من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)0%

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 189

  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18477 / تحميل: 6522
الحجم الحجم الحجم
من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هَاشِمُ الْمِرْقَال

١٢١

١٢٢

وماج بيت عتبة بن أبي وقاص في يوم من الأيّام، وازدحم بالنساء، ينتظرون ساعة المخاض، فهي زوجة سيِّدهم، وكبيرة بيتهم، ووضعتْ الزوجة طفلها بين زغردات الحاضرات، وتهليل الأقرباء، واستقبل عتبة وليدَه وبقلبٍ باسمٍ، وعين ملؤها الطمأنينة والرضا.

وأطال النظر في وجهه، وهو بين يديه، مستسلِمَا قد سَمَرَ عينه ينظر في عين أبيه، وأفترتْ شفتاه عن بسمةٍ ساذِجَةٍ بريئةٍ، بدَّدتْ جميع ما ارتسم على وجه الأب من غيومٍ، وذهولٍ.

وزحفتْ إليه جدَّتُه، تطلب من ولدها أنْ يطلق عليه اسماً يُعْرَف به الوليد من الآن، ويغيب الأب في موجةٍ من تفكيرٍ تحيطُ به دنيا من أحلام، ثمّ يقفز إلى ذهنه اسم هاشم بن عبد مناف، مجد الفضيلة، وباني كيانها، ويحلو للأب المعتز بوليده أنْ يُطلِق عليه هذا الاسم تيمُّناً بذلك المجد الشامخ، وتبرُّكاً بهذا الإنسان الذي خلق الكرامة لهذه القبيلة الكبيرة.

وكما ينمو الزهر في الربيع الندِيّ، نَمَا صاحبنا يطوي الأيّام يبشِّر عن مستقبلٍ رائعٍ، نظراً لِمَا يتمتَّع به من مؤهِّلات، كانتْ جليَّةً واضحةً، يتوسَّم فيها العارِف أسمى المعاني الإنسانيّة العالية.

ومَرَّ الزمن، وبين أحضانه هاشم بن عتبة، يقفز للحياة

١٢٣

وتفتح أكمامه للشباب اليانِع، يرسم له دنياً من آمال، واستقبلتْه النوادي، ومجالسُ السمر، كأحسن شاب قد تَحَلَّى بالبطولة والفتوَّة، والخُلُق والكرم، وجميع الخصال الحميدة.

وإذا ما نهض الفجر من غفوته، وأطلّتْ أضواء الحياة على يومٍ جديدٍ، كان هاشم رجلاً تتحدَّث حلقاتُ مكةَ عمَّا تحلَّى به من صفاتٍ، وإنْ كان في قرارة المـَكِّيِّيْن منه شيء؛ ذلك لأنّه لمْ يَعُدْ ذلك الرجل الذي يهتمُّ لأصنامهم وآلِهَتِهِم، وهو بعيدٌ عنها بعض الشيء، لأسباب عميقةٍ. ربّما لها علاقةٌ بهذا الطارق الجديد.

فقد سمع كما يَسمع غيره حديثَ المتحدِّثين عنْ أمر محمّد وهو يدعو الناس إلى دينٍ جديدٍ، ويَدْهَشُ للنبأ كما يدهش غيره، ويَجُوْسُ أعماقَه شيءٌ، لعلّ له أثراً في مستقبله، ولكنْ لَمْ يشارك الناس سُخْرِيَتَهم للدعوة، فهو يسمع أحاديثهم في فناء البيت - وهم بين حاقدٍ وناقِمٍ - ويختزِنُ ويفكِّر، لعلّ له وقتاً قريباً سوف يُثمر به ذلك التفكير، وتتفتَّح أكمام ذلك الشعور.

ويلتفِتُ أبو سفيان إليه، وهو يُلقي إليه بضحكةٍ عاليةٍ طويلةٍ: يا هاشم نراك لا تشارِكُنَا حديثنا عنْ محمّد، وعنْ بِدْعَتِهِ الجديدة، وكأنّك راضٍ بما يريد!!..

ويَهتزُّ الرجل لهذا الحديث المـُر، وهذه التلميحات الخبيثة ولكنّ أعصابه أقوى مِنْ أنْ تنهار أمام سُخرية أبي سفيان، فطوى وجهه عن اجتماعات هؤلاء، ولمْ يَعِر لأقولهم أيّ اهتمام.

وبقي هاشم في مَعِزلٍ عنْ قومه لا يشاركهم مجالسهم، وإنْ

١٢٤

كان لم يذهب إلى محمد بعد، ليَمُد يده إليه مؤمِنَاً بدينه. فإنّ قلبه ما كان يُضمِر لأصنام قبيلته الاحترام والحب، ولكنّ التقاليد جرتْ، ولابدّ أنْ يكون لها في قلبه، ولو شيء ضئيل من التَرَيُّث.

وعلا نهار الإسلام، وفتح الله على نبيِّه مكَّةَ، وكان ذلك اليوم أملاً يُرَاوِد هذا الرجل، الذي بقي حَفْنَةً من الأيّام يُصارع في أعماقه عامِلَيْنِ: حقّاً، وباطلاً. ولكنّه بعد أيّامٍ خَفّ إلى رسول الله يُعلِن إسلامه بصدقٍ وإخلاصٍ، ويستقبله الرسول وكأنّه قد أسلم من زمانٍ بعيدٍ، يُحسِن استقباله، ويَحرِص على مجالسته، وما تَمُرُّ الأيّام حتّى يكون هاشم ذا شأنٍ عند رسول الله يعتمد عليه في كثيرٍ من شؤون: علميّة، وسياسيّة، واجتماعيّة.

ويُعْرَف هذا الإنسان الصادق في إسلامه بالمقدرة العسكرية، أكثر من باقي النواحي، والخصائص المتوفِّرة لديه، ويُساهِم في كثيرٍ من غزوات المسلمين، يَشهد له المسلمون ببطولته وموقفه، ويتمكَّنُ مِنْ جَلْب أنْظار الناس له، وشَجَّعَ فيه النبيُّ هذه الموهبة النادِرَة، والروح العسكريّة العالية إذْ كان يُريدُها مهيَّأة لمواقف، لها شأنٌ في حياة الإسلام من بعد.

ويَطِلُّ (في ضِفاف بَرَدَى) صباح يومٍ، والمسلمون قد ضمّدوا جراحهم على وفاة الرسول الأعظم، ولم يستسلموا لحزنٍ يُعِيْقُ تقدّم المسلمين، وإنْ كانت الأحداث التي مرّتْ بالمسلمين، بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تستلزم أنْ يَغُطَّ المسلمون في ذهولٍ، ولكنّ موقف الدعاة كان أقوى من هذه الأحداث بالنسبة للدعوة

١٢٥

وتَسَنَّمَ الأمر أبو بكر، والتفَّ الجميع حول رفع راية الإسلام فصمَّموا على غزو الإمبراطورية الرومانيّة، وكان مركز ثِقْلها مُتَمَثِّلاً في الشام.

وأعلن الجهاد لغزو الشام، وتهيّأَ جيشٌ كبير بقيادة أبي عبيدة الجرّاح، للقيام بهذه المهمّة، وكان قادة المسلمين قد عقدوا اجتماعاً لاختيار عسكريين، مرَّنَتْهُم الأيّام على مقاومة وطْأةِ الحرب.

وتداولوا على أسماءٍ، وكَثُر حولهم اللَغَط، وطال فيهم النقاش. وكانتْ الأسماء المنثورة مَعْرضاً للأخذ والرد.. وما أنْ يأتي اسمٌ حتّى تَنْهَال عليه علامات الاستفهام، وتمرُّ فوق اسمه ما تحلّى به من صفاتٍ وهكذا... وطال التفكير بأحدهم والتفتَ إليه أصحابه ويسألونه:

- يا أبا الحسن، لماذا لم تشترِك معنا في اختيار القادة لهذه الغزوة؟!

 - أسْمَعُ منكم فأستفيد..

 - لا يا أبا الحسن إنّ رأيك لسديدٌ، قد مارستَ الحروب وخِبْرَتها، وعمل تحت إمْرَتِكَ الكثيرون، وإنّك أعرف الناس بهم، فمَنْ تختار مساعِداً لأبي عُبَيْدَة؟..

 - لقد ذكرتم الكثير، ولم تذكروا (أرقل ليمون)، ذلك الذي كان يعدو أمام النبي في ساحات الجهاد!!

وكأن القوم قد تنبّهوا إلى هذا الاسم، فصاح الكثير منهم: إي والله هاشم المِرقَال؟ ابنُ بَجْدَتِهَا، وفارس الميدان!!

١٢٦

وهاشمُ واحد من أولئك الذين اختصّو بالإمام علي (عليه السلام) وعرفوا بِصِلَتهم القويّة به وعُدّ من أقطاب مدرسته الفَذَّة، كما هو شأن عمّار والأشتر، ومحمّد بن أبي بكر وغيرهم. لذا فإنّ كلام علي (عليه السلام) عن هذه الشخصيّة مَبْنِيٌّ على المعرفة التامّة.

وانكشفت أسارير أبي عبيدة، فقد دبَّ إلى نفسه الرضا، بهذا المساعِد البطل.. فالكلّ لا ينسى موقف هذا الشجاع الذي طالما ذبَّ عنْ وجه رسول الله في حروبه وساعات الكَرْب.

وودّع المسلمون جيشهم العظيم، يزحف نحو الشام، يتقدّمه أبو عبيدة، وعلى يمينه هاشم بن عتبة، قد امتطى جواده، وعلى قسماته تشعُّ روائع الفروسيّة والبطولة.

وأطَلَّ الجيش على الشام، وسار يفتح المدينة تِلْوَ المدينة، حتّى حطّ الجيش إلى جوار مدينة (الرستن).. كانت هذه المدينة حصينة للغاية، وكأنّها هي الحصن الأوّل والأخير للشام، فإذا سقطتْ بيد المسلمين، هانَ أمر بقيّة الحصون بعدها.. وكان هذا الحصن على أتَمِّ استعداد، وعلى أحسن ذخيرة.

بقي المسلمون حِيَال هذه المدينة، وقد ضيَّقوا عليها الحصار، ولكنْ لمْ ينفع معها أيُّ شيء، وغاظ ذلك المسلمين، وضاقوا ذرعاً بهذه الحال.. فعقد أبو عبيدة اجتماعاً لكبار قادته؛ يستشيرهم بذلك، وطال الاجتماع وكثر الحديث، وكلٌّ منهم يُبدِي رأيه، لكنّ أبا عبيدة لمْ يقتنع بكلِّ ما قيل.

وكان هاشم يستمِع، وقد غاب في شبه تفكير، ولمْ يُشارِك

١٢٧

الجالسين في رأي، حتّى إذا ما طال بهم المقام، التَفَتَ إليه أبو عبيدة قائلاً:

ما بالك يا أبا عمر لا تشارِكُنا الرأي؟! هل وضعتَ لنفسك مُخَطَّطَاً تُنْقِذ به جيشك؟..

إنّ أبا عبيدة، وهو الرجل الشيخ الذي علَّمَتْهُ التجاربُ، عرف عن هاشم المرقال الشيء الكثير؛ لذا التفتَ يلحُّ عليه أنْ يُدْلِي برأْيه..

وتكلّم البطل بعد صمتٍ طويلٍ، وسكتَ الجميعُ يَنْصِتُوْنَ إليه قال:

(تعلمون إنّ الحرب فَذْلَكَةٌ، أكثر مِنْ كونها حرباً سِجَالاً، وخديعة أكثر من كونها واقعيّة، وإنّ هذا الحصن الذي يربض أمامنا قد فكّرتُ فيه طويلاً، فلمْ أرَ فيه مَجَالاً لمقاومته بالحرب، وإنّ إمْكَاِنيَّة العدو فيه متوفِّرة، لا يَعُوزهم شيءٌ، ومعنويّاتهم عالية، ولا شكّ أنّ سقوط هذا الحصن بِيَدِنا معناه سقوط الشام بأجْمَعِهَا، فلابدّ من اقتحامه بأيّ ثَمَنٍ كان، ولابدّ فيه مِنَ التضحية، فهل نحن على استعدادٍ لذلك)؟.

فالتفت إليه الجالسون جميعاً قائلين: لا.. وربِّ محمّد الذي أنقذ البشر.. لا نرجع من هنا حتّى نفتح، أو نَفْنَى عن آخرنا.

وقفزتْ على ثغر المِرْقال ابتسامةٌ، تَحْمِل في طيّاتها كلّ معاني الطمأنينة والقبول، ثمّ قال لهم: لديّ خطّة، سَأَشْرَحُهَا

١٢٨

لكم ليلة غدٍ، وأُطْلِعُكُم عليها، فإذا ما اتفقنا عليها بدأْنَا بتنفيذها في الحال.

وتفرّق القادة بانتظار موعدهم المرتَقَب، وهم يعلمون إنّ هاشم بن عتبة من أُولئك الأبطال الذين خبروا الحرب ومارَسوا، وكانت له مواقف ومواقف في ساحات الجهاد.. وبات قادة المسلمين على أحرٍّ من الجَمْرِ، وأطلَّ الليل، وتوافدوا على مجلس قائدهم، وتمّتْ الحلقةُ العسكرية، وكلُّهم انتظار لحديث هاشم.. والْتَفَتَ إليه أبو عبيدة، وعلى قسماته ظِلَّ كآبَةٍ قائلاً: تكلّم يا أبا عمر.. واشرح لنا خطّتُكَ، عسى أنْ تكون بها الفرج..

وسكت الجميع، وهَلَعُوا بعيونهم إلى هاشم، وبأسماعهم إلى حديثه.

وقال: لقد فكَّرتُ في فتح هذا الحصن كثيراً، فلم أجد طريقاً إلاّ ودرسته حتّى توصّلتُ إلى: أنّ خير وسيلةٍ لفتحه هي الخطّة التي أرسمها لكم، وهي: أنْ نُهيّأ عشرين صندوقاً خشبيّاً، يَكمُنُ فيه عشرون بطلاً مِن أبطالنا بكامل معدّاتهم، فنتركها في معسكرنا، ونترك عِنْدَها نفرين من المسلمين حَرَسَاً عليها، ونتظاهر بمغادرة المكان، وكأنَّنا تراجعنا عَن فتْح الحصن، ويزحف الجيش إلى أقرب قريةٍ فيه وذلك قبل الغروب، وما أن يختلط الظلام تعود كوكبةٌ من الفرسان إلى مَقْربةٍ من الحصن، تكْمنُ عنده في ظلام الليل، وعندما يعرف أهل الحصن أنّ المعسكر قد ترك موقعه، وترك صناديقَ، فسيهرعون

١٢٩

إلى أخْذها، ونقْلها إلى قائدهم، وعند ذاك تكون المعركة، فإذا ما أُدْخِلَتْ الصناديق والأسيران إلى القائد، يُكَبِّر الأسيران فيَنْتفِض الأبطال مِن صناديقهم، ويُكَبّرون، فيجيبهم المسلمون من الخارج، ويفتحون الحصن.

وسكت هاشمٌ بعد ذلك، وخيّم على المجلس صمتٌ عميق، إنّها خطّةٌ عظيمة، ولكنّها خطيرة في نفس الوقت، ومَنِ الذي سيُضحِّي بنفسه بهذه الصورة.

ولكنّ أبا عبيدة لمس هذا الوجوم من الجميع، فخَشِيَ أنْ يدبّ الضعف في نفوس ضُبَّاطِهِ، فصرخ فيهم: عظيمٌ يا هاشم خطّة مدروسة، أشْرِفْ على تنفيذها في الحال.

وتهيّأتْ الصناديق، ووُضِعَتْ أمام خيمة القائد أبي عبيدة، وصاح الشيخ في ضُبَّاطه: مَنْ يبذل نفسه لهذه المهمّة. وردَّد صدى نِداءه الفضاءُ، وكان هدوءٌ، وكان سكونٌ، وكاد المشروع يَفْشَل لولا يقظة هاشم، وحِنْكَته، وبطولته فقد اختار إحدى الصناديق، وتوارَى فيه.

وأُعْجِبَ القومُ بهذه البسالة والشجاعة، وصاح أبو عبيدة: يا أبا عمر مَنْ لي غيرك في هذا المقام؟! أهكذا تهون النفس في سبيل الله؟!

وابتسم له هاشم، وقال: مَنْ يضع خطّة لابدّ أنْ ينفّذها بنفسه وإلاّ فالفشل حَلِيفها.

فأجابه القائد بكلّ إكبارٍ: بارك الله فيك، وفتح على يدك حصن كُفَّارِهِ.

١٣٠

وما أنْ رأى القادة هاشماً، وهو يتوارى في أحد الصناديق حتّى امتلأتْ، وأُحْكِمَ إقفالها، وتبرّع اثنان مِن شُجعان المسلمين أنْ يكونا حَرَسَاً عليها، وإذا ما تمّتْ هذه العملية، والشمس قد مالتْ للمغيب تظاهر المسلمون بمغادرة المكان، وأبو عبيدة جِدّ قلق، وأشعر قائد الأعداء بأنّ المسلمين رحلوا عَنِ الحصن فأرسلوا عيوناً إلى معسكرهم، فرأوا صناديق وحارِسَين.

وتقدّم ضابِطٌ من الأعداء: مُسْتَفْسِرَاً من الحرّاس، ما هذه الصناديق؟

وأجاب الحارسان: عِتادٌ وذخيرة، أُمِرْنَا بحفظها، وستعود ثُلّةٌ من الجيش الليلة لِنَقْلها، ريثما يتمّ بهم المقام.

وبهت العدو: وما في هذه الصناديق؟

وقال الحارسان: لا علم لنا فيها، وليس مِنْ حقّنا أنْ نسأل.

وضحك العدو: ما أغباكما؟ وأحمق قائدكما؟! يترك هذه الذخيرة بحراستكما، وأنتم على مرأى منّا ومَسمع، أمَا يخشى عليكما من سيوفنا؟؟..

وصاح الضابط: يا جنود أسِّرُوا هذين المسلمين، واحمِلوا هذه الصناديق معهما إلى (نقيطاس) قائدهم الأعلى.. وكان ما أراد، ونقل الحارسان والصناديق إلى الحصن، حيث مَقَر القائد عند باب الحصن، ووُضِعَتْ هذه الغنيمة بين يديه.

