واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية25%

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 236

  • البداية
  • السابق
  • 236 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25736 / تحميل: 4784
الحجم الحجم الحجم
واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وقوع صاحبها في ضيق لا يسعه الخروج منه بدونها، ولهذا كانت هذه الآية من نِعَمِ اللّه تعالى على اُمّة محمّد (ص)، كما صرّح بذلك علماء أهل السُّنّة.

قالالقرطبي المالكي (ت / ٦٧١ه‍): «وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام، وهي ممّا خصّ اللّه بها هذه الاُمّة.

روى معمّر، عن قتادة قال: اُعطيت هذه الاُمّة ثلاثاً لم يُعطَها إلا نبيّ: كان يقال للنبيّ: إذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الاُمّة: (وما جعَل عليكُم في الدِّين مِن حرَجٍ(١) .

الآية الثامنة:

قال تعالى:( ادفَع بالّتِي هي أحسَنُ فإِذا الّذي بينَكَ وبينَهُ عداوَة كأنّهُ وليّ حمِيم ) (٢) .

إنّ دلالة هذه الآية على وجوب تمسّك المسلم بالأخلاق الفاضلة ومراعاة شعور الآخرين، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وردّ الباطل بالحقّ، والتسامح مع الآخرين، لا يكاد يشكّ فيه أي مسلم كان، وهذا المعنى ممّا اتّفق عليه المفسّرون عن بكرة أبيهم.

ولا شكّ أنّ هذه الاُمور التي دلّت عليها الآية الكريمة تدخل - بقدر ما - في باب المداراة، والمداراة هي من التقية اتفاقاً.

على أنّ هناك الكثير من الآيات الاُخر التي تقرّب إلى الأذهان مشروعيّة

____________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٢: ١٠٠.

(٢) فصّلت ٤١: ٣٤.

٨١

التقية في القرآن الكريم، من ذلك:

قوله تعالى:( لا يُكلِّفُ اللّهُ نفساً إِلا ما آتاها ) (١) .

وقوله تعالى:( يُرِيدُ اللّهُ بِكُم اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ ) (٢) .

كما أنّ قوله تعالى:( بلِ الإنسانُ على نفسِهِ بصيرَة ) (٣) ، يدلّ على أنّ للإنسان أن يُقدِّر نتائج ما يُقدم عليه من استعمال التقية أو تركها، بل عليه أن يُقدِّر نتائج كلّ ما يُقدم عليه في حياته كلّها، لأنّه مسؤول عن تلك النتائج صغيرها وكبيرها يوم القيامة، وستشهد بها جوارحه عليه، ولا مجال هناك للإنكار أو المجادلة كما يُشعر بذلك قوله تعالى بعد ذلك: (ولو ألقى معاذِيرَه ُ)(٤) .

وهذا يعني أنّ الاضطرار أو الإكراه اللّذين يواجههما الإنسان في حياته يُترك تقديرهما له، لأنّه أعلم من غيره حين ينزلان به، وعليه أن يزن الاُمور بالميزان الحقّ، فإن علم أنّه لا مخرج من الاضطرار إلا بأكل المحرّم فله ذلك، وإن شعر أنّ الإكراه على المعصية من فعل أو قول إن أدّى - مع عدم الامتثال للمكرِه - إلى القتل أو ما يقاربه من وعيد متلف أو الاعتداء على الأعراض أو الأموال وغير ذلك من الأضرار الاُخرى التي لا تُطاق عادة، فله أن يستعمل التقية، وقد مرّ هذا المعنى في كلمات المفسّرين للآية الثانية كالرازي وغيره، فراجع.

____________________

(١) الطلاق ٦٥: ٧.

(٢) البقرة ٢: ٨٥.

(٣) القيامة ٧٥: ١٤.

(٤) القيامة ٧٥: ١٥.

٨٢

ثانياً - السُّنّة المطهّرة - القولية والفعلية

ورد مفهوم التقية في كثير من النصوص المخرجة في كتب الصحاح والمسانيد، وكتب السيرة وقد اُسندت إلى النبيّ (ص)، وسنذكر منها ما يصحّ الاحتجاج به على مشروعية التقية، وعلى النحو الآتي:

١ - أخرج البخاري (ت / ٢٥٦ه‍) من طريق قتيبة بن سعيد، عن عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ رجلاً استأذن في الدخول إلى منزل النبيّ (ص)، فقال (ص): «ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلمّا دخل ألآن له الكلام. فقلت له: يا رسول اللّه قلت ما قلت ثمّ ألِنت له في القول؟ فقال:أي عائشة، إنّ شرّ الناس منزلة عند اللّه من تركه أو ودَعَهُ الناس اتّقاء فُحشه »(١) .

وهذا الحديث صريح جداً بتقيّة رسول اللّه (ص) من أحد رعيته لفحشه، فكيف إذاً لا تجوز تقية من هو ليس بنبي من المسلم الظالم المتسلّط الذي لا يقاس ظلمه مع ضرر كلام الفاحش البذيء؟

٢ - الحديث المشهور بين علماء المسلمين: «رفع اللّه من اُمّتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه »(٢) .

____________________

(١) صحيح البخاري ٨: ٣٨ - كتاب الإكراه، باب المداراة مع الناس، سنن أبي داود ٤: ٢٥١ / ٤٧٩١ و٤٧٩٢ و٤٧٩٣، ورواه محدّثو الشيعة الإمامية أيضاً باختلاف يسير كما في اُصول الكافي / الكليني ٢: ٢٤٥ / ١ - كتاب الإيمان والكفر، باب من يتّقى شرّه.

(٢) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني ٥: ١٦٠ - ١٦١، مسند الربيع بن حبيب ٣: ٩، تلخيص الحبير / ابن حجر ١: ٢٨١، كشف الخفاء / العجلوني ١: ٥٢٢، كنز العمال / المتّقي الهندي ٤: ٢٣٣ / ١٠٣٠٧، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة / السيوطي: ٨٧.

٨٣

وهذا الحديث يدلّ أيضاً على مشروعيّة التقية، وانّ صاحبها لا يؤاخذ بشيءٍ ما دام مكرهاً عليها، وقد مرّ في كلام ابن العربي المالكي ما له علاقة بهذا الحديث ودلالته على التقية في تفسيره للآية الثانية، فراجع.

٣ - الحديث المروي عن ابن عمر (ت / ٦٥ه‍)، عن النبيّ (ص) أنّه قال: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم »(١) .

ولا تخفى ما في مخالطة الناس من اُمور توجب المداراة، التي تدخل من هذا الباب في حقل التقية.

