روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة0%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة

مؤلف: جرج جرداق
تصنيف:

الصفحات: 237
المشاهدات: 105026
تحميل: 5921

توضيحات:

روائع نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105026 / تحميل: 5921
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

و إني لا أعرف في مبادى‏ء المحافظين على كرامة الانسان كإنسان لا يتكبر و لا يتواضع بل يكون صادقا و حسب، ما يفوق هذه الكلمة لابن أبي طالب أو ما يساويها قيمة: «الإنسان مرآة الانسان» و من أقواله الدالّة على ضرورة أخذ الحياة أخذا بسيطا: «ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى. الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق و التقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. لا تقل ما لا تعلم. لا تعمل الخير رياء و لا تتركه حياء. يا ابن آدم، ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك. لا ينصت للخير ليفخر به، و لا يتكلّم ليتجبّر على من سواه. من حمّل نفسه ما لا يطيق عجز. لا خير في معين مهين». و كأنّي بابن أبي طالب لا يترك جانبا ممّا وعاه فكره و شعوره و أمور الحياة و الانسان إلاّ أطلق فيه رائعة تختصر دستورا كاملا. و هذا ما فعله ساعة شاء أن يوجّه الناس إلى أخذ الحياة أخذا صادقا بسيطا، فقال هذه الكلمة الدافئة بعفويّة الحياة: «إذا طرقك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما في البيت، و لا تتكلّف لهم ما وراء الباب».

و إذ يفرغ عليّ من حديثه الكثير الدائر حول ضرورة الصدق مع الحياة بصورة مباشرة، ثم حول البساطة التي لا يكون صدق بدونها و لا تكون بغير صدق، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه و تترابط حتى لكأنّها صورة عن كلّ موجودات الكون، و التي يظلّ الصدق مدارها الأوّل و إن تناولت وجوها أخرى من وجوه الأخلاق. فيوصي بأن يتغافل المرء عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمة من المتغافل و تهذيبا للمسي‏ء بالسيرة و المثل أبلغ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء، يقول: «من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم». كما يوصي بالحلم و الأناة لأنهما نتيجة لعلوّ الهمّة ثمّ مدرجة لكرم النفس: «الحلم و الأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة». و يكره الغيبة لأنها مذهب من النفاق و الاساءة و الشرّ جميعا: «اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار». و الخديعة مثل الغيبة و كلتاهما من خبث السرائر: «إيّاك و الخديعة فإنّها من خلق اللئام». و كما رأى أنّ كذبة واحدة لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها، يرى أن كل ذنب مهما كان في زعم صاحبه خفيفا قليل الشأن إنّما هو شديد لأنه ذنب، بل إنه أشدّ وقعا على كرامة الانسان إذا

٦١

استخفّ به صاحبه، من ذنب عظيم عاد مقترفه إلى الرجوع عنه في الحال: «أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه». و ينهاك عليّ عن التسرّع في القول و العمل لأنه مدعاة إلى السقوط و على الانسان المهذّب ألاّ يبيح نفسه لأيّة سقطة: «أنهاك عن التسرّع في القول و العمل».

و هو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلّ ذنب أذنبت إصلاحا لخلقك، و لكنّه ينبّهك تنبيها عبقريّ الملاحظة و البيان إلى أنّ الانسان لا يعتذر من خير، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطرّه إلى الاعتذار: «إيّاك و ما تعتذر منه فإنه لا يعتذر من خير». و منعا للاشتغال بعيوب الناس و إغفال عيوب النفس، و في ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق و المسلك سلبا و إيجابا، يقول علي: «أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله» و «من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره».

و إذا أتى القبيح من مصدر عليك أن تنكره أوّلا، فإن لم تستطع ذلك تحتّم عليك ألاّ تستحسنه لئلاّ تصبح شريكا فيه: «من استحسن القبيح كان شريكا فيه». و إذا كان التعاطف بين الناس ضرورة أخلاقية لأنه ضرورة وجودية على ما مرّ معنا في الفصل السابق، فإنّ منطق العقل و القلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك و أحسن إليك أكثر و أوسع.

و في ذلك يقول عليّ: «لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك و بلاغة قولك على من سدّدك». ثم يقول: «و ليس جزاء من عظّم شأنك أن تضع من قدره، و لا جزاء من سرّك أن تسوءه».

و يهاجم الحرص و الكبرياء و الحسد لأنّها سبيل إلى الانحدار الخلقي: «الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التقحّم في الذنوب». و إذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفة مذمومة لذاتها. أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرة أشمل و فكر أعمق، فالبخل ليس مذموما لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها، و لدفعه صاحبه إلى كل سوءة في الخلق و المسلك. فالبخيل منافق، معتد، مغتاب، حاسد ذليل، مزوّر، جشع، أناني، غير عادل. يقول علي: «البخل جامع لمساوى‏ء العيوب».

