء مرحلة الجعل في مرحلة الفعلية ومرحلة الفعلية في مرحلة التنجز وعدم الشمول الا للأفراد الفعلية.

الخامس : في بيان مراحل القانون : إن الاعتبار القانوني له أربع مراحل في نظر المتأخرين من الأصوليين :

أ ـ مرحلة الاقتضاء : وهي مرحلة وجود ملاك الحكم ومناطه ويعتبر وجود الملاك خارجاً وجوداً للحكم بالعرض والمجاز باعتبار أن روح الحكم في ملاكه وغاية جعله في مناطه ، ولذلك يقال بأن للحكم وجود اقتضائياً في وجود ملاكه.

ب ـ مرحلة الجعل والانشاء: وهي حقيقة الحكم فإن فيها تتم صياغة الحكم وتحديد معالمه وشؤونه ، فالحكم بالحمل الأولي هو هذه المرحلة الجعلية إذا صدرت ممن له أهلية الجعل والانشاء.

ج ـ مرحلة الفعلية. وهي في نظر المحقق النائيني عبارة عن تحقق الموضوع وفعليته خارجاً وفعلية الموضوع منشأ لفعلية الحكم فإن نسبة الحكم لموضوعه نسبة المعلول لعلته التامة ، وهذه المرحلة انعكاس لجميع القيود والحدود المأخوذة في مرحلة الانشاء من دون أن تخضع هذه المرحلة لأي تصرف قانوني من قبل المولى. هذا بنظر النائيني (قده) وأما في نظر الآخوند فهي عبارة عن مرحلة الفاعلية أي خروج القانون من مؤسسة الجعل إلى اللوائح الاعلامية التي بها يكون القانون ذا فاعلية وتأثير بحيث لو علم به المكلف لتنجز عليه ، فلا ربط لهذه المرحلة في نظره بتحقق الموضوع خارجاً وإنّما هي مرتبطة بوصول الحكم للوسائل المبرزة له.

د ـ مرحلة التنجز : وهي مرحلة وصول الحكم للمكلف بحيث تصح ادانته به وتتم مسؤوليته عنه.

٥٠

السادس : أقسام الاعتبار القانوني : قسم الأصوليون الاعتبار القانوني لثلاثة أقسام :

١ـ حكم تكليفي.

٢ ـ حكم وضعي.

٣ ـ الماهية المخترعة ، فالحكم التكليفي متقوم بعنصرين :

١ ـ استبطانه للحكم الجزائي فإن الوجوب والحرمة مستبطنان للوعيد على الترك أو الفعل والاستحباب والكراهة مستبطنان للوعد على الفعل أو الترك ، فحيثية التضمن للحكم الجزائي مقومة للحكم التكليفي.

٢ ـ ارتباطه المباشر بعمل الفرد فهو متوجه ومتعلق بالفعل الخارجي ، لذلك ورد تعريفه في كلماتهم بأنه الانشاء بداعي جعل الداعي أو جعل الزاجر في نفس المكلف نحو الفعل.

والحكم الوضعي متعلق بالعمل الخارجي لا على نحو المباشرة كالحكم التكليفي ولا على نحو الاستبطان للحكم الجزائي سواءاً كان وعيداً أم وعداً.

والماهية المخترعة قد تكون عبادة كالصلاة والحج وقد تكون موضوعاً كالميتة والمذكى وقد تكون معاملة كالبيع والصلح وسيأتي بحث ذلك في الصحيح والأعم.

السابع : العلاقة بين الحكم التكليفي والوضعي وبين أقسام الحكم التكليفي : أما العلاقة بين الحكم التكليفي والوضعي فهو بحث طرح في باب الاستصحاب ، فاختار الشيخ الأنصاري (قده) تفرع الأحكام الوضعية على الأحكام التكليفية وأنها مجعولة بتبع جعلها لا بجعل مستقل ، وذهب بعضهم إلى عكس ذلك وهو انتزاع الحكم التكليفي من الحكم الوضعي كالسيد الشاهرودي (قده) ، وذهب آخرون للعينية واستبطان الحكم الوضعي للحكم

٥١

التكليفي ، وذهب بعض الأعاظم(١) للتفصيل في الأحكام الوضعية فبعضها منتزع من الحكم التكليفي كالجزئية المنتزعة من الأمر بالمركب وبعضها مجعول بالاستقلال كالملكية والزوجية وشبه ذلك ، وسيأتي اشباع البحث في محله. وأما العلاقة بين الأحكام التكليفية نفسها فهي إما علاقة التنافر وإما علاقة التلازم ، فعلاقة التنافر والتضاد هي التي سنشير إليها في بحث عوارض الأحكام ، وأما علاقة التلازم فهي المبحوث عنها في مقدمة الواجب ومسألة الضد حيث يذكر هناك أنه هل يوجد تلازم بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة شرعاً أم لا ، وهل يوجد تلازم بين وجوب الشيء وحرمة ضده أو حرمة شيء ووجوب ضده أم لا.

