واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية25%

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 236

  • البداية
  • السابق
  • 236 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25672 / تحميل: 4735
الحجم الحجم الحجم
واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الفصل الثالث : الإمام الصادق في ظل جدّه وأبيهعليهم‌السلام

ملامح عصر الإمام زين العابدين ومواقفه

لقد واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد استشهاد أبيه الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ التعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام تعاطفاً كان يفتقد الوعي ويقتصر على الشعور الإيجابي بالولاء مع خلوّه عن الموقف العملي الجادّ .

٢ ـ ثورات انتقاميّة كانت تتحرّك نحو هدف محدود ، وثورات نفعية مصلحيّة ، ونشوء حركات منافقة ، وظهور وعّاظ السلاطين لإسباغ الشرعية على السلطة القائمة .

٣ ـ بروز ظاهرة الشعور بالإثم عند الأمة بسبب ما ارتكبته من خذلان لأبيه الحسين السبطعليه‌السلام لكن هذا الشعور كما هو معروف كان بلا ترشيد واضح ، والعقليات المدبّرة للثورة على الوضع القائم كانت تفكر بالثأر فحسب وهنا خطط الإمام زين العابدينعليه‌السلام لعمله على مرحلتين أو خطوتين :

الخطوة الأولى : تناول الإمامعليه‌السلام ظاهرة الشعور بالإثم وعمل على ترشيدها بعد أن عمّقها بشكل متواصل عبر تذكيره الأمة بمأساة كربلاء والمظالم التي لحقت بآل البيتعليهم‌السلام وقد استغرق هذا التذكير زمناً طويلاً ،

٤١

حيث حاول إعطاء ظاهرة الشعور بالإثم بُعداً فكرياً صحيحاً ليجعل منه أداة دفع وتأثير في عملية البناء والتغيير .

وبعد أن تراكم هذا الشعور شكّل في نهاية الأمر خزيناً داخلياً كانت لا تقوى الأمة أن تصبر عليه طويلاً ، وأصبح الإلحاح على مخرج تعبّر به الأمّة عن ألمها أمراً جدّياً ، حتَّى حدثت الثورة الكبرى وطبيعي أنّ هذا الجو المشحون الذي كان ينبئ بالثورة والإطاحة بالأمويين جعلهم يشددّون الرقابة على الإمام زين العابدينعليه‌السلام باعتباره الرأس المدبّر لهذه المطالبة ولكونه الوريث الشرعي للخلافة بعد أبيه الحسينعليه‌السلام ومن هنا كانت الحكومة الأموية تفسّر أيّ حركة تصدر من الإمامعليه‌السلام على أنّها تمهيد للثورة .

الخطوة الثانية : توزّع نشاط الإمامعليه‌السلام في هذه الخطوة على عدّة اتّجاهات .

الاتجاه الأوّل : قام الإمامعليه‌السلام ببلورة العواطف الهائجة وحاول أن يدفعها باتّجاه الفكر الصحيح ويضع لها الأسس العقائديّة ويجعل منها مقدمة لعملية التغيير التي ينشدها الإمامعليه‌السلام ، وقد تمثّلت في إيجاد الفكر الإسلامي الصحيح الذي طالما تعرّض للتشويه والتحريف ثم إعداد الطليعة الواعية التي تشعر بالمسؤولية وتكون أهلاً لحمل الأمانة الإلهيّة .

الاتّجاه الثاني : تحرّك الإمام زين العابدينعليه‌السلام انطلاقاً من مسؤوليته في حماية الإسلام وبقائه كشريعة دون تحريف وتشويه لمحتواه ضمن عدة نشاطات :

١ ـ النشاط الأول : واجه الإمامعليه‌السلام الحركات الانحرافية والفرق الضالّة والمغالية التي كانت تستهدف الفكر الإسلامي وتعتمد الإسرائيليات والنظريات الهندية واليونانية حول الكون والحياة في فهم القرآن والحديث

٤٢

الشريف ، وقام بنشر مختلف العلوم والفنون وتبيان الصيغة الصحيحة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي كان قد أصابها الفساد ، كما يتّضح ذلك بجلاء في رسالته المعروفة برسالة الحقوق ، كما ساهم في حل المشاكل التي كانت تهدّد كرامة الدولة الإسلامية كما يلاحظ ذلك جليّاً فيما حدث في جوابه على رسالة ملك الروم حين هدّد الخليفة بالحصار الاقتصادي(١) .

النشاط الثاني : إنّ الأمويين كانوا قد ضيّقوا على حركة الإمامعليه‌السلام ونشاطه مع الأمة إلاَّ أنّ الإمامعليه‌السلام استخدم الدعاء سلاحاً للارتباط الفكري والمعنوي بها ، وحيث إنّ هذا السلاح لم يستهدف الأمويين مباشرة ، توفّر للإمامعليه‌السلام مجالٌ أوسع لمعالجة الظواهر المرضية والانحرافات الأخلاقية .

الاتّجاه الثالث : التأكيد على أهمية العمل الثوري ومكافحة الظلم والانحراف ، وإيقاد روح الجهاد التي كانت خمدت في الأمة عبر سنوات الانحراف ، كما يتجلّى ذلك في دعائه للمختار الذي طالب بثأر الحسين وكان على اتصال دائم بالإمامعليه‌السلام أثناء ثورته من خلال عمّه محمد ابن الحنفيّة .

الاتّجاه الرابع : لم يكن موقف الإمامعليه‌السلام من الحكّام موقف المواجهة والتحدّي المباشر ; إذ لو كان قد فعل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ؛ ذلك لما كان يستطيع أن يحقق ما حققه من مكاسب في الأمة في مجال التربية ، ولما توفّرت أجواء سليمة وفرص واسعة لنشاط الإمام الباقرعليه‌السلام من بعده وللجماعة الصالحة التي ربّاها .

لكن هذا لا يعني أن الإمامعليه‌السلام لم يوضح رأيه في الحكومة فلم يترك

ـــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٩/١٢٢ .

٤٣

الأمر ملتبساً على شيعته ، بل كانت للإمام زين العابدينعليه‌السلام مواقف مع الحكّام سوف نشير إلى بعض منها ، وكان هدفه منها إعطاء خطّ في التربية والتغيير حفاظاً على الشيعة من الضياع ; إذ لم تكن الجماعة الصالحة على سبيل المواجهة ولكنها كانت كافية في التحصين في تلك المرحلة على مستوى التربية والإعداد وتأسيساً لمستقبل سياسي أفضل .

ونستطيع أن نلاحظ موقف الإمامعليه‌السلام مع السلطة من خلال رسالته الجوابية إلى عبد الملك حين لامَ عبد الملك الإمامعليه‌السلام على زواجه بأمته التي كان قد أعتقها .

إنّ ردّ الإمامعليه‌السلام على عبد الملك كان يتضمّن تحدّياً للخليفة الذي كان يفكرّ بعقلية جاهلية ; فإنّ الإمامعليه‌السلام وضّح فيها الموقف الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات التي وضعتها الجاهلية بقولهعليه‌السلام :( فلا لؤم على امرئ مسلم إنَّما اللؤمُ لؤم الجاهلية ) .

يظهر هذا التحدّي ممَّا جاء في مصادر التأريخ من أن الخليفة الأموي بعد أن قرأها هو وابنه سليمان ، قال الابن : يا أمير المؤمنين لَشدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين !! فردّ الخليفة على ابنه قائلاً : ( يا بنيّ لا تَقل ذلك فإنّها ألسن بني هاشم التي تَفلق الصخر وتغرف من بحر ، إنّ عليّ بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس(١) .

وفي هذا الجواب إشارة إلى أنّ المواجهة مع الإمام من قبل الخليفة لا تخدم سلطان بني أمية .

ومن مواقف الإمام زين العابدينعليه‌السلام تجاه السلطة أيضاً موقفه من

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦/١٦٥ ، والعقد الفريد : ٧/١٢١ .

٤٤

الزهري ذلك المحدث الذي كان مرتبطاً بالبلاط الأموي ـ فقَد أرسل إليه الإمامعليه‌السلام رسالة قَرعه فيها على شنيع فعله(١) ، وان كان قد علم الإمام بأنّه غارق إلى هامته في موائد السلطان ولهوه ، إلاَّ أنّها رسالة للأجيال .

ومن الأحاديث التي وضعها هذا الرجل دعماً لسياسة بني أمية حينما منعوا حج بيت الله الحرام لمّا كان ابن الزبير مسيطراً على الحرمين الشريفين ما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .

ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

استشهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام سنة ( ٩٥ هـ ) في أيام حكم الوليد ابن عبد الملك وتوّلى الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام مسؤولية الإمامة بوصية من أبيه حيث أعلن عن إمامته أمام سائر أبنائه وعشيرته حين سلّمه صندوقاً فيه سلاح رسول اللهعليه‌السلام وقال له :( يا محمَّد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ، ثم قالعليه‌السلام :أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه مملوءٌ علم ) (٢) .

إذن فهو صندوق يرمز لمسؤولية القيادة الفكرية والعلمية كما أنّ السلاح يرمز لمسؤولية القيادة الثورية .

وبالرغم من توالي الثورات التي تلت واقعة الطف والتي كان الإمام الباقرعليه‌السلام قد عاصرها جميعاً مع أبيهعليه‌السلام بقي موقف الأعمّ الأغلب من الناس الاستجابة لمنطق السيف الأموي إلى جانب القسم الآخر الذي آمن بأنّ الحكّام الأمويين يمثّلون الخلافة الإسلامية .

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ .

(٢) بصائر الدرجات ٤/٤٤ و٤٨ ، وأصول الكافي ١/٣٠٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦/٢٢٩ .

٤٥

كما أنّه عاصر عمليات الهدم الفكري والتحريف والمسخ الثقافي الذي مارسه الأمويون بحق الرسالة والقيم الإسلامية .

وعند مجيء سليمان بن عبد الملك إلى الحكم بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ( ٩٦ هـ ) أصدر قرارات جديدة استراحت الأمة بسببها قليلاً حيث أمر بالتَنكيل ( بآل ) الحجاج بن يوسف الثقفي وطرد كلّ عمّاله وولاته(١) كما أطلق سراح المسجونين في سجون الحجّاج(٢) .

وفي سنة ( ٩٩ هـ ) تقلّد الحكم الأموي عمر بن عبد العزيز فازدادت الحريّات في مدّة خلافته القصيرة ، كما يراه بعض المؤرّخين ، كما أنّه عالج مشكلة الخراج التي قال عنها بأنّها سنّة خبيثة سنّها عمّال السوء(٣) .

وعامل العلويين معاملة خالف فيها أسلافه فقد جاء في كتابه لعامله على المدينة : ( فأقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فطالما تخطّتهم حقوقهم )(٤) ورَدَّ فدكاً ـ التي كان قد صادرها الخليفة الأوّل ـ على الإمام الباقرعليه‌السلام (٥) ورفع سبّ الإمام عليّعليه‌السلام الذي كان قد سنّه معاوية(٦) .

أمّا الناحية الفكرية : فتبعاً للتغيّرات السياسية نلمس تطوّراً في الجانب الفكري أيضاً ؛ فقد برزت في هذا الظرف تيارات فكريّة جديدة واتجّه الناس

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل ، ابن الأثير : ٤/١٣٨ .

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٤/٨٠ .

(٣) الكامل : ٥/٢٩ وتاريخ الطبري : ٨/١٣٩ .

(٤) مروج الذهب : ٣/١٩٤ .

(٥) الكامل : ٤/١٦٤ والمناقب : ٤/٢٠٧ وسفينة البحار : ٢/٣٧٢ .

(٦) انظر الفكر السامي ١/٢٧٦ عن صحيح مسلم ، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٣ و٢٣٠ و٢٣٥ و٣٠٥ ، وشرح النهج للمعتزلي ٥/٩٨ تاريخ الخميس : ٢/٣١٧ .

٤٦

للبحث والدرس وتلقّي المعرفة الإسلامية ورفع المنع الحكومي عن تدوين الحديث النبوي وبدأت تتميّز مدرسة أهل الحديث عن مدرسة أهل الرأي ومال الموالي من غير العرب إلى مدرسة أهل الرأي في الكوفة ، وتزعّم أبو حنيفة هذه المدرسة في حينها ضد مدرسة أهل الحديث في المدينة(١) .

وكنتيجة طبيعية للإخفاق الذي سجّلته الحركات الفكرية ، ظهرت فكرة الاعتزال التي نادى بها ( واصل بن عطاء ) في البصرة عندما اعتزل حلقة درس أستاذه ( الحسن البصري ) وهي تعتبر تعديلاً لفكرة الخوارج التي لم تلقَ رواجاً حينما قالت بكفر مرتكب الكبيرة(٢) ، والمرجئة التي قالت بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية(٣) فقال واصل ( مؤسس اتّجاه الاعتزال والمتوفى في ١٣١هـ ) : إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق بل هو في منزلة بين منزلتين أي إنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر لكنّه فاسق والفاسق يستحق النار بفسقه(٤) .

هذه صورة مجملة عن الواقع الذي عايشه الإمام الصادقعليه‌السلام خلال مرحلة قيادة أبيه الباقرعليه‌السلام .

متطلّبات عصر الإمام الباقرعليه‌السلام

ونلخّص دور الإمام الباقرعليه‌السلام في ثلاثة خطوط أساسية :

الخط السياسي ، وإكمال بناء الجماعة الصالحة ، وتأسيس جامعة أهل البيتعليه‌السلام العلمية .

ـــــــــــــــــ

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين : ٢/١٧٨ .

(٢) الملل والنحل : ١/١٥٨ .

(٣) تاج العروس ، مادة رجأ .

(٤) الأغاني : ٧ / ١٥ .

٤٧

١ ـ الخط السياسي للإمام الباقر عليه‌السلام

لقد كان الخيار السياسي للإمام الباقرعليه‌السلام في فترة تصدّيه للإمامة هو الابتعاد عن الصدام والمواجهة مع الأمويين وهذا واضح من خلال تصريحه الذي تضمّن بياناً للجوّ السائد وحالة الأمة ومستوى وعيها آنذاك :( إنْ دَعَوْناهم لم يستجيبوا لنا ) (١) .

كما نجده فيما بعد يستوعب سياسة الانفتاح والاعتدال التي أبداها عمر ابن عبد العزيز ، سواء كان هذا الاعتدال بدافع ذاتي لعلاقته بالإمامعليه‌السلام ، أم بدافع الضغوط الخارجيّة وخوفه من انهيار الدولة الأموية .

إنّ الإمام قد رسم خطّه السياسي في هذه المرحلة بأسلوبين :

الأسلوب الأول : تصريح الإمامعليه‌السلام برأيه حول عمر بن عبد العزيز وحكومته قبل تصدّي عمر للخلافة فعن أبي بصير ، قال : كنت مع أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في المسجد ودخل عمر بن عبد العزيز وعليه ثوبان ممصّران متكئاً على مولى له فقالعليه‌السلام :( لَيَلِيَنَّ هذا الغلام [ أي سوف يتولّى السُلطة ]فيظهر العدل ) (٢) .

ولكن الإمامعليه‌السلام قدح في ولايته باعتبار وجود مَن هو أولى منه .

الأسلوب الثاني : أسلوب المراسلة واللقاء فقد روي أنّ عمر بن

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ، للشيخ المفيد : ٢٨٤ .

(٢) سفينة البحار : ٢/١٢٧ .

٤٨

عبد العزيز كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وقد أرسل خلفه فنون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عُبّاد أهل الكوفة فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً واحتفى به وجَرَت بينهما أحاديث وبقي الإمام أيّاماً في ضيافته(١) .

ومن المراسلات ما جاء أنّه : كتب عمر للإمامعليه‌السلام بقصد الاختبار فأجابه الإمام برسالة فيها موعظة ونصيحة له(٢) ، ولكن سياسة الابتعاد عن الصدام المباشر لم تمنع الإمام الباقرعليه‌السلام من أن يقف من الأمة بشكل عام ومن الأمويين وهشام بن عبد الملك بشكل خاص موقف التحدّي الفكري والعقائدي والعلمي لبيان الحق المغتصب وكشف ستار الباطل الذي كان قد أسدله الحكّام على الحق ورموزه .

وحين حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام وابنه جعفر ، قال جعفر بن محمدعليه‌السلام في بعض كلامه :( الحمد لله الذي بعث محمّداً نبيّاً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده فالسعيد مَن اتّبعنا والشقيّ مَن خالفَنَا ، ومن الناس مَن يقول : إنّه يتولاَّنا وهو يتولّى أعدائنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربّنا ولم يعمل به ) (٣) .

فبيّنعليه‌السلام مفهوم القيادة الإلهية ومصداقها الحقيقي الذي يمثّلها آنئذ .

وهذا الطرح وان كان فيه نوع مجابهة صريحة للحاكم وما يدور في

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق : ٥١/٣٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٥ .

(٣) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ ، بحار الأنوار : ٤٦/٣٠٦ .

٤٩

أذهان الناس لكنّه لم يكن مغامرة ; لأنّ الظرف كان بحاجة إلى مثل هذا الطرح والتوضيح ، بالرغم من أنّه قد أدّى إلى أن يستدعي هشام الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى الشام فيما بعد .

٢ ـ إكمال بناء الجماعة الصالحة

لم تكن عملية بناء الجماعة الصالحة وليدة عصر الإمام الباقرعليه‌السلام فقد باشرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لإمام عليعليه‌السلام ، حيث نجد لأشخاص أمثال مالك الأشتر وهاشم المرقال ، ومحمد بن أبي بكر ، وحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، وكميل بن زياد ، وعبد الله بن العباس ، دوراً كبيراً في الصراع الذي خاضه الإمام عليعليه‌السلام مع مناوئيه .

واستمرت عملية البناء بشكل فاعل في عصر الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ثم تقلّص النشاط المباشر في بناء هذه القاعدة وتوسيعها ، ثم استمرّت عملية البناء في العقود الأخيرة من حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتكاملت في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام حيث سنحت الفرصة له بأن يتحرك نحو تطوير الجماعة الصالحة بتوضيح أهدافها التي تمثّلت في الدفاع عن المجتمع الإسلامي وحفظ الشريعة الإسلامية من التحريف إلى جانب توسيع القاعدة كمّاً مع تطويرها كيفاً .

ونقتصر فيما يلي على بعض ما قام به الإمام الباقرعليه‌السلام من خطوات :

الخطوة الأولى : أخذ الإمامعليه‌السلام يعمّق ويوضّح صفات الجماعة الصالحة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام ودورها في المجتمع ، فقد جاء في وصفه لهذه الجماعة قولهعليه‌السلام :( إنّما شيعتنا ـ شيعة علي ـالمتباذلون في ولايتنا المتحابّون في

٥٠

مودّتنا ، المتزاورون لإحياء أمرنا ، الذين إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على مَنْ جاوروا ، سلم لمَن خالطوا ) (١) ، وقال أيضاً :( شيعتنا من أطاع الله ) (٢) .

وبهذا أراد الإمامعليه‌السلام أن يرسّخ الكمالات الإنسانية في جانبي الأخلاق والعبادة التي تعرّضت للضياع طيلة سنوات المحنة ، ويوضّح أن الانتماء لخطّ أهل البيتعليهم‌السلام هو بالعمل والتحلّي بهذه الصفات .

الخطوة الثانية : قام الإمامعليه‌السلام ـ بالإضافة إلى توضيح مستوى الروح الإيمانية التي ينبغي أن يتَمتّع بها أفراد الجماعة الصالحة ـ بشحذِ هممها وتربيتها على روح الصبر والمقاومة لكي تمتلك القدرة على مواصلة العمل في سبيل الله ومواجهة التحدّيات المستمرّة وعدم التنازل أمام الإغراءات أو الضغوط الظالمة ، فقد جاء في كلامهعليه‌السلام لرجل حين قال له : والله إنّي لأحبّكم أهل البيت فقالعليه‌السلام :( فاتّخذ للبلاء ، جلباباً ، فو الله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدو البلاء ثم بكم ، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم ) (٣) .

هكذا رسم الإمامعليه‌السلام معالم الطريق الشائك أمامه ، إنّه طريق مفروش بالدماء والدموع ، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أوّلاً قبل أن يصيب شيعتَه .

وقد كان الإمامعليه‌السلام يذكّرهم بمعاناة الشيعة قبل هذا الظرف بقولهعليه‌السلام :( قتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان مَن يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ونُهب مالُه وهُدِمَت داره ) (٤) .

ومن الأعمال التي قام بها الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة هو إلزام

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٢) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦/٣٦٠ ، وأمالي الشيخ الطوسي : ٩٥ .

(٤) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام دراسة وتحليل : ٢/٢٥٧ .

٥١

أتباعه وخاصّته بمبدأ التقية ؛ حفاظاً عليهم من القمع والإرهاب والإبادة التي طالما تعرّضوا لها وقد اعتبر هذا المبدأ من الواجبات الشرعية ذات العلاقة بالإيمان ، فكان يوصيِهم بالتقية قائلاً :( التقيّة ديني ودين آبائي ، ومَن لا إيمان له لا تقيّة له ) (١) .

ومن المبادئ التي تتداخل مع التقيّة : كتمان السرّ ، فقد جاء عنهعليه‌السلام في وصيّته لجابر بن يزيد الجعفي في أوّل لقاء له بالإمامعليه‌السلام : أن لا يقول لأحد أنّه من أهالي الكوفة ، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة وجابر الجعفي هذا قد أصبح فيما بعد صاحب سرّ الإمامعليه‌السلام ، ولشدّة فاعليّته وتأثيره في الأمة أمر هشام بن عبد الملك واليه في الكوفة بأن يأتيه برأس جابر ، لكنّ جابراً قد تظاهر بالجنون قبل أن يصدر الأمر بقتله حسب إرشادات الإمام الباقرعليه‌السلام التي كانت تصله سرّاً ، فقد جاء في كتاب هشام إلى واليه : أن أُنظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه .

فالتفت إلى جلسائه فقال لهم : مَن جابر بن يزيد الجعفي ؟ قالوا : أصلحك الله ، كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم .

قال : فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب فقال : الحمد لله الذي عافاني من قتله(٢) .

وكان في هذه المرحلة رجال كتموا تشيّعهم وما رسوا نشاطات مؤثرة في حياة الأمة فكرية وعسكرية وفقهية مع الاحتفاظ بعلاقاتهم ، فمن فقهاء الشيعة : سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد ، فقد كانا بارزين بين علماء ذلك العصر

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٢/١٧٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٦/٢٨٢ ، والكافي : ١/٣٩٦ .

٥٢

في الفقه وغيره إلاَّ أنّه لم تكن لهم صبغة التشيّع الصريح ، فقد شاع عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يجيب أحياناً برأي غيره من علماء عصره أو برأي مَن سبقه من الصحابة ؛ مخافة أن يصيبه ما أصاب سعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل وغيرهما ممّن تعرّضوا للقتل والتشريد بسبب تشيّعهم .

وهذا موسى بن نصير من رجالات الكوفة العسكريين وزهّادها المؤمنين ممّن عرف بولائه لأهل البيتعليهم‌السلام هو وأبوه نصير ، ولقد غضب عليه معاوية إذ لم يخرج معه لصفِّين ، وموسى هو الذي فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب وكان تحت إمرته مولاه طارق بن زياد وولده عبد العزيز وبسبب تشيّعه غضب عليه سليمان بن عبد الملك وقبل أن يقتله عرّضه لأنواع العذاب فقتل ولده أمامه وألزمه بدفع مبلغ كبير(١) .

وكان لجابر الجعفي وزرارة وأبان بن تغلب وغيرهم دور بالغ في نجاح حركة الإمام الفكريّة ، وأصبحوا ـ فيما بعد ـ النواة لجامعته ، وبقي هؤلاء بعد وفاة الإمام الباقرعليه‌السلام بصحبة ولده الصادقعليه‌السلام ليمارسوا مسؤولياتهم بحجم أكبر كما سيأتي توضيحه .

٣ ـ تأسيس جامعة أهل البيت عليهم‌السلام

جاءت فكرة زرع البذرة الفكرية وتشكيل النواة الأولى لجامعة علمية إسلامية في هذهِ المرحلة كضرورة حضارية لمواجهة التحدّي الحاضر ونسف البنى الفكرية لكل الأطروحات السابقة التي وجدت من ظروف المحنة مناخاً مناسباً لبثّ أفكارها .

كما تأتي ضرورة وجود تيّار فكري يبلور الأفكار الإسلامية الأصيلة

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٢٩٤ .

٥٣

ويعبّئ بها ذهن الأمة ويفوّت الفرصة على الظالمين في حالة تبدّل الظروف .

ويمكن تلخيص الأسباب التي شكّلت عاملاً مهمّاً في التهيئة لنجاح هذه الجامعة فيما يلي :

١ ـ لقد عُزلت الأمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وفقههم أكثر من قرن وبقيت تتناقله الخواص في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية .

٢ ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك الأمة لها حلاًّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين .

٣ ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم ; لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة ، بل أصبح بنفسه مشكلة أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة .

٤ ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس والاستحسان ، زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قليلة(١) لا تفي بالغرض ، الأمر الذي تسرّب فيه العنصر الذاتي للمجتهد ودخل الإنسان بذوقه الخاص إلى التشريع(٢) ، كما ظهرت مدرسة الحديث قِبال

ـــــــــــــــــ

(١) هذا في غير مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الذين حرصوا على نقل تراث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواجهوا منع تدوين السنّة النبوية بالحث على التدوين والنقل والتعليم ؛ لئلاَّ تندرس معالم الدين .

(٢) فقد عرف حسن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول الفقهية سوى سبعة حشر حديثاً راجع مقدمة ابن خلدون : ٣٧٢ .

٥٤

مدرسة الرأي والتي عرفت بالجمود على ظاهر النص ولم تتفرّغ لتمييز صحيح النصوص من غيره .

٥ ـ غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكّل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في نفوس الأمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .

في هذا الظرف الذي ذهب فيه الخوف واستطاع المسلم أن يبحث عن المعرفة وعن حل لمشكلاته الفكرية ، قام الإمام الباقرعليه‌السلام بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فكان وجودهعليه‌السلام مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملاً أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الأمة المسلمة وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادقعليه‌السلام المرتقب ، فتناول الإمامعليه‌السلام أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية .

وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الأمة بعد أن عبّأه بكل المؤهّلات التي تمكّنهُ من خوض المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب :( اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك ) (١) .

وعندما يدرك الأصحاب مغزى هدف الإمام من هذا التوجيه وضرورة الحضور مع الناس ؛ يتصدّى هؤلاء بأنفسهم لمعالجة المشكلات الفكرية وإبطال الشبه عن طريق الحوار والمناظرة حسب الخط الذي رسمه لهم الإمامعليه‌السلام في وقت سابق .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي ٢/٦٢٢ ، ح ٦٠٣ .

٥٥

قال عبد الرحمن بن الحجاج : كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال له : يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأدرك أبان مراده فانبرى قائلاً : كأنّك تريد أن تعرف عليّاً بمَن تبعه من أصحاب رسول الله ؟ فقال هو ذاك .

فأجابه أبان : والله ما عرفنا فضلهم ـ أي الصحابة ـ إلاَّ باتّباعهم إيّاه .

وتعميقاً لهذا التوجيه وبنفس السياق يبادر محبوب أهل البيت ولسانهم مؤمن الطاق ليواجه أفكار حركة الخوارج ويردّ على جرأتها في التشكيك بموقف الإمام عليعليه‌السلام من مسألة التحكيم(١) .

يدخل مؤمن الطاق على بعض زعماء الخوارج في الكوفة فيقول له : أنا على بصيرة من ديني وقد سمعتك تصف العدل فأحببت الدخول معك ، فيقول الخارجي لأصحابه إن دخل هذا معكم نفعكم.

فيقول له مؤمن الطاق : لِمَ تبرّأتم من عليّ بن أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله ؟

يجيبه الخارجي : لأنّه حكّم الرجال في دين الله .

فيقول له : وكلَّ من حكّم في دين الله استحللتم قتله ؟

فيجيب الخارجي : نعم .

فيقول له : أخبرني عن الدين الذي جئت أُنظارك به لأدخل معك فيه ، إن غَلَبَتْ حجّتي حجّتك ، من يوقِفُ المخطئ منّا عن خطئه ويحكم للمصيب بصوابه ؟

فيشير الضحّاك إلى رجل من أصحابه ويقول : هذا هو الحكم بيننا .

ـــــــــــــــــ

(١) معجم رجال الحديث : ١/٢١ ـ ٢٢ وتنقيح المقال : ١/٤ .

٥٦

هنا يتوجّه مؤمن الطاق إلى مَن كان حاضراً من الخوارج ويقول : زعيمكم هذا قد حكّم في دين الله(١) وهكذا يفحمهم بحجّته البالغة ومنطقه القويم .

وقبل أن ننتهي من حياة الإمامعليه‌السلام نشير إلى ثلاث وقائع تاريخية لها صلة بالمرحلة التي سوف يتصدّى لها الإمام الصادقعليه‌السلام .

الواقعة الأولى : إنّ هشام بن عبد الملك هو واحد من الحكّام الأمويين الَّذين نصبوا العداوة لأهل البيت ، بل نراه قد زاد على غيره حتَّى أنّه على أثر الخطبة التي خطبها الإمام الصادقعليه‌السلام في مكة والتي أوضح فيها معنى القيادة ولمَن تكون القيادة ، يأمر هشام فور رجوعه إلى الشام بجلب الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى دمشق لغرض التنكيل بهما .

وبعد اللقاء بهشام تفوّق الإمام الباقرعليه‌السلام في البلاط الأموي في الحوار الذي أجراه مع هشام ثم حواره مع عالم النصارى في الشام ، يسمح لهما هشام بالرجوع إلى المدينة ولكنّه يأمر أمير ( مدين ) ـ وهي المدينة الواقعة في طريقهما ـ بإيذائهما فقد جاء في رسالته : إنّ ابن أبي تراب الساحر محمّد بن علي وابنه جعفر الكذابين فيما يظهران من الإسلام ، قد وردا عليّ فلمّا صرفتهما إلى يوم الدين مالا إلى القسسين والرهبان ، وتقربّا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال لقربهما ، فإذا مرّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس : برئت الذمّة ممّن باعهما وشاراهما وصافحهما وسلّم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابّهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام(٢) .

ولم يترك هشام الإمام الباقرعليه‌السلام حُرّاً يتحرّك في المدينة ، ولم يسترح

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/ ٧٢ .

(٢) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ وبحار الأنوار : ٤٦ ـ ٣٠٦ .

٥٧

من تواجده في الساحة الإسلامية حتَّى أقدم على قتله غيلةً بالسمّ سنة (١١٤هـ)(١) .

الواقعة الثانية : في هذهِ الفترة تحفّز زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وصمّم على الثورة ضد هشام بن عبد الملك على أثر تصرّفات الأمويين ، ولا سيّما تصرّف هشام المهين بحق زيد ، والنيل من كرامته ، وما كان يفعله هشام بحق الشيعة بشكل خاص .

لقد دخل زيد على هشام فسلّم عليه بالإمرة فلم يردّ السلام إهانةً له ، بل أغلظ في الكلام ولم يفسح له في المجلس .

فقال زيد : السلام عليك يا أحول ، فإنّك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم فغضب هشام وجرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل ، وخرج زيد وهو يقول : ما كره قومٌ حرّ السيوف إلاَّ ذلّوا .

وأمر هشام بردّه وقال له : اُذكر حوائجك ، فقال زيد : أما وأنت ناظر على أمور المسلمين فلا وخرج من عنده وقال : مَن أحبّ الحياة ذلّ(٢) .

ومضى زيد إلى الكوفة ثمّ خطّط للثورة واستشار بذلك الإمام الباقرعليه‌السلام .

قال الإمام الصادقعليه‌السلام :إنّ عمّي أتى أبي فقال إنّي أريد الخروج على هذا الطاغية .

ولمّا أزمع على الخروج أتاه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إنّي سمعت أخاك أبا جعفر يقول :إنّ أخي زيد بن علي خارج ومقتول وهو على الحق فالويل لمَن خذله ، والويل لمَن حاربه ، والويل لمَن يقتله فقال له زيد : يا جابر لم يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله تعالى

ـــــــــــــــــ

(١) شذرات الذهب : ١/١٤٩ ، تاريخ بن الأثير : ٤/٢١٧ ، طبقات الفقهاء : ٣٦ .

(٢) تاريخ الطبري : حوادث سنة ( ١٢١ ) ، وتاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٨

وتحوكم بالجبت والطاغوت(١) .

الواقعة الثالثة : ولمّا قربت وفاة الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام دعا بأبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام فقال له :إنّ هذه الليلة التي وُعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له :يا أبا عبد الله ، الله الله في الشيعة فقال أبو عبد الله :لا تركتهم يحتاجون إلى أحد ... (٢) .

بهذا العرض ننتهي من تصوير حياة الإمام الصادق مع أبيه لتبدأ مرحلة تصدّيه للإمامة ، وبها يبدأ عصر جديد من العمل والجهاد والإصلاح .

ـــــــــــــــــ

(١) راجع تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) إثبات الهداة : ٥/٣٣٠ .

٥٩

الباب الثالث :

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثاني : دور الإمامعليه‌السلام في تثبيت معالم الرسالة .

الفصل الثالث : دور الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

٢٦ - زيد بن أرقم (ت / ٦٨ه‍):

أخرج الإمام أحمد بن حنبل (ت / ٢٤٠ه‍) في مسنده، من طريق ابن نمير، عن عطية العوفي قال: «سألت زيد بن أرقم فقلت له: إن ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا اُحِبُّ أن أسمعه منك؟

فقال: انكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، فقلت له ليس عليك مني بأس، فقال نعم، كنا بالجحفة فخرج رسول اللّه (ص) الينا ظهراً وهو آخِذ بعضد علي، فقال: ايها الناس ألستم تعلمون أني أولَى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا: بلى. قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه. قال: فقلت له: هل قال: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)؟ قال: إنما اخبرك كما سمعت»(١) .

ولا شك ان كتمان زيد لقوله (ص): «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» كان تقية من عطية العوفي، ذلك لأن الاقرار بهذه العبارة يعني فضح اعداء الإمام علي، وانهم ممن يعاديهم اللّه، وهم ما أكثرهم في عهد زيد بن أرقم الذي امتد عمره حتى ادرك حكم مروان بن الحكم، وما يدل على تقيته من عطية العوفي، قوله لعطية: انكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، اشارة إلى الفتن الكثيرة التي كانت تموج بها - يوم ذاك - أرض العراق، كما أن قول عطية له: ليس عليك مني بأس دليل آخر على فهم عطية ان زيداً يخشاه. ومما يؤكد ذلك ان ما كتمه زيد عن عطية قد رواه زيد عن نفسه كما في كثير من الطرق الصحيحة المنتهية إليه، وقد حققها العلامة الأميني في كتاب الغدير، وحسبك ان يكون من روى الحديث كاملاً عن زيد بن أرقم - كما في الغدير - الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، والنسائي في خصائصه، والدولابي في

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٣٦٨.

١٢١

الكنى والاسماء، والميبدي في شرح ديوان الإمام علي عليه السلام، والذهبي في تلخيص المستدرك، وفي ميزان الاعتدال، وابن الصباغ في الفصول، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول، والهيثمي في مجمع الزوائد من طريق أحمد والطبراني والبزاز، والخوارزمي الحنفي في المناقب، وابن عبد البر في الاستيعاب، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب، والسيوطي في مجمع الجوامع، وتاريخ الخلفاء والجامع الصغير، وابن حجر في تهذيب التهذيب، والتبريزي في مشكاة المصابيح، وعشرات غيرهم(١) .

ولهذا قال العلامة الأميني معلقاً: «إن زيداً اتقى ختنه العراقي، وهو يعلم ما في العراقيين من النفاق والشقاق يوم ذاك، فلم يبد بسره حتى أمن من بوادره فحدثه بالحديث»(٢) .

٢٧ - عبد اللّه بن عباس (ت / ٦٨ه‍):

لقد ورد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:(إلا أن تتَّقُوا مِنهُم تُقاةً) انه قال: «ما لهم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله»، وعنه أيضاً: «التقية باللسان ومن حمل على أمر يتكلم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، انما التقية باللسان»(٣) .

وقد أخرج أبو حيان الاندلسي (ت / ٧٥٤ه‍) عن ابن عباس انه قال عن التقية: «انها مداراة ظاهرة، أي يكون المؤمن مع الكفار، وبين اظهرهم فيتقيهم

____________________

(١) راجع من اخرج الحديث بتمامه عن زيد بن أرقم في كتاب الغدير ١: ٣٠ - ٣٧.

(٢) الغدير: ١: ٣٨٠.

(٣) جامع البيان / الطبري ٦: ٣١٣ وما بعده.

١٢٢

بلسانه، ولا مودة لهم في قلبه»(١) .

وقال أيضاً: «فأما من أُكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، لأن اللّه سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم»(٢) .

ومن تقية ابن عباس رضي اللّه عنه ما قاله الطحاوي الحنفي (ت / ٣٢١ه‍) واليك عين لفظه:

قال «حدثنا محمد بن عبد اللّه بن ميمون البغدادي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء قال: قال رجل لابن عباس رضي اللّه عنه: هل لك في معاوية أوتَرَ بواحدة (أي: صلى الوتر بركعة واحدة) - وهو يريد أن يعيب معاوية - فقال ابن عباس: أصاب معاوية».

ثم بين الطحاوي أن المروي عن ابن عباس ما يدل على انكاره صحة صلاة معاوية فقال: «إن أبا غسان مالك بن يحيى الهمداني حدثنا قال: حدثنا عبد الوهاب، عن عطاه قال: أخبرنا عمران بن حدير، عن عكرمة أنه قال: كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس: من أين تُرى أخذها الحمار؟»

وأخرج من طريق أبي بكره مثله، ثم قال: وقد يجوز أن يكون قول

____________________

(١) تفسير البحر المحيط / أبو حيان الاندلسي ٢: ٤٢٣.

(٢) جامع البيان / الطبري ١٤: ١٢٢، وانظر الدر المنثور للسيوطي ١: ١٧٦، حيث اخرج ذلك عن ابن جرير الطبري، وابن حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، كما اخرجه ابن حجر في فتح الباري ١٢: ٢٦٣، عن ابن جرير أيضاً.

١٢٣

ابن عباس: (أصاب معاوية) على التقية له، أي: أصاب في شيء آخر، لأنه كان في زمنه. لا يجوز عليه - عندنا - أن يكون ماض لفعل رسول اللّه (ص)، الذي قد علمه عنه صواباً»(١) ، ثم اخرج عن ابن عباس في الوتر انه ثلاث.

قلت: واحسن من هذا التأويل، ان يكون المفعول تقديره الخطأ لا الحق، فيكون الكلام: «أصاب معاوية الخطأ».

٢٨ - أبو سعيد الخدري (ت / ٧٤ه‍):

ذكر الاستاذ علي حسين من الباكستان في بحثه عن التقية(٢) تقية الصحابي أبي سعيد الخدري من ولاة الأمويين في تقديمهم الخطبة على الصلاة، مشيراً إلى صحيح البخاري - كتاب العيدين، باب الخروج إلى الصلاة من غير منبر، وصحيح مسلم كتاب الصلاة، وعمدة القاري، حديث رقم / ٩، وسنن أبي داود - كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد، حديث رقم / ١١٤٠، وسنن الترمذي - كتاب الفتن / ٣١، باب / ٢٦، وسنن ابن ماجة - كتاب الفتن / ٣٦، باب / ٢٠.

٢٩ - تقية جمع من الصحابة فيهم جابر الأنصاري (ت / ٧٨ه‍):

قال اليعقوبي (ت / ٢٨٤ه‍) عند الحديث عن خلافة الإمام علي عليه السلام ما نصه:

«ووجه معاوية بُسر بن أبي أرطاة، وقيل: ابن أرطاة العامري من بني

____________________

(١) شرح معاني الآثار / أبو جعفر الطحاوي ١: ٣٨٩ - باب الوتر.

(٢) راجع بحث الاستاذ علي حسين من الباكستان بعنوان: التقية عند أهل السنة نظرياً وتطبيقاً منشور في مجلة الثقافة الإسلامية العدد ٥١ - ٥٢ / ١٤١٤ه‍ - اصدار المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق.

١٢٤

عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل، فقال له سِر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهِم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة لهم عندك ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهِب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امضِ حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم.

فخرج بُسر، فجعل لا يمرّ بحيٍّ من أحياء العرب إلا فعل ما أمر معاوية، حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحى عن المدينة، ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال:

يا أهل المدينة مثل السوء لكم:( قريَةً كانت آمِنَةً مُطمئنّةً يأتِيها رِزقُها رغداً مِن كُلِّ مكانٍ فكفرَت بِأنعُمِ اللّهِ فأذاقهَا اللّهُ لِباسَ الجُوعِ والخوفِ بِما كانُوا يصنَعُون ) (١) ، ألا وإنّ اللّه قد أوقع بكم هذا المثل، وجعلكم أهله. شاهت الوجوه، ثم ما زال يشتمهم حتى نزل!

قال فانطلق جابر بن عبد اللّه الأنصاري إلى اُمّ سلمة زوج النبي، فقال: إني خشيت أن أُقتل، وهذه بيعة ضلال؟

قالت: إذاً فبايع، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب، ويحضرون الأعياد مع قومهم.

وهدم بسر دوراً بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى

____________________

(١) النحل: ١٦ / ١١٢.

١٢٥

اليمن»(١) إلى آخر ما ذكره من جرائم بسر بن أرطاة.

وفي رواية ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي (ت / ٦٥٦ه‍) أكثر وضوحاً لتقية جميع الأنصار والمهاجرين من بسر.

قال: «.. ودخل بُسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه! إنّ اللّه تعالى يقول:( وضربَ اللّهُ مثلاً قريَةً كانت آمِنَةً مُطمئنّةً يأتيِها رِزقُها ) الآية، وقد أوقع اللّه تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله - الى أن قال - ثم شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وابناء العبيد: بني زُرَيق، وبني النجار، وبني سَلِمة، وبني عبد الأشهل، أمَا واللّه لأُوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه... وتفقد جابر بن عبد اللّه، فقال: ما لي لا أرى جابراً! يا بني سلمة لا أمان لكم عندي، أو تأتوني بجابر، فعاذ جابر باُم سلَمة - رضي اللّه عنها، فأرسلت إلى بُسر بن أرطاة، فقال: لا أؤمّنه حتى يبايع، فقالت له اُم سلمة: اذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه»(٢) .

ثم روى عن وهب بن كيسان كيف ان جابراً توارى من بسر، وكيف عاد إليه فبايعه وفيه انه قال: «فلما امسيت دخلت على اُمّ سلمة فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بنيّ، انطلق فبايع، إحقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي ان يذهب فيبايع، واني لأعلم أنها بيعة ضلالُ»(٣) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٩٧ - ١٩٩.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢: ٩ - ١٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢: ١٠، وفي هامشه: «في تاريخ الطبري: فقال لها: ماذا ترين؟ إنّي خشيت أن اُقتل، وهذه بيعة ضلالة، فقالت: أرى أن تبايع، فإنّي قد أمرت ابني =

١٢٦

وهكذا كان جابر رضي اللّه عنه، يرى ان لا جناح عليه في طاعة الظالم اذا اكرهه على التقية، قال السرخسي الحنفي (ت / ٩٢ه‍): «وعن جابر رضي اللّه عنه، قال: لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها - أي: التقية -»(١) .

٣٠ - القاضي شريح (ت / ٧٨ه‍):

عندما أُدخل هانئ بن عروة رحمه اللّه على عبيد اللّه بن زياد والي الكوفة سنة ٦٠ه‍ طالبه بمسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام، وكان في داره ثم انتهى الامر إلى ان هشّم ابن زياد وجه هانئ رحمه اللّه بعمود من حديد واودعه السجن، قال المؤرخ لوط بن يحيى: «وبلغ عمرو بن الحجاج أنّ هانئاً قد قُتل، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر، ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم يُقتل، فاعظموا ذلك.

فقيل لعبيد اللّه: هذه مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فاعلمهم أنه حيّ لم يقتل، وأنك قد رأيته.

فدخل إليه شريح فنظر إليه».

وقد حدّثَ شريح إسماعيل بن طلحة عن تقيته في ذلك اليوم فقال: «دخلت على هانئ فلما رآني، قال: يا اللّه يا للمسلمين أهلَكَت عشيرتي؟ فأين أهل الدين؟ وأين أهل المصر؟ تفاقدوا يخلوني وعدوهم وابن عدوهم!!

والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجة على باب القصر، وخرجت،

____________________

= عمر بن أبي سلمة أن يبايع، وأمرت ختني عبد اللّه بن زمعة...».

(١) المبسوط / السرخسي ٢٤: ٤٧.

١٢٧

وأتبعني، فقال: يا شريح! إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إن دخل عليّ عشرةُ نفرٍ أنقذوني.

قال: فخرجت إليهم، ومعي حميد بن بكر الأحمري، أرسله معي ابن زياد - وكان من شُرطِه ممن يقوم على رأسه - وايم اللّه لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به.

فلما خرجت إليهم، قلت: إنّ الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم، أمرني بالدخول إليه، فأتيته، فنظرت إليه، فأمرني أن القاكم وأن أعلمكم إنه حيّ، وإنّ الذي بلغكم في قتله كان باطلاً»(١) .

٣١ - تقية أنس بن مالك (ت / ٩٣ه‍):

قال القاضي الدمشقي (ت / ٧٧٢ه‍): «وفي صحيح البخاري: إن عبد اللّه بن عمر كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذلك أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً»(٢) .

وقد مرّ في تقية عبد اللّه بن عمر قول النبي (ص):«ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه».

أقول: المعروف عن صلاة الأمويين انهم كانوا يسقطون منها البسملة عند قراءتهم سورة الفاتحة، لما روي في ذلك عن بعض الصحابة - ومنهم أنس بن مالك - أنه صلى خلف رسول اللّه (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يسمع أحداً منهم يبسمل في صلاته.

____________________

(١) مقتل الحسين عليه السلام / لوط بن يحيى: ٣٩ - ٤٠.

(٢) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي ٢: ٥٣٠.

١٢٨

وقد اثبت الرازي الشافعي بطلان جميع الوجوه التي احتج بها من ذهب إلى هذا الرأي من الفقهاء، واحتمل أن يكون خبر الصحابي أنس قد صدر تقية منه لانه كان يخشى الأمويين، لا سيما وانه ادرك من ظلمهم ما يزيد على خمسين سنة، ويؤيده ائتمامه بهم، وأنى للمأموم أن يخالف الإمام فيما يقرأ؟

قال الرازي الشافعي - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة، في الجواب عن خبر أنس بن مالك أنه ليس البسملة من الفاتحة - ما نصه:

«والجواب عن خبر أنس من وجوه:

الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: روي عن أنس في هذا الباب ست روايات. أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات:

احداها: قوله: صليت خلف رسول اللّه (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاةب‍(الحمدُ للّهِ ربِ العالَمِين).

وثانيتها: قوله: إنهم ما كانوا يذكرون(بِسمِ اللّه الرّحمين الرّحيمِ).

وثالثتها: قوله: لم أسمع أحداً منهم قال:(بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ)، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، وثلاث اُخرى تناقض قولهم.

احداها: ما ذكرنا إنّ أنساً روى أن معاوية لما ترك(بِسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرُحيمِ) في الصلاة، أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بينا إن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.

وثانيتها: روى أبو قلابة، عن أنس أن رسول اللّه (ص)، وأبا بكر، وعمر كانوا يجهرونب‍(بِسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ).

١٢٩

وثالثتها: إنه سُئِلَ عن الجهرب‍(بِسمِ اللّهِ الرّحمن الرّحيمِ)، والإسرار به؟ فقال: لا أدري هذه المسألة!

فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي: إن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أُمية بالغوا في المنع من الجهر (بها) سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام.

فلعل أنساً خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فإنّا لا نشك أنه مهماً وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل، وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي أولى. فهذا جواب قاطع في المسألة»(١) ، انتهى الوجه الأول من كلام الرازي حرفاً بحرف.

قلت: إن ما احتمله الإمام الرازي من تقية الصحابي أنس في موافقته للأمويين على ترك البسملة في الصلاة، حقيقة واضحة لا مجرد احتمال، ويدل عليه قوله: لا أدري هذه المسألة، حين سئل عنها. وهذه هي تقية اُخرى منه ازاء السائل. إذ كيف يجهل الجهر من الإسرار بالبسملة، وهو قد عاش عصر النبي (ص)، وعصر الخلفاء الراشدين، فضلاً عن ملازمته للنبي الأكرم (ص) وخدمته، لولا انه أوجس خيفة من السائل؟

وبعد.. فلا تعجب إن قلت لك: إن الإمام الرازي قد ختم كتابه المحصل

____________________

(١) التفسير الكبير / الرازي ١: ٢٠٦ - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة.

١٣٠

بقول سليمان بن جرير الزيدي - ولم يناقشه - وخلاصته: إن مفهوم التقية في الإسلام هو من وضع (أئمة الرافضة)(١) .

____________________

(١) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والمتكلمين / الرازي: ٣٦٥، وانظر: الملل والنحل للشهرستاني ١: ١٥٩ - ١٦٠.

١٣١

١٣٢

موقف التابعين من التقية

التابع لغة، هو التالي، وقد اختلفوا في حده كثيراً، فمنهم من اشترط الصحبة للصحابي، ومنهم لم يشترط واكتفى باللقاء، واشترط بعضهم طول الملازمة، وآخر صفة السماع، وثالث التمييز، ومنهم من قيد التابع بإحسان.

والمهم هنا ان عصر التابعين قد انتهى بموت آخر التابعين خلف بن خليفة - على ما قيل - في سنة ثمانين ومائة، وقيل سنة احدى وثمانين ومائة، ولهذا سنتابع موقف رجالات هذا العصر من التقية ابتداءً من سنة (٥٠ه‍) وانتهاءً بسنة (١٧٩ه‍) وقد يكون من بينهم من لم يرَ صحابياً، ولكنه ادرك عصرهم الذي انتهى على رأس المائة الاُولى من الهجرة تقريباً. مراعياً بذلك ما وصل إليه تسلسل الموقف المتقدم، مع ملاحظة السبق الزمني لمواقف التابعين من التقية، وعلى النحو الآتي:

٣٢ - تقية بني ضبّة سنة (٥٠ه‍):

روى الطبري في تاريخه في حوادث سنة خمسين من الهجرة الشريفة

١٣٣

مطاردة زياد بن أبيه (ت / ٥٣ه‍) للفرزدق الشاعر العربي المشهور (ت / ١١٠ه‍)، وفي هذه السنة هام الفرزدق على وجهه في البراري مختفياً خائفاً من أن يدركه الطلب، لا سيما وقد أباح زياد دمه، إلى أنّ وصل الفرزدق إلى أخواله من بني ضبّة، ثم أدركه الطلب وهو فيهم، فأخفوه، وأنكروا - بعد أن سُئلوا عنه - أن يكون لهم علم به، وقالوا: ما رأيناه(١) .

ولم ينكر عليهم أحد - على طول التاريخ - بأنهم كذبوا وقالوا خلاف الواقع، بل على العكس كان قولهم هذا مما يستحسنه العقلاء في كل آن وزمان، وهو مما وجب عليهم شرعاً، وإلا لكانوا من الآثمين اتفاقاً، وهكذا كان للتقية فضلها في عصمة دم الفرزدق.

٣٣ - صعصعة بن صوحان (ت / ٥٦ه‍):

من كبار التابعين، شهد صفين مع علي عليه السلام، وكان يوصي بالتقية، فقد قال لاُسامة بن زيد الصحابي المعروف (ت / ٥٤ه‍): «خالص المؤمن وخالق الكافر، إنّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن»(٢) .

وهذا القول يؤكد صحة ما مرّ سابقاً، من أنّ التقية لا تكون خوفاً من المؤمن اطلاقاً، لأنّ المؤمنين إخوة، والمؤمن مرآة المؤمن، وإنما تكون من الكافر، بل ومن المسلم الذي تخشى بوادره ولا يطمأن إلى جانبه.

٣٤ - مسروق بن الأجدع (ت / ٦٤ه‍):

روي أنّ معاوية بن أبي سفيان (ت / ٦٠ه‍) كان قد بعث بتماثيل من صفر

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢١٣ - في حوادث سنة ٥٠ه‍.

(٢) البحر المحيط / أبو حيّان ٢: ٤٢٣.

١٣٤

لكي تباع بأرض الهند، فمُرَّ بها على مسروق بن الأجدع، فقال: «واللّه لو أني أعلم انه يقتلني لغرّقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، واللّه، لا أدري أي الرجلين معاوية: رجل قد زُيّن له سوء عمله، أو رجل يئس من الآخِرة، فهو يتمتع في الدنيا»(١) .

وهذا الكلام ما أصرحه في جواز التقية عند الخوف من الحاكم الظالم، ولو من غير القتل، وفيه إيماءة إلى أنّ التعذيب بالضرب والإهانة وما شابه ذلك هو أشد وقعاً على نفوس العلماء وأهل الفضل من القتل بالسيف ونحوه، على أن مسروقاً كان يرى: إن المكره على التقية اذا أباها حتى مات، دخل النار، وقد تقدم هذا في قول أبي حيان(٢) .

٣٥ - نجدة بن عويمر الخارجي (ت / ٦٩ه‍):

حكى الشهرستاني (ت / ٥٤٨ه‍) في ملله(٣) اختلاف نجدة بن عويمر، رأس فرقة النجدات من الخوارج مع نافع بن الأزرق (ت / ٦٥ه‍)، رأس فرقة الأزارقة من الخوارج أيضاً، في مشروعية التقية. فقال نافع: التقية لا تحل، وخالفه نجدة بن عويمر الحروري، وقال: التقية جائزة، واحتجّ بقوله تعالى:( إلا أن تتّقُوا مِنهُم تُقاةً ) (٤) وبقوله تعالى:( وقالَ رجُل مُؤمِن مِن آلِ فِرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ ) (٥) ، وأثبت لنافع أنّ التقية مشروعة من لدن عليم حكيم.

____________________

(١) المبسوط / السرخسي ٢٤: ٤٦.

(٢) البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي ٢: ٤٢٤.

(٣) الملل والنحل / الشهرستاني ١: ١٢٥.

(٤) آل عمران: ٣ / ٢٨.

(٥) غافر ٤٠ / ٢٨.

١٣٥

٣٦ - سعيد بن جبير (ت / ٩٤ه‍):

قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت / ٢٢٤ه‍): «حدثنا مروان بن معاوية، عن حسان بن أبي يحيى الكِندي، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة؟ فقال: ادفعها إلى ولاة الأمر، فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا؟ فقال: ضعها حيث أمرك اللّه، سألتني على رؤوس الناس فلم أكُّن لأخبرك»(١) .

وبعد فلا أظن أنّ أحداً يشك في صحة تقية راهب التابعين سعيد بن جبير رضوان اللّه تعالى عليه.

٣٧ - سعيد بن المسيب (ت / ٩٤ه‍):

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام أيضاً: «حدثنا يزيد، عن همام بن يحيى، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب، إلى من أدفع زكاة مالي؟ فلم يجبني، قال: وسألت الحسن؟ فقال: ادفعها إلى السلطان»(٢) .

أقول: اذا كان رأي الحسن البصري (ت / ١١٠ه‍) هو هذا فعلاً فلا دلالة فيه على تقيته، ولكن على م يدل سكوت التابعي سعيد بن المسيب؟

____________________

(١) كتاب الاموال / أبو عبيد القاسم بن سلام: ٥٦٧ / ١٨١٣، باب دفع الصدقة إلى الاُمراء واختلاف العلماء في ذلك. وقد دلّني على تقية سعيد بن جبير هذه الاُستاذ الباكستاني علي حسين رستم في بحثه (التقية عند أهل السنة نظرياً وتطبيقياً) ص: ١٢٠ المنشور في مجلة الثقافة الإسلامية كما ذكرنا في مقدمة هذا البحث، وقد اعتمد الطبعة الثالثة من كتاب الأموال: ٥٠٨ / ١٨١١ بتحقيق الهراس، إلا انّي اعتمدت الطبعة الأُولى بتحقيق الهراس أيضاً.

(٢) كتاب الأموال: ٥٦٥ / ١٨٠١.

١٣٦

قال الدكتور محمد خليل هراس - في هامشه، معلقاً عليه -: «يظهر أنّ سعيداً رحمه اللّه كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني اُمية، ولهذا سكت».

ومن تقيته أيضاً، ما أخرجه الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الزيدي الجارودي الحافظ (ت / ٣٣٣ه‍) في أول كتاب الولاية، عن شيخه إبراهيم بن الوليد بن حماد، عن يحيى بن يعلى، عن حرب بن صبيح عن ابن أُخت حميد الطويل، عن ابن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: «قلت لسعد ابن أبي وقاص: إني أُريد أن أسألك عن شيءٍ وإني أتَّقِيك؟ قال: سل عما بدا لك، فإنما أنا عمك، قال: قلت: مقام رسول اللّه (ص) فيكم يوم غدير خم؟ قال: نعم، قام فينا بالظهيرة، فأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال:من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه. وعاد من عاداه، فقال أبو بكر وعمر: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة».

قال العلامة الأميني بعد أن اورده - وتقية زيد بن أرقم لهذا الحديث كما مر -: «فإن الظاهر من هذه كلها انه كان بين الناس للحديث معنى لا يأمن معه راويه من أن يصيبه سوء أولدَتهُ العداوة للوصي - صلوات اللّه عليه - في العراق وفي الشام»(١) .

٣٨ - تقية الملايين من سيف الحجاج (ت / ٩٥ه‍):

لا يخفى أنّ التقية هي الباعث الأوّل والأخير للمؤمنين - الذين لا يجدون مفرّاً عنها - على إطاعتهم للمتسلّط الظالم والانقياد إلى أوامره، وهذا ممّا لا ينبغي الشك فيه، لأنّ تصوّر أيّ مبررٍ آخر لتلك الطاعة وذلك الانقياد، لا بدّ

____________________

(١) الغدير / الأميني ١: ٣٨٠.

١٣٧

وأن ترافقه التقية بشكل أو بآخر، وإلا لأصبحا (الطاعة والانقياد) تكريساً لنظرية وجوب طاعة الحاكم الظالم، تلك النظرية التي أنشأها شيخ الاُمويين لأسباب لا تخفى على كل باحث ذي عقل حرّ وتفكير سليم.

وما يهمّنا هنا هو كشف حقيقة التقية المليونية - إن صحّ التعبير - في هذا المثال الذي لم يكن هو الوحيد الكاشف عنها إذا علمنا أن لغة السيف هي أعرق في قاموس الاُمويّين من بروز الحجاج بن يوسف الثقفي على مسرح الأحداث السياسية في تاريخهم الدموي. حيث ولاه عبد الملك بن مروان (ت / ٨٦ه‍) - بعد أن أخمد ثورة ابن الزبير وقتله سنة (٧٤ه‍) - مكّة، والمدينة، والطائف ثمّ أضاف إليها العراق بمصريه (الكوفة والبصرة)، لا لفقه الحجاج وورعه وتقواه وسابقته، وإنّما لكونه سفاكاً سفاحاً من الطراز الأوّل الذي لا يرعى للّه إلاً ولا ذمة(١) .

ولقد كان الحجّاج يصرّح بقسوته المتناهية على أهالي هذه الأمصار الإسلامية، كما يظهر في الكثير من خطبه على منابر المسلمين وقد نقل بعضها ابن قتيبة الدينوري (ت / ٢٧٦ه‍) في عيون الأخبار، وسنذكر منها ما يقرّب صورة التقية (المليونية) إلى الأبصار.

الخطبة الاُولى: قال ابن قتيبة: «دخل الحجّاج بن يوسف الثقفي إلى البصرة، وهو متقلّد سيفاً، ومتنكّب قوساً عربية، فعلا المنبر ثمّ قال:

أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا***متى أضع العمامة تعرفوني

____________________

(١) انظر: مروج الذهب / المسعودي ٣: ٣٧٥ - الباب: ٩٥ ففيه الشيء الكثير من فظائع الحجّاج.

١٣٨

إنّ أمير المؤمنين نكب عيدانه بين يديه فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها مَكسِراً، فوجهني إليكم، ألا فواللّه لأعصبنكم عصب السلمة، ولألحونّكم لحو العود، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل حتّى تستقيم لي قناتكم، وحتّى يقول القائل: انج سعدُ، فقد قُتل سعيد...»(١) .

الخطبة الثانية: «أيّها الناس إنّي اُريد الحجّ، وقد استخلفت عليكم ابني هذا وأوصيته بخلاف ما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الأنصار، إنّ رسول اللّه أوصى أن يُقبل من مُحسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وإنّي أمرته ألا يَقبل من مُحسنكم، ولا يتجاوز عن مُسيئكم، ألا وأنّكم ستقولون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعدِي: لا أحسن اللّه له الصحابة ألا وإنّي معجل لكم الجواب. لا أحسنَ اللّهُ لكم الخلافة»(٢) .

الخطبة الثالثة: «سوطي سيفي، فنجاده في عنقي، وقائمه في يدي، وذبابه قلادة لمن اغترّ بي»(٣) .

خطبة اُخرى: وله خطبة اُخرى ذكر فيها من ألوان التهديد وأصناف الوعيد الشيء العجيب، مصرّحاً فيها بأنّه لا فرق عنده بين المعافى والسقيم، وبين من يطيعه أو يعصيه، فالمحسن والمسيء كلاهما سيان(٤) ، وكأنّ اللّه تعالى لم يقل في كتابه الكريم:( ولا تَزِرُ وازِرَة وِزرَ اُخرَى ) (٥) .

____________________

(١) عيون الأخبار / ابن قتيبة ٢: ٢٦٥.

(٢) م. ن ٢: ٢٦٧.

(٣) م. ن ٢: ٢٦٧.

(٤) م. ن ٢: ٢٦٧.

(٥) الأنعام: ٦ / ١٦٤.

١٣٩

هذه هي كلماته على ملايين المسلمين، فماذا كان جوابهم؟

إنّه السكوت المطبق، وكأنّ لسان حالهم يردّد:

للفتى عقل يعيش به***حيث يهدي ساقه قدمه

أو:

ما إن ندمت على سكوتي مرّةً***ولقد ندمت على الكلام مراراً

امّا من تجرّأ على الكلام منهم كعبد اللّه بن الأهتم التميمي فقد وصف الحجاج بن يوسف بأنّه مثل أنبياء اللّه تعالى!!

قال ابن قتيبة بعد أن أورد له خطبته التي ساوى فيها بين المحسن والمسيء: «فقام إليه عبد اللّه بن الأهتم التميمي فقال: أيّها الأمير أشهدُ أنّك اُوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال له: كذبت ذاك نبي اللّه داود»(١) .

وممّا يستنتج من خطب الحجاج اُمور هي:

١ - انّه كان يشتم الناس من على منبره علناً، ويهددهم ويوعدهم قبل

____________________

(١) عيون الأخبار / ابن قتيبة ٢: ٢٦٤.

هذا وقد مرّ بي منذ زمن بعيد كلامٌ - غاب عنّي مصدره - خلاصته انّ عبد الملك بن مروان قد أوعز إلى الحجاج بقمع ثورة محمّد بن عبد الرحمن بن الأ شعث - على ما أظن - وأن يستعرض أنصارها من العراقيّين بعد إخمادها واحداً بعد واحد على أن يقرّوا على أنفسهم بأنّهم كفروا بعد الإيمان لأنّهم خرجوا على عبد الملك ويعلنوا توبتهم بين يدي الحجاج، ومن أبى يقتله، وقد فعل الحجّاج ذلك بهم، وأقرّوا على أنفسهم بالكفر بعد الإيمان وطلبوا قبول توبتهم من الحجاج، ولا معنى لهذا غير التقية. ومن طريف ما أتذكّره انّ شيخاً كبيراً كان من جملة من اُتي به ليقرّ بالكفر بعد الإيمان ويطلب التوبة، فقال الحجّاج - وقد أراد قتله -: لا أظنّ أنّ هذه الشيبة قد ارتدّت بعد الإسلام. فقال الشيخ - على الفور -: يا حجّاح لا تخدعني عن نفسي، انّي كنت مرتداً وها أنذا أتوب بين يديك، فضحك الحجاج وتركه.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236