روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة0%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة

مؤلف: جرج جرداق
تصنيف:

الصفحات: 237
المشاهدات: 105023
تحميل: 5921

توضيحات:

روائع نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105023 / تحميل: 5921
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

أنت أم رامق؟ فقلت: بل رامق(١) .

قال: طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطا و ترابها فراشا و ماءها طيبا و القرآن شعارا و الدّعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح إن داود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلاّ أن يكون عشّارا أو عريفا أو شرطيّا(٢) .

لا تقولوا بما لا تعرفون

من خطبة له في صفة الخيّرين: عباد اللّه، إنّ من أحبّ عباد اللّه اليه عبدا قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحقّ و يعمل به، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها(٣) و لا مظنّة إلاّ قصدها(٤) .

أيها الناس، لا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحق في ما تنكرون و اعذروا من لا حجّة لكم عليه

____________________

(١) أراد ب «الرامق» منتبه العينين، في مقابلة الراقد بمعنى النائم.

(٢) العشار: من يتولى أخذ أعشار الاموال، و هو المكاس. و العريف: من يتجس على أحوال الناس و أسرارهم فيكشفها لأميرهم، مثلا. الشرطة: أعوان الحاكم.

(٣) أمّها: قصدها.

(٤) المظنّة: موضع ظن لوجود الخير.

١٨١

منطقهم الصّواب و مشيهم التّواضع

روي أن صاحبا لابن أبي طالب يقال له «همام» قال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتّقين حتى كأني أنظر اليهم فتثاقل الإمام عن جوابه قليلا، ثم قال في صفة المتّقين قولا رائعا كثيرا، هذا بعضه: أمّا بعد، فإن اللّه سبحانه و تعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم، لأنه لا تضرّه معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم و وضعهم من الدنيا مواضعهم، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب و ملبسهم الاقتصاد و مشيهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزّلت في الرّخاء(١) ، و لو لا الأجل الذي كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين.

لا يرضون من أعمالهم القليل و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم

____________________

(١) أي انهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالأمل في اللّه كأنهم في رخاء لا يجزعون و لا يهنون، و إذا كانوا في رخاء كانوا من خوف اللّه و حذر النقمة كأنهم في بلاء، لا يبطرون و لا يتجبرون.

١٨٢

متّهمون، و من أعمالهم مشفقون(١) ، إذا زكّي أحدهم(٢) خاف مما يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، و ربّي أعلم بي مني بنفسي.

اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، و اجعلني أفضل مما يظنّون، و اغفر لي ما لا يعلمون فمن علامة أحدهم: أنك ترى له حزما في لين، و إيمانا في يقين، و قصدا في غنى(٣) ، و خشوعا في عبادة، و تجمّلا في فاقة، و صبرا في شدّة، و نشاطا في هدى، و تحرّجا عن طمع(٤) . يمزج الحلم بالعلم و القول بالعمل. الخير منه مأمول، و الشرّ منه مأمون. يعفو عمّن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه، بعيدا فحشه ليّنا قوله حاضرا معروفه، لا يحيف على من يبغض و لا يأثم في من يحب. يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه. لا ينابز بالألقاب(٥) و لا يضارّ بالجار و لا يشمت بالمصائب و لا يدخل في الباطل و لا يخرج من الحق. نفسه منه في عناء و الناس منه في راحة. بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة. ليس تباعده بكبر و عظمة و لا دنوّه بمكر و خدعة.

____________________

(١) أي: خائفون من التقصير فيها.

(٢) زكي: مدحه أحد.

(٣) قصدا: اقتصادا.

(٤) التحرج، هنا: التباعد.

(٥) أي: لا يدعو غيره باللقب الذي يكرهه و يشمئزّ منه.

١٨٣

المنافقون

و من خطبة له يصف فيها المنافقين: يتلوّنون ألوانا و يفتنّون افتنانا(١) . لهم بكلّ طريق صريع(٢) ، و إلى كلّ قلب شفيع، و لكلّ شجو دموع(٣) . يتقارضون الثناء(٤) و يتراقبون الجزاء. إن سألوا ألحفوا و إن عذلوا كشفوا(٥) و إن حكموا أسرفوا. قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا و لكلّ قائم مائلا و لكلّ حيّ قاتلا، و لكل باب مفتاحا و لكلّ ليل مصباحا: يتوصلون الى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم و ينفقوا به أعلاقهم(٦) .

____________________

(١) يفتنّون: يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا.

(٢) الصريع: المطروح على الأرض، أي: انهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا أوقعوهم في الهلكة.

(٣) الشجو: الحزن، أي: يبكون تصنعا متى اردوا.

(٤) يتقارضون: كل واحد منهم يسلف الآخر دينا ليؤديه اليه، و كل يعمل للآخر عملا يرتقب جزاءه منه.

(٥) كشفوا: فضحوا.

(٦) ينفقوا: يروّجوا. الأعلاق، جمع علق، و هو الشي‏ء النفيس. و المراد: ما يزينونه من خدائعهم.

١٨٤

كان عليهم سرمدا

من كلام له في وصف من فارقوا الدنيا: لا يفزعهم ورود الأهوال و لا يحزنهم تنكّر الأحوال، و لا يحفلون بالرواجف و لا يأذنون للقواصف، غيّبا لا ينتظرون و شهودا لا يحضرون، و إنما كانوا جميعا فتشتّتوا، و ما عن طول عهدهم و لا بعد محلّهم عميت أخبارهم و صمّت ديارهم(١) ، و لكنهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنطق خرسا و بالسمع صمما و بالحركات سكونا.

جيران لا يتآنسون و أحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف و انقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلّهم وحيد و هم جميع، و بجانب الهجر و هم أخلاّء، لا يتعارفون لليل صباحا و لا لنهار مساء، أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا(٢) .

____________________

(١) صمّت: خرست عن الكلام. و خرس الديار: عدم صعود الصوت من سكانها.

(٢) الجديدان: الليل و النهار، فإن ذهبوا في نهار فلا يعرفون له ليلا، أو في ليل فلا يعرفون له نهارا.

١٨٥

تحمله على اهوالها

و من خطبة رائعة له في معنى الدنيا: ساكنها ظاعن و قاطنها بائن(١) تميد بأهلها ميدان السفينة تقصفها العواصف في لجج البحار فمنهم الغرق و منهم الناجي على بطون الأمواج تحفزه الرياح بأذيالها و تحمله على أهوالها(٢) ، فما غرق منها فليس بمستدرك و ما نجا منها فإلى مهلك

كانوا اطول اعمارا

من خطبة له في أحوال الدنيا: أمّا بعد، فإني أحذّركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات و تحلّت بالآمال و تزيّنت بالغرور.

____________________

(١) بائن: مبتعد، منفصل.

(٢) أي: منهم من هلك عند تكسر السفينة و منهم من بقيت فيه الحياة فخلص محمولا على بطون الأمواج، كأن الأمواج في انتفاخها كالحيوان المنقلب على ظهره و بطنه إلى أعلى. أما هذا الناجي الذي تدفعه الرياح، فمصيره أيضا إلى الهلاك، بعد طول العناء.

١٨٦

لم يكن امرؤ منها في حبرة(١) إلاّ أعقبته بعدها عبرة، و لم يلق في سرّائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا(٢) . و حريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكّرة. و إن جانب منها احلولى، أمرّ منها جانب فأوبي(٣) . لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا(٤) إلا أرهقته من نوائبها تعبا و لا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف(٥) كم من واثق بها قد فجعته، و ذي طمأنينة اليها قد صرعته، و ذي أبّهة(٦) قد جعلته حقيرا، و ذي نخوة قد ردّته ذليلا. ملكها مسلوب، و عزيزها مغلوب، و موفورها منكوب، و جارها محروب(٧) أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، و أبقى آثارا، و أبعد آمالا، و أعدّ عديدا، و أكثف جنودا تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، و آثروها أيّ إيثار، ثم ظعنوا عنها بغير زاد فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة

____________________

(١) الحبرة: المسرة و النعمة.

(٢) كنى ب «البطن» عن الإقبال، و ب «الظهر» عن الإدبار.

(٣) أوبى: صار كثير الوباء.

(٤) الغضارة: النعمة و السعة. الرغب بفتح الباء الرغبة.

(٥) القوادم: أربع ريشات في مقدّم جناح الطائر.

(٦) الأبهة: العظمة.

(٧) محروب: مسلوب المال.

١٨٧

ويل لسكككم العامرة

و من كلام له في مصير البصرة: ويل لسكككم العامرة(١) ، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، و خراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، و لا يفقد غائبهم. أنا كابّ الدنيا لوجهها، و قادرها بقدرها و ناظرها بعينها

اللّهمّ قد انصاحت جبالنا

من خطبة له في الاستسقاء، و هي من الخطب التي تزخر بالعاطفة و الحنان، و بالتواضع لخالق الكون و هيبة الوجود: اللهمّ قد انصاحت جبالنا(٢) ، و اغبرّت أرضنا، و هامت دوابّنا و تحيّرت في مرابضها و عجّت عجيج الثّكالى على أولادها، و ملّت التردّد في مراتعها و الحنين إلى مواردها. اللهمّ فارحم أنين الآنّة، و حنين

____________________

(١) سكك، جمع سكة: الطريق المستوي.

(٢) انصاحت: جفت أعالي بقولها و يبست من الجدب.

١٨٨

الحانّة اللهمّ فارحم حيرتها في مذاهبها و أنينها في موالجها(١) اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين و أخلفتنا مخايل الجود(٢) ، فكنت الرجاء للمبتئس و البلاغ(٣) للملتمس: ندعوك حين قنط الأنام و منع الغمام و هلك السوامّ(٤) أن لا تؤاخذنا بأعمالنا و لا تأخذنا بذنوبنا، و انشر علينا رحمتك بالسّحاب المنبعق و الربيع المغدق و النبات المونق سحّا وابلا(٥) تحيي به ما قد مات و تردّ به ما قد فات. اللهمّ سقيا منك محيية مروية، تامّة عامة، طيّبة مباركة، هنيئة، مريعة، زاكيا نبتها ثامرا فرعها(٦) ناضرا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك و تحيي بها الميت من بلادك. اللهمّ سقيا منك تعشب بها نجادنا(٧) و تجري بها و هادنا و تخصب بها جنابنا(٨) و تقبل بها ثمارنا و تعيش بها مواشينا و تندى بها أقاصينا(٩) و تستعين بها ضواحينا من بركاتك الواسعة

____________________

(١) مداخلها في المرابض.

(٢) مخايل، جمع مخيلة، كمصيبة، و هي: السحابة تظهر كأنها ماطرة ثم لا تمطر.

و الجود: المطر.

(٣) البلاغ: الكفاية.

(٤) السوام: جمع سائمة و هي: البهيمة الراعية من الإبل و نحوها.

(٥) سحّا: صبّا. الوابل: الشديد من المطر الضخم القطر.

(٦) زاكيا: ناميا. ثامرا: آتيا بالثمر.

(٧) النجاد جمع نجد، و هو: ما ارتفع من الأرض.

(٨) الجناب: الناحية.

(٩) القاصية: الناحية أيضا، و هي بمعنى البعيدة عنّا من أطراف بلادنا، في مقابلة «جنابنا».

١٨٩

الغيبة

من كلام له في النهي عن غيبة الناس: و إنما ينبغي لأهل العصمة أن يرحموا أهل الذنوب و المعصية، و يكون الشكر هو الغالب عليهم، فكيف بالغائب الذي غاب أخاه و عيّره ببلواه؟ يا عبد اللّه، لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعلّه مغفور له، و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه

يذهب اليوم و يجى‏ء الغد

من خطبة له: إعلموا، عباد اللّه، أنّ عليكم رصدا من أنفسكم(١) و عيونا من جوارحكم، و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم لا تستركم منهم ظلمة ليل داج و لا يكنّكم منهم باب ذو رتاج(٢) ، و إنّ غدا من اليوم قريب.

____________________

(١) الرصد، جمع راصد، و يريد به رقيب الذمة و واعظ السر الوجداني الذي لا يغفل عن التنبيه و لا يخطى‏ء في الإنذار و التحذير.

(٢) الرتاج: الباب العظيم إذا كان محكم الغلق.

١٩٠

يذهب اليوم بما فيه و يجي‏ء الغد لاحقا به، فكأنّ كلّ امرى‏ء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة

آه من بعد السّفر

دخل ضرار بن حمزة الضبائي على معاوية، فسأله هذا عن الإمام علي، فقال ضرار: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم(١) و يبكي بكاء الحزين، و يقول: يا دنيا يا دنيا، إليك عني أ بي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّفت؟ لا حان حينك(٢) هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير آه من قلّة الزاد، و طول الطريق، و بعد السفر، و عظيم المورد(٣)

____________________

(١) السليم: الملدوغ.

(٢) تعرض به: تصدّى له و طلبه. لا حان حينك: لا جاء وقت وصولك الى قلبي و تمكّن حبك منه.

(٣) المورد: موقف الورود على اللّه في الحساب.

١٩١

طبيعة الوجود

و من خطبه التي تدل على إدراكه العميق لطبيعة الوجود و أحواله: مع كل جرعة شرق، و في كلّ أكلة غصص، لا تنالون منها يعني الدنيا نعمة إلا بفراق أخرى، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد(١) ، و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصودة. و قد مضت أصول نحن فروعها

و اجرى فيها قمرا منيرا

من خطبة له يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض: ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و شقّ الأرجاء و سكائك الهواء(٢) فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره متراكما زخّاره حمله على متن الريح

____________________

(١) يخلق: يبلى.

(٢) سكائك، جمع سكاكة و هي: الهواء الملاقي عنان السماء.

١٩٢

العاصفة و الزعزع القاصفة. ثم أنشأ سبحانه ريحا أعصف مجراها فأمرها بتصفيق الماء الزخّار(١) و إثارة موج البحار، فمخضته مخض السّقاء(٢) و عصفت به عصفها بالفضاء تردّ أوله إلى آخره و ساجيه إلى مائره(٣) حتى عبّ عبابه.

ثم زيّنها بزينة الكواكب و ضياء الثواقب(٤) و أجرى فيها سراجا مستطيرا(٥) و قمرا منيرا، في فلك دائر و سقف سائر

تلاطم الماء

من خطبة له في قدرة اللّه: يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النّينان في البحار الغامرات(٦) ، و تلاطم الماء بالرياح العاصفات

____________________

(١) تصفيق الماء: تحريكه و تقليبه.

(٢) مخضته: حركته بشدة كما يمخض السقاء بما فيه من اللبن ليستخرج زبده. و السقاء: وعاء من جلد للبن و الماء.

(٣) الساجي: الساكن. و المائر: الذي يذهب و يجى‏ء، أو المتحرك مطلقا.

(٤) الثواقب: المنيرة المشرقة.

(٥) مستطيرا: منتشر الضياء، و يقصد به الشمس.

(٦) النينان، جمع نون و هو: الحوت.

١٩٣

خلقة الخفّاش

من خطبة له يذكر فيها خلقة الخفاش: و من لطائف صنعته و عجائب حكمته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكلّ شي‏ء، و يبسطها الظلام القابض لكلّ حيّ، و كيف عشيت أعينها عن أن تستمدّ من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها و تصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، و ردعها تلألؤ ضيائها عن المضيّ في سبحات إشراقها(١) و أكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلافها(٢) فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، و جاعلة الليل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته(٣) ، و لا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دجنّته(٤) .

فإذا ألقت الشمس قناعها و بدت أوضاح نهارها، و دخل من إشراق نورها على الضّباب(٥) في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها و تبلّغت(٦) بما اكتسبت من في‏ء ظلم لياليها. فسبحان من جعل الليل لها نهارا

____________________

(١) سبحات النور: درجاته و أطواره.

(٢) البلج: الضوء و وضوحه. الائتلاق: اللمعان الشديد.

(٣) أسدف الليل: أظلم.

(٤) الدجنة: الظلمة.

(٥) الضباب، جمع ضب و هو الحيوان المعروف.

(٦) تبلغت: اكتفت أو اقتاتت.

١٩٤

و معاشا، و النهار سكنا و قرارا، و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة الى الطيران كأنها شطايا الآذان(١) غير ذوات ريش و لا قصب، إلاّ أنك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما(٢) لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا و لم يغلظا فيثقلا، تطير و ولدها لاصق بها لاجى‏ء إليها: يقع إذا وقعت و يرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتدّ أركانه و يحمله جناحه و يعرف مذاهب عيشه و مصالح نفسه. فسبحان الباري لكلّ شي‏ء على غير مثال خلا من غيره

خلقة الطّاووس

من خطبة له يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس: و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه(٣) و ذنب أطال مسحبه،

____________________

(١) شظايا، جمع شظية، و هي: الفلقة من الشي‏ء، أي: كأنها مؤلفة من شقق الآذان.

(٢) رسوما ظاهرة.

(٣) أشرج قصبه: داخل بين آحاده و نظمها على اختلافها في الطول و القصر.

١٩٥

إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه و سما به مظلاّ على رأسه كأنه قلع داريّ عنجه نوتيّه(١) يختال بألوانه و يميس بزيفانه(٢) .

تخال قصبه مداري من فضّة(٣) و ما أنبت عليه من عجيب داراته(٤) و شموسه خالص العقيان(٥) و فلذ الزّبرجد. فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كل ربيع و إن ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحلل و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان نطّقت باللجين المكلّل(٦) ، يمشي مشي المرح المختال، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ وشاحه فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا(٧) معولا يكاد يبين عن استغاثته، و يشهد بصادق توجّعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة(٨) .

____________________

(١) القلع: شراع السفينة. عنجه: جذبه فرفعه. النوتي: الملاّح.

(٢) الزيفان: التبختر، و يريد به حركة ذنب الطاووس يمينا و شمالا.

(٣) القصب: الريش. المداري، جمع مدرى. و المدرى و المدراة: أداة ذات أسنان كأسنان المشط.

(٤) الدارات جمع دارة، و هي بالنسبة للشمس كالهالة بالنسبة للقمر.

(٥) العقيان: الذهب الخالص.

(٦) اللجين: الفضة. المكلل: المزين بالجواهر.

(٧) زقا يزقو: صاح.

(٨) حمش، جمع أحمش، أي: دقيق. و الديك الخلاسي: الديك المتولد بين دجاجة و ديك من لونين مختلفين.

١٩٦

و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة. و مخرج عنقه كالإبريق و مغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية(١) أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال(٢) . و كأنه ملفّع بمعجر أسحم إلاّ أنه يخيّل لكثرة مائه و شدّة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.

و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق. و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بريقه و بصيص ديباجه و رونقه(٣) ، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع و لا شموس قيظ.

و قد ينحسر من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى، و ينبت تباعا، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان(٤) . ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف ألوانه و لا يقع لون في غير مكانه.

و إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية،

____________________

(١) مغرزها: الموضع الذي غرز فيه العنق منتهيا الى مكان البطن. الوسمة: نبات يخضّب به.

(٢) الصقال: الجلاء.

(٣) علاه: فاقه. البصيص: اللمعان.

(٤) ينحسر من ريشه: يتكشف منه و يعرى. تترى: شيئا بعد شي‏ء. ينحتّ: يسقط و ينقشر. انحتات الأوراق: تناثر الأوراق.

١٩٧

و تارة خضرة زبرجديّة، و أحيانا صفرة عسجدية(١) ، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن أو تبلغه قرائح العقول(٢) أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين و أقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه و الألسنة أن تصفه

خلقة النّملة

من خطبة له في وصف خلقة النملة: أنظروا الى النملة في صغر جثتها و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحاظ البصر و لا بمستدقّ الفكر، كيف دبّت على أرضها و صبت على رزقها تنقل الحبّة الى جحرها و تعدّها في مستقرّها. تجمع في حرّها لبردها و في ورودها لصدرها، مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها(٣) لا يغفلها المنّان و لا يحرمها الديّان و لو في الصّفا اليابس و الحجر الجامس(٤) . و لو فكّرت في مجاري أكلها، في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها(٥) و ما في الرأس من عينها و أذنها، لقضيت من خلقها عجبا و لقيت

____________________

(١) ذهبية.

(٢) عمائق، جمع عميقة. القرائح جمع قريحة و هي: الخاطر و الذهن.

(٣) الصدر: الرجوع بعد الورود. بوفقها: بما يوافقها من الرزق و يلائم طبعها، أو بما هو قدر كفايتها منه.

(٤) الجامس: الجامد.

(٥) الشراسيف: مقاطع الأضلاع.

١٩٨

في وصفها تعبا فتعالى الذي أقامها على قوائمها و بناها على دعائمها لم يشركه في فطرتها فاطر و لم يعنه في خلقها قادر.

و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كلّ شي‏ء(١) و غامض اختلاف كل حي و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوي و الضعيف، في خلقه إلاّ سواء

خلقة الجرادة

و منها في وصف الجرادة: و إن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها حدقتين قمراوين(٢) و جعل لها السمع الخفيّ، و فتح لها الفم السويّ، و جعل لها الحسّ القويّ، و نابين بهما تقرض و منجلين بهما تقبض(٣) .

يرهبها الزرّاع في زرعهم و لا يستطيعون ذبّها(٤) و لو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها(٥) و تقضي منه شهواتها و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة

____________________

(١) أي: إن دقة التفصيل في النملة على صغرها و في النخلة على طولها، تدلّك على ان الصانع واحد.

(٢) أي: مضيئتين كأن كلاّ منهما ليلة أضاءها القمر.

(٣) أراد بالمنجلين هنا: رجليها، لاعوجاجهما و خشونتهما.

(٤) دفعها.

(٥) و ثباتها.

١٩٩

اغفر لى

من كلام له كان يدعو به: اللهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي اللهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ(١) و سقطات الألفاظ، و شهوات الجنان و هفوات اللسان

ما ذا لقيت

و قال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه(٢) : ملكتني عيني و أنا جالس(٣) فسنح لي رسول اللّه (ص) فقلت: يا رسول اللّه، ما ذا لقيت من أمّتك من الأود و اللّدد(٤) فقال: ادع عليهم فقلت: أبدلني اللّه بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي شرا لهم مني

____________________

(١) رمزات الألحاظ: الإشارة بها.

(٢) السحرة: السحر الأعلى من آخر الليل.

(٣) ملكتني عيني: غلبني النوم.

(٤) الأود: الاعوجاج. اللدد: الخصام.

٢٠٠