الثامن : أقسام القانون التكليفي والوضعي : ينقسم القانون التكليفي للأحكام الخمسة وهي التي وقع البحث في كونها أموراً اختراعية أم أموراً نسبية واقعية ، فعلى مسلك المحقق الطهراني من كون الحكم عبارة عن نسبة بين الموك وبين فعل المكلف وهي إما نسبة القبول أو الرفض يتم الرأي الثاني ، وعلى المسلك المشهور من كون الحكم عبارة عن الاعتبار المولوي المستبطن للوعد أو الوعيد يتم الرأي الأول وبناءاً عليه فهل الفارق بين الوجوب والندب وبين الحرمة والكراهة فرق تشكيكي بالشدة والضعف كما يراه المحقق العراقي أم تغاير ذاتي يجعلهما وجودين مختلفين ، وسيأتي البحث عن ذلك في محله.

وينقسم الوجوب منها للوجوب التخييري والتعييني ، والعيني والكفائي ، والتعبدي والتوصلي ، وسيأتي شرح ذلك كله. وينقسم المباح للمباح الاقتضائي والمباح اللااقتضائي. وينقسم الالزام بصفة عامة للإلزام النفسي والغيري ، والطريقي والإرشادي ، وسيأتي البحث حول الفرق الجذري بين هذه الأقسام ،

__________________

(١) تهذيب الأصول للإمام الخميني ٢ : ٧٣.

٥٢

كما ينقسم الالزام ـ أيضاً ـ للمولوي والإرشادي ، ويبحث في الأصول حول المائز بين المولوي والإرشادي ، فهل هما مختلفان بالذات حيث ذهب بعض الأصوليين إلى كون المولوي من سنخ الانشاء والارشادي من سنخ الاخبار ، أم هما مختلفان بلحاظ الملاك حيث أن المولوي نابع من ملاك في نفسه والارشادي نابع عن ملاك فيما يرشد إليه ، أم هما مختلفان من حيث الحكم الجزائي بلحاظ أن المولوي لإطاعته ثواب ولعصيانه عقاب وليس كذلك الأمر الارشادي فالثواب على فعل ما يرشد اليه والعقاب على ترك ما يرشد إليه ، كما وقع البحث أيضاً في أن الأصل في الأمر هل هو المولوية أم الارشادية حيث ذهبنا لكون الأصل هو المولوية بمقتضى القرينة المقامية وهي صدور الأمر من المولى ، وأن ضابط الأمر الارشادي هو إدراك العقل النظري أن وراء الأمر غرضاً وهدفاً معيناً لا يمكن الوصول له إلا بفعل متعلق الأمر فإذا أدرك العقل ذلك الهدف بعينه فالأمر إرشادي لا مولوي تعبدي وإلا فهو مولوي.

وينقسم القانون الوضعي عدة تقسيمات ، منها انقسامه للحق والحكم فما هو الفارق بين الحق والحكم فهل هما متغايران كما هو الصحيح أم متحدان كما ذهب إليه الاستاذ السيد الخوئي (قده) ، فهذا البحث ليس من البحوث الفقهية بل هو من المبادئ التصورية لعلم الفقه ، ونحن نطرحه في أبحاث علم الأصول لأنه من أقسام الاعتبار القانوني.

مضافاً إلى أن الفرق بين البحث الأصولي والبحث الفقهي أن البحث الأصولي بحث عن النظرية والبحث الفقهي بحث في عملية التطبيق ، فكما صح البحث في الأصول عن حقيقة الوجوب العيني الكفائي يصح البحث فيه عن حقيقة الحق والفارق بينه وبين الحكم.

التاسع : عوارض الحكم القانوني : يقع البحث في علم الأصول عن صفات الحكم القانوني وعوارضه ، فمن عوارضه أربع صفات :

٥٣

أ ـ الاطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت بالنظر للموضوع أو المتعلق : وتقابل الاطلاق والتقييد هل هو تقابل التضاد أم الملكة والعدم أم السلب والإيجاب ، فكل هذا بحث عن عوارض القانون وسياتي تفصيله.