وامتدّ الليل والقائد يسأل من الحارِسَين المسلِمَيْن عن أمور المسلمين وعدتهم واتّجاههم، وهما مرةً يُصدِّقانه وأخرى، يراوِغَانه مُتَقَصِّدَيْنِ إطالة المقام معه.. حتّى إذا اعتقدا أنّه لم يبقَ مع القائد إلاّ ثُلّة من

١٣١

العسكر، كَبّر الحارسان، فضحك القائد، وكانتْ الصناديق قد وُضِعَتْ في ساحةٍ بمقرِّ القيادة، وما أنْ استمع المختبئون صدى التكبير حتّى انتفض الجميع بسيوفهم، مكبِّرين مرّةً واحدةً، بحيث أرتجّ المكان له، وهجم عشرةٌ منهم على مقرّ القائد، وعشرةٌ على باب الحصن، ردَّدَ المسلمون من الخارج صدى التكبير، وكان قتالٌ أعْقبه تخاذلٌ من الكفّار، فقد اضطربوا وماجوا، وفُوجِئُوا بالهجوم، وحاول القائد الفرار، ولكنْ دخل عليه هاشم فعاجله بضربةٍ، أرْدَتْه صريعاً، وسقط الحصن وانتهتْ المعركة مع الفجر, وما أنْ قفز النور إلى السماء، حتّى كان المسلمون قد تمّ لهم فتح الحصن، وتهاوتْ الشام بعد ذلك بيد المسلمين.

وكانتْ معركةٌ حامِيَةُ الوطيس مع (هرقل) ملك الروم، ولكنّ هاشم هو بطل ذلك اليوم، وهو الذي كان يصول بين الجيوش بزهوٍ وبعقيدةٍ لا تَعْرِفُ المـَلَلَ ولا الكَلَلَ، حتّى عرف عنه المسلمون الشيء الكثير، ورأتْ القيادة الإسلاميّة البطولة المتجسِّمة في المِرْقَال، فسلّمتْ له إمْرَة المـُشاة في جيش المسلمين، وجيش المشاة أساس الحرب، ومدار القتال.

وما أنْ تَسلّم هاشم مركزه الجديد، حتى صمّم على أنْ يضرب مثلاً أعلى للبطولة في ذلك اليوم، وكان ما أراد، فقد زحف بِعِدَّته نحو جيش هِرَقْل، يَرْقُلُ براية الإسلام، وينتقل بين الصفوف، وصار على مقربة من سُرَادِق قائد الكفّار.. فاضطرب وخرج هارباً مُضطرِباً، يصيح بالروم، ويشجّع بهم، وكانتْ

١٣٢

لحظاتٌ حاسِمةٌ، تَزْأَرُ فيها العقيدة، وتصرخ في وسطها البطولة، وتهافَتَ المسلمون وراء هاشم، وهو المِقْدام، وانتفض الروم وهم في حملتهم الأخيرة، ودارتْ رحى الحرب قاسيةً جداً.

وفي حملة واحدة من الجانبين، وجّه جيش الروم نبالَهم يرشقون أبطال المسلمين، فما هي إلاّ جولة حتّى أُصيب سبعمائة مسلم، من قائدٍ وزعيم بأعينهم، وشاع في الناس الذعر، حتّى قيل عن ذلك اليوم (يوم التعوير).

ولكنّ هاشم، وهو القائد المِغْوار لم تُلْهَهُ دماؤه التي تسيل من عينه، ولا تلك الظلمة التي أحاطت بدنياه، فما هي إلاّ برهة حتّى تحسَّس أنّ إحدى عينيه سالمة، فشدّ على نفسه، وطاف بصَحْبه، وهو يشجّع بهم، ويمنّيهم بقرب النصر، وإنّها الجولة الأخيرة، ثم هجم على الروم بقوةٍ، لا تَعْرِفُ السَّأَمَ ولا الضَجَر، ولم يرجع إلاّ وهو متوّج بالنصر في معركة (اليرموك) فقد اندحرتْ أمامه جيوشُ الأعداء.

واستقبله أبو عبيدة، وكِبار القادة، يَطْبعون على جبينه قُبَلَ النصر، ويعلّقون على صدره أَوْسِمَةَ الفخر والإكْبار.. وهكذا وقعتْ الشام بيد المسلمين، بفضل موقف المرقال وحِنْكَتِهِ العسكريّة.

ولم يستقر المرقال من أتعاب هذه الحرب، حتّى ورد عليه كتابُ عمر بن الخطّاب، يطلب فيه أنْ يتوجّه فوراً إلى القادسيّة؛ ليساعد عمّه سعد في حَرْبِها القاسية مع الفرس.

وانتقل هاشِم بجيشٍ كثير العدد، من الشام إلى العراق

١٣٣

وكان له في فتح القادسيّة، ومَنْ بعدها مِنْ مراكز العراق الأثر التام.

وكان في كل حروبه يُذَكِّر جيشه الباسل بما سَمِعَه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو الصادق القول:

(أيُّها الناس، سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ((يظهر المسلمون على جزيرة العرب، وعلى فارس، والروم))، فإلى الجهاد.. إلى الجهاد، لقد صدق رسول الله، وموعدنا الجنّة لا رجعة لنا إلى خيامنا، فأمّا الموت، وأمّا الفتح والنصر، وهو قريب لنا إنْ شاء الله).

وبهذا الإيمان الرائع كان المرقال يستقبل أعداء الإسلام في الشام والقادسيّة، والمدائن، وجَلَوْلاَء، ويقود كتيبته الباسِلَة، والتي عُرِفَتْ بكتيبة الأبطال.. وتمّ الفتح، وأشرق النصر. وعاد إلى عمّه سعد، وقد أدّى واجبَه الديني كأحسن قائدٍ في ميادين الشرف ومواقف البطولة.

واعتزل هاشم الحرب، ورضي الولاة باعتزاله، وإنْ عزّ عليهم أنْ يُفارق الحرب، ولكنّ هذه المواقف الجبّارة التي أظهرها في الشام والعراق، من حربٍ إلى حربٍ، كان من الضروري له أنْ يخلد إلى الراحة.

وسكن الكوفة، فقد ساعَدَتْه ظروفٌ لأنْ يختار الكوفة على المدينة، وخاصةً إنّ عمّه ووالد زوجته، سعد، والِيَاً عليها.

وانقضتْ الأيّام سِرَاعاً، وجاء عثمان خليفةً على المسلمين، وتربّع على حكم البلدان، آل أبي مَعِيْط، وبنو أميّة، وعاثوا

١٣٤

فساداً، ويَصِلُ الأمر ببعض الولاة كالوليد بن عقبة - وكان حينذاك على الكوفة - أنْ يخرج لصلاة الصبح، وهو في حالة سُكْرٍ شديدةً، فصلّى بالناس أربع ركعات، ثم التفتَ للمصلِّين قائلاً: هل أزيدكم؟، وتقيَّأَ في المحراب، وقرأ بهم في الصلاة وهو رافِعٌ صوتَه:

عَلِقَ القلبُ الربَابَا

بَعْدَ مَا شَابَتْ وَشَابَا

فقام إليه جماعةٌ من المسلمين فانتزعوا خاتمه من يده، وقام إليه ابن مسعود وضرب بنعاله وجهَ الوليد، وحَصَبَهُ الناس فدخل القصر، والحصباء تأخذه وهو مترنِّح.

ولم تكنْ هذه الحادثة إلاّ صورة واضحة لحكم آل أبي معيط وآل أبي سفيان، الذين استَولَوا على الحكم بنفوذ الخليفة عثمان.

وهذه المفارقات كافية لإثارة المخلصين على الإسلام بالكلام القاسي أوّلاً، ثم بالثورة العارِمَة على الخليفة عثمان، الذي قُتِلَ بالنهاية نتيجةً لهذه الأحداث الصَخْبَة التي مرّتْ.

وكان موقف المرقال كموقف غيره من المسلمين المعارضين الأشِدَّاء، وبايع المسلمون عليّاً بالخلافة.

وهاشم، الرجل الذي عَرَفَ عليّاً ومكانته مِن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد سمع حديثه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذْ يقول: ((أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها)) و((عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليٍّ)) و((يا عليّ لا يعرفك إلاّ الله وأنا)).

وإذا أيّد المرقال بيعة الإمام، وهتف بأَحَقِّيَّتِهِ مِنْ غيره،

١٣٥

فهو لا لكونه من صحابته فحسب، إنّما يعرف أنّ عليّ بن أبي طالبٍ سيُقيم العدل، وأنّه خير مَنْ يصلح للأمر، لا تأخذه في الله لائمةٌ، لهذا ما إنْ سمع نبأ خلافته، حتّى هرع إلى أبي موسى الأشعري - وهو في الكوفة من قِبَلِ عثمان - وهجم عليه قائلاً: (بايِعْ يا أبا موسى لخير هذه الأُمّة عليَّ بن أبي طالبٍ).

ولكنّ الأشعري ذلك المراوِغ الذي لا يربطه بعليٍّ حبٌ ولا إيمان، أخذ يَسْتَمْهِل هاشماً، ويراوغه عن البيعة، غير أنّ هاشماً ذلك الرجل الصَلِب المؤمن لعقيدته يقف أمام الأشعري وعيناه تقدحان ناراً، ووضع يده على الأخرى قائلاً: يا أبا موسى هذه لعلي، وهذه لي، وقد بايعتُ عليّاً خير هذه الأُمّة. ثمّ أخذ يَتَغَانَى:

أُبَايِع غيرَ مُكْتَرِثٍ عَلِيَّاً

وَلا أَخْشَى أَمِيْرَاً أَشْعَرِيَّا

أُبَايِعُهُ وَأَعْلَمُ أَنْ سَأُرْضِي

بِذَاكَ اللهَ حَقَّاً وَالنَّبِيَّا

ويبقى في الكوفة، يحث الناس على بيعة عليٍّ، وما إنْ يسمع أنّ إمامه خرج إلى العراق لحرب الجمل، يخفّ إليه، ويلتقي به، ويعتمِد عليه الإمام في مراسلاته وحربه، ويقف إلى جنبه حتّى ينتهي الأمر، ويكسب الإمام النصر.

وعاد مع الإمام ولازمه، وإذا ما تظاهر معاوية بالعصيان ولم تنفع معه مراسلة الإمام، فقد طمع وريثُ الخيانة، وابن آكلة الأكباد بالخلافة.. هناك جمع الإمام صحابته وأخذ يستشيرهم في الأمر، وكان هاشم مِن أولئك النفر الذين اعتمد

١٣٦

عليهم أبو الحسن في مشورته وتثبيت دولته، فهبّ المرقال مُنْدَفِعَاً بإخلاصٍ وعقيدةٍ وقال:

(أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فأنا بالقوم جدُّ خبير، هم لك ولأشياعك أعداء، وهُمْ لِمَنْ يطلب حرثَ الدنيا أولياء، وهم مُقاتِلوك، ومُجاهِدوك، لا يبقون جهداً مشاحّةً على الدنيا، وظنّاً بما في أيديهم منها، وليس إربةٌ غيرها، إلاّ ما يخدعون به الجُهّال من الطلب بدم عثمان، كذبوا ليسوا بدمه يثأرون، ولكنّ الدنيا يطلِبون، فَسِرْ بنا، فإنْ أجابوا إلى الحقّ فليس بعد الحقّ إلاّ الضلال، وإنْ أَبَوْ إلاّ الشِقَاق فذلك الظن بهم، والله ما أراهم يُبايِعون وفيهم أحدٌ مِمَّنْ يُطَاع إذا نَهَى، ويُسْمَعُ إذا أُمِر).

بهذه المقالة الصغيرة كشف هاشم لإمامه عن حياة هؤلاء ونَفْسِيَّاتهم وما يُضمِرون.

وزحف الإمام بجيشه إلى قتال أهل الشام، وفي (صفّين) عَسْكَرَ الفريقان: الحقُّ والباطلُ، وحجزتْ الأشهر الحُرُم بين الطرفين، كان في أثنائها يلتَمِسُ الإمام الأملَ بالنُّصْحِ والمراسلة، عسى أنْ يَلِيْنَ معاوية، ولكنْ كانتْ الإجابة بالنهاية له: (السيف بيننا وبينك، أو يهلك الأعجز مِنّا).

ويئس الإمام من عودتهم إلى حظيرة الخير، وصمّم على مُقاتَلَتِهِم، ودَفَعَ رايته العظيمة إلى هاشم المِرْقَال، وصفّ جيشه وتقابل الطرفان، كلّ يومٍ يُخْرِجُ الإمام كتيبته للقتال، وطال المقام، فقرّر الإمام الهجوم العام.. وفي الصباح الباسم من أيّام قتال صِفّين، الْتَحَمَ الجيشان في معركةٍ عنيفةٍ.

١٣٧

وسمع معاوية بهجمات هاشم، فحرّض عمرو بن العاص على مبارزته، فتقدّم إليه يَرْتَجِز قائلاً:

لا عيشَ إنْ لَمْ ألْقَ يَوْمَاً هاشِمَاً

ذاك الذي أجْشَمَنِي المـُجَاشَمَا

ذاك الذي أقامَ لي المـَآتِمَاً

ذاك الذي يَشْتُمُ عَرْضِيْ ظَالِمَا

ذاك الذي إنْ يَنْجُ مِنِّي سَالِمَاً

يَكُنْ شَجَاً حتّى المـَمَات لازِمَا

وتقدّم إليه هاشم بخطى ثابتةٍ، وهو يقول:

لا عيشَ إنْ لَمْ أَلْقَ يَوْمِي عَمْرو

ذاك الذي أحْدَثَ فِيْنَا الغَدْرَا

أوْ يُحْدِثُ اللهُ لأمْرٍ أَمْرَاً

لا تَجْزَعِيْ يَا نَفْسُ صَبْراً صَبْرا

ضَرْبَاً هذاذيك، وطَعْنَاً نَزْرَاً

يا ليتَ مَا تجنى يكونُ قَبْرا

ولكنّ عَمْرو أنَّا له أنْ يقف أمام سيف هاشم، ذلك الذي طالما كشف الكروب عن المسلمين في الحروب، وانْهزم عمرو إلى فِسْطاط معاوية خائفاً وَوَجِلاً.

وضحك معاوية مِلْءُ شَدَقَيْهِ وقال: (ما بالك يا أبا عبد الله. قد مزّق الرعبُ وجهَك).

واغتاظ ابن العاص من هذه السخرية اللاذِعَة، فالتفتَ إليه بغضبٍ قائِلاً: (إذا كنتَ لا تخشاه، فما بالك فررْتَ مِنْ سيف المرقال، ودونك المـُدَجَّجُوْن بالسلاح، وقد جفّ ريقُك وغارتْ عيناك، وفررْتَ من وسط القوم كما يَفِرُّ من منظر السد؟!)..