٤ - أخرج الهيثمي (ت / ٨٠٧ه‍) من طريق إبراهيم بن سعيد، عن النبيّ (ص) أنّه قال: «كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبّك بين أصابعه. قالوا: كيف نصنع؟ قال:اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم، وخالفوهم بأعمالهم »(٢) .

ولعمري، هل هناك أصرح من هذا بالتقية؟ وكيف تكون مخالقة حثالة الناس بأخلاقهم، ومخالفتهم في أعمالهم من غير تقية؟

٥ - حديث ابن عمر عن النبيّ (ص) أنّه قال: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قال: قلت: يا رسول اللّه كيف يذلّ نفسه؟ قال:يتعرّض من البلاء لما لا يطيق »(٣) .

____________________

(١) سنن ابن ماجة ٢: ١٣٣٨ / ٤٠٣٢، والسنن الكبرى / البيهقي ١٠: ٨٩، ورواه البيهقي من طريق آخر بلفظ: (أفضل) مكان (أعظم أجراً)، ومثله في حلية الأولياء / أبو نعيم ٥: ٦٢ و٧: ٣٦٥، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠: ٣٥٩ - رواه عن البغوي.

(٢) كشف الأستار / الهيثمي ٤: ١١٣ / ٢٣٢٤.

(٣) م. ن ٤: ١١٢ / ٢٣٢٣.

٨٤

أقول: لقد طبّق هذا الحديث من أدرك الحكم الأموي من الصحابة وما أكثرهم، بل وجميع التابعين، ذلك لأنّ من الثابت الذي لا يرقى إليه الشكّ مطلقاً، أنّ علياً عليه السلام قد لعنه الأمويّون على منابر المسلمين لعشرات من السنين، ولم يغيّر أحد هذا المنكر لا من الصحابة ولا من التابعين، إلا القليل الذين احتفظ التاريخ بمواقفهم وسجّلها بكل إعزار وتقدير، فقد أدرك الكلّ أنّ مثل هذا التغيير سيعرّضهم إلى ما لا يطيقون من البلاء، ولا أعلم موقفاً أوضح منه في التقية.

٦ - أخرج المحدّثون عن علي عليه السلام (ت / ٤٠ه‍) وابن عبّاس (ت / ٦٨ه‍)، ومعاذ بن جبل (ت / ١٨ه‍)، وعمر بن الخطّاب (ت / ٢٣ه‍)، عن النبيّ (ص)، أنّه قال: «استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإنّ كل ذي نعمة محسود »(١) .

أقول: لقد مرّت فائدة كتمان مؤمن آل فرعون إيمانه، حيث استطاع - وبفضل كتمان إيمانه، وتظاهره بمظهر الناصح الشفيق على مصلحة فرعون وقومه - أن يثني فرعون اللعين عمّا عزم عليه من جرم عظيم.

على أنّ هذا الحديث لا يعني الأمر بكتمان الحقّ والتظاهر بالباطل، ولا يحثّ على ذلك مطلقاً، بل فيما يعنيه أنّ في الكتمان فوائد لا تتحقّق بغيره، ولمّا كانت التقية هي عبارة عن كتمان ما ترى وإظهار خلافه للحفاظ على النفس أو العِرض أو المال، إذاً اتّضحت علاقة الحديث بالتقية.

٧ - حديث السيوطي، عن النبيّ (ص) قال: «بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم

____________________

(١) المعجم الكبير / الطبراني: ٢٠: ٩٤ / ١٨٣، حلية الأولياء / أبو نعيم ٦: ٩٦، الجامع الصغير / السيوطي ١: ١٥٠ / ٩٨٥، كنز العمال / المتّقي الهندي ٦: ٥١٧ / ١٦٨٠٠ و٦: ٢٥٠ / ١٦٨٠٩.

٨٥

بالتقية والكتمان»(١) .

وهذا الحديث مؤيّد بنصوص القرآن الكريم، وقد مرّ بعضها، حيث امتدح اللّه تعالى مؤمن آل فرعون، وذمّ فرعون وقومه.

كما وصف أهل الكهف بقوله تعالى:( إِنّهُم فِتيَة آمنُوا بِربِّهِم وزِدناهُم هُدىً ) ووصف قومهم بأنّهم:( مِمَّن افترى على اللّهِ كذِباً ) (٢) .

ولا يمكن والحال هذه تصوّر حياة أهل الكهف خالية من التقية، وهم بين ظهراني قوم يفترون على اللّه الكذب، مع عتوّ ملكهم دقيانوس (ت / ٣٨٥م) الذي جاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد، وقتل من خالفه من المتمسّكين بدين المسيح عليه السلام، وكان يتبع الناس فيخيّرهم بين القتل وعبادة الأوثان(٣) .

وقد أخرج المفسّرون عن ابن عبّاس (ت / ٦٨ه‍)، وعطاء (ت / ١١٤ه‍)، ومجاهد (ت / ١٠٣ه‍)، وعكرمة (ت / ١٠٥ه‍)، وابن جريج (ت / ١٥٠ه‍) وغيرهم من أنّ عامّة أهل بلدهم كانوا كفّاراً، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم على وجه التقية، ومنهم أصحاب الكهف الذين كانوا من الأشراف على دين عيسى عليه السلام، وكانوا يعبدون اللّه سرّاً ويكتمون أمرهم(٤) .

كلّ ذلك يؤيّد صحّة ما رواه السيوطي آنفاً، ويفصح عن أنّ التقية لا تكون

____________________

(١) الجامع الصغير / السيوطي ١: ٤٩١ / ٣١٨٦، عن الديلمي في مسند الفردوس، عن ابن مسعود.

(٢) الكهف ١٨: ١٥.

(٣) تقدّم هذا الكلام في بيان دلالة الآية الرابعة على التقية، عن تفسير أبي السعود، فراجع.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٠: ٣٥٩، زاد المسير ٥: ١٢٠، الدرّ المنثور ٥: ٣٦٦.

٨٦

من المؤمن أبداً، لأنّ المؤمنين إخوة، والمؤمن مرآة المؤمن، وإنّما تكون من الإنسان الظالم الذي لا يؤتمن جانبه.

٨ - ما رواه ابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ه‍) في أحكام القرآن حول إرسال النبيّ (ص) جماعة من الصحابة لقتل كعب بن الأشرف الطائي في السنة الثالثة من الهجرة، وكان فيهم محمّد بن مسلمة (ت / ٤٣ه‍)، وكيف انّ ابن مسلمة وأصحابه قد استأذنوا النبيّ (ص) في أن ينالوا منه (ص)، فقالوا: «يا رسول اللّه أتأذن لنا أن ننال منك؟»(١) فأذن لهم بذلك، وهكذا مكّنهم اللّه تعالى على قتله بعد أن تظاهروا لكعب تقية - وبإذن النبيّ (ص) - بأنّهم كرهوا دينه.

٩ - الحديث المخرج في كتب الطرفين، وهو من قوله (ص): «لا ضرر ولا ضرار » وفي لفظ آخر: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام »(٢) .

وهذه القاعدة، أعني: قاعدة نفي الضرر، قد تفرّعت منها قواعد كثيرة، نصّ عليها ابن نجيم الحنفي (ت / ٩٧٠ه‍)، وقد ذكر في كلّ منها مسائل شتّى، ومنها المسائل المحتمل فيها وقوع الضرر، أو المتيقّن عند الإكراه، وسيأتي كلامهُ في الفصل الأخير عند الحديث عن التقية في فقه الأحناف.

____________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ٢: ١٢٥٧.

(٢) ورد اللفظ الأوّل في مسند أحمد ١: ٣١٣، وسنن ابن ماجة ٢: ٧٨٤ في الأحاديث: ٢٣٤٠ و٢٣٤١ و٢٣٤٢، والسنن الكبرى للبيهقي ٦: ٦٩ و٧٠ و٤٥٧، و١٠: ١٣، والمعجم الكبير للطبراني ٢: ٨١ و١١: ٣٠٢، وسنن الدارقطني ٣: ٧٧، ومستدرك الحاكم ٢: ٥٨، ومجمع الزوائد للهيثمي ٤: ١١٠، وكنز العمّال ٤: ٥٩ / ٩٤٩٨، وحلية الأولياء ٩: ٧٦، وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ٦: ٣٢٥.

وورد اللفظ الثاني في نصب الراية للزيلعي ٤: ٣٨٤ و٣٨٦، وارواء الغليل للألباني ٣: ٤١١، ورواه من الشيعة: الصدوق في من لا يحضره الفقيه ٤: ٢٤٣ حديث ٧٧٧، والاحسائي في عوالي اللآلي ١: ٣٨٣.

٨٧

١٠ - ما رواه الحسن البصري (ت / ١١٠ه‍) وأيّده عليه سائر المفسّرين من أنّ عيوناً لمسيلمة الكذّاب (ت / ١٢ه‍) قد أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: أتشهد انّي رسول اللّه، فأبى ولم يشهد، فقتلهُ. وقال مثل ذلك للثاني فشهد لمسيلمة الكذّاب بما أراد، فأطلقه، فأتى النبيّ (ص)، وأخبره بما جرى، فقال (ص): «أمّا صاحبك فمضى على إيمانه، وأمّا أنت فأخذت بالرخصة »(١) .

١١ - ما رواه ابن ماجة (ت / ٢٧٣ه‍) في قصّة عمّار بن ياسر (ت / ٣٧ه‍) واُمّه سميّة بنت خباط (ت /٧ ق ٠ه‍)، وصهيب (ت / ٣٨ه‍)، وبلال (ت / ٣٧ه‍) والمقداد (ت / ٣٣ه‍) قال: «فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم أحد إلا وقد وآتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً»(٢) وفي لفظ أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر - كما في تفسير الطبري (ت / ٣١٠ه‍) -: «أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتّى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبيّ (ص)، فقال النبيّ (ص):كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئنّاً بالإيمان، قال النبيّ (ص):فإن عادوا فعد »(٣) .

وفي لفظ الرازي (ت / ٦٠٦ه‍) انّه قيل بشأن عمّار: «يا رسول اللّه إنّ عماراً كفر. فقال:كلا، إنّ عمّاراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمّار رسول اللّه (ص) وهو يبكي، فجعل رسول اللّه (ص) يمسح عينيه ويقول:ما لك؟ إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت »(٤) .

____________________

(١) تفسير الحسن البصري٢: ٧٦.

(٢) سنن ابن ماجة ١: ٥٣، ١٥٠ / باب ١١ - في فصل سلمان وأبي ذرّ والمقداد.

(٣) جامع البيان / الطبري ١٤: ١٢٢.

(٤) التفسير الكبير / الرازي ٢٠: ١٢١، وقد تقدّمت قصّة عمّار بن ياسر وما قبلها =

٨٨

١٢ - وما يستدلّ به على التقية في هذا الباب ما اتّفق عليه جميع المسلمين وبلا استثناء من أنّه (ص) كان يدعو الناس سرّاً إلى الإسلام في أوّل الأمر، إشفاقاً منه على هذا الدين العظيم حتى لا يُخنق في مهده، وتباد أنصاره.

فالدعوة إلى الإسلام قد بدأت إذا‍ً من دائرة التقية، حيث اتّفق علماء السيرة، والمؤرّخون، والمفسّرون وغيرهم على القول بأنّ رسول اللّه (ص) لم يجهر بالدعوة إلى الإسلام إلا بعد ثلاث سنين من نزول الوحي(١) .

ولو كانت التقية غير مشروعة، لكونها مثلاً من الكذب والنفاق والخداع، أو أنّها معارضة لعقيدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما مرّت الدعوة إلى هذا الدين الحنيف بهذا العمر من التستّر والكتمان.

وقد مرّ عن ابن قتيبة (ت / ٢٧٦ه‍) في المسائل والأجوبة في مناقشتنا لقول السرخسي في تقية النبيّ (ص) في الآية الثانية ما له علاقة بالمقام، فراجع.

وإن دلّ هذا على شيء إنّما يدلّ على ضرورة ملازمة التقية لكل دعوة إصلاح، حتى لا يذاع أمرها، وتخنق في مهدها، وممّا يشهد على صحّة هذا القول هو ما ينادي به الإسلاميّون في الساحة الإسلامية من ضرورة تطبيق أحكام الشرع الإسلامي، ولا شكّ أنّ تحرّكاتهم تلك لا بدّ وأن تكون قد مرّت

____________________

= أيضاً في تفسير الآية الثانية بكثير من تفاسير أهل السُّنّة فراجع.

(١) راجع كتب السيرة النبويّة مثل: السيرة النبويّة / ابن هشام ١: ٢٨٠، والسيرة النبويّة / ابن كثير ١: ٤٢٧، والسيرة الحلبية / ابن برهان ١: ٢٨٣، والسيرة النبويّة / دحلان ١: ٢٨٢ - مطبوع بهامش السيرة الحلبية.

وكتب التاريخ مثل: تاريخ الطبري ١: ٥٤١، والكامل في التاريخ /ابن الأثير ٢: ٦٠، والبداية والنهاية / ابن كثير ٣: ٣٧، وكذلك سائر كتب التفسير - لا سيّما ما اختصّ منها بالأثر - في تفسير قوله تعالى: (وأنذِر عشيرتَكَ الأقربينَ) الشعراء ٢٦: ٢١٤.

٨٩

بدور التقية والكتمان، إذ لا يعقل ظهورها وبهذا الحجم - الذي أرعب الكثير من الدوائر الاستعمارية - كان فجأة وبلا استعداد وتنظيم.

١٣ - أخرج البخاري من طريق عبد الوهاب، عن أبي مليكة قال: «إنّ النبيّ (ص) اُهديت له أقبية من ديباج مزرّرة بالذهب، فقسّمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحداً لمخرمة، فلمّا جاء، قال:خبّأت هذا لك .

قال أيوب (أحد رجال اسناد البخاري) بثوبه أنّه يريد إيّاه، وكان في خُلُقِه شيء»(١) .

قال محمّد بن يوسف الكرماني (ت / ٧٨٦ه‍) في شرح صحيح البخاري: «أيوب بثوبه: أي: متلبساً به، حالاً عن لفظ خبّأت، يعني: قال رسول اللّه (ص): خبّأت هذا الذهب لك، وكان ملتصقاً بالثوب، وإن رسول اللّه (ص) كان يُري مخرمة إزاره، ليطيّب قلبه به، لأنّه كان في خُلُق مخرمة نوع من الشكاسة.

ولفظ: (قال بثوبه) معناه: أشار أيّوب إلى ثوبه ليستحضر فعل النبيّ (ص) للحاضرين، قائلاً: انّه يُري مخرمة الإزار»(٢) .

أقول: ربّما يقال انّ الحديث ليس فيه ما يدلّ على تقية النبيّ (ص) من مخرمة، لأنّه (ص) لم يظهر لمخرمة إلا الواقع، فأين التقية في هذا الحديث؟

والجواب: إنّ في هذا الحديث مداراة واضحة، والمداراة تدخل في باب التقية، بل لا فرق بينهما كما يظهر من كلام السرخسي في حذيفة بن اليمان

____________________

(١) صحيح البخاري ٨: ٣٨ - كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.

(٢) صحيح البخاري بشرح الكرماني / الكرماني ٧٢٢ / ٥٧٥٦ - كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.

٩٠

على ما سيأتي في موقف الصحابة من التقية في الفصل الثاني.

١٤ - وأخرج البخاري أيضاً من طريق عبد اللّه بن مسيلمة، عن عبد اللّه بن عمر، عن عائشة قالت: «إنّ رسول اللّه (ص) قال لها:ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول اللّه ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟ قال:لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت »(١) .

ولقد أعاد البخاري رواية الحديث بصيغ اُخرى أيضاً.

وأخرج ابن ماجة (ت / ٢٧٣) من طريق ابن أبي شيبة، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: «سألت رسول اللّه (ص) عن الحِجرِ؟ فقال:هو من البيت . قلت: ما منعهم أن يدخلوه فيه؟ قال:عجزت بهم النفقة . قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، لا يُصعد إليه إلا بسلّم؟ قال:ذلك فعل قومك، ليدخلوه من شاؤوا ويمنعوه من شاؤوا، ولولا أنّ قومك حديث عهد بكفر مخافة أن تنفر قلوبهم، لنظرت هل أغيّره فاُدخل فيه ما انتقص منه، وجعلت بابه بالأرض »(٢) .

وهذا الحديث قد أخرجه البخاري بلفظه من طريق مسدد، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة(٣) ، كما أخرجه مسلم (ت / ٢٦١ه‍) في صحيحه من طريقين كلاهما عن الأسود بن يزيد، عن عائشة(٤) ، وأخرجه الترمذي (ت / ٢٩٧ه‍) كذلك وقال: «هذا حديث حسن صحيح»(٥) .

____________________

(١) صحيح البخاري ٢: ١٧٩ - كتاب الحجّ، باب فضل مكّة وبنيانها.

(٢) سنن ابن ماجة ٢: ٩٨٥ / ٢٩٥٥، كتاب المناسك - باب الطواف بالحِجر.

(٣) صحيح البخاري ٢: ١٧٩ - ١٨٠، كتاب الحجّ - باب فضل مكّة وبنيانها، وأعاد روايته في كتاب الأحكام - باب ما يجوز من اللّو في الجزء التاسع: ص ١٠٦.

(٤) صحيح مسلم ٢: ٩٧٣ / ٤٠٥ و٤٠٦ / كتاب الحجّ - باب جدر الكعبة وبابها.

(٥) صحيح الترمذي ٣: ٢٢٤ / ٨٧٥ (كتاب الحجّ - باب ما جاء في كسر الكعبة).

٩١

وفي لفظ الإمام أحمد بن حنبل (ت / ٢٤٠ه‍): «لولا أن قومك حديث عهد بشرك أو بجاهلية لهدّمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، وزدت فيها من الحجر ستة أذرع، فإنّ قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة »(١) .

وقريب من هذا اللفظ ما أخرجه البخاري من طريق عبيد بن إسماعيل، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، ومن طريق سنان بن عمرو، عن عروة، عن عائشة(٢) . وبعد... أليس في هذه الأحاديث دلالة صريحة على أنّ رسول اللّه (ص) كان يتّقي القوم مخافة أن تنفر قلوبهم، لحداثة عهدهم بالكفر، وقربه من الشرك والجاهلية؟

ثالثاً - دليل الإجماع:

لقد ثبت ممّا تقدّم انّ التقية قد شرّعها اللّه تعالى في كتابه الكريم، وتقدّمت أقوال ما يزيد على ثلاثين مفسّراً من مفسّري المذاهب والفرق الإسلامية في جواز التقية، زيادة على ما أثبتته أهم كتب الحديث وأصحّها عند أهل السُّنّة من جواز التقية أيضاً.

وهذا يعني انّ أهم مصادر التشريع في الإسلام قد أثبتت مشروعية التقية، إذ ليس هناك من مصدر تشريعي أقوى حجّة من الكتاب والسُّنّة على الإطلاق.

وأمّا عن الإجماع، فهو على الرغم من كونه في نظر علماء الشيعة مجرّد

____________________

(١) مسند أحمد ٦: ١٧٩، وأخرجه الحاكم في المستدرك ١: ٤٧٩ - ٤٨٠ وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا»، وأخرجه المتّقي الهندي في كنز العمال ١٢: ٢٢٢ / ٣٤٧٦٣ عن مسند أحمد و١٢: ٢٢٢ / ٣٤٧٦٤ عن مستدرك الحاكم.

(٢) صحيح البخاري ٢: ١٨٠ (كتاب الحجّ - باب فضل مكّة وبنيانها).