ب ـ التضاد بين الأحكام الخمسة : وهل هو تضاد حقيقي أم تضاد اعتباري أم تضاد عرضي باعتبار مرحلة المبدأ أو مرحلة المنتهى ، ومما يتفرع على البحث حول تضاد الأحكام البحث حول امكان اجتماع الأمر والنهي مع أنهما ضدان أو امتناعه والبحث حول كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي مع تضادهما.

ج ـ البساطة والتركيب : يبحث في علم الأصول حول حقيقة بعض الاعتبارات القانونية فهل هي بسيطة أم مركبة ، فالوجوب ـ مثلاً ـ هل هو طلب الفعل مع المنع من الترك كما يقول القدماء فهو أمر مركب ، أم هو الالزام بالفعل كما يراه بعض المتأخرين ، أم هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف كما تراه مدرسة المحقق النائيني (قده) ، أم هو بمعناه اللغوي وهو الثبوت كما في كلمات المحقق العراقي فهو أمر بسيط ، أم هو الاعتبار المستبطن للحكم الجزائي ، أي أن الوجوب هو البعث المستبطن للوعيد على الترك والحرمة هي الزجر المستبطن للوعيد على الفعل والاستحباب هو البعث المستبطن للوعد على الفعل والكراهة هي الزجر المستبطن للوعد على الترك كما هو مسلكنا.

د ـ الحركة الاشتدادية : بحث بعض الأصوليين في امكان الحركة في الاعتبارات ، بمعنى أن الحركة الاشتدادية في مراتب الوجود الخارجي ممكنة وواقعة فهل تتصور هذه الحركة في الاعتبارات أم لا ، فيكون الوجوب ضعيفاً ثم يصبح مؤكداً أم أن ذلك تابع لمقدار الاعتبار فإذا أعتبره المولى مؤكداً فهو كذلك وإلا فلا تعقل فيه الحركة الاشتدادية.

العاشر : وسائل إبراز الحكم القانوني : وهي ما يسمى في الأصول

٥٤

بصغريات أصالة الظهور كالبحث حول ظهور المشتق في الأعم أو خصوص المتلبس بالمبدأ ، والبحث حول ظهور صيغة الأمر ومادته في الوجوب النفسي العيني التعييني ، والبحث حول ظهور صيغة النهي ومادته وصيغة الفعل المضارع والماضي والجملة الاسمية ، والفارق الحقيقي بين الجملة الخبرية والإنشائية وبين الاطلاق الحقيقي والمجازي ، ومباحث العام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم وأمثال ذلك من الوسائل الكلامية والخطابية التي يتخذها المقنن والجاعل لإبراز الحكم القانوني من خلالها.

الحادي عشر : وسائل استكشاف القانون : وسائل استشكاف القانون وتحديد نوعه ودرجته ومقدار شموليته هي وسائل ابرازه السابقة لا غيرها.

الثاني عشر : توثيق الوسائل : إنه لا يمكن للانسان أن يستند لقانون في مقام العمل حتى يثق بظهوره وصدوره ، فهناك عنصران لابد من التأكد من حصولهما وهما : عنصر الظهور للخطاب في القانون الكذائي وعنصر السند والثبوت والا فلا يكون العمل بذلك حجة عند العقلاء لإنه عمل بغير علم. فأما عنصر الظهور فبعد احرازه بالوجدان تجري قاعدة حجية الظهور التي بحث الأصوليون في أصل ثبوتها وحدودها ، وأنها هل تشمل المقصودين بالافهام وغيرهم أم تختص بالمقصودين فقط ، وهل تشمل حالة الظن بخلافها أم لا ، وهل هي مشروطة بالظن بالوفاق أم لا. وأما عنصر الثبوت والصدور فقد بحث عنه الأصوليون ، وقسموا الحجة لحجة ذاتية وعرضية فالأولى هي العلم والثانية الظن المعتبر بدليل شرعي إمضائي أو تأسيسي كخبر الثقة أو الخبر الموثوق به ، والشهرة والاجماع المنقول والظن الانسدادي بناءاً على الكشف ، وأصالة الظهور ونحو ذلك.

الثالث عشر : التعارض الاثباتي والثبوتي بين الأحكام القانونية : أما التعارض الاثباتي فالمقصود به التعارض الغير المستقر المتحقق في مرحلة الاثبات

٥٥

بدون سرايته لمرحلة الثبوت ، كالتعارض بين العام والخاص والمطلق والمقيد والعامين من وجه مع أقوائية أحدهما ظهوراً على الآخر والناسخ والمنسوخ والحاكم والمحكوم والمنطوق والمفهوم. والمقصود بالتعارض الثبوتي استقرار التعارض بين الدليلين بحيث يعد تنافياً بين المدلولين بالذات وبين الدالين بالعرض ، فيبحث في علم الأصول عن المرجحات لأحد المتعارضين من حيث السند أو المضمون أو الجهة ، وعلى فرض تكافؤهما فهل النتيجة هي التساقط والرجوع للأصل العملي أم التخيير بينهما وسيأتي بحث ذلك.

