مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة33%

مطارحات في الفكر والعقيدة مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
ISBN: 964-319-046-3
الصفحات: 168

مطارحات في الفكر والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 168 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51378 / تحميل: 5441
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٠٤٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

جواب الحجة الثانية :

وأمّا عن حجتهم الثانية ، وهي ـ كما عرفت ـ التمسك بعناوين الأبواب فنقول في جوابها : إنّها ينبغي أن تكون تلك الحجة للكليني بعد عكسها لا عليه.

ولتوضيح ذلك نقول : إنّه عنون قدس سره في الكافي باباً بعنوان ( الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب ) وقد أودع فيه جملة من الروايات نذكر منها :

١ ـ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :« قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ على كل حقٍّ حقيقةً ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » (١) .

وواضح أنّ المراد من الترك لما خالف الكتاب هو ترك العمل به بعد ثبوت كون المخالفة على نحو اليقين وليس المخالفة المشكوك فيها والتي يمكن معالجتها.

٢ ـ وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام :« كل شيء مردود إلى الكتاب والسُنّة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (٢) .

٣ ـ وعنهعليه‌السلام قال :« خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى ، فقال : أيّها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله » (٣) .

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ٥٥ / ١.

(٢) اُصول الكافي ١ : ٥٥ / ٣.

(٣) اُصول الكافي ١ : ٥٦ / ٥.

١٢١

وإذا كانت مذاهب العلماء تعرف من خِلال أبوابهم كما يدعي هؤلاء ، فَلِمَ لا يكون مذهب الكليني هو رد كل حديث لا يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحكم عليه بأنه من زخرف القول ، وأنّه لم يقله نبيٌّ ولا وصيٌّ ؟

ومن ثم فإن الباب الذي عقده الكليني في اُصول الكافي بعنوان : « إنّه لم يجمع القرآن كله إلاّ الأئمةعليهم‌السلام وإنّهم يعلمون علمه كله » لا دلالة في العنوان على وجود نقص في آيات القرآن الكريم الموجود عندنا ولا زيادة فيها في ما جمعه الأئمةعليهم‌السلام ، وهذا ما أوضحه الكليني نفسه في أحاديث الباب المذكور ، وربما قد لا يتفطن لذلك إلاّ النابه الذكي.

فقد جاء في الحديث الأول من الباب المذكور بسند صحيح عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :« ما ادّعى أحدٌ من النّاس أنّه جمع القرآن كله كما اُنزِل إلاّ كذابٌ ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والأئمة من بعده عليهم‌السلام » (١) .

وفهم هذا الحديث على حقيقته لا يتم إلاّ ببيان جهتين :

الاُولى : إثبات أنّ للإمام عليٍّعليه‌السلام مصحفاً.

والاُخرى : بيان ماهية هذا المصحف. فنقول :

أمّا إثبات أنّ للإمام عليٍّعليه‌السلام مصحفاً ، فهذا ما صرّح به أعلام العامّة أنفسهم ، فقد أخرج السجستاني بسنده عن ابن سيرين قال : « لما توفي النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء الا لِجُمْعَةٍ

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١٧٨ / ١.

١٢٢

حتى يجمع القرآن في مصحف ، ففعل »(١) .

وقد صَرّح بهذا ابن النديم(٢) ، كما ذُكر في اتقان السيوطي ، وسنن أبي داود ، وحلية الأولياء لأبي نعيم ، والأربعين للخطيب البغدادي وغيرها فيما تتبعه السيد حسن الصدر(٣) .

إذن ، هناك من وافق الكليني من العامّة بأنّ للإمام عليٍّعليه‌السلام مصحفاً جمع فيه آيات القرآن الكريم ، ولم يسبقه أحدٌ من الصحابة إلى ذلك كما هو صريح رواية ابن سيرين.

وأمّا عن طبيعة هذا المصحف الشريف وماهيّته ، فإنَّ ذلك يُعرف من تدبّر رواية الكافي المتقدمة ، فإنَّ عبارة ( كما اُنْزِل ) و ( كما نَزَّله الله تعالى ) فيهما إشارة واضحة إلى أنّ طريقة الجمع كانت على ترتيب نزول الآيات ، وليس على الترتيب المتعارف اليوم من وجود بعض السور المدنية التي تحتوي على آيات مكية ، وبالعكس.

ولتوضيح ذلك نضرب المثال التالي ، فنقول :

إنّ آية التطهير وهي قوله تعالى :( إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ) (٤) لا يوجد نصٌ واحد في جميع كتب الحديث والتفسير قط يشير إلى نزولها مع آية اُخرى ، بل جميع النصوص المرويّة في المقام لدى الفريقين تصرح بنزولها مستقلة ، ومن كان له أدنى

__________________

(١) المصاحف : ١٦.

(٢) فهرست ابن النديم : ٤١.

(٣) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ، للسيد حسن الصدر : ٣١٦.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

١٢٣

حظٍّ في متابعة كتب الحديث والتفسير يسلّم بهذه الحقيقة. وهي إمّا أنْ تكون نزلت في بيت أم سلمة وهو الارجح لكثرة الروايات في ذلك ، وإما في بيت عائشة ، كما هو صريح الروايات الخاصة بحديث الكساء ، إذْ فيها تصريح كل منهما : ( نزلت هذه الآية في بيتي ) ثم تقرأ الآية ، ولكنك ـ على الرغم من كثرة الروايات البالغة درجة التواتر والتي تصرح بهذه الحقيقة(١) تجد أنّ الآية في سورة الأحزاب قد اتّصلت بكلام من الذكر الحكيم ، فكانت جزءَ آيةٍ لا آية ، حتى صار الجزآن آية واحدة ، وهي :( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَّةِ الأولى وَأقِمْنَ الصَّلاةَ وَءَآتِينَ الزَّكاةَ وَأطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجَس أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيراً ) ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة( وَاذْكُرْنَ ما يُتلَى فِي

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٢ : ٥ ـ ٧. والجامع لاحكام القرآن ١٤ : ١٨٢. وتفسير ابن كثير ٣ : ٤٩٢. والبحر المحيط ٧ : ٢٢٨. والدر المنثور ٣ : ٦٠٣ ـ ٦٠٤. وفتح القدير ٤ : ٢٧٩. ومسند أحمد ٦ : ٩٢. وسنن الترمذي ٥ : ٣٥١ / ٣٢٠٥ و ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٧ و ٥ : ٦٩٩ / ٣٨٧١. وصحيح مسلم ٤ : ١٨٧٤ / ٣٧. والمعجم الكبير للطبراني ٣ : ٤٦ / ٢٦٦٢ ، و ٣ : ٤٧ / ٣٦٦٦. و ٣ : ٤٩ / ٢٦٦٨ ، و ٢٣ : ٢٨١ / ٦١٢ ، و ٢٣ : ٣٣٣ / ٧٦٨ ، و ٢٣ : ٣٣٤ / ٧٧٣ ، و ٢٣ : ٣٣٦ / ٧٧٩ ، و ٢٣ : ٣٩٦ / ٩٤٧. ومشكل الآثار ١ : ٣٣٣. ومستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦. ومصابيح السُنّة ٢ : ٢٧٧. وجامع الاُصول ١٠ : ١٠٠. ومجمع الزوائد ٩ : ١٦٧. وكنز العمال ١٣ : ١٦٣ / ٣٦٤٩٦. وترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام في تاريخ دمشق ـ بتحقيق المحمودي ـ : ٦١ ـ ٧٧ الأحاديث من (٧٧) إلى ( ١١١ ). وتاريخ بغداد ١٠ : ٢٧٨ / ٥٣٩٦ في ترجمة عبدالرحمن بن عليّ المروزي.

ويعلم من جميع هذه المصادر العاميّة أنّ آية التطهير آية مستقلة. وأمّا مصادر الشيعة فقد اتفقت على ذلك أيضاً. اُنظر : تفسير فرات الكوفي : ١٢١. وتفسير الحبري : ٢٩٧ ـ ٣١١. وتفسير التبيان ٨ : ٣٣٩. ومجمع البيان ٨ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣. واُصول الكافي ١ : ١٨٧ / ١. واكمال الدين ١ : ٢٧٨ / ٢٥ باب ٢٤. وسعد السعود : ١٠٦. والعمدة : ١٩. ونهج الحق ١ : ٨٨. والصراط المستقيم ١ : ١٨٧. وغاية المرام : ٢٥٩. والميزان ١٦ : ٣١١.

١٢٤

بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللهِ وَالحِكمَةِ إنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) (١) .

ويلاحظ هنا اُمور عدّة ، نكتفي بذكر واحدٍ منها ، وهو :

إنَّ صدر الآية الاُولى ـ وهي الثالثة والثلاثون من سورة الأحزاب ـ يختلف عن ذيلها اختلافاً كليّاً ، فلسان الصدر لسان الانذار والتهديد والوعيد ، ولسان الذيل لسان المدح والثناء والتعظيم.

فلو رفع الذيل ووصلت الآية الرابعة والثلاثون بصدر الثالثة والثلاثين لما حصل أدنى اختلاف في النظم البياني ، ولا البلاغي ، ولا الإيقاعي ، ولا النغمي المعهود في فواصل الآيات ، ولجاء المعنى تامّاً خالياً من أدنى ملاحظة يمكن أن تترتب على رفع ذيل الثالثة والثلاثين. وهذا يدل على أنّ آية التطهير لم تكن في أصل النزول جزء آية بل آية تامة وإنّ وضعها في هذا المكان من سورة الاحزاب إمّا أنْ يكون بتوقيفٍ من النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بتصويب من جامعي القرآن الكريم بعده.

ونظير هذا بالضبط قوله تعالى( اليَوْمَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) (٢) فقد اتفق الطرفان على نزول هذه الآية الكريمة في غدير خمٍّ بعد إتمام البيعة لأمير المؤمنينعليه‌السلام بروايات كثيرة لا مجال لدفعها بحال من الأحوال(٣) . بينما نجد هذا القول

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) المائدة ٥ : ٣.

(٣) نسب الخوارزمي الحنفي في كتابه مقتل الإمام الحسين ٧ ١ : ٤٨ رواية نزول هذه الآية الكريمة ـ بعد البيعة للإمام عليٍّعليه‌السلام مباشرة ـ إلى عدد من الصحابة ، وقال ما هذا نصه : « روى هذا الحديث ـ أي الحديث الخاص بنزول الآية بعد البيعة في غدير خم كما نقله الخوارزمي

١٢٥

الكريم هو جزء من آية من سورة المائدة ، على أنّ الجزء المتقدم عليه والذي بعده هو في بيان أحكام اللحوم.

فلو اتّصل الجزءان معاً ، ورفع ما يخص إتمام الدين ، لكان المعنى تامّاً ، والنظم سالماً من أدنى ملاحظة تقال.

أمّا ما هو السرّ في جعل تلك الآيات أجزاء آياتٍ اُخرى ؟ فيمكن توضيحهُ فيما يأتي ، فنقول :

لا يخفى على أحد له حظ من العلم ، أنّ قوله تعالى :( إنَّمَا وَلِيُكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والذَّيِنَ آمَنُوا الذَّيِنَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ ) (١) . قد نزل في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بالاتفاق على أثر التصدّق بخاتمهعليه‌السلام ، وهو راكع لله عزّ وجل(٢) .

__________________

نفسه قبل هذا الكلام مباشرة ـ من الصحابة : عمر ، وعليّ ، والبرّاء بن عازب ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيدالله ، والحسين بن عليّ ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر ، وأبو أيّوب ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، وبريدة بن الحصيب ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبدالله ، وأبو رافع مولى رسول الله واسمه : اسلم ، وحبشي بن جنادة ، وزيد بن شراحيل ، وجرير بن عبدالله ، وأنس ، وحذيفة بن أُسيد الغفاري ، وزيد بن أرقم ، وعبدالرحمن ابن يعمر الدؤلي ، وعمرو بن الحمق ، وعامر بن شرحبيل ، وناجية بن عمر ، وجابر بن سمره ، ومالك بن الحويرث ، وأبو ذويب الشاعر ، وعبدالله بن ربيعة ».

(١) المائدة ٥ : ٥٥.

(٢) من طريف ما يذكر عن بعض المفسرين أن أحد المنافقين المتسترين على نفاقهم من الصحابه قد تصدق على أثر نزول هذه الآية بأربعين خاتماً وكلها في اثناء الصلوات أملاً على أن ينزل بحقّه ما نزل بحق الإمام عليّعليه‌السلام ، قيل ـ والعهدة على الراوي القائل ـ فنزلت بحقه :( لا صدق ولا صلى ) !!

وفي ( دفاع عن الكافي ) ، للسيد ثامر العميدي ١ : ١٠٢ ـ ١١٢ ، تفصيل أسماء علماء العامّة من المحدثين والمفسرين الذين صرحوا بنزول الآية في الإمام عليٍّ عليه‌السلام .

١٢٦

والسؤال : لماذا لم يذكر الله عز وجل أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الشريف في هذه الآية ، بينما عبّر عنه بصورة الجمع ، مما كان ذلك مدعاة لحثالة من النواصب أن يصرفوها عن الإمام عليّعليه‌السلام ما استطاعوا ؟!

والجواب على الاِيجاز والاختصار ـ وهو للسيد شرف الدين في مراجعاته الخالدة ـ : إنّ الجمع هنا يفيد التعظيم حيث يستوجب ، ونكتة ألطف وأدق وهي إنّما جاء التعبير بالجمع مع إرادة المفرد بقياً منه تعالى على كثير من النّاس الذين لا يطيقون سماعها بصيغة المفرد ، فالحكمة اقتضت مراعاة هؤلاء ؛ لكي لا يصدر منهم ما تخشى عواقبه من التضليل والتمويه.

ولا يبعد أنْ تكون آية التطهير وآية إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب سبحانه ، قد وضعت على ما هي عليه اليوم لنفس تلك الحكمة ، هذا مع القول بالترتيب التوقيفي الذي لم يثبت تواتره ، وأما مع القول الآخر ، فإنَّ ذا الحجى يدرك غايته.

وإذا ما عرفت هذا ، فاعلم أنّ المراد برواية الكافي هو جمع القرآن الكريم على ترتيب نزول آياته ، ويدل عليه ما أخرجه الشيخ المفيد بسنده عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :« اذا قام قائم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ضربت فساطيط لمن يُعَلِّم الناس القرآن على ما انزله الله جلّ جلاله ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ؛ لأنه يخالف التأليف » (١) أيّ : الترتيب.

ومعلوم من لسان روايات كثيرة أنّ مصحف الإمام المهدي ( عجلّ الله

__________________

(١) الإرشاد ، للمفيد ٢ : ٣٨٦.

١٢٧

تعالى فرجه الشريف ) هو عين المصحف الذي جمعه جدّه الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، ومن هنا يتضح المراد من عنوان باب الكافي والحديث الذي ورد فيه ، وهو ـ والله العالم ـ أنّ جمع القرآن الكريم على ترتيب نزوله لم يتم على يد أحدٍ غير أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومن ادعى ذلك غير الإمام عليّ وولدهعليهم‌السلام وحفظه على ذلك الترتيب فهو كاذب. وليس المراد أنّه لم يجمع أحد القرآن الكريم مطلقاً غير الإمام عليّعليه‌السلام ، فافهم.

روايات التحريف في أهم كتب العامّة :

ولكن هلمّ معي ننظر معاً ما في الصحيحين من روايات ، فهل يمكن لمنصف عاقل ان يتأولها بغير ما هو ظاهر من معناها بل وصريح فيه أيضاً.

ولعمري إذا لم تكن تلك الروايات مكذوبة على الله ورسوله ، فإنّ رواتها في الصحيحين لا يمكن إثبات نزاهتهم من خرافة تحريف القرآن الكريم ، وأما عن مذاهب العامّة فلم يسلم منهم أحد إلاّ بقدر همل النعم لما تقدم من إجماعهم على صحة ما في الصحيحين ، بل وتصريحهم بأن خبرهما لا سيما البخاري يفيد القطع ، ولو كان فوق القطع أمر أعلى حجّة من القطع لنحلوه ـ على الأقل ـ إلى ما اجتمع عليه الشيخان !

أمثلة أضغاث الباطل في كتب الصحاح :

وسوف نضرب لك من أضغاث الباطل المسكوت عنه ـ حتى صار حقاً ؛ لأنه من ( الصحيحين ) ـ بعض الامثلة ، وعلى ذلك فقس ما سواه إلاّ ما ندر.

١ ـ في صحيح البخاري في كتاب المحاربين باب رجم الحبلى من الزنا بالإسناد إلى عمر بن الخطاب ، قال : ( ثم كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله :

١٢٨

أنْ لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم )(١) .

والغريب في هذه الآية أنّا وجدناها حديثاً من أحاديث أبي هريرة في صحيح مسلم في كتاب الإيمان باب بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم(٢) . ولا يخفى أنّ في هذا المورد ما يقطع بتهافت الصحيحين !!

٢ ـ في صحيح مسلم في كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات بالإسناد إلى عائشة ، قالت : « كان فيما اُنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخت بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن »(٣) .

أقول : وكانت عائشة تفتي دون سائر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ودون سائر الصحابة : بجواز رضاعة الكبير استناداً لآية الرضاع المزعومة ، وقد حصل هذا فعلاً لسهلة بنت سهيل حيث أرضعت من كان ذا لحية وشهد بدراً وهو سالم حليف زوجها أبي حذيفة ؛ لكي يصير له ابناً من الرضاعة ؛ حتى يذهب ما كان في نفس أبي حذيفة من دخول سالم عليها(٤) !!!

٣ ـ في صحيح البخاري في كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا بالإسناد إلى عمر ، قال : « فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم ورجمنا

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٣٠٠ ـ ٣٠٤ / ٢٥.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٨٠ / ١١٣.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ١٠٧٥ / ١٤٥٢.

(٤) المصدر نفسه.

١٢٩

بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله»(١) !!!.

وفي موضع آخر من صحيح البخاري في كتاب الأحكام باب الشهادة تكون عند الحاكم ، والقول قول عمر : « لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي »(٢) !!!.

وآية الرجم في فتح الباري بشرح صحيح البخاري هي : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله »(٣) والظاهر أنّ هذه الآية لم تحفظ كما ينبغي أن تحفظ ؛ لأنّها وردت بألفاظ اُخر لا يعنينا أمرها.

أقول : هب أنَّ عفريتا من الجنّ ـ اسمه ( نسخ التلاوة ) ـ ابتلع هذه الرواية أفلا يدلّ قول عمر : ( فاخشى إن طال بالناس زمان ) وقوله : ( لولا أن يقول الناس زاد عمر ) على أنّه كان يرى أنّ المصحف الماثل بين يديه ناقص من آية الرجم ، أو لا يدل على ذلك ؟!

« أفهنالك مجال للشك ؟( إنَا نَحنُ نَزَلنَا الذِكرَ وإنّا لَهُ لحافِظُون ) » !!

ومن لم تكن له عين بصيرة

فلا شك أن يرتاب والصبح مسفرٌ

٤ ـ في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير ، بالإسناد إلى أنس في خبر إرسال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سبعين صحابيا من القراء إلى بعض القبائل العربية كرعل ، وذكوان ، وعصيّة ، وبني لحيان. قال البخاري « قال قتادة :

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٣٠٠ ـ ٣٠٤ / ٢٥.

(٢) صحيح البخاري ٩ : ١٢٥.

(٣) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٩ : ٦٥ و ١٢ : ٢٦١.

١٣٠

وحدثنا أنس أنهم قرأوا بهم قرآناً : ( ألا بلغوا عنا قومنا بأنّا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ثم رفع بعد ذلك »(١) !

والعجيب في هذا الخبر أنّ البخاري قد صرح فيه أنَّ الأعراب قد غدروا بجميع القّراء وقتلوهم حين بلغوا بئر معونة.

بمعنى أنّهم إمّا لم يتمكنوا من أداء مهمتهم ، لأنّهم قُتِلوا قبل ذلك ، وأمّا أنّهم أدّوا مهمتهم ثم قتلوا قبل الوصول إلى المدينة.

والسؤال المحير هنا : كيف عَلِمَ أنس بهذه الآية التي قرأوها ولم يصل أحد منهم إلى المدينة ليخبر أنس بهذه الآيات النازلة ! التي قرأت ثم رفعت ؟ هذا مع أنّ الخبر موقوف على أنس ولم يرفعه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يقال مثلاً أنّه من أخبار صاحب الوحيعليه‌السلام ، وهل بعد هذا يكون خبر الواحد الموقوف على صحابي من القرآن ؟

والسؤال الآخر : كيف رفع هذا القرآن ؟ من المكتوب ( وهو المصحف ) ؟ أم من القلوب ؟ والاحتمال الأول باطل ، إذْ لا نصّ عليه ولو برواية مكذوبة ، والثاني كذلك زيادة على عدم رفعه من قلب أنس أو غيره بدليل روايته ونقله.

٥ ـ في صحيح البخاري في باب من لم ير بأساً أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا. بالإسناد إلى عائشة قالت : « سمع النبي صلى الله عليه ( وآله ) وسلم قارئاً يقرأ من الليل في المسجد فقال : يرحمه الله ، لقد ذكرني كذا وكذا آية ، أسقطتها من سورة كذا وكذا »(٢) .

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٦٧ ذيل الحديث / ٢٦١.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٢٤٠.

١٣١

ولست أدري هل توجد أعظم من هذه الفرية ؟. فالنبي يسقط آيات من القرآن !!!

وَمَن يَتَّبِع في أَمْرِهِ رأيَ جَاهلٍ

يُقِدْهُ إلى أمْرٍ مِنَ الغَيِّ مُنكَرِ

فَعَوِّدْ مَقَال الصِّدقِ نَفْسَكَ وارْضِهِ

تُصَدَّق ، وَلا تَرْكَنْ إلى قَوْلِ مُفتَري

٦ ـ في صحيح مسلم في كتاب الزكاة عن أبي موسى الأشعري ، أنّه قال لقرّاء أهل البصرة ـ يعني بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسنين ـ : « وإنّا كنّا نقرأ سورةً كنّا نشبّهها في الطُول والشِدَّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التُّراب »(١) .

والغريب جداً من مسلم صاحب الصحيح أنه أخرج هذه الآية المزعومة على انها حديث ولم يتعرض لنقدها(٢) . والأغرب من كل هذا انه نسب إلى ابن عباس ( ترجمان القرآن ) انه قال بشأن ( لو كان لابن آدم ) : « فلا أدري أمن القرآن هو ، أم لا »(٣) ؟.

٧ ـ في صحيح البخاري وصحيح مسلم من كتاب الزكاة بالإسناد إلى أبي موسى الاشعري ، قال : « وكنا نقرأ سورة نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة »(٤) .

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٦ / ١٠٥٠.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٥ / ١٠٤٨ / ١١٦ و ١١٧.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٥ / ١١٨.

(٤) صحيح البخاري ٨ : ١١٥. وصحيح مسلم ٢ : ٧٢٦ / ١٠٥٠ ( ١١٩ ) كتاب الزكاة. ومسند

١٣٢

أقول : إنَّ ضياع سور من القرآن في تلك المدعيات الباطلة ، أو إسقاط اُخَر منه ونحو ذلك مما مرَّ ليس بأعظم من المفتريات الاَُخَر التي احتضنتها روايات كتب الذين يتبجحون بالصراحة ويزعمون أنّهم لا يسكتون عن الباطل بل يشهّرون بأصحابه ويكفرونهم !!

من أمثال ما روي عن ابن عمر أنَّه قال : « لا يقولن أحدكم : قد أخذت القرآن كُلّه ، وما يدريه ما كُلّه ؟ قد ذهب منه قرآن كثير !! ولكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر »(١) .

كما روى ابن أبي داود ، وابن الأنباري ، عن ابن شهاب ـ كما في منتخب كنز العمال ـ أنّه قال : « بلغنا أنه كان أُنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يُعلم بعدهم ولم يكتب »(٢) !!

وأما عن إنكار ابن مسعود لسورة الفاتحة والمعوذتين فحدّث ولا حرج ، حتى قال السيوطي : « قال ابن حجر : فقول من قال : أنّه كُذب عليه ( أي على ابن مسعود ) مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الروايات صحيحة ، قلت : وإسقاطه من مصحفه أخرجه أبو عبيد بسند صحيح »(٣) . على أن هذه الرواية الموصوفة بالصحة عن العامّة ، قد كذّبها الشيعة منذ أقدم العصور كما سنشير إليه وقد

__________________

أحمد ٣ : ١٢٢ و ٢٤٣ و ٤ : ٣٦٨ و ٦ : ٥٥. وسنن الدارمي ٢ : ٣١٩. ومجمع الزوائد ١٠ : ٢٤٣. والبرهان للزركشي ٢ : ٤٣. والاتقان للسيوطي ٣ : ٨٣.

(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٨١ ـ ٨٢. ولا جرم على من كذّب على ابن عمر في هذا بعد أن كذب على أبيه بأنّ قرآنه مليون حرف ! كما مرّ.

(٢) منتخب كنز العمال ( مطبوع بهامش مسند أحمد ) ٢ : ٥٠.

(٣) الاتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧٣.

١٣٣

ردها من العامّة السيالكوتي في حاشيته(١) .

كما ان سورة الخلع ، وسورة الحفد قد كان أبو حفص عمر يقرأهما في صلاته وقنوته كما صرح بذلك السيوطي في تفسيره(٢) فإذا ما أضفنا هذا إلى الرواية المسندة إليه بوجود مليون حرف في القرآن علمنا أنَّ آية الرجم التي عقلها ووعاها كما تقدم عن الصحاح إنما هي من القرآن المزعوم الذي هو في لغة الاعداد ومنطق الارقام يزيد على حروف كتاب الله العزيز حسب آخر إحصائية ب‍ ( ٦٧٨٨٢٠ ) حرفاً ، أي بما يعادل القرآن الكريم ثلاث مرات !! ولهذا ذهب ابن عمر ـ بعد أن انطلت عليه هذه الاكاذيب ـ إلى القول بضياع الكثير من القرآن كما مرّ آنفاً !

وأخيراً ، لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الفضل بن شاذان ( ت ٢٦٠ ه‍ ) وهو من فضلاء وفقهاء أصحاب الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام ، قد أنكر على العامّة رميهم الصحابة بمثل هذه المفتريات الباطلة وعدّها من باب الوقيعة في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) . فانظر إلى تحرّج الأصحاب.

ومن لطيف ما احتج به الفضل رحمه الله تعالى على العامّة بكتابه الإيضاح أنّه أورد ما نسبوه إلى عائشة بأنها قالت « لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها »(٤) !!

__________________

(١) حاشية السيالكوتي على شرح المواقف ٨ : ٢٥١ من المجلد الرابع.

(٢) الدر المنثور ، للسيوطي ٨ : ٦٩٦.

(٣) الإيضاح ، للفضل بن شاذان : ٢٢٩.

(٤) لقد أورد هذا الخبر المضحك المبكي ابن حزم في المحلى ١١ : ٢٣٥ المسألة رقم ٢٢٠٤ وقال :

١٣٤

فقد أنكر عليهم الفضل بن شاذان بما حاصله :

بانه ما استطاعت الاِنس والجنّ على أن تأتي بمثل القرآن ولو في آية من آياته ، ولا تمكن أعداء القرآن من تحريفه ، فكيف استطاع داجنكم أن يأكل من القرآن ، ويبطل فرضه ويسقط حجته ؟!

وأغرب ما وقفت عليه هو أنَّ الزمخشري في كشّافه ـ لمّا لم يستطع أن يجد تأويلا أو تبريراً مقنعاً يبين من خلاله كيف استطاع هذا الداجن الشيطان أن يتسلل إلى بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويفعل فعلته ـ حاول التملّص من الخبر واتهام الروافض في تلفيقه ؟(١) .

أقول : بعد أن عرفت من أخرجه من الصحاح والصحابة ، ومن ردّه وهو ( الفضل بن شاذان ) من ( الرافضة ) ، فاعلم أنّا مع الزمخشري في اعتقاد تلفيقه فافهم.

هذا ، وقد ذكر السيد الميلاني في ( التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف ) كلمات عِدّة من أعلام العامّة المتقدمين والمتأخرين يصرحون بأنَّ هذه زيادات موضوعة من بعض الزّنادقة.

إلى غير ذلك من الروايات المكذوبة عند العامّة ، والتي تمس القرآن الكريم صراحة(٢) .

__________________

هذا حديث صحيح ! كما أخرجه الدميري في حياة الحيوان ١ : ٤٦٤ عن عائشة مصرّحاً بوجوده في السنن الأربعة.

(١) الكشّاف ، للزمخشري ٣ : ٢٤٨.

(٢) للوقوف على المزيد من تلك الروايات المكذوبة في كتب العامّة. راجع : دفاع عن الكافي للسيد ثامر العميدي ٢ : ٤٤٠ ـ ٥٠٤ ففيه مائة مثال من أمثلة صور التحريف عند العامّة وفي كتبهم.

١٣٥

المبحث الثاني

البَدَاءُ وعلم الله تعالى

إعلم بأنَّ إنكار اليهود للنسخ إنّما هو لاعتقادهم بأنّه خلاف الحكمة ولا يصدر إلاّ عن جهلٍ بالمصالح والمفاسد ، وهذا هو ما صرّح به الغزالي ، والرازي وغيرهما من رؤوس الاشاعرة(١) .

ولما كان البداء ـ بمعناه السلبي ـ يلتقي مع فهم اليهود للنسخ ، فعدّوه أيضاً دالاً على خلاف الحكمة كالنسخ ايضاً.

بل تذرعوا في إنكار النسخ بكونه بَدَاء ، والبَدَاء إنّما يتصور بحق من يجهل عواقب الاُمور ، والله تعالى منزّه عنه. وهذا القدر مصرّح به في كتب الأشاعرة وغيرهم(٢) .

__________________

(١) المستصفى ، للغزالي ١ : ١١١. والمحصول ، للرازي ١ : ٥٤٣. ومنتهى الوصول والأمل ، لابن الحاجب : ١٥٤ ـ ١٥٥. والتحصل من المحصول ، للارموي ٢ : ١٠. والتقرير والتحبير ، لابن أمير الحاج ١ : ٣٥٢. وتفسير ابن كثير وتفسير الآلوسي وغيرهما عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة البقرة المباركة.

(٢) اُصول السرخسي ٢ : ٥٤ ـ ٥٥ و ٢ : ٥٩. والأحكام في أصول الأحكام ، للآمدي ٣ : ١٠٢. وتفسير القرطبي ٢ : ٦٤. والمنخول للغزالي : ٢٨٨. والأحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم ٤ : ٤٧. والبرهان ، للزركشي ٢ : ٣٠. والإتقان ، للسيوطي ٣ : ٦٧. والملل والنحل ، للشهرستاني ١ : ٢١١.

١٣٦

الافتراء على الشيعة بتعريف البَدَاء

فإذا علمت هذا ، فاعلم أنَّ خصوم الشيعة تدّعي زوراً بأنّ البداء عند الشيعة يستلزم تغيير علم الله عزّ وجل ، وهذا لا يجوز ، بل وذهبوا إلى أنّ لازمه الجهل على الله تعالى ؛ لأنّ معنى البداء لغة ظهور الشيء بعد خفائه.

بل افترى بعضهم على الشيعة بوقاحة عجيبة فقال ما نصه : « والبداء عند الشيعة أن يظهر ويبدو لله عزّ شأنه أمر لم يكن عالماً به ».

وهذا المفتري هو محمّد مال الله البحريني افترى ذلك في كتابه ( موقف الشيعة من أهل السُنّة ) ص٢٨ ، وكرّر هذا الافتراء في كتابه ( الشيعة وتحريف القرآن ) ص ١٢ بلا أدنى تغيير مشيراً في هامش الكتابين إلى كتاب أصل الشيعة واصولها ص ٢٣١ مع حصر ما ذكره بين قوسين لإعلام القارئ بنقل هذا الكلام من كتاب ( أصل الشيعة واُصولها ) للشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاءرحمه‌الله .

وللأسف أنْ نجد عند غيره هذا الافتراء نفسه(١) .

تزييف هذا التعريف وبيان وقاحة مفتريه :

ولكنّك إذا ما عدت إلى ( أصل الشيعة واُصولها ) ستجد الشيخ آل كاشف الغطاء قد قال ما نصه : « ومما يشنع به الناس على الشيعة ويزدرى

__________________

(١) الشيعة والسُنّة ، لاحسان إلهي ظهير : ٦٣. وأحوال أهل السُنّة في ايران ، لعبد الحق الاصفهاني : ٨٦. وبطلان عقائد الشيعة ، لمحمّد عبدالستار التونسوي : ٢٣.

١٣٧

به عليهم أمران :

الأول : قولهم بالبداء ، تخيّلا من المشنعين : أن البَدَاء الذي تقول به الشيعة هو عبارة عن أن يظهر ويبدو لله عز شأنه أمراً لم يكن عالماً به » !

راجع أصل الشيعة واُصولها :

١ ـ طبعة القاهرة لسنة ١٩٥٨ م ، ص ٢٣١.

٢ ـ طبعة ايران ـ قم لسنة ١٤١٠ ه‍ ، ص ٢٣١ ( اُوفست عن طبعة القاهرة ).

٣ ـ طبعة النجف الاَشرف لسنة ١٩٦٩ م ، ص ١٧٩.

٤ ـ طبعة مؤسسة الأعلمي في بيروت لسنة ١٩٨٣ م ، ص ١٤٨.

٥ ـ طبعة مؤسسة الإمام عليّعليه‌السلام ، بتحقيق الاُستاذ علاء آل جعفر ، لسنة ١٤١٥ ه‍ ، ص ٣١٣.

فانظر كيف تلاعب بالنص فحذف صدره ، وأطلق ذيله غير آثم ولا متحرج ، مع أنّ الشيخ آل كاشف الغطاء عقّب على ذلك التشنيع في أصل كتابه مباشرة فقال : « وهل هذا الا الجهل الشنيع ، والكفر الفظيع ؟ لاستلزامه الجهل على الله تعالى ، وأنّه محل للحوادث والتغيرات ، فيخرج من حضيرة الوجوب إلى مكانة الامكان ».

وهكذا تجد المشنّعين على الشيعة يفترون عليهم بالأباطيل التي لا أصل لها في عقائدهم ولا في تفكيرهم ، منهم البلخي على ما نقله الشيخ

١٣٨

الطوسي في تفسيره(١) ، والغزالي(٢) ، والرازي(٣) ، والآمدي(٤) ، مع أنّ إمامهم الأشعري صرّح بأنّ ( الرافضة ) افترقت في هذا على ثلاث فرق ، ونسب إلى الثالثة أنّها لا تجوّز على الله تعالى البداء قال : « وينفون ذلك عنه »(٥) .

نفي الجهل عن ساحته تعالى :

أقول : لا يوجد في تاريخ الشيعة من ينسب البداء ـ بمعنى ظهور الشيء بعد الجهل به ـ إلى الله تعالى قط ، لا قديماً ