روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة0%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة

مؤلف: جرج جرداق
تصنيف:

الصفحات: 237
المشاهدات: 104955
تحميل: 5921

توضيحات:

روائع نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104955 / تحميل: 5921
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

أمّا في الحياة العامّة، فليس بين شؤون الانسان شأن واحد يشذّ عن هذه القاعدة التي انتزعها عليّ بن أبي طالب من مادّة الكون العظيم. فحقّك على مجتمعك هو أن يقيّم هذا المجتمع ما تعطيه، كميّة و نوعا، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيت. أمّا إذا حصلت من المكافأة على أقلّ ممّا أعطيت، فإنّ نصيبك عند ذاك ذاهب إلى سواك، و إن سواك يتمتّع بخير أنت صاحبه و لا شكّ، و إنك في النتيجة مغصوب مظلوم. و أمّا إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيت، فإنّ نصيب غيرك منها ذاهب إليك، و إن سواك من الخلق يجوع بما أكلت، و إنك بذلك غاصب ظالم. و وجود المظلوم و الظالم في المجتمع مفسدة له و منقصة في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلاّ إذا دخلت في نطاق مريح من العدالة الكونية.

و البطل لا يمكن أن يكون قاعدة بل الحقّ هو القاعدة. و «الحقّ لا يبطله شي‏ء» في قانون الكون و هو كذلك في مذهب ابن أبي طالب.

و النظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية، لم يكن ليلهي عليّا عن النظر في ما خفي منها و دقّ. و شأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولّف دقائق الأشياء لديهم، في المادّة و المعنى، ما تولّفه عظائمها فهم لا يفرقون فيها بين كبير و صغير، فهي بالمنشأ واحدة و هي كذلك بالدلالة.

و ليس للذي يبهر الأنظار حساب في عقولهم و قلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابى‏ء و بين الظلال. و ربّ نظرة تجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تجريه ينابيع الكلام و ربّ إشارة يدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان و ربّ زهرة في كنف صخرة ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية. بل ربّ صغير في نظرهم أجلّ من كبير، و قليل أكثر من كثير و أرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نتفة من حديث طويل سقته بصدد الكلام على موقف صاحب الإحساس العظيم و الفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيّه و ظاهره في الدلالة على ما فيه من جليل، قلت: «و كأنّي بهذه الطبيعة تمثّل للشاعر جمال الحريّة التي يشتهي، إذ ترسل الريح حين تشاء و كيف تشاء لا يهمّها أسخط الناس عليها أم رضوا قانعين و تفجّر الينابيع من

٤١

الصخر، حين تروم، و من رخيّ التراب، و تجريها هادئة في السهل أو تقذف بها من أعالي الجبال. و تبرز من صدرها أشجارا و صخورا و قمما و وديانا على طريقتها التي تريد، لا يعنيها أن تنبت الزنابق إلى جانب الشوك أو تعلق إبر السمّ وردا أخضر العود طيّب الريح. و لا تتقيّد بمعرفة تقوم بتحقير الهشيم اليابس و تعظيم الأخضر الفينان، و بالسخرية من صغار الهوامّ تطلّ من ثقوب الصخور، تمجيدا لشراسة القويّ من الوحش يفترس الضعيف(١) ».

بهذه النظرة و بهذا الشعور واجه ابن أبي طالب مظاهر الوجود الواحد في الطبيعتين الصامتة و الحيّة، و أحسّ إحساسا بديهيّا و عميقا معا بأنّ قوّة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبت بقانون ترعى به الورق الأخضر و الزرع الذي استوى على سوقه و اهتزّ للريح.

و أنّها تعنى بالفسيل(٢) الضئيل من شجر الأرض كما تعنى بالعتيّ من الدوح العظيم.

أمّا البهم و الحشرات و الغوغاء(٣) و صغار الطير، فإنّ الطبيعة لم تبذل في رعايتها نصيبا أقلّ مما تبذله في رعاية الهائل من الوحش و نسر الفضاء. فلكلّ من المخلوقات مكانه في سعة الوجود و لكلّ حقّه بهذا الوجود. لذلك لم يمنع الطود الشامخ عن ابن أبي طالب رؤية الحصاة و ذرّة التراب. و لم يفته و هو ينظر الى الطاووس أن يلتفت الى النملة المتواضعة الدابّة في خفايا الأرض بين حطامها و حصاها، فإذا هي في الوجود خلق جليل و شي‏ء كثير.

و ما كان عليّ ليرى في الطاووس و النملة اللذين يبسطهما النهار، شيئا يزيد في معنى الوجود و في قيمته عمّا كان يراه في الخفافيش(٤) التي جعل لها الليل نهارا و قبضها الضياء الباسط لكلّ شي‏ء. و إنما كان يريد من غوامض الحكمة فيها ما يراه في عظائم المخلوقات.

و يكفي هذا المخلوق، في نهج عليّ، أن يكون ذا رمق أي أن يكون حيّا لتكفل له قوّة الوجود الشاملة كفلا أساسيّا ما يقيه خطر الموت قبل حينه. فإنّ العدالة الكونية ما أقامت حيّا من الأحياء إلاّ و عدلت وجوده بما يمسك عليه مدّة بقائه. و هذا ما يعنيه عبقريّ

____________________

(١) باختصار عن كتاب «فاغنر و المرأة» للمؤلف صفحة ١٦٣ ١٦٤.

(٢) الفسيل: صغار الشجر.

(٣) البهم: صغار أولاد الضأن و المعز. الغوغاء: صغار الجراد.

(٤) راجع، في هذا الكتاب، روائع علي في وصف الطاووس و الخفاش.

٤٢

الملاحظة الدقيقة الضابطة عليّ بن أبي طالب بقوله: «و لكلّ ذي رمق قوت، و لكل حبة آكل».

أمّا إذا حيل بين ذي الرمق و قوته، و الحبّة و آكلها، فإنّ في هذا المنع اعتداء على موازين العدالة الكونية و افتراء على قيمة الحياة و معنى الوجود. يقول عليّ: «و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها لبّ شعيرة، ما فعلت» أما الاعتداء على موازين العدالة الكونية، فإن العقاب عليه قائم بطبيعة هذه العدالة العامّة نفسها التي تقاضي الفاعل مقاضاة لا لين فيها و لا قسوة، و إنما عدل و مجازاة.

و من ثمّ كانت النظرة العلوية الجليلة إلى معنى الحياة الواحدة بكثيرها و قليلها، بكبيرها و صغيرها. فالعدالة الكونية التي وازنت بين الأحياء و رعتهم في مختلف حالاتهم و أقامت بينهم أعمالا مشتركة و حقوقا متبادلة و واجبات متعادلة، لم تفرّق بين مظهر من مظاهر الحياة و آخر، و لم تأمر بأن يعتد قويّ على ضعيف لما خصّ به القويّ من أداة العتوّ، و لم تأذن للكثير بأن يغبن القليل حقّه بما خصّ به من صفات الكثرة. و هي من ثمّ لا تغتفر ظلم القليل بحجّة مصلحة الكثير. فالذي يغبن كائنا حيّا في نهج ابن أبي طالب فكأنّما غبن الكائنات الحيّة جميعا. و من قتل نفسا بغير حقّ فكأنّما قتل النفوس جملة. و من آذى ذا رمق فكأنّما آذى كلّ ذي رمق على وجه الأرض. فالحياة هي الحياة في نهجه و احترامها هو الأصل و عليه تنمو الفروع.

ففي نظريات عدد كبير من المفكرين و المتشرعين، و في «آراء» معظم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم رجال سياسة، يجوز الاعتداء على العدد القليل من الناس في سبيل العدد الكثير.

و في حساب هؤلاء، لا يقاس الخير إلاّ بسلامة العدد الكثير، ثم في بلوغه ما يصبو إليه من حال. فإذا قتل بحادث اعتداء ألف من الخلق، فالأمر فظيع. و إذا قتل ألفان فالأمر أفظع. و هكذا دواليك. أمّا إذا قتل إنسان واحد، بمثل هذا الحادث، فالقضيّة هيّنة و الأمر بسيط. فإنّ دفاتر تجّار الأرواح عند ذاك لا يسقط منها الكثير. أمّا جداول الضرب و عمليّات الجمع و القسمة، فن الميسور تعديلها بعمليّة حساب بسيطة.

أمّا ابن أبي طالب فيسحق نظريات هؤلاء التجّار، بقول يتناوله مباشرة من روح الوجود الذي لا قيمة لديه للأرقام في معنى الحياة، بل للحياة نفسها:

٤٣

«فو اللّه لو لم يصيبوا من الناس إلاّ رجلا واحدا معتمدين(١) لقتله، بلا جرم جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه».

و الواضح هنا أنّ الموضوع ليس «قتل الجيش كلّه» بل تمكين فكرة احترام الحياة في أذهان أصحاب السلطة، و لفت أنظارهم إلى أنّ قتل نفس واحدة، قصدا و اعتمادا، إنما يساوي قتل الخلق جميعا.

و لو أنّنا قسنا نظرة عليّ بن أبي طالب في هذا المجال بنظرات كثير من المفكرين الذين رأوا أنّ موازين العدالة لا تتحرك إلاّ بالقوّة و الكثرة، لبدا لنا كيف ينحدرون حيث يسمو، و كيف يتزمّتون و يغلظون حيث يرحب أفقه و تعلو على يديه قيم الحياة. ففيما يطبّل بعض هؤلاء و يزمّرون لما «اكتشفوه» من آراء و نظريات تبيح للقويّ أن يعتزّ بقوّته و حسب، و للكثير أن تتّسع آماله بهذه الكثرة وحدها و في كلّ ذلك اعتداء على قانون الحياة العادل، و على إرادة الانسان القادرة المطوّرة الخيّرة نرى ابن أبي طالب يكشف عمّا هو أسمى بمقياس الحياة نفسها لأنه حقيقة، و بمقياس الارادة الانسانية لأنه خير، فيقول ببساطة العظيم: «و ربّ يسير أغنى من كثير» ثم يوضح بقول أجلّ و أجمل: «و ليس امرؤ، و إن عظمت في الحقّ منزلته، بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه(٢) و لا امرؤ، و إن صغّرته النفوس و اقتحمته العيون(٣) بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه» و في هذين القولين ينقل ابن أبي طالب للناس مظهرا من مظاهر العدالة الكونية البادية حيث أمعنت النظر، و يقرّر حقيقة طالما خفيت عن العقول التي تحصر نفسها في أضيق نطاق.

يقرّر عليّ أنّ المظاهر البرّاقة الفضفاضة ليست في حكم الواقع الوجوديّ إلاّ غثّا من الوجود تافها لا قيمة له و لا شأن، و قد يبهر بها العاديّون من الخلق و أهل الحماقات و الأغبياء

____________________

(١) معتمدين: قاصدين.

(٢) بفوق أن يعان: أي بأعلى من ان يحتاج الى الإعانة.

(٣) اقتحمته العيون: حقرته. بدون أن يعين: بأعجز من أن يساعد غيره.

٤٤

و المصفّقون لكلّ لمّاع تافه فارغ، و لكنّ هذا الانهيار لا يلبث. أن يتلاشى فجأة حين تطلّ شمس الحقيقة، و حين يكنس نورها العظيم ما خاله العاديّون نورا و هو غشّ للعيون، و حين تعصف رياح الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف. و من التاريخ و الحاضر دلائل لا تحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد و الجماعات، و هو اضطراب يستلزم نتائج تؤذي الحضارة و الحياة و الانسان لما فيها من انحراف عن موازين العدالة الكونية.

فلو كنت تعيش في فترة من العصور الوسطى بأوروبا، مثلا، لشاهدت في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكب بإحدى الساحات العامّة من هذه المدينة أو تلك، و ذلك قصد التهليل و التصفيق لمخلوق من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرّد و الزبرجد و الحجارة الكريمة المنظومة. و لشاهدت رجلا يسير على الرصيف وحيدا، عصبيّ الخطوة عنيف النظرة، لا يعنيه أمر المهلّلين و لا يعنيهم أمره. فهم يهتفون بحياة «عظيم» و هو إذ ذاك «ليس بعظيم». ثم أشرقت الشمس بعد زمن فطغت على الظلمة و أبرزت الأشياء في مواضعها الحقيقية. فما ذا ترى عند ذاك؟ ترى أنّ هؤلاء الناس المهلّلين المصفّقين و هم بهذا المقام بمنزلة اللاشي‏ء إنّما كانوا يهتفون لمخلوق تافه يدعى لويس الرابع عشر مثلا، أو لنذل من الأنذال يدعى شارل الخامس، أو لصغير كلّ الصغارة يدعى شارل الأول، أو لغيرهم ممّن يحملون أسماء تليها أرقام... دلالة على الصغارة. ثم ما ذا يتّضح لك بعد ذاك؟ يتّضح أنّ رجل الرصيف الذي لم يهلّل له القوم و لم يهتفوا بحياته، إنّما هو عظيم حقّ يدعى موليير، أو ملتون، أو غاليليو. و تجري الأيام، فإذا بأصحاب الأسماء التي تليها الأرقام، ليسوا إلاّ التفاهة كلّها. و إذا بالمشاة على الرصيف و لا أرقام لأسمائهم، و لا مهلّلين لهم، ليسوا إلاّ العظمة كلّها. و يطوي النسيان التافهين، و يطوي معهم أولئك «اللاشي‏ء» من المصفّقين الهاتفين. و يبرز هؤلاء على هامة الوجود، و تنزلهم الإنسانية من نفسها منازل الشموس من الظلمات. و يبرز معهم نفر قليل من الخلق هم الذين فهموهم، و قدروهم قدرهم العظيم، و تدفّأوا بحرارتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة، و أدركوا ما أدركه عليّ بن أبي طالب إذ قال: «ربّ يسير أنمى من كثير» إنها العدالة الكونية التي تزن كلّ حيّ بميزانها العظيم، و تضعه موضعه، لا غشّ في ذلك و لا خداع، و لا مجاملة العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة و لا تعلو تفاهة

٤٥

و إن ابن أبي طالب لم يسمّ هذا «اليسير» يسيرا إلاّ لأنه هكذا كان في أنظار الناس بزمانه و في آرائهم. و لم يسمّ هذا «الكثير» كثيرا إلاّ للعلّة ذاتها. و هو يعلم أنهم مخطئون، و أن ما يرونه يسيرا قد لا يكون كذلك. و أن ما يرونه كثيرا قد يخف في ميزان الحق. أما هو، فقد كان يستشعر قيمة الحياة في قوة و جلاء، و يستشعر إمكاناتها العظيمة بجميع الأحياء، و يستشعر أن للكون إرادة عادلة في تقييم الحياة حيث كانت، و في احترام الأحياء حيث هم، فيطلق العبارات الحكيمة التي أشرنا اليها. و يطلق الكثيرات غيرها. حتى إذا غالى المغالون و أنكروا أن لليسير مثل هذه القيمة و هذه الإمكانات على النموّ، توجّه اليهم يقول: «و إن أكثر الحق في ما تنكرون» ثم إن حقيقة أخرى يقررها عليّ بكلمته هذه: «... و ليس امرؤ و إن صغرته النفوس و اقتحمته العيون، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه»، هي أن كل إنسان يمكنه أن ينفع مجتمعه و ينتفع به، أيّة كانت موهبته، و بالغة إمكاناته ما بلغت من الضآلة.

و في هذه النظرة الى الانسان الضئيل الحظ من المواهب، توضيح لما في خاطر عليّ من الايمان العميق بالعدالة الكونية التي تجعل من قطرات الماء بحرا خضمّا و من ذريرات الرمال صحارى و فلوات، كما تجعل كلّ قليل داخلا في الكثير، و كلّ صغير مستندا للكبير.

و فيها توضيح لطبيعة الحياة الخيّرة تحنو على أبنائها و تجعل كلا منهم في إطار من خيرها فلا تغبنه و لا تقسو عليه.

و فيها الدليل على هذا الحنان العميق الذي كان عليّ يغمر به الأحياء فلا يرى فيهم إلاّ بشرا جديرين بأن يحيوا الحياة كلّها، و يفيدوا من خيرها، و يعاونوا و يعانوا.

و إنّك واجد صورة لهذه النظرة العلوية الواثقة بعدالة الكون و خير الحياة، المؤمنة بإمكانات الانسان أيّا كان على أن يكون شيئا كريما، في أدب جان جاك روسّو الذي يدور حول محور من الثقة بعدالة الطبيعة و خير الحياة.

و كأني بابن أبي طالب قد خصّ هؤلاء الذين «تصغرهم النفوس و تقتحمهم العيون» بالسهم الأوفر من اهتمامه ساعة خاطب الناس قائلا: «إنّ اللّه لم يخلقكم عبثا» أو ساعة

٤٦

أبدع في وصف ثقته بالطبيعة البشرية الخيّرة مواجها الخلق بهذا الرأي الكريم: «و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا». أي أنكم، جميعا، خيّرون و نافعون أصلا و فرعا، ما لم تميلوا عن الحقّ عامدين.

و تأكيدا لثبوت هذا الجانب من العدالة الكونية في مذهب ابن أبي طالب، و أعني به التسوية التامّة في كلّ حقّ و واجب بين من قلّ و من كثر، و من صغر و من كبر، يشير إلى أنّ مركز هذه العدالة إنّما يتساوى لديه الجميع لا فرق فيهم بين إنسان و إنسان.

فصفتهم الانسانية واحدة، و قضيّتهم بميزان الوجود واحدة كذلك، و هم لا يتمايزون إلاّ بما يعملون و ما ينفعون. أمّا من عمل و نفع فإنّ قانون الوجود نفسه يثيبه. و أمّا من تبطّل و بطر و اغتصب، فإنّ هذا القانون نفسه يعاقبه بما يستحقّه. يقول عليّ: «و لا يلويه شخص عن شخص، و لا يلهيه صوت عن صوت، و لا يشغله غضب عن رحمة، و لا تولهه رحمة من عقاب».

و بهذا الصدد نعود بشي‏ء من التفصيل على ما ذكرناه من أنّ عليّ ابن أبي طالب كشف النقاب عن العبقريّة الوجودية التي تجعل من طبيعة الأشياء ذاتها حاكما أعلى يعطي و يمنع و يعاقب و يثيب، فإذا الكائنات تحمل، بطبيعة تكوّنها، القدرة على أن تقاضي نفسها بنفسها امتثالا لإرادة الكون العادلة.

يرى عليّ بن أبي طالب أنّ الوجود متكافى‏ء ما نقص منه شي‏ء هنا إلاّ و زاد فيه شي‏ء هناك. و كلا النقص و الزيادة متساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص و لا نقص إلا بقدر الزيادة. و جدير بالقول أنّ النظريّة القائلة بهذا التكافؤ في أشياء الوجود، إنّما هي إحدى النتائج الكبرى التي بلغ إليها نشاط الفكر البشري في زحفه العظيم إلى اكتشاف أسرار الكون، كما أنّها نقطة انطلاق في هذا المجال.

و جدير بالقول أيضا أنّ عددا من المفكرين الأوائل لم يتمكّنوا من الالتفات إلى هذه الحقيقة، و أنّ عددا أنكروها، و أنّ هنالك فريقا من هؤلاء المفكّرين رأوها و أدركوا كثيرا من تفاصيلها و آمنوا بها و دعوا إليها. و أبناء هذا الفريق يتفاوتون هم أيضا في قوّة الملاحظة

٤٧

و قوّة التمثيل ثمّ في قوّة البيان عمّا شاهدوه و وثقوا به. فمنهم من لحظ هذا التكافؤ في بعض مظاهر الكائنات فأعلن عن ذلك إعلانا فيه بعض البيان عن الحقيقة. و منهم من رآه في مظاهر الكون الصامت جميعا و لكنه لم يستشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود و لم يجد له خطّا موازيا في مظاهر الكون الحيّ. و منهم من لحظه في الطبيعة الصامتة و استشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود و رأى له خطّا موازيا في الكائنات الحيّة و أعلن عنه بأجلى بيان و أوثق كلام. من هذا الفريق عليّ بن أبي طالب. بل قل إنه في طليعة هذا الفريق من المفكرين الأوائل لأنه كاد يثبت هذه النظرية على نهج سليم قويم لا يتعارض و لا يتناقض و لا مهرب لبعضه من بعض. بل قل إنّه فعل ذلك و أبدع.

و لعلّ موقف ابن أبي طالب ممّا لحظه و رآه من مظاهر التكافؤ في الوجود أجلّ من مواقف زملائه المفكّرين من الناحية العملية. و ذلك بما ألحّ عليه من تأكيد لهذه الحقيقة، توصّلا إلى ما يترتّب عليها من نتائج في حياة الناس أفرادا و جماعة. و هذا الواقع ينسجم كلّ الانسجام مع محور الفلسفة العلوية الذي هو: الانسان.

قلنا إنّ عليّا يرى الوجود متكافئا ما نقص منه شي‏ء هنا إلا و زاد فيه شي‏ء هناك، و أن هذا النقص و هذه الزيادة يتساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص و لا نقص إلا بقدر الزيادة.

فيقول أوّل ما يقول: منبّها الانسان إلى هذه الحقيقة عن طريق ألصق الأشياء به، أي عن طريق وجوده ذاته: «و لا يستقبل يوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله» و هل من خاطرة في ذهن إنسان يمكنها أن تدحض هذه الحقيقة التي تعرض تعادليّة الوجود بأبسط ما يراه المرء من حال الوجود؟ ثم هل من قاعدة رياضية من قواعد الهندسة و الجبر ألصق بالحقائق الثابتة، و أدلّ على الواقع المطلق، و أوجز في تبيان الثابت و المطلق، من هذه الآية التي يصوّر بها ابن أبي طالب تعادليّة الوجود من خلال الكائن الحيّ، و من أيامه؟

و إذا قال لي قائل إنّ هذه الفكرة معلومة يعرفها الناس كلّ الناس، فعن أيّة حقيقة جديدة يكشف ابن أبي طالب في زعمك إذن؟ قلت: إنّ الكشف عن الحقائق الخافية لا يستلزم السكوت عن الحقائق الظاهرة إذا كانت هذه أصلا لتلك، أو تلك أصلا لهذه،

٤٨

أو إذا كان المنهج العامّ يستلزم ضبط التفاصيل سواء ما خفي منها و ما ظهر. فإنّ علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كلّ مذهب، ثمّ تتماسك مذاهبه جميعا في وحدة فكريّة رائعة، لم يقل هذا القول «المعلوم الذي يعرفه الناس كلّ الناس»، و لم يقل بمعناه قولا أروع و هو: «نفس المرء خطاه إلى أجله»، إلاّ ليعود و يبني على ما قاله بناء مفصّلا في إثبات نظرية تكافؤ الوجود.

فالذي قال «لا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله» «و نفس المرء خطاه إلى أجله»، إنما قال ذلك ليعود الى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس و أخفى عن ملاحظتهم، و لكنها تجري من القولين السابقين: «و لا ينال الانسان نعمة إلا بفراق أخرى» و أراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة، و القدرة على الكشف، و صراحة الفكر، و جلاء البيان. و ضبطا لمضمون هذه العبارة في صور و أشكال تختلف مظهرا و تتحد معنى و جوهرا، يقول عليّ: «كم من أكلة منعت أكلات» و «من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد» و «ربّ بعيد هو أقرب من قريب» و «المودة قرابة مستفادة» و «من حمّل نفسه ما لا يطيق عجز» و «لن يضيع أجر من أحسن عملا» و «ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك». فإن في هذه العبارات، و في عشرات غيرها، إيجازا واضحا لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه عليّ بن أبي طالب. فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة، تدور في مداها و مأخذها القصيّ على محور واحد من تعادليّة الكون، فلا نقص هنا إلا و تعدله زيادة هناك. و العكس بالعكس.

أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة و عمق. و عاشها، و أعلن عنها في كلّ فصل من حياته أو قول من قوله، سواء أ كان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر.

و هو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونيّة إلاّ ليدرك وجها آخر يعكسه على شكل خاصّ، أو قل ينبثق عنه انبثاقا، و هو ما نحن بصدده من الكلام على أنّ الطبيعة تحمل بذاتها المقياس فتعاقب أو تثيب، و ليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها.

رأى عليّ أنّ شيئا واحدا من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثا، بل إنّ لوجوده غاية

٤٩

و هدفا. و رأى أنّ لكلّ من الكائنات وظيفة يقوم بها، و أنّ على كلّ جارحة من جوارح الانسان فريضة يحتجّ بها الكون العادل عليه، و يسأله عنها، و يحاسبه عليها. و بناء على هذا الواقع، تكون أشياء الوجود متساوية بحكم وجودها. أمّا الصغيرة و الكبيرة فشبيهتان بهذا المقياس. يقول عليّ: «و يحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة». و إنّما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون ل «الصغيرة»، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب، لكي يطمئنّ إلى حدوث عمليّة التسوية بينهما في الأذهان و القلوب.

أمّا إذا احتجّ الكون على الانسان بما فرضه على جوارحه، و سأله عنه، و حاسبه على الصغيرة و الكبيرة، و جازاه بما عمل خيرا كان أو شرّا، فليس من الضروريّ في ملاحظة عليّ و في نهجه أن تتمّ عمليّة الاحتجاج و المحاسبة و المجازاة هذه خارج نطاق الانسان نفسه. و إنّ هذه العمليّة المركّبة، الواحدة على ما فيها من تركيب، لتتمّ أبدا كما يلحظ عليّ في حدود الكائن أيّا كان. و هكذا تتمّ في ما يتعلّق بالانسان و هو أحد الكائنات. يقول عليّ: «إنّ عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم». و الرصد الرقيب. و هذا الرقيب لا يألو جهدا في أن يرى و يسجّل و يعاقب أو يثيب.

و في لحظات فذّة من تألّق العقل المكتشف و الفكر النافذ، تبدو لعيني ابن أبي طالب ألوان ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية، لا يسعك إزاءها إلاّ أن تعجب بهذا العقل و هذا الفكر. أ فلا ينطق ابن أبي طالب بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعة يقرّر هذه الحقيقة: «من أساء خلقه عذّب نفسه» ثمّ، ألا ينطق بهذين اللسانين معا إذ يقول: «يكاد المريب يقول: «خذوني» و إذ يقول أيضا: «فأكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقك رغب فإنّك تعتاض بما ابتذلت من نفسك» و مثل هذه الآيات كثير كثير. و منها هذه الروائع: «موت الانسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل» و «لا مروءة لكذوب و لا راحة مع حسد، و لا سؤدد مع انتقام، و لا صواب مع ترك المشورة». و «إذا كانت في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها»

٥٠

و هكذا أدرك عليّ بن أبي طالب أنّ الكون واحد، عادل، ثابت في وحدته و عدله، جاعل في طبيعة الكائنات ذاتها قوّة الحساب و القدرة على العقاب و الثواب. و هكذا عبّر عمّا أدركه أروع تعبير.

بيد أنّ وجوها غير هذه من وجوه العدالة الكونية تفحّصها عليّ و ضبط أشكالها و ألوانها. فما هي هذه الوجوه؟

٥١

الحنان العميق

و آدرك علي ان منطق الحنان أرفع من منطق القانون، و أن عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات، إنما هو حجة الحياة على الموت، و الوجود على العدم و لم يكن موقف عليّ من المرأة ذلك الموقف الذي صوّروه إذا كان من عدالة الكون و تكافؤ الوجود أن تلتقي على صعيد واحد بوارح الصيف و معصرات الشتاء، و أن تفنى في حقيقة واحدة السوافي و الأعاصير و النّسيمات اللّينات، و أن تحمل الطبيعة بذاتها، بكلّ مظهر من مظاهرها، قانون الثواب و العقاب، فمن هذه العدالة أيضا و من هذا التكافؤ أن تتعاطى قوى الطبيعة و تتداخل سواء في ذلك عناصر الجماد و عناصر الحياة. و سواء في ذلك ما انبثق عن هذه أو انسلخ عن تلك.

و لما كانت صفات الانسان و أخلاقه و ميوله و أحاسيسه منبثقة عن عناصر الحياة التي تتّحد فتؤلّف ما نسميه شخصية الإنسان، فهي متعاطية متداخلة، تثبت ذلك الملاحظة الطويلة و الموازنة الدقيقة ثمّ قواعد العلم الحديث الذي لاحظ و وازن و أرسى مكتشفاته على أسس و أركان.

و قد مرّ معنا أنّ الانسان في مذهب عليّ بن أبي طالب هو الصورة المثلى للكون الأمثل.

و ممّا يعزى إليه هذا القول يخاطب به الانسان: «

و تحسب أنّك جرم صغير *** و فيك انطوى العالم الأكبر

٥٢

فمن الطبيعيّ في مثل هذه الحال أن يلحّ عليّ في طلب كلّ ما يتعلّق بالانسان ممّا يطاله زمانه و إمكانات عصره. و من الطبيعيّ كذلك أن يلحّ في الكشف عمّا في هذا «الجرم الذي انطوى فيه العالم الأكبر» من مظاهر العدالة الكونية و تكافؤ الوجود ضمن الإطار الذي دارت آراؤه فيه.

أحسّ عليّ إحساسا مباشرا عميقا أنّ بين الكائنات روابط لا تزول إلاّ بزوال هذه الكائنات. و أنّ كلّ ما ينقص هذه الروابط ينقص من معنى الوجود ذاته. و إذا كان الانسان أحد هذه الكائنات، فإنّه مرتبط بها ارتباط وجود. و إذا كان ذلك و هو كائن فإنّ ارتباط الكائن بشبيهه أجدر و أولى. أمّا إذا كان هذا الكائن من الأحياء، فإنّ ما يشدّه إلى الأحياء من جنسه أثبت و أقوى. و أما الانسان رأس الكائنات الحيّة فإنّ ارتباطه بأخيه الانسان هو الضرورة الأولى لوجوده فردا و جماعة.

و حين يقرّر عليّ أنّ المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها و أشرف أشكالها، إنّما يسن قانونا أو ما هو من باب القانون. و لكنّ هذا القانون لا ينجلي في ذهنه و لا يصبح ضرورة، إلاّ لأنه انبثاق طبيعيّ عمّا أسميناه روح العدالة الكونية الشاملة، التي تفرض وجود هذا القانون. لذلك نرى ابن أبي طالب ملحّا شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين، و على رعايتها بما هو أسمى منها: بالحنان الانساني.

و ما يكون الحنان إلاّ هذا النزوع الروحيّ و الماديّ العميق إلى الاكتمال و السموّ. فهو بذلك ضرورة خلقيّة لأنه ضرورة وجودية.

الصفحة الأولى التي ينشرها عليّ من صفحات الحنان تبدأ بأن يذكّر الناس بأنهم جميعا إخوة فينعتهم ب «إخواني» نعتا صريحا و هو أمير عليهم. ثم يردف ذلك بتذكير الولاة بأنهم إخوان الناس جميع الناس، و بأنّ هذا الإخاء يستلزم العطف بالضرورة، قائلا إلى أمرائه على الجيوش: «فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره فضل ناله، و لا طول خصّ به، و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده و عطفا على إخوانه». و ما يذكره لنفسه و للولاة بأنّهم و الناس إخوان بالمودّة و الحنان، يعود فيقرّره بحكمة شاملة يتّجه بها الى البشر جميعا دون تفرقة أو تمييز، قائلا: «و إنما أنتم إخوان ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر و سوء الضمائر». و هو بذلك يضع خبث السريرة و سوء الضمير في طرف، و حنان القلب و مودّة النفس في طرف آخر. و لمّا كان من الحقّ الوجوديّ للإنسان أن

٥٣

ينعم بحنان الانسان، فإنّ الطبيعة التي تحمل بذاتها القيم و المقاييس لا بدّ لها من التعويض على صالح ضيّعه الجيران و الأقربون و الأهل فما لفّوه برداء من حنان، بعطف و حنان كثيرين يأتيانه من الأباعد، فيقول عليّ: «من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد» و هو في سبيل رعاية هذه الأخوّة القائمة بالحنان الانساني، لا يقبل حتى بالهنات الهيّنات لأنّ فيها انحرافا مبدئيا عن كرم الحنان: «أمّا بعد، فلو لا هنات كنّ فيك لكنت المقدّم في هذا الأمر».

و إذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يحارب المتآمرين به، فإنّه لا يفعل إلاّ بعد أن يراعي كلّ جوانب الحنان في نفسه و قلبه، و بعد أن يستشير كلّ روابط الإخاء البشريّ في نفوس مقاتليه و قلوبهم. و هو إن فعل في خاتمة الأمر فإنّما يفعل مكرها لا مختارا، حزينا باكيا لا فرحا ضاحكا، فإذا شعوره بالنصر بعد القتال آلم و أوجع من شعور مناوئيه بالهزيمة و إذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يترك المعتدين عليه، بعد موته، بين يدي أنصاره و بنيه يقاتلونهم و يقتصّون منهم لضلال مشوا به و إليه، فإنّ الرأفة بالانسان و هي لديه وراء كلّ قانون، تحمله حملا على أن يخاطب أنصاره و بنيه بهذا القول العظيم: «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه».

و هو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعادة المرء بسعادة جاره، أي بسعادة الانسانية كلّها، لأنّ لجار المرء جيرانا، و ما يجوز عليه بالنسبة له يجوز عليهم بالنسبة لسائر الناس.

و من سعادته أيضا أن يطغى عليه هذا الحنان فإذا بأبناء الآخرين يحظون منه بالعطف الذي يحظى به أبناؤه: «أدّب اليتيم بما تؤدّب به ولدك». و أنّ يستشعر الجميع روح العدالة الأساسية التي تفوق القوانين الوضعية قيمة و جمالا لأنها تحمل الدف‏ء الانسانيّ و تصل الخلق بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون: «ليتأسّ صغيركم بكبيركم، و ليرأف كبيركم بصغيركم».

و إذا كان العجز عن إتيان المكرمات نقصا، فإنّ منطق الحنان على لسان عليّ يجعل العاجز

٥٤

عن اكتساب أخوّة الناس أكثرهم نقصا: «أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان».

و يضيف عليّ إلى هذا العجز عجزا آخر هو الميل إلى المراء و الخصومة قائلا: «إيّاكم و المراء و الخصومة» بل إنّ الأولى هو لين الكلام لما فيه من شدّ الأواصر بين القلب، منبع الحنان، و القلب: «و إنّ من الكرم لين الكلام». و ليس بين نزعات القلب ما هو أدعى إلى الراحة من شعور المرء بأنّ له في جميع الناس إخوانا أحبّاء، فإذا تألّم ابن أبي طالب من سيئات زمانه، جعل الخبز و هو آلة البقاء، و الصدق و هو ركيزة البقاء، و مؤاخاة الناس في منزلة واحدة، فقال في ناس زمانه: «يوشك أنّ يفقد الناس ثلاثا: «درهما حلالا، و لسانا صادقا، و أخا يستراح إليه».

و إذا كانت الغربة قساوة كبرى لأنها تستدعي الوحدة، فإنّ أشدّها يكون ساعة يفقد الانسان إخوانه و أحبّاءه لأنه يفقد إذ ذاك قلوبا يعزّ بعطفها و يحيا بحنانها: «و الغريب من لم يكن له حبيب» و «فقد الأحبّة غربة».

و لا بدّ لنا أن نشير إلى موقف ابن أبي طالب من المرأة على هذا الصعيد. فالمرأة نصف الانسان، فهل يخلو هذا النصف من العطف على نصفه الآخر؟ و هل النصف الآخر مدعوّ إلى أن يجور على مقاييس العدالة الكونية القاضية بحنان الانسان على الانسان؟

لقد أوّل الكثير بعض أقوال عليّ في المرأة تأويلا شاؤوا به الطرافة و الترفيه فوق ما شاؤوا به أن يبرزوا موقف عليّ منها. فألحّوا على كلمات له قالها في ظروف كان أبرز ما فيها عداء امرأة معيّنة له و هو لم يسى‏ء و لم يأمر إلاّ بمعروف. و فاتهم أنّ مثل هذه الأقوال الخاضعة لظرف محدود بذاته، و الرامية إلى إيضاح الأسباب في صراع بين عقليتين مختلفتين كلّ الاختلاف، إنّما قال في بعض الرجال أشدّ منها و أقسى. و هو بذلك لا يعني الرجال قاطبة و في كلّ حالاتهم. كما أنه، حين أطلق تلك الأقوال في المرأة، لم يكن ليعني النساء قاطبة و في كل حالاتهن. فإن مسبّبي الويلات التي ألمّت به و بالخير عن طريقه، تعرّضوا لمثل هذه الأقوال سواء أ كانوا رجالا أو نسوة لهنّ قوة الرجال و نفوذهم. و هو إن هاجم هؤلاء و هؤلاء من نسوة و رجال، فإنّما كان يهاجم فيهم مواقف معيّنة وقفوها من الحقّ و العدل و أصحابهما. و في ذلك ما ينفي الادّعاء بالإساءة إلى المرأة من قبل عليّ.

و إنّي لأسأل من يعنيهم الأمر أن يوافوني بكلمة واحدة يسي‏ء بها عليّ إلى المرأة و لم تكن

٥٥

موجّهة إلى إنسان معيّن في ظرف معيّن، أو من وحي هذا الانسان في هذا الظرف لقد هاجم المرأة عند ما كانت سببا في الفتنة، و هاجم الرجل في مثل هذه الحال. فهو بذلك يهاجم الفتنة و حسب أمّا موقف عليّ من المرأة كإنسان، فهو موقفه من الرجل كإنسان، لا فرق في ذلك و لا تمييز. أ و ليس في حزنه العميق على زوجه فاطمة و قد توفّيت، دليل على إحساسه بقيمة المرأة كإنسان له كلّ حقوق الانسان و عليه كلّ واجباته، و في أساس هذه الحقوق و الواجبات أن ينعم بالحنان الانسانيّ و ينعم به الآخرين؟

أ و لم يكن الناس في الجاهلية و بعد الجاهلية يتفاءلون بمولد الذكر و يفرحون، و يتشاءمون بمولد الأنثى و يحزنون أ و لم يكن موقف الفرزدق تعبيرا عن نظرة عصره إلى المرأة، و هو عصر متّصل بزمن ابن أبي طالب، ساعة ماتت زوجته، و كان يحبّها على ما زعموا، فقال فيها هذا القول العجيب: «و أهون مفقود، إذا الموت ناله، على المرء من أصحابه، من تقنّعا أي أنّ أهون فقيد على المرء من أصحابه و معارفه فقيد يلبس القناع، و يريد به المرأة.

فالمرأة في قلبه و على لسانه لا تستحقّ أن تبكى، و لا أن يحزن عليها. لما ذا؟ لا لشي‏ء إلاّ لأنها امرأة و عليّ، أ لم يكن من أبناء ذلك الزمان؟ و لكنّه كان أنفذهم تفكيرا و أشرفهم نظرا و أعمقهم إحساسا، فقال في جملة ما قال بهذا الشأن متلوّما على أصحاب تلك العقلية الرعناء: «و إن بعضهم يحب الذكور و يكره الإناث الخ». إذن، فالذكور و الإناث بمنزلة واحدة عند عليّ تجمعهم صفة الانسان و حسب.

أضف إلى ذلك أن عليا الذي يعطف على الناس عموما، و على الضعفاء منهم خصوصا، يفرض على الخلق الكريم أن يكون أشدّ حنانا على المرأة لأنها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة، فيقول: «و انصروا المظلوم و خذوا فوق يد الظالم المريب و أحسنوا إلى نسائكم». و يقول في مكان آخر: «آمركم بالنهي عن المنكر و الإحسان الى نسائكم».

٥٦

و يتابع ابن أبي طالب حلقات هذا المسلك المتماسك في دعوته إلى أن يلتفّ الناس جميعا، ثم الناس و سائر الكائنات، بدف‏ء الحنان، فيقول في العلم و قد عرفنا قيمة العلم في مذهبه: «رأس العلم الرفق». و هو لا يرى في كثرة الذنوب ما يهول أكثر من أنها مدعاة إلى القسوة بحكم تعوّدها، و من ثمّ فهي سبب في نفور بارد يحلّ في القلوب محلّ حنان دافى‏ء، فيقول: «ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب، و ما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب» و إذا لم تكن من أهل الذنوب فأنت من أهل الحنان و من حقك أن تبذل بهذا الحنان كلّ ما تملك لنصرة أخيك الانسان: «فإن كنت من أخيك على ثقة فابذل له مالك و يدك، و أعنه، و أظهر له الحسن».

و أخيرا يطلق عليّ مجموعة من الأقوال تدور في مدار الدعوة إلى تفاني الناس في الناس عطفا و حنانا. و هي تعتبر بحقّ من أسمى ما يملكه الانسان من تراث خلقيّ عظيم. و منها هذه الروائع: «صل من قطعك و أعط من حرمك. أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك. أحسن إلى من أساء إليك. عودوا بالفضل على من حرمكم الخ....» و إنجازا لهذه الدعوة الكريمة يشرك ابن أبي طالب البهائم و البقاع و الناس في حقّ لها مشترك في الحنان فيقول: «اتّقوا اللّه في عباده و بلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع و البهائم» و هكذا، فإنّ عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات إنّما هو حجّة الحياة على الموت، بل هو إرادة من إرادة الوجود العادل

٥٧

صدق الحياة

و هذا الصدق عهد منك و عليك، لأنه روح الجمال و الحق، و إرادة الحياة القادرة الغلاّبة لعلّ أبرز مظاهر العدالة الكونية في عالم الجماد و عالم الحياة، و في كل ما يتّصل بطبيعة الوجود و خصائص الموجودات، هو الصدق الخالص المطلق. فعلى الصدق مدار الأرض و الفلك و الليل و النهار. و بالصدق وحده تتلاحق الفصول الأربعة و يسقط المطر و تسطع شمس. و به كذلك تفي الأرض بوعدها حين تنبت ما عليها كلاّ في حينه لا تقديم و لا تأخير. و به تقوم نواميس الطبيعة و قوانين الحياة. و الريح لا تجري إلا صادقة، و الدماء لا تطوف العروق إلا بصدق، و الأحياء لا يولدون إلا بقانون صادق أمين.

هذا الصدق الخالص المطلق الذي تدور عليه قاعدة البقاء، هو الينبوع الأول و الأكبر الذي تجري منه عدالة الكون و إليه تعود و لمّا كان عليّ بن أبي طالب شديد الملاحظة لصدق الوجود، شديد التفاعل معه، فقد جعل من همّه الأوّل في الناس تهذيب الناس استنادا إل ما يعقل و يحسّ و يرى.

و التهذيب في معناه الصحيح و مدلوله البعيد ليس إلاّ الاحساس العميق بقيمة الحياة و شخصيّة الوجود. و لمّا كان هذا المعنى هو المعنى الأوحد للتهذيب العظيم، كان الصدق مع الذات و مع كلّ موجود مادّي أو معنويّ، هو المحور الذي يدور عليه التهذيب، كما رأيناه محور العدالة الكونية. و بذلك ينتفي من التهذيب السليم كثير من القواعد التي تواطأ عليها

٥٨

البشر دونما نظر في نواميس الوجود الكبرى، و هم يحسبون أنّها قواعد تهذيبيّة لمجرّد اتّفاقهم عليها. و بذلك أيضا ينتفي من التهذيب السليم كلّ ما يخالف روح الحقّ و روح الخير و روح الجمال. و التهذيب على غير أصوله الكبرى تواطؤ سطحيّ على الكذب القبيح. و هو على أصوله البعيدة إحساس عميق بالصدق الجميل، ممّا يجعله اندماجا خالصا بثوريّة الحياة الجارية الفاتحة.

لذلك كان مدار التهذيب عند ابن أبي طالب، حماية الانسان من الكذب، أو قل حمايته و هو حيّ من برودة الموت و حماية الانسان من الكذب تستوجب أوّل الأمر تعظيم الصدق نصّا مباشرا في كلّ حال، و إبرازه ضرورة حياتيّة لا مفرّ منها لكلّ حيّ، و توجيه الناس نحوه أفرادا يخلون إلى أنفسهم أو يعيشون جماعات. و في هذا الباب يبرز عليّ بن أبي طالب عملاقا يرى ما لا يراه الآخرون، و يشير إلى ما يجهلون، و يعمل ما لا يستطيعونه الآن و يريدهم أن يستطيعوه.

يقول عليّ: «إيّاكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها و اجعلوا اللسان واحدا». و تهزيع الشي‏ء تكسيره. و تصريفه قلبه من حال إل حال. يريد بذلك تذكير الصادق بالخطر الذي يتعرّض له صدقه إن هو كذب و لو مرّة واحدة. فالصادق إذا كذب مرة انكسر صدقه كما ينكسر أيّ شي‏ء وقع على الأرض مرة واحدة. و كذلك النفاق و التلوّن فهما لونان من ألوان الكذب. و يقول أيضا: «و كونوا قوما صادقين. و اعملوا في غير رياء. و أعزّ الصادق المحقّ و أذلّ الكاذب المبطل. و اصدقوا الحديث و أدّوا الأمانة و أوفوا بالعهد.

من طلب عزا بباطل أورثه اللّه ذلا بحق. إن كنت صادقا كافيناك و إن كنت كاذبا عاقبناك.

إنّ من عدم الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه. ما السيف الصارم في كفّ الشجاع بأعزّ له من الصدق». و ما هذه الآيات في الصدق إلاّ نماذج من مئات أخريات يؤلف ابن أبي طالب بها أساس دستوره الأخلاقي العظيم.

ثم اليك هذه الآية التي يكثر في نسجها نصيب العقل النافذ الواعي. يقول: «الكذب يهدي الى الفجور». و لسنا في حاجة الى الإسهاب في إظهار ما تخفي هذه الكلمة من حقيقة تجرّ وراءها سلسلة لا تنتهي من الحقائق. كما أننا لسنا في حاجة الى الإسهاب في تصوير ما تشير إليه من حقيقة نفسية لا تزيدها الأيام إلا رسوخا. و مثل هذه الآية آيات، منها: «لا يصلح الكذب في جد و لا هزل، و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثم لا يفي له» أما المعنى

٥٩

الذي يشير اليه الشق الأول من هذه الآية العلوية، فقد كان موضوع جدل كثير بين فلاسفة الأخلاق و لا سيما الأوروبيين منهم. و الواقع أن هؤلاء أجمعوا على أن الصدق حياة و الكذب موت. غير انهم اختلفوا في هل يجوز الكذب في حالة الضرورة أم لا؟

فمنهم الموافق و منهم المخالف. و لكلّ من الفريقين حجته.

أمّا عليّ بن أبي طالب، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته، موقفا حاسما ينسجم مع مذهبه العظيم في الأخلاق، هذا المذهب الذي نعود فنذكّر القارى‏ء بأنه منبثق عمّا أحسّه عليّ و وعاه من عدالة الكون الشاملة، فيقول غير متردّد: «علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، و أن لا يكون في حديثك فضل عن عملك» و من الواضح ان ابن أبي طالب لا يرى أن في الكذب ما ينفع و أن في الصدق ما قد يضرّ، فيتحدث الى الناس في نطاق من مدى تصوّرهم ليبلغ كلامه منهم مبلغا ذكيا.

و تأكيدا لذلك يقول: «عليك بالصدق في جميع أمورك». و يقول أيضا: «جانبوا الكذب فإن الصادق على شفا منجاة و كرامة، و الكاذب على شفا مهواة و هلكة» أمّا المعنى الذي يذكره الشقّ الثاني من العبارة: «و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثم لا يفي له»، فالتفاته عظيمة إلى حقيقة تربويّة تقرّرها الحياة نفسها، كما تقرّرها الأصول النفسية التي ينشأ عليها المرء و يتدرّج. و يكفيك منها هذه الاشارة إلى أن الطفل يتربّى بالمثل لا بالنصيحة.

و هذا الرأي هو محور فلسفة جان جاك روسّو التربويّة و الصدق مع الحياة يستلزم البساطة و ينفر من التعقيد، لأن كل حقيقة هي بسيطة بمقدار ما الشمس ساطعة و الليل بهيم. و دلالة على هذه البساطة الدافئة لأنها انبثاق حيّ و عفوي عن الصدق، نقول إن ابن أبي طالب كره التكبّر لأنه ليس طبعا صادقا بل الكبر هو الصدق، فإذا بالمتكبر في رأيه شخص يتعالى على جبلته ذاتها. يقول: «لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه». و هو في الوقت نفسه يكره التواضع إذا كان مقصودا فإنه عند ذاك لا يكون طبعا صادقا بل الشعور بأن الانسان مساو لكل إنسان في كرامته هو الصدق. لذلك يخاطب من يقوده تواضعه إلى أن يذلّ نفسه، قائلا له: «إياك أن تتذلّل للناس». ثم يردف ذلك بقول أروع: «و لا تصحبنّ في سفر من لا يرى لك من الفضل عليه مثل ما ترى له من الفضل عليك»

٦٠