الرابع عشر : التنافي بين القوانين في مقام العمل والتطبيق : إن التنافي بين القوانين إما في مرحلة الجعل وقد سبق بحثه في أقسام التعارض ، وإما في مرحلة التطبيق والعمل وهو المسمى ببحث التزاحم الذي يبحث فيه عن ترجيح الأهم من المتنافيين على المهم وعلى فرض التساوي فالوظيفة هي التخيير ، وقد صغنا هذا البحث بصياغة أخرى وهي البحث حول دخالة القدرة ، فهل هي دخيلة في مرحلة الجعل أم في مرحلة الفعلية أم في مرحلة التنجز أم أنها غير دخيلة أصلاً وإنّما العجز مانع من التنجز كما يراه بعض الأعاظم (قده)(١) .

وعلى بعض هذه الفروض يدخل تنافي القوانين في التعارض وعلى بعضها يدخل في بحث التزاحم كما شرحناه في محله.

الخامس عشر : تعيين القانون عند قصور الوسيلة : إذا لم تتحقق الوسيلة الاعلامية الكاشفة عن القانون إما لفقدها أو إجمالها أو تعارضها مع وسيلة أخرى فما هو القانون المطبق حينئذٍ ، فتارة لا يكون هناك علم إجمالي وتارة يكون ، فإذا لم يكن هناك علم إجمالي فهل احتمال التكليف منجز أم يختص

__________________

(١) تهذيب الأصول ١ : ٣٠٨.

٥٦

ذلك بقوة الاحتمال أو اهمية المحتمل كما في الدماء والأعراض وإن كان الاحتمال ضعيفاً ، وهذا هو بحث البراءة والاحتياط ، وإذا كان هناك علم إجمالي فأما أن يقوم على أصل التكليف مع دورانه بين المحذورين وهما الوجوب والحرمة ، وهذا مورد أصالة التخيير ، أو مع دورانه بين الأقل والأكثر وهو مورد أصالة البراءة وإما أن يقوم على تكليف معين مع الشك في الفراغ منه حين العمل فهذا مورد أصالة الاشتغال. وتنقسم الأصول للأصل العملي الصرف والأصل التنزيلي والأصل المحرز وسيأتي البحث عنها ، كما يقع البحث في كون الاستصحاب من الأمارات أم الأصول ، وفي عدم حجية مثبتات الأصول العملية ، وفي تعيين الوظيفة عند تعارض الأصول بعضها مع البعض الآخر.

هذا تمام الكلام موجزاً حول منهج أبحاث علم الأصول وطريقة تبويبه وترتيبه ، وهو كما تراه لا تختص فائدته بمجال استنباط الحكم الشرعي من أدلته المقررة بحيث لا يكون نافعاً إلا للفقهاء ، بل هو مفيد حتى في المجالات القانونية أيضاً كالقضاء والمحاماة وسائر البحوث الحقوقية فلا يستغني عنه باحث قانوني.

٥٧

المبحث الرابع

الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي

والكلام في هذا البحث في ثلاثة جوانب :

الأول : في تأثر الفكر الأصولي بالفلسفة.

الثاني : في عوامل التأثر.

الثالث : في آثار هذا التأثر.

الجانب الأول : لا إشكال في تاثر الفكر الأصولي بالمفاهيم الفلسفية واختلاط مصطلحاته بالمصطلحات الفلسفية عند الشيعة والسنة كما يلاحظ في الكتب الأصولية بصفة عامة ، وقد تنبه لذلك السيد المرتضى (ره) فقال في الذريعة : « قد وجدت بعض من أفرد في الأصول كتاباً قد تشرد عن أصول الفقه وأسلوبها وتخطاها كثيراً ، فتكلم على حد العلم والنظر وكيف يولد النظر العلم ووجوب المسبب عن السبب إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض خالص لأصول الدين دون أصول الفقه(١) .

الجانب الثاني : عوامل التأثر المذكور وهي متعددة :

١ ـ وجود مجموعة كبيرة من علماء الفلسفة وعلم الكلام في عداد علماء الأصول كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلي وأمثالهم ، فهؤلاء مع كونهم من رواد علم الأصول فهم في نفس الوقت من المتكلمين الماهرين في

__________________

(١) الذريعة ١ : ٣.

٥٨

علم الكلام ، وهذا عامل فعال في اختلاط المفاهيم والمصطلحات.