و يطول بنا الحديث و يتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق و تهذيب النفس، فهي كثيرة لم تترك حركة من حركات الانسان إلاّ صوّرتها و وجّهتها. و إذا قلت إن مثل هذا العمل طويل واسع شاقّ فإنّي أعني ما أقول. و ما

٦٢

على القارى‏ء إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب، حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق و تهذيب النفس، و عمّا تستوجبه هذه المختارات من شرح و تعليق. و يكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الانسان، و من أعظمه اتّساعا و عمقا.

على أنه لا بد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصفه إحساسا عميقا بقيمة الحياة و كرامة النفس و كمال الوجود. و إنّ نفرا قليلا من المتفوّقين كبوذا و المسيح و بتهوفن و أشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الانسان و نفسه. و لا تكون بين الانسان و ما هو خارج عنه إلاّ انبثاقا بديهيّا طبيعيّا عن الحالة الأولى. و قد أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة إدراكا قويّا واضحا لا غموض فيه و لا إبهام. و عبّر عنها تعبيرا جامعا. يقول عليّ في ضرورة احترام الانسان نفسه و أعماله دون أن يكون عليه رقيب: «اتّقوا المعاصي في الخلوات». و يقول في المعنى ذاته: «إيّاك و كلّ عمل في السرّ يستحى منه في العلانية. و إيّاك و كلّ عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره».

و إليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ و العلانية، أو بين ما أسميناه «آية التهذيب» و ما أسميناه «انبثاقا» عنها: «من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيّته».

و من بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة: «كل على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك». و جليّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراما مطلقا غير مرهون بظرف أو مناسبة، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو الى نفسك كما تتصرف و أنت بين يدي ملك. و مثل هذا المعنى يقوله عليّ بن ابي طالب على هيئة جديدة: «ليتزيّن أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة» و هو يريدك في كلّ حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حسن إلى أحسن في الخلق و الذوق و المسلك. و لكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنصحه علنا، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّنا رفيقا فلا تنصح إلاّ خفية و لا تعظ إلاّ سرّا. يقول عليّ: «من وعظ أخاه سرّا فقد زانه، و من وعظه علانية فقد شانه».

٦٣

و أيّة كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك و الحياة و الناس. فبهذا الصدق تحيا و بغيره تهلك. و به تحفظ سلامة روحك و قلبك و جسدك. و بغيره تفقدها. و بالصدق تحبّ و تحبّ و يوثق بك، و بغيره تجلب لنفسك المقت و الكراهية و السيّئات جميعا و ير ذلك الناس تافها حقيرا. و هذا الصدق عهد منك و عليك لأنه إرادة الحياة القادرة الغلاّبة و هي إرادة تقضي عليك بأنّ تنظر في عهدك كلّ يوم. و ابن أبي طالب يقول: «على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يوم في عهده»

٦٤

خير الوجود و ثوريّة الحياة

لشدّ ما رأيناه يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة و قالت الثورة: «أنا الهادمة البانية و ليس من حقّ الوجود العادل إلاّ أن يكون خيّرا كريما. و ليس من طبيعته إلاّ العطاء. و هو لا يأخذ ما يعطيه إلاّ ليعود إلى بذله طيّبا جديدا. و خير الوجود كيان من كيانه و جوهر من جوهره. و عهد عليّ به هو هذا العهد. و إحساسه بخيره هو إحساسه بعدله لا يقلّ و لا يزيد. و على ذلك تحدّث عن هذا الخير فأكثر الحديث و قد رويناه من أقواله في خير الوجود شيئا غير قليل. و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة شيئا غير قليل. و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة قالها و كأنّه يوجز بها مذهبه المؤمن بخير الوجود: «و ليس اللّه بما سئل بأجود منه بما لم يسأل». فإذا عرفنا أنّ لفظة «اللّه» تعني في أقصى ما تعينه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية و الروحية: «مركز الوجود و الروابط الكونية، عرفنا أيّ خير شامل عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسأل ضمن شروط، ثمّ يعطيك فوق ما تسأل، ثمّ يزيد و لمّا كان الانسان الذي يحسب أنّه جرم صغير، ممثّلا لهذا العالم الأكبر على ما يقول ابن أبي طالب، فلا بدّ أن يكون هو أيضا صورة عن الوجود بخيره كما هو صورة عنه بعدله. فإذا أعطاك الوجود فوق ما تسأله من خيره، يكون قد بدأك لحاجة في طبيعته إلى أن يكون خيرا. و إذا كنت صورة عنه، فأنت أحوج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة

٦٥

إليه. و هذا ما يؤكّده عليّ بقوله هذا: «أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه» و هذا ما يؤكّده أيضا في عبارة يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس: «و الفضل في ذلك للبادى‏ء».

و إذ ننتقل إلى النظر في الخير و معناه على صعيد العلاقات بين الناس، أمكننا أن نجري آراء ابن أبي طالب في المجاري التالية: «أولا، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا و يتساندوا، و أن يعمل واحدهم من أجل نفسه و الآخرين سواء بسواء، و ألاّ يكون في هذا العمل رياء من جانب هذا و لا إكراه من جانب ذاك لكي «يعمل في الرغبة لا في الرهبة» على حدّ ما يقول عليّ، ثم أن يضحّي بالقليل و الكثير توفيرا لراحة الآخرين و اطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، و أن تأتي هذه التضحية مبادرة لا بعد سؤال و لا بعد قسر و إجبار. و كلّ ما من شأنه أن ينفع و يفيد، سواء أ كان ذلك على صعيد مادّي أو روحيّ، كان خيرا.

ثانيا، يرى عليّ أنّ الخير لا يأتي إلاّ عملا أولا، ثم قولا، لأن الانسان يجب أن يكون واحدا كالوجود الواحد، و أن يساند بعضه بعضا وفاء لهذه القاعدة، فإن قال فعل، و إن فعل قال. و من روائع ابن أبي طالب كلمة قالها في رجل يرجو اللّه في أمر و لا يعمل من أجل هذا الرجاء: «يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه كذب و العظيم ما باله لا يتبيّن رجاءه في عمله، فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله» أمّا إذا عملت خيرا، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيرا: «قل خيرا و افعل خيرا» ثالثا، يفسح عليّ في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعد ما يكون الانطلاق، و ذلك بأن يجعل قبول التوبة عن الشرّ قاعدة يعمل بها. فإذا أثم المرء مسيئا إلى الآخرين، فإنّ في التوبة بابا يلجه من جديد إلى عالم الخير إذا شاء. يقول عليّ: «إقبل عذر من اعتذر إليك، و أخّر الشرّ ما استطعت». و يعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقت بعليّ عن طريق أبي موسى الأشعري، و يعرف كذلك أنّ عليّا لا ينزع إلاّ عن مذهبه أيّة كانت الظروف و الصعوبات، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلا: «أمّا بعد، فإنّك امروء ضلّلك الهوى، و استدرجك الغرور، فاستقل اللّه يقلك عثرتك، فإنّ من استقال اللّه أقاله»

٦٦

رابعا، يؤمن عليّ بأن قوى الخير في الانسان تتداعى و يشدّ بعضها بعضا شدّا مكينا.

فإذا وجد في إنسان جانب من الخير فلا بدّ من ارتباطه بجوانب أخرى منه، و لا بدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. و في هذه النظرة إشارة صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافى‏ء عادل خيّر سواء أ كان وجودا عامّا كبيرا، أو وجودا خاصّا مصغّرا يتمثّل بالانسان: «إذا كان في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها» خامسا، و مثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة، عدوى مماثلة تنتقل من الخير الى الشر بين الناس و الناس: «جالس أهل الخير تكن منهم» و «اطلبوا الخير و أهله».

سادسا، الإيمان العميق بأنّ في طاقة الانسان أيّا كان أن ينهج نهج الخير، و أنّه ليس من إنسان أجدر من إنسان آخر بهذا النهج: «و لا يقولنّ أحدكم إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّي» سابعا، على المرء ألاّ يستكثر من فعل الخير كثيرا. بل إنّ ما يفعله من خير يظلّ قليلا مهما كان كثيرا لأنّ في الاكتفاء بقدر من الخير جحودا بخير الوجود العظيم و إنكارا لطاقة الانسان الذي ينطوي فيه العالم الأكبر. يقول عليّ في أهل الخير: «و لا يرضون من أعمالهم القليل، و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، و من أعمالهم مشفقون(١) » ثامنا، لا بدّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليّ على مفاهيم النزوع الانساني إلى ما يجعل الناس، كلّ الناس، في نعيم.

فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفكّرين الذين أعاروا شؤون الناس اهتمامهم، رأينا أنّ لفظة «السعادة» هي التي تتردّد في هذه الآثار، و أنّ مدلول هذه اللفظة إنّما، هو بالذات، مدار أبحاثهم و غاية ما يريدون. أمّا عليّ فقد استبدل بلفظة «السعادة» هذه ما هو أبعد مدى، و أعمق معنى، و أرحب أفقا، و أجلّ شأنا في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الانسانية و تصبو إليه. لقد استبدل ب «السعادة» هذه، لفظة «الخير» فما كان يوجّه القلوب إليها بل إليه. لأنّ في السعادة ما هو محصور في نطاق الفرد، و لأنّ الخير ليس

____________________

(١) من أعمالهم مشفقون: «خائفون من التقصير فيها

٦٧

بمحصور في مثل هذا النطاق. فالخير إذن أعظم ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادة و لا تحتويه، فهو أشمل أضف إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الانسان، و أنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين، و أنّهم قد يتفهون و يترهّلون و هم يحسبون أنّهم بذلك سعداء. أمّا الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن. فهو السعادة منوطة بسعادة الناس جميعا. و هو الرضى عن أحوال الجسد و العقل و الضمير لذلك أكثر عليّ من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الانسان و لم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة «السعادة» إلاّ مرّة واحدة. و لكنّه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يحمّلها من حدوده و معانيه. أمّا العبارة التي وردت فيها لفظة «السعادة» فهي هذه: «من سعادة الرجل أن تكون زوجته صالحة و أولاده أبرارا و إخوانه شرفاء و جيرانه صالحين و رزقه في بلده». فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه و جيرانه جميعا. بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستندا إلى أنها بلاد تنتج الرزق لجميع أبنائها و هو واحد منهم تاسعا، إنّ خير الوجود و خير الانسان يستلزمان، بالضرورة، الثقة بالضمير الانسانيّ ثقة تجعله حكما أخيرا في ما يضرّ و ينفع. و لنا في هذا الموضوع رأي نفصّله نقول: من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقل وحده. و منها ما يخاطب به الضمير.

و أكثرها ممّا يتوجه به إلى العقل و الضمير مجتمعين. أمّا تلك التي يخاطب بها العقل، فقل إنّها الغاية في الاصالة، و إنّها نتيجة محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ و دقّق و تمرّس بخير الزمان و شرّه، و عرف من التجارب كلّ ما يكشف له عن الحقائق و يجلّيها، فإذا هي مصوغة على قواعد هندسيّة ذات حدود و أبعاد لشدّة ما ترتبط بالحقائق، و مظهرة في أروع إطار فنّي لشدّة ما ترتبط بالجماليّة التعبيرية، مما يجعلها، من حيث المادة و الشكل، في أصول الأدب الكلاسيكي العربي.

و في هذا النوع من الحكم الموجّه إلى العقل، نرى عليّا يصوّر تاركا للناس أن يحكموا بما يرون. فيأخذوا إذا شاؤوا أو يتركوا. لذلك لا نرى في هذا النوع من الحكم صيغ الطلب. إنّما نرى حكما صيغت بقالب خبريّ خالص جرّد من صور الأمر و النهي جميعا.

٦٨

حكما تتبلور فيها طبائع الصديق و العدوّ، و المحسن و المسي‏ء، و الأحمق و العاقل، و البخيل و الكريم، و الصادق و المنافق، و الظالم و المظلوم، و المعوز و المتخم، و صاحب الحقّ و صاحب الباطل، و مفهوم الخلق السليم و الخلق السقيم، و شؤون الجاهل و العالم، و الناطق و الصامت، و الأرعن و الحليم، و صفات الطامع و القانع، و أحوال العسر و اليسر، و تقلّبات الزمان و ما لها من أثر في أخلاق الرجال، و ما إلى ذلك من أمور لا تحصى في فصل أو باب.

أمّا تلك التي يخاطب بها الضمير، و العقل و الضمير مجتمعين، فإليك ما هي و ما حولها: من الثابت أنّ الذين رأوا في الأنظمة و التشريعات وحدها سلامة الانسان و كفاية المجتمع، قد أخطأوا خطأ عظيما. فإنّ هذه الأنظمة و التشريعات التي تعلن عن حقوق الانسان و تأمر برعايتها و المحافظة عليها، لا يضبطها في النتيجة، كما لا يخلص في اكتشافها و ابتداعها، إلاّ عقل سليم و نفس مهذّبة و ضمير راق. فإنّ دنيا الناس هذه يرتبط كلّ ما فيها، ضمن حدود معيّنة طبعا، بأخلاق القيّمين على دساتيرها و انظمتها، و بمدى الخير الذي يتّسع في نفوسهم أو يضيق، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعة التي تؤلّف ميدان هذه الأنظمة و الدساتير و تبرّر وجودها. هذا، مع الاعتراف بأنّ الأنظمة الاجتماعية الحديثة تتفاوت تفاوتا عظيما في سماحها للقيّمين عليها بمسايرتها أو بالخروج عليها. و ذلك بحكم طبيعتها و بنسبة ما تحويه أصولها من إمكانات التنفيذ. أمّا الإنظمة و الدساتير القديمة، فقد كانت أكثر تأثّرا بأخلاق القيّمين عليها المشرفين على إقامة ما تقتضيه من حدود.

و لذلك أسباب ليست من موضوع حديثنا هذا.

و بالرغم من أنّ الأنظمة و التشريعات الصالحة من شأنها أن توجّه الناس و تفرض عليهم ما يؤدي إلى نفعهم فرضا، فإنّ هذا التوجيه و هذا الفرض يظلاّن خارج حدود القيمة الانسانية إن لم يوافقهما العمل النابع من الوجدان بالذات. و في مذهبنا أنّ كلّ عمل يأتيه الانسان لا بدّ أنه فاقد الدف‏ء الانسانيّ، و هو أثمن و أعظم ما يوافق الصنيع الانساني، إن لم يحمل وهج الضمير و عبق النفس و إرادة العطاء على غير قسر و إكراه. و لا تنجح الأنظمة

٦٩

و التشريعات في إقامة العلاقات الانسانية إلاّ بمقدار ما يمكنها أن تتوجّه إلى العقل و الضمير فتقنعهما بالخير، فتخلق الانسجام الرائع بين إتاحة الفرصة للعمل النافع و إرادة العامل في وحدة تكفل للفرد و للجماعة الصعود في طريق الحضارة.

و ما يصدق، بهذا الصدد، في نطاق الأفراد و الجماعات، يصدق كذلك في تاريخ المفكّرين و المتشرعين و العلماء و المكتشفين و من إليهم. فإنك لترى، إذا أنت استعرضت تاريخ هؤلاء الذين خدموا الانسان و الحضارة، أنّ العقل الذي دلّهم على الطريق الصحيح في كلّ ميدان، لم يكن وحده في تاريخهم. فالعقل بارد، جافّ، لا يتعرف إلاّ إلى الأرقام و الأقسام و الوجوه ذات الحدود. فهو لذلك يدلّك على الطريق و لكنّه لا يشدّك إلى سلوكه و لا يدفعك في سهله و وعره. أما الدافع، فالضمير السليم و العاطفة الحارة. فما الذي حمل ماركوني على العزلة القاسية و الانفراد الموحش الكئيب، إن لم يكن الضمير الذي يحسّن له الانصراف عن مباهج الحياة الى كآبة الوحدة في سبيل الحضارة و الانسان؟

و إن لم يكن العاطفة التي تغمر هذا الضمير السليم بالحرارة و الدف‏ء فلا يفتر أبدا.

و ما يقال في ماركوني يقال في باستور، و غاليليو، و غاندي، و بتهوفن، و بوذا، و أفلاطون، و غيتي، و في غيرهم من أصحاب المركّب الانساني القريب من الكمال.

و الدليل الإيجابي على هذه الحقيقة يستتبع دليلا سلبيا لزيادة الايضاح. فهذا ادولف هتلر، و جانكيزخان، و هولاكو، و الحجاج بن يوسف الثقفي، و قيصر بورجيا بطل كتاب «الأمير» المشؤوم لمكيافيللي(١) ، و بعض علماء الذرة المعاصرين الذين يوافقون

____________________

(١) مكيافيللي: «نابغة ايطالي عاش في عصر الرسام العظيم رافاييل، و كان صديقا له و معينا.

و قد دفعه عقله الفذّ و خلقه الكريم الى مهاجمة أساليب الظلم و البربرية عند حكام التاريخ، فألف كتابه الشهير «الامير» الذي يصف فيه وقاحة أولئك الحكام، و شخصياتهم المبتذلة، بطريقة غير مباشرة اذ دفع الى الناس صورة عن شخصية الامير الذي يخلو من كل ضمير و كل عقل و كل ذوق و يلجأ لشتى وسائل العنف في التقتيل و الترويع و التشريد و سائر الفظائع تثبيا لمركزه.. مشيرا إلى أنّ امارات التاريخ و العصر الذي هم فيه انما «تركزت» على هذا الاسلوب السمج. و قد أخذ مكيافيللي صفات «الامير» في كتابه هذا من شخصية قيصر بورجيا ابن اسكندر بورجيا، صاحب المظالم المعروفة. و يطلق على المبدأ القائل باللجوء الى هذا الاسلوب توسّلا الى الحكم ثم الى تركيزه، اسم المكيافيلية، نسبة لمكيافيللي صاحب الكتاب.

٧٠

على تجربتها على الآدميين، أ لم يتميز هؤلاء جميعا بعقول واسعة و مدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين؟ و مع ذلك، فما كان من شأنهم إلا التقتيل و التدمير و الاعتداء على مقدسات الحضارة و مخلّفات الجهود الانسانية، و على كرامة الحياة و الأحياء و خير الوجود ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة و العواطف الكريمة فحيث لا ضمير و لا عاطفة، لا نفع من العقل، بل قل إنه إلى المضرّة أقرب.

و لا أريد هنا التفصيل بين مختلف قوى الانسان من عاطفة و ضمير و عقل و ما إليها، فهي و لا شكّ تتفاعل و تتعاون. غير أنّ ما أردته بالعقل هو القوّة التي تعقل الأمور على صعيد يربط السبب بالنتيجة و يحكم بين العلّة و المعلول، فيدور في نطاق من الأرقام و الحدود التي لا تتأثّر، بحدّ ذاتها، بالبيئة الانسانية الخاصّة و العامّة. و على هذا الضوء أجزت هذا التفصيل.

إذن، فالعقل المكتشف لا بدّ لصاحبه من ضمير و عاطفة يدفعانه في طريق الخير.

و ما يصحّ بهذا الشأن في المشترع يصحّ في المشترع له. فالأفراد الذين يطلب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخيّر أو ذاك، لا بدّ لهم من اقتناع وجدانيّ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرّد، يدفعهم في طريق التهذيب الانسانيّ الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لا بدّ لهم من التمرّس بالفضائل الأخلاقيّة التي تحيط الأنظمة و التشريعات بحصون رفيعة منيعة.

لا بدّ لهم من أن يكونوا خيّرين لذلك راح عليّ يحرّك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا، و يوقظ فيهم ما غشّته الأيام من الضمائر السليمة. و يعمل على إنمائها و ينصح برعايتها.

توجّه عليّ إلى الضمائر بتوصياته و خطبه و عهوده و أقواله جميعا. لأنه لم يفته أنّ لتهذيب الخلق شأنا في رعاية النظم العادلة، و في بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس. و لم يفته كذلك، أن هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية، كما يطلب لحماية العدالة الاجتماعية و سننها بما هو ضبط لنوازع و توجيه لأخرى. و قد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفرادا و جماعات، فيدرك ميولهم و أهواءهم، و يعرف طباعهم و أخلاقهم، فيزن خيرها و شرّها، ثم يصوّر، و يطوّر، و يأمر و ينهى، على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الانساني الذي يتوجه اليه.

٧١

كانت ثقة ابن أبي طالب بالضمير الانساني ثقة العظماء الذين تآلف فيهم العقل النيّر و القلب الزاخر بالدف‏ء الانساني، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدودا.

كانت ثقته بهذا الضمير ثقة بوذا و بتهوفن و روسّو و غاندي و سائر العظماء الذين مدّهم القلب بنور يخبو لديه كلّ نور. و على أساس هذه الثقة أرسى ابن أبي طالب حكمه و أمثاله، و على أساسها تترابط الأفكار و التوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس.

و إذا كان للإمام علي مثل هذه الثقة بنواحي الخير في الناس، على ما مني به على أيديهم من نكبات و فواجع، فإنه يأبى إلاّ أن يلقي بذور هذه الثقة في قلوبهم جميعا. فهو يعرف «أنّ في أيدي الناس حقّا و باطلا، و كذبا و صدقا». و لكنّ الأولى بالمرء أن يفتح عينيه و قلبه على نواحي الخير هذه، فلعلّها هي التي تنمو دون نواحي الشر. و لعلّ التعليم بالمثل و السيرة يكون أجلّ و أجدى. و قد طالما كرّر عليّ وصاياه بضرورة هذه الثقة بالضمير الانساني، و في جملة ما يقوله: «من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنه». و يقول في مكان آخر: «لا تظننّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا» و «ليس من العدل القضاء بالظنّ على الثقة» و «و إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر منه خزية، فقد ظلم» و «أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنّه، و لم يثق به أحد لسوء فعله» و قد أخطأ دارسو الإمام عليّ ساعة رأوا أنه متشائم بالناس شديد التشاؤم، متبرّم بهم كثير التبرّم. و ساعة احتجّوا لرأيهم هذا بأقوال له يهاجم بها أبناء زمانه بشدّة و عنف.

أمّا رأينا نحن فعلى العكس من ذلك تماما. رأينا أنّ عليّا لم ينقض ثقته بالانسان ساعة واحدة و إنّ نقضها ببعض الناس في بعض الظروف. فمن عرف طاقة ابن أبي طالب على احتمال المكاره تأتيه من الناس، و جلده العجيب في مقاساة الأهوال الناجمة عن الغدر و الخيانة و الفجور في الكثير من خصومه و أنصاره، ثم ما كان من أموره معهم جميعا إذ يأخذهم بالرفق و العطف ما أمكنه أن يرفق و أن يعطف، أقول: «من عرف ذلك أدرك أنّ عليّا عظيم التفاؤل بحقيقة الانسان، و بفطرته التي أضلّها المجتمع في بعض أحواله. لا يختلف في ذلك عن أخيه العظيم روسّو.

٧٢

و إذا كان له في ذمّ أهل الخيانة و الغدر و الظلم قول كثير، فما ذاك إلاّ لأنه يعترف، ضمنا، أنّ الانسان ممكنا إصلاحه و لو طال على ذلك الزمن. فإنّ المتفائل وحده هو الذي يزجر المسي‏ء كما يثيب المحسن أملا منه بتقويم الاعوجاج في الخلق و المسلك. و لو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مكاره الدهر التي جرّها عليه المسيئون، و لما صبر على ما يكره و هو إن قال في الدنيا و أهلها: «فإنّما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية، يهرّ بعضها بعضا، و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها»، فإنّما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين و فجور الفاجرين ما آلمه و آذاه. فوبّخهم هذا التوبيخ الموجع إيثارا منه لمن لا يفجر و لا يغدر و لا يكون كلبا عاويا و لا سبعا ضاريا و لا عزيزا يأكل ذليلا أو كبيرا يقهر صغيرا يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري و العزيز الظالم و الكبير الجائر كما يحارب الطبيب الجراثيم إيثارا منه لسلامة البدن و الروح، بل إيثارا منه للحياة على الموت، و تفاؤلا بحسن النجاة إذن، فالإمام عليّ، و هو الذي يحترم الحياة: «أعظم ما خلق اللّه، و يحترم الناس الأحياء: «أجمل نماذج هذه الحياة، عظيم الثقة بالخير الانساني. عظيم التفاؤل بالانسان يريده حرّا كما يجب أن يكون و لو لا هذه الثقة و هذا التفاؤل لما كان من أمره من الناس ما كان، و لما قال: «لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا» ثمّ لما توجّه إلى الضمير الفرديّ و الجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم و حرارة العاطفة الى سموّ الغاية و نبل المقصد. هذه الوصايا التي أرادها حصنا منيعا للأخلاق العامّة، و العاطفة الانسانية، و تركيز العمل النافع على أسس الايجابية في العقل و الضمير. و استنادا الى هذه الثقة بالضمير الانساني، و تحصينا للعمل الخيّر الشريف، نراه يقيم على الناس أرصادا من أنفسهم و عيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا: «اعلموا أن عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم» و استنادا إلى هذه الثقة بخير الوجود و عدله، و إلى عظمة الحياة و الأحياء، يخاطب عليّ ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أنّ الحياة حرّة لا تطيق من القيود إلاّ ما كان

٧٣

سببا في مجراها و واسطة لبقائها و قبسا من ضيائها و ناموسا من نواميسها. و أنّها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس. فعليهم ألاّ يحاولوا غلّها و تقييدها و إلاّ أسنت و انقلبت إلى فناء.

فالحياة جميلة، كريمة، حرّة، خيّرة كالوجود أبيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.

و هي متجدّدة أبدا، متطوّرة أبدا، لا ترضى عن تجدّدها و تطوّرها بديلا و هما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيرا أكثر و بقاء أصلح. و ملاحظة ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة و نواميسها و هي أعظم موجودات الوجود الخيّر، مكّنت في نفسه الايمان بثوريّة الحياة المتطلّعة أبدا إلى الأمام، المتحرّكة أبدا في اتّجاه الخير الأكثر. و ثورية الحياة أصل تحرّكها و سبب تطوّرها من حسن إلى أحسن. و لهذا كانت الحياة حرّة غير مقيّدة إلاّ بشروط وجودها. و ثوريّة الحياة أصل تحرّك المجتمع الانساني و سبب تطوّره. و لو لا هذه الخاصّة لكانت الحياة شيئا من الموت و الأحياء أشياء من الجماد.

آمن ابن أبي طالب بثوريّة الحياة إيمانا أشبه بالمعرفة، أو قل هو المعرفة. فترتّب عليه إيمان عظيم بأنّ الأحياء يستطيعون أن يصلحوا أنفسهم و ذلك بأن يماشوا قوانين الحياة.

و يستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم و ذلك بأن يخضعوا لعبقريّة الحياة. و قد سبق أن قلنا في حديث مضى إنّ ثوريّة الحياة ألصق مزايا الحياة بها و أعظمها دلالة على إمكاناتها العظيمة. و هي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساس من الثقة المطلقة بالتطوّر المحتوم، و أن ينبّهوا الخواطر إليه، و أن يستخدموا الدليل و البرهان في زجر المحافظين عن كلّ تصرّف غبيّ يتوهّم أصحابه أنّهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطوّرة بثورتها.

بهذه الثقة و بهذا الايمان خاطب ابن أبي طالب الانسان بقوله: «فإنك أوّل ما خلقت جاهلا ثمّ علّمت، و ما أكثر ما تجهل من الأمر، و يتحيّر فيه رأيك، و يضلّ فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك» ففي هذا القول اعتراف بأنّ الحياة متطوّرة، و أنّ التعلّم إنّما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها، على ما قلنا سابقا. و فيه إيمان بالقابلية الانسانية العظيمة للتقدّم، أو قل للخير. و ما دعوته الحارّة إلى المعرفة التي تكشف كلّ

٧٤

يوم عن جديد، و تبني كلّ يوم جديدا، إلاّ دليل عن الايمان بثوريّة الحياة الخيّرة و إمكانات الأحياء. فالمعرفة لديه كشف و فتح لا يهدآن.

و هو بهذا الايمان و هذه الثقة يخاطب أبناء زمانه يقول: «لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». فلو لا تفاؤله العظيم بأنّ في الحياة جمالا، و بأنّ في الناس قابليّة التطوّر إلى الخير، لما أطلق هذا القول الذي يوجز علمه بثوريّة الحياة، و يوجز تفاؤله بإمكانات الانسان المتطوّر مع الحياة، كما يوجز روح التربية الصحيحة، و يخلّص كلّ جيل من الناس من أغلال العرف و العادة التي ارتضاها لنفسه جيل سابق.

و لابن أبي طالب في هذا المعنى قول كثير منه هذه الآيات الخالدة التي يمجّد بها العمل بوصفه حقيقة و ثورة و خيرا: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» و «قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه» و «اعلموا أنّ الناس أبناء ما يحسنون» و «لكلّ امرى‏ء ما اكتسب».

و من أقواله ما يدفع به المرء إلى أن يطلب التقدّم بالعمل، و ألاّ يحجم أو يتراجع إذا هو أخفق كثيرا أو قليلا، لأنّ الوجود الخيّر لا يحرم أبناءه ما يستحقّون. و إذا هو حرمهم فبعض الحرمان لا كلّه. و قد يسوّى الأمر في دفعة ثانية من الطلب بواسطة العمل. و من قوله في ذلك هذه الآية: «من طلب شيئا ناله أو بعضه». و أظن أن القارى‏ء فطن الى روح هذه العبارة التي تتألق و كأنها انبثاق عن كلمة المسيح الشهيرة: «إقرعوا إقرعوا يفتح لكم».

و لعلّ أجمل ما في المذهب العلويّ بهذا الشأن، أنّ صاحبه كان يوحّد ثوريّة الحياة و خير الوجود نصّا كما كان يوحّدهما روحا و معنى. فلشدّ ما نراه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى خير الوجود توحيدا لا يجعل هذا شيئا من تلك، و لا تلك شيئا من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة. و إن في آياته هذه لدليلا كريما على صحة ما نقول فليس فيها ما يحتاج إلى شرح أو تعليق. و إليك نموذجا عنها: «العاقل من كان يومه خيرا من أمسه» و «من كان

٧٥

غده شرّا من يومه فهو محروم» و «من اعتدل يوماه فهو مغبون». و أخيرا إليك هذه الرائعة التي تجمع كلّ ما نحن بصدده الآن، إلى دف‏ء الحنان العميق، إلى جمال الفن الأصيل، إلى إشراك الأيام بأحاسيس البشر: «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له: «أنا يوم جديد، و أنا عليك شهيد، فقل فيّ خيرا و اعمل خيرا فإنك لن تراني بعد أبد» و لسوف نسوق في هذا الكتاب روائع لابن أبي طالب ستبقى ما بقي الانسان الخيّر.

و إنّها لطائفة تؤلّف نهجا في الأخلاق الكريمة، و الأحلام العظيمة، و التهذيب الانسانيّ الرفيع الذي أراده انبثاقا عن ثوريّة الحياة و خير الوجود بيروت جورج جرداق

٧٦

٧٧

٧٨

الفاتحة العلويّة

٧٩

الفاتحة العلويّة

أ و أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم مكاره الدهر؟ إمنع من الاحتكار.

إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة.

أ لا و إني أقاتل رجلين: «رجلا ادّعى ما ليس له، و آخر منع الذي عليه ما جاع فقير إلا بما متّع به غنيّ ما رأيت نعمة موفورة إلاّ و إلى جانبها حقّ مضيّع و إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها. و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ليس بلد أحق بك من بلد. خير البلاد ما حملك

____________________

(١) إشراف أنفس الولاة على الجمع: «تطلّعهم الى جمع المال و ادخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

٨٠