ومعاوية ذلك الإنسان الداهية، لا يغضب من حديث ابن العاص، وإنْ كان فيه مَغْمَزٌ له.

ولكنْ لمْ يترك لابن العاص سخريته، فَمَا حَمِيَ الوَطِيْسُ

١٣٨

بين الطرفين، وهاشم يَرْقُلُ بالراية إرْقَالاً وسط الأعداء، وهو وعِدَّةٌ من أبطاله، هدفهم معاوية، يدك الصفوف التي وقفتْ دونه ليصل مَحْمَلَهُ، واضطرب معاوية أشد الاضطراب، وأرسل إلى ابن العاص يقول له: (ويْحَك إنّ اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة وقد كان من قبل يرقل به إرْقَالاً، وإنّه إنْ زحف به اليوم زحفاً، إنه لليوم الأطول لأهل الشام، وإنْ زحف في عُنُقٍ مِنْ أصحابه، إنّي لأطْمَعُ أنْ تُقْتَطَع. فَلْيبرز إليه كلُّ كَمِّي شديدُ البأس، واجعل عليهم ابنَك عبد الله).

إنّ الحقد الذي يتمتّع به معاوية، يختلِف عن كلّ أنواع الحقد، فالرجل وهو في ساعة المِحْنة لمْ يَغفر لابن العاص سخريته به، فحاول أنْ يأخذ الثأر منه بإرْسال ولده عبد الله، وهو يعلم إنّه لا يقوى على مُقَابلة هذا البطل، ولكنّه الحِقْد، ولكنّه الثأر.

واضطرّ ابن العاص أنْ يُرْسِل هذه الكتيبة بإمرةِ ولده، تَلْبِيَةً لطلب سيِّده، ولكنّه ما كاد يلمح المرقال، يستقبلهم بسيفه ويحصد بهم حتّى اهتزّ واضطرب، وأخَذَ لا يستقرُّ على جواده وهو ينادي: ولدي.. ولدي..

والتفتَ إليه معاوية ضاحِكَاً قائِلاً: اسْكُتْ لا يسمعك الأعداء فَتُشْمِتُهُم بِنَا، وهم على مقربة منك، سيعود ولدك صبراً صبراً، فإنّه لا بأس عليه..

ولكنّ عمرو بن العاص ما كان يعي حديث معاوية، بل التفتَ إليه كالمجنون، وهو يصرخ: لَيْتَهُ كان يزيد، وأراك

١٣٩

كيف تصبر.. يا معاوية تركتَ ولدَك في الشام يَمْرَح، وجِئتَ بأولادنا إلى ساحة الحرب، وتَبِعْنَاك ثم أَتُرِيْد أنْ تُيَتِّمُنَا.

وعاد عبد الله، هارِباً يجرّ أذيال الخيبة والفشل، فقد تمكّن من الفرار من سيف المرقال، واستقبله أبوه وهو يُهدّئ روعه ويُخفي فشله: (لا عليك يا ولدي فقد سبقك أبوك بالهرب من سيف هذا البطل).

وطاف الإمام بين أصحابه يشجّعهم على القتال، ويحرّضهم على الشهادة، ودارتْ الحرب بأشدّ ما شاهدها هاشم في حياته، من قسوةٍ وعُنفٍ، وامتدّ الليل بظلامه، والقتال بعدُ قائم، لم تَخُفُّ سَوْرَتِهَا إلاّ بعد أنْ يتجاوز الليل، ومع الفجر اجتمع الإمام بقادة جيشه: الأشتر، وعمّار، والمرقال، يشرح لهم خطّته العسكريّة، ووجّه هاشماً إلى القلب، وكان ما أراد، لقد صَمَدَ هاشم في القلب وقد فرّ مَنْ فرّ، وجَنْدَلَ مَنْ جَنْدَلَ.

ولحق به الإمام، وهو يصرخ به مِن خلفه ((يا هاشم حتّى متى تأكل الخبز، وتشرب الماء)) والتفتَ هاشم فرأى سيِّده فتوقّف قليلاً؛ ريثما تَسَلَّمَ منه لواءه الخاص، وقال له: ((أُريد هذا أنْ أراه يُرفرف في قلب الأعداء)) فأجابه بكلّ ثِقَة واطمئنان: (والله يا أمير المؤمنين لأجْهُدَنَّ على ألاّ أرْجِع إلَيْكَ أبداً).

وتقدّم إلى الميدان، وهو يقتحِم صفوف أهل الشام، وقف معاوية مشدوهاً، ذاهِلاً بهذا المـَنْظر، وصاح بدون شعور: أعور بني زُهرة قاتله الله.. وهاشم يرقل بالراية إرقالاً نحو معسكر طاغية أهل الشام، والشمس قد مالتْ إلى المغيب.

١٤٠