٢ ـ الحاجة للمصطلحات الفلسفية وبيان ذلك في مقدمتين :

أ ـ إن اللغة العربية لم تكن لغة قانونية فهي رغم كثرة مفرداتها وتعدد أساليب التعبير والتجوز فيها الا أنها لا تضم بين طياتها مفردات قانونية دقيقة ، وذلك بسبب عدم معاصرتها لكيان حضاري مهم في عهد الجاهلية ، ومن هنا حينما أراد الشرع المقدس إيصال الأفكار القانونية كالوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والطهارة والنجاسة والحقوق كحق الرهانة والغرامة والجناية لأذهان المسلمين استخدم اللغة المولوية ، وهي لغة الأمر والنهي والوعد والوعيد ، إذ لا يمكن طرح هذه المفاهيم بحدودها الدقيقة لعدم وجود مفردات قانونية في اللغة العربية تعبر عنها تعبيراً واضحاً ، وقد تعرضنا لهذا البحث في مبحث علل اختلاف الحديث ودور اللغة في ذلك الاختلاف ، وذكرنا أن القرآن والحديث قد يعبر عن القانون التكليفي والقانون الوضعي بصيغة واحدة مثلاً يقول القرآن :( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ ) (١) وهو حكم مولوي ، ويقول :( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (٢) وهو حكم وضعي ، أي شرطية العدة في الطلاق ، فهذا الاشتراك في الصيغة سبب من أسباب اختلاف الحديث ومنشأه فقر اللغة العربية من المصطلحات القانونية.

ب ـ إن الأصوليين عندما بحثوا حول قواعد الاستنباط وأرادوا وضع المصطلحات فيها وجدوا أن اللغة العربية فقيرة من المفردات الصريحة الوافية بتحديد المعنى الأصولي القانوني تحديداً دقيقاً ، فاستخدموا المصطلحات الفلسفية المترجمة إلى اللغة العربية للتعبير عن ذلك ، فمثلاً

__________________

(١) النساء ٤ : ١٩.

(٢) الطلاق ٦٥ : ١.

٥٩

يعبرون عن الارتباط بين الحكم التكليفي وموضوعه بالشرط فيقولون الزوال شرط لوجوب الصلاة ، ويعبرون عن الارتباط بين الحكم الوضعي وموضوعه بالسبب فيقولون الغسل سبب للطهارة ، مع أنه لا توجد سببيبة وعلية واقعية بين الحكم وموضوعه بل الموجود هو الارتباط الجعلي لا الواقعي ، وهذا عامل يؤثر في فهم الفكر الأصولي واستيعابه لبقاء رواسب الفكر الفلسفي في نفس هذه المصطلحات مما يؤدي لاختلاط الافكار كما سيأتي البرهنة عليه.

العامل الثالث : ترجمة الفلسفة : حينما دخل علم الفلسفة أوساط المجتمع العربي احتاج علماء العرب لترجمة الأفكار الفلسفية وانتخاب الفاظ عربية للتعبير عنها ، سواءاً على مستوى المركبات أم على مستوى المفردات ، فمثلاً بالنسبة للمركبات نرى أن الجملة الاسنادية نحو زيد قائم يختلف تصورها في الارتكاز العربي عن تصورها في الارتكاز الفارسي أو اليوناني ، فالجملة في العرف العربي تعبر عن هوهوية واتحاد بين وجودين ، وجود زيد ووجود القيام من دون أن تشم رائحة الغيرية والاثنينية بينهما ، بينما مفهوم هذه الجملة في العرف الفارسي واليوناني يعني ثبوت شيء لشيء آخر فهو يحافظ على الغيرية والاثنينية بين الطرفين ، ولذلك يحتاج لوجود الرابط بينهما كلفظ ـ است ـ في الفارسية و ـ أستين ـ في اليونانية ، وحيث إن الفكر المنطقي بدأ على يد اليونانيين لذلك أصبح التصور المنطقي للقضية وهي الجملة الخبرية موافقاً للعرف اليوناني ، وحينما ترجم علم المنطق إلى العربية ترجم هذا التصور أيضاً لكن لما لم يوجد في اللغة العربية ثلاثة أطراف ـ موضوع ومحمول ورابط ـ لأن العرف العربي لا يرى القضية بمعنى ثبوت شيء لشيء بل بمعنى اتحاد الوجودين فلا تحتاج لوجود رابط بحسب ارتكازه ، استعار العلماء لفظ ـ هو ـ للتعبير عن الرابط محافظة على التصور المنطقي المتأثر بالعرف اليوناني ، فقالوا : القضية ثلاثية الأطراف نحو زيد هو قائم.

٦٠