٩٢

أداة تكشف عن وجود دليل متين وقويم، كآية من كتاب اللّه تعالى، أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه، إلا أنّه لا بأس من التعرّض إلى دليل الإجماع حول مشروعية التقية، لا سيّما وقد عدّه علماء أهل السُنّة دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُّنّة، بمعنى انّ الإجماع معصوم عن الخطأ، بل ويستحيل في حقّه الخطأ، ومن يرد على المجمعين بالاشتباه والغلط، فهو كمن يرد قول اللّه تعالى وسُنّة رسوله (ص).

قالعبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي (ت / ٧٣٠ه‍) في كشف الأسرار عن اُصول البزدوي: «الأصل في الإجماع أن يكون موجباً للحكم قطعاً كالكتاب والسُنّة»(١) .

وقال الغزالي (ت ٥٠٥ه‍) في المنخول: «الإجماع حجّة كالنصّ المتواتر»(٢) .

ومن هنا كان التعرّض لدليل الإجماع، مع التذكير بأنّ من يُكرَه على كلام فيقوله، أو على فعل فيفعله، وفيهما معصية للّه، وقلبه غير راضٍ بما قال أو فعل فإنّ تصرّفه هذا هو ما يسمّيه القرآن الكريم، والسُنّة النبويّة، وجميع من نطق الشهادتين من أهل الإسلام، وجميع العقلاء بالتقية، وانّه لا شيء عليه، بدليل ما مرّ ودليل الإجماع الآتي:

١ - قالأبو بكر الجصّاص الحنفي (ت / ٣٧٠ه‍): «ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم»(٣) .

____________________

(١) كشف الأسرار / البخاري ٣: ٢٥١ - نقلاً عن علم اُصول الفقه في ثوبه الجديد / محمّد جواد مغنية: ٢٢٦.

(٢) المنخول / الغزالي: ٣٠٣ - نقلاً عن علم اُصول الفقه في ثوبه الجديد: ٢٢٦.

(٣) أحكام القرآن / الجصّاص ١: ١٢٧.

٩٣

٢ - وقالابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ه‍): «لما سمح اللّه تعالى في الكفر به... عند الإكراه، ولم يؤاخِذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء:رُفِع عن اُمّتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه... فأنّ معناه صحيح باتّفاق من العلماء »(١) .

٣ - وقالعبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت / ٦٢٤ه‍): «أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطرّ، وكذلك سائر المحرّمات التي لا تزيل العقل»(٢) .

وقد مرّ في هذا الفصل ان الاضطرار إلى أكل الميتة قد يكون بسبب الجوع أو بسبب الإكراه من ظالم أو كافر وذلك في الآية الخامسة فراجع.

٤ - وقالالقرطبي المالكي (ت / ٦٧١ه‍): «أجمع أهل العلم على أن من اُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان»(٣) .

٥ - وقالابن كثير الشافعي (ت / ٧٧٤ه‍) بعد أن نقل قول رسول اللّه (ص) لعمّار حين اُكره على الكفر: «كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان. فقال:إن عادوا فعُد ».

قال: «ولهذا اتّفق العلماء على أنّ المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يأبى»(٤) .

____________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ٣: ١١٧٩.

(٢) العدّة في شرح العمدة / عبد الرحمن المقدسي: ٤٦٤.

(٣) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠: ١٨٠.

(٤) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٢: ٦٠٩.

٩٤

٦ - وقالابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ه‍): «قال ابن بطال - تبعاً لابن المنذر -: أجمعوا على أنّ من اُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطئن بالإيمان، أنّه لا يحكم عليه بالكفر»(١) .

٧ - وقالالإمام الشوكاني الزيدي (ت / ١٢٥٠ه‍): «أجمع أهل العلم على أنّ من اُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل، أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر»(٢) .

٨ - وقالجمال الدين القاسمي الشامي (ت / ١٣٣٢ه‍): «ومن هذه الآية: (إِلا أن تتَّقُوا مِنهُم تُقاةً ) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني»(٣) .

٩ - وقال الشيخالمراغي المصري (ت / ١٣٦٤ه‍): «وقد استنبط العلماء من هذه الآية {(إِلا أن تتَّقُوا مِنهُم تُقاةً )} جواز التقية»(٤) ، ولم يذكر مخالفاً لهم في ذلك.

١٠ - وقالعيسى شقرة: «وانعقد إجماع العلماء على جواز إظهار الكفر لمن اُكره عليه... إبقاءً لنفسه بشرط اطمئنان القلب»(٥) .

١١ - وقالالدكتور عبد الكريم زيدان : «فإذا أخذ المضطرّ بالرخصة ونطق

____________________

(١) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ١٢: ٢٦٤.

(٢) فتح القدير / الشوكاني ٣: ١٩٧.

(٣) محاسن التأويل / القاسمي ٤: ١٩٧.

(٤) تفسير المراغي ٣: ١٣٦.

(٥) الإكراه وأثره في التصرّفات / عيسى شقرة: ١١٤ - نقلاً عن كتاب: التقية في إطارها الفقهي للاُستاذ علي الشملاوي: ١٣١.

٩٥

بالكفر، فلا إثم عليه بإجماع الفقهاء، لأنّ الآية صريحة بذلك، وجاءت السُّنّة النبويّة وأكّدت ما نطقت به الآية الكريمة»(١) .

____________________

(١) مجموعة بحوث فقهية / د. عبد الكريم زيدان: ٢٠٨ - نقلاً عن كتاب الاُستاذ الشملاوي المتقدّم: ١٣٢.

٩٦

٩٧

الفصل الثاني: موقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقيّة

موقف الصحابة من التقيّة

موقف التابعين من التقيّة

موقف تابعي التابعين وغيرهم من التقيّة

الإشارة إلى من صرّح بالتقيّة إجمالاً

٩٨

موقف الصحابة من التقية

ليس من العجب أن يجد الباحث الكثير من الصحابة الذين استعملوا التقية في حياتهم لا بقيد الإكراه المتلف للنفس، أو الوعيد بانتهاك الأعراض وسلب الأموال فحسب وإنّما لمجرّد احتمال الخوف من ذلك، أو احتمال التعرّض للإهانة والضرب ولو بسوط واحد أو سوطين. ولكن العجب أن يدّعى بأنّ التقية من النفاق بعد أن استعملها من قولهم حجّة باتّفاق علماء أهل السُّنّة أنفسهم.

نعم، لقد وقفت على الكثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا ممّن استعمل التقية وصرّح بها علناً، وفيما يأتي جملة من أسماء الصحابة الذين استعملوا التقية، وسنذكرهم بحسب تاريخ الوفاة، وهم:

١ - ياسر بن عامر الكناني المذحجي أبو عمار (ت / ٧ ق.ه‍)، قال الزركلي (ت / ١٩٧٦م) في الأعلام: «وفي أيامه بدأت الدعوة إلى الإسلام سرّاً»(١) .

٢ - سميّة بنت خباط، زوج ياسر واُمّ عمار قتلها أبو جهل في السنة

____________________

(١) الأعلام /الزركلي ٨: ١٢٨.

٩٩

السابعة قبل الهجرة، ومات زوجها في هذه السنة أيضاً تحت التعذيب، وهما أوّل من استُشهد في الإسلام رضي اللّه عنهما.

وقد مرّت تقيتهما في تفسير الآية الثانية، في الفصل الأوّل.

٣ - الصحابي الذي شهد تقية لمسيلمة الكذّاب (ت / ١٢ه‍) بأنّه رسول اللّه، وقد مرّ كلام المفسّرين في ذلك كالحسن البصري (ت / ١١٠ه‍)، والزمخشري (ت / ٥٣٨ه‍)، والرازي (ت / ٦٠٦ه‍)، والبيضاوي (ت / ٦٨٥ه‍)، وغيرهم، وذلك في الدليل القرآني الثاني على مشروعية التقية في الإسلام.

٤ - معاذ بن جبل (ت / ١٨ه‍):

أخرج القاسم بن سلام عن سعيد بن المسيب قال: «إنّ عمر بعث معاذاً ساعياً على بني كلاب، أو على بني سعد بن ذبيان، فقسّم فيهم حتى لم يدع شيئاً، حتى جاء مجلسه الذي خرج به على رقيته، فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهليهم(١) ؟ فقال: كان معي ضاغط، فقالت: قد كنت أميناً عند رسول اللّه (ص)، وعند أبي بكر، أفبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر، فدعا معاذاً فقال: أنا بعثت معك ضاغطاً؟ فقال: لم أجد شيئاً اعتذر به اليها إلا ذلك. قال: فضحك عمر وأعطاه شيئاً وقال: أرضِها به»(٢) .

ولا شكّ أن قول معاذ ليس فيه تقيّة وإنّما جاء على سبيل التورية، لأنّ للضاغط معنيين:

____________________

(١) العراضة: الهدية، يهديها الرجل إذا قدم من سفر. لسان العرب ٩: ١٤٥ - عرَضَ.

(٢) كتاب الأموال / أبو عبيد القاسم بن سلام: ٥٨٩ / ١٩١٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ومن المعلوم أنّ وقوع الخطاء في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعيّ في سدّ طريق استكمال النوع الإنسانيّ، وإضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حلّ هذه العقدة، فإنّ الّذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعليّة أعني الأمر الروحي الّذي يرفع الاختلاف إنّما هو الناموس التكوينيّ الّذي هو الإيصال التكوينيّ لكلّ نوع من الأنواع الوجوديّة إلى كماله الوجوديّ وسعادته الحقيقيّة، فإنّ السبب الّذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجوداً حقيقيّاً كسائر الأنواع الخارجيّة هو الّذي يهديه هداية تكوينيّة خارجيّة إلى سعادته، ومن المعلوم أنّ الاُمور الخارجيّة من حيث أنّها خارجيّة لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني: أنّ الوجود الخارجيّ لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح أنّ ما في الخارج هو ما في الخارج! وإنّما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقيّة والاُمور الفكريّة من جهة تطبيقها على الخارج فإنّ الصدق والكذب من خواصّ القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض أنّ الّذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد والتكوين لزم أن لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته الّتي هي روح النبوّة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبيّ، ولا هذا الشعور الّذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.

فظهر: أنّ هذا الروح النبويّ لا يحلّ محلّاً إلّا بمصاحبة العصمة، وهي المصونيّة عن الخطاء في أمر الدين والشريعة المشرّعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ هذه عصمة في تلقّي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبوديّة، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإنّ كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينيّة وقوعاً تكوينيّاً،

١٦١

ولا خطاء ولا غلط في التكوين.

وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنّه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطنيّ مثل الشعور الفطريّ المشترك أعني الشعور الفكريّ في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغيّر والتأثّر؟ فإنّ الشعور الفطريّ وإن كان أمراً غير مادّيّ، ومن الاُمور القائمة بالنفس المجرّدة عن المادّة إلّا أنّه من جهة ارتباطه بالمادّة يقبل الشدّة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطنيّ أمر متعلّق بالبدن المادّيّ نحواً من التعلّق، وإن سلّم أنّه غير مادّيّ في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكريّ في قبول التغيّر والفساد، ومع إمكان عروض التغيّر والفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتّة.

والجواب: أنّا بيّنّا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنسانيّ نحو سعادته الحقيقيّة إنّما يتحقّق بيد الصنع والإيجاد الخارجيّ دون العقل الفكريّ، ولا معنى لتحقّق الخطاء في الوجود الخارجيّ.

وأمّا كون هذا الشعور الباطنيّ في معرض التغيّر والفساد لكونه متعلّقاً نحو تعلّق بالبدن فلا نسلّم كون كلّ شعور متعلّق بالبدن معرضاً للتغيّر والفساد، وإنّما القدر المسلّم من ذلك هذا الشعور الفكريّ (وقد مرّ أنّ الشعور النبويّ ليس من قبيل الشعور الفكريّ) وذلك أنّ من الشعور شعور الإنسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغيّر والخطاء فإنّه علم حضوريّ معلومه عين المعلوم الخارجيّ، وتتمّة هذا الكلام موكول إلى محلّه.

فقد تبيّن ممّا مرّ اُمور:أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدّن والاختلاف.

ثانيها: أنّ هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكريّ من القوانين المقرّرة.

ثالثها: أنّ رافع هذا الاختلاف إنّما هو الشعور النبويّ الّذي يوجده الله سبحانه

١٦٢

في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أنّ سنخ هذا الشعور الباطنيّ الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكريّ المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أنّ هذا الشعور الباطنيّ لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنسانيّ في سعادته الحقيقيّة.

سادسها: أنّ هذه النتائج (ويهمّنا من بينها الثلثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكريّ سنخاً، وكون النبيّ معصوماً غير غالط في تلقّي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العامّ المشاهد في هذه العالم الطبيعيّ، وهو سير كلّ واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجوديّة الّتي جهّزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبّس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهّز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحقّ ويتلبّس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة، فلا بدّ أن يكون الوجود يهيّئ له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينيّة ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مرّ بيانه.

١٦٣

( سورة البقرة آية ٢١٤)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ )

( بيان)

قد مرّ أنّ هذه الآيات آخذة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدلّ عليه الآيات السابقة، وهو أنّ الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلّموا له ولا يتّبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائاً، ولا يبدّلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتّباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحلّ عليهم غضب من ربّهم كما حلّ ببني إسرائيل حيث بدّلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإنّ المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب ربّ العالمين إلّا بالثبات والتسليم.

وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإنّ أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة، وإنّما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلاميّة أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانياً

وكلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحقّ أنّ أم لإفاده الترديد، وأنّ الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنّها دلالة وضعيّة، فالمعنى في المورد مثلاً: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على

١٦٤

نعمة الدين، والاتّفاق والاتّحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثّل الشئ ويحضره ويشخّصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصّة الّتي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيليّة كما قال تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ) الفرقان - ٩، وإنّما قالوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مجنون وساحر وكذّاب ونحو ذلك، وحيث أنّه تعالى يبيّن المثل الّذي ذكره بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء إلخ فالمراد به المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) إلى آخره لمّا اشتدّ شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الّذي دلّ عليه بقوله: ولمّا يأتكم مثل الّذين، بيّن ذلك بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء والبأساء هو الشدّة المتوجّهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الّذي يحتاج إليه في حياته، والضرّاء هي الشدّة الّتي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من زلّ بمعنى عثر، كرّرت اللفظة للدلالة على التكرار كأنّ الأرض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصّر وصرصر، وصّل وصلصل، وكبّ وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادّهاش.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محلّ الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين لكنّ الثاني أنسب للسياق، فإنّ كون الجملة غاية يعلّل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كلّ المناسبة.

قوله تعالى: ( مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه ) ، الظاهر أنّه مقول قول الرسول والّذين آمنوا معه جميعاً، ولا ضير في أن يتفّوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الّذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

١٦٥

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافّات - ١٧٢، وقال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقد قال تعالى أيضاً:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف - ١١٠، وهو أشدّ لحناً من هذه الآية.

والظاهر أيضاً أنّ قوله تعالى: ألا إنّ نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمّة لقول الرسول والّذين آمنوا معه

والآية (كما مرّت إليه الإشارة سابقاً) تدلّ على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الاُمّة كما جرى في الاُمم السابقة.

وتدل أيضاً على اتّحاد الوصف والمثل بتكرّر الحوادث الماضية غابراً، وهو الّذي يسمّى بتكرّر التاريخ وعوده.

١٦٦

( سورة البقرة آية ٢١٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) ، قالوا: إنّ الآية واقعة على اُسلوب الحكمة، فإنّهم إنّما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللّغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحقّ بالسؤال إنّما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرّض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحقّ السؤال.

والّذي ذكروه وجه بليغ غير أنّهم تركوا شيئاً، وهو أنّ الآية مع ذلك متعرّضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنّها تعرّضت لذلك: أوّلاً بقولها: من خير، إجمالاً، وثانياً بقولها: وما تفعّلوا من خير فإنّ الله به عليم، ففي الآية دلالة على أنّ الّذي ينفق به هو المال كائناً ما كان، من قليل أو كثير، وأنّ ذلك فعل خير والله به عليم، لكنّهم كان عليهم أن يسألوا عمّن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بما في قوله تعالى: ماذا له ينفقون ليس هو السؤال عن المهيّة فإنّه اصطلاح منطقيّ لا ينبغي أن ينزّل عليه الكلام العربيّ ولا سيّما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفيّة، وأنّهم كيف ينفقونه، وفي أيّ موضع يضعونه، فاُجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أنّ السؤال وإن كان بلفظ ما إلّا أنّ

١٦٧

المقصود هو السؤال عن الكيفيّة فإنّ من المعلوم أنّ الّذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوماً لم يذهب إليه الوهم، وتعيّن أنّ السؤال عن الكيفيّة، نظير قوله تعالى:( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة - ٧٠، فكان من المعلوم أنّ البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب المهيّة، فكان من المتعيّن أن يكون سؤالاً عن الصفة الّتي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك اُجيب بالمطابقة بقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) الآية البقرة - ٧١.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإنّ ما وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب المهيّة الّتي اصطلح عليها المنطق، وهي الحدّ المؤلّف من الجنس والفصل القريبين، لكنّه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيّة، حتّى يصحّ لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقّين للانفاق: ماذا اُنفق: أي على من اُنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والأقربين، فإنّ ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرّف الشئ سواء كان معرّفاً بالحدّ والمهيّة، أو معرّفاً بالخواصّ والأوصاف، فهي أعمّ ممّا اصطلح عليه في المنطق لا أنّها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفيّة الشيئ، ومنه يعلم أنّ قوله تعالى:( يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) وقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عمّا يعرّف الشئ ويخصّه والجواب بذلك.

وأمّا قول القائل: إنّ المهيّة لمّا كانت معلومة تعيّن حمل ما على السؤال عن الكيفيّة دون المهيّة فهو من أوضح الخطاء، فإنّ ذلك لا يوجب تغيّر معنى الكلمة ممّا وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إنّ السؤال كان عن الأمرين جميعاً: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

وكيف كان لا ينبغي الشكّ في أنّ في الآية تحويلاً ما للجواب إلى جواب آخر تنبيهاً على أنّ الأحقّ هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلّا فكون الإنفاق من الخير

١٦٨

والمال ظاهر، والتحوّل من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحوّل إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصّة به كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١ وقوله تعالى:( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران - ١١٧ وقوله تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة - ٢٦١، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء - ٨٩، وقوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان - ٥٧، وقوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات - ١٦٠، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أوّل الآية إيماء إلى أنّ الإنفاق وإن كان مندوباً إليه من قليل المال وكثيره، غير أنّه ينبغي أن يكون خيراً يتعلّق به الرغبة وتقع عليه المحبّة كما قال تعالى:( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران - ٩٢، وكما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) البقرة - ٢٦٧.

وايماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشرّ كالإنفاق بالمنّ والأذى كما قال تعالى:( ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) البقرة - ٢٦٢، وقوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة - ٢١٩.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منهنّ: يسئلونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الأنفال، ويسألونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلّا عمّا كان ينفعهم.

١٦٩

في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح - وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير - فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيّان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلّا السؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه.

ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوّع، والزكوة سوى ذلك كلّه.

ونظيرها في ذلك أيضاً ما رواه عن السدّي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة - ١٠٣، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلّا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

١٧٠

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مرّ مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدلّ على فرض القتال على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجّهاً إليهم إلّا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى:( يْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور - ٦١، وغير ذلك من الآيات والأدلّة.

ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيّلة بقوله:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين.

والكره بضمّ الكاف المشقّة الّتي يدركها الإنسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقّة الّتي تحمّل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على

١٧١

فعل ما يكرهه، قال تعالى:( لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًاً ) النساء - ١٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًاً ) فصّلت - ١١، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إمّا لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضارّ الماليّة وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الإجتماعيّة لا محالة كان كرهاً وشاقّاً للمؤمنين بالطبع، فإنّ الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أنّ فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنّه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر واُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أنّ من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

وإمّا لأنّ المؤمنين كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار مع ما لهم من العدّة والقوّة لا يتمّ على صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم في تأخيره حتّى يتمّ لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنّهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإنّ لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلّا ظاهره وهذا وجه آخر.

وإمّا لأنّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبّون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفّار من الهلاك الأبديّ والبوار الدائم، فبيّن ذلك أنّهم مخطئون في ذلك، فإنّ الله - وهو المشّرع لحكم القتال - يعلم أنّ الدعوة غير مؤثّرة في تلك النفوس الشقيّة الخاسرة، وأنّه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانيّة كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الّذي لا ينجع فيه علاجٌ دون

١٧٢

أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إلّا أنّ الأوّل أنسب نظراً إلى ما اُشير إليه من آيات العتاب، على أنّ التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مرّ من الوجه يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مرّ فيما مرّ أنّ أمثال عسى ولعلّ في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجيّ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلّم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنّما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنّه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبّين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطائهم في الأمرين جميعاً، بيان ذلك: أنّه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، كان معناه أنّه لا عبرة بكرهكم وحبّكم فإنّهما ربّما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنّما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط، وأمّا من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحبّ الاعتزال، فالّذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطائه في الأمرين جميعاً، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبّك اهتديت، عسى أن تكره شيئاً وهو خير لك وعسى أن تحبّ شيئاً وهو شرّ لك لأنّك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولمّا كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبّين للسلم كما يشعر به أيضاً قوله تعالى سابقاً: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم، نبّههم الله بالخطائين بالجملتين المستقلّتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبّوا.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطائهم، فإنّه تعالى تدرّج في بيان ذلك إرفاقاً بأذهانهم، فأخذ أوّلاً بإبداء احتمال خطائهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلمّا اعتدلت أذهانهم بحصول الشكّ فيها، وزوال صفة الجهل المركّب كرّ عليهم ثانياً بأنّ هذا الحكم الّذي كرهتموه أنتم إنّما شرّعه

١٧٣

الله الّذي لا يجهل شيئاً من حقائق الاُمور، والّذي ترونه مستند إلى نفوسكم الّتي لا تعلم شيئاً إلّا ما علّمها الله إيّاه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلّموا إليه سبحانه الأمر.

والآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفى العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالّة على هذا المعنى كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران - ٥، وقوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ١٩٠.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمّة بأنّه صدّ عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أنّ إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأنّ الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأنّ هناك قتلاً، وأنّه إنّما وقع خطائاً لقوله تعالى في آخر الآيات( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفّار خطائاً من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفّار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصّة عبدالله بن جحش وأصحابه.

قوله تعالى: ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصدّ هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصّة الحجّ، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

والآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٦، وليس بصواب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والّذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين - وهم أهل المسجد

١٧٤

الحرام - منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحقّ للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر ممّا طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلّا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتّى للتعليل أي ليردّوكم.

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتدّ بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط)

والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلّا إلى العمل كقوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر - ٦٥، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمّد - ٣٣، وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود - ١٦، ويقرب منه قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣.

وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إنّ أصله من الحبط بالتحريك وهو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه وربّما أدّى إلى هلاكه.

والّذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدّنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وخسران سعى الكافر، وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت - وهو الله سبحانه - يبتهج به عند النعمة،

١٧٥

ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، تبيّن الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى،( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال الّتي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة، والأفعال القربيّة الّتي كان المرتد عملها وأتى بها حال الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط وارد في مورد الّذين لا عمل عباديّ، ولا فعل قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران - ٢٢، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والإرتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيويّة ولا اُخرويّة، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة وإن مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

١٧٦

ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية وربّما أيّده قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، فإنّ الآية تبيّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله الّتي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف: أن لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

وهنا مسألة اُخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيّئة حكمها؟ نعم الحسنات ربّما كفّرت السيّئآت بنصّ القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيّئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المنافي، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شئ منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٠٢، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط

١٧٧

بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنسانيّ من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئآت من المعاصي الّتي تقطع رابطة المولويّة والعبوديّة من أصلها فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ نوع الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيّئة.

نعم الحسنة ربّما كفّرت السيّئة كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٩، وقال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة - ٢٠٣، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣٠، بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة كما قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وهنا مسألة اُخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى إنّه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحقّ ذلك إلّا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقرّ عليه، فيكتب ما يستحقّه حال العمل.

وقد استدلّ أصحاب كلّ قول بما يناسبه من الآيات، فإنّ فيها ما يناسب كلّاً من هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربّما استدلّ ببعض وجوه عقليّة ملفّقة.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) البقرة - ٢٦، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانيّة ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور الّتي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه

١٧٨

حسنة حصل في ذاته صورة معنويّة مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنويّة تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئآت كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الّذي بيّناه سابقاً.

وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيّناه فيما مرّ كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة وترتّب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الإجتماعيّة وترتّب المدح والذمّ عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذمّ العاصي والمسئ بمجرّد صدور الفعل عن فاعله، غير أنّهم يرون ما يجازونه به من المدح والذمّ قابلاً للتغيّر والتحوّل لكونهم يرون الفاعل ممكن التغيّر والزوال عمّا هو عليه من الانقياد والتمرّد، فلحوق المدح والذمّ على فاعل الفعل فعليّ عندهم بتحقّق الفعل غير أنّه موقوف البقاء على عدم تحقّق ما ينافيه، وأمّا ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قطّ فإنّما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغيّر قطّ بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

ومن هنا يعلم: أنّ في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحقّ لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

وأنّ الحقّ أوّلاً: أنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرّد صدور الفعل الموجب له لكنّه قابل للتحوّل والتغيّر بعد، وإنّما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

وثانياً: أنّ حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقّق عند صدور المعصية ويتحتّم عند الموت.

وثالثاً: أنّ الحبط كما يتعلّق بالأعمال الاُخرويّة كذلك يتعلّق بالأعمال الدنيويّة.

ورابعاً: أنّ التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

١٧٩

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)

من أحكام الأعمال: أنّ من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) آل عمران - ٢٢، وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئآت الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) الزمر - ٥٥، وقال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤.

وأيضاً: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقّة مع الرسول، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمّد - ٣٣، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات - ٢.

وكذا من الطاعات ما يكفّر بعض السيّئآت كالصلوات المفروضة، قال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود - ١١٤، وكالحجّ، قال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة - ٢٠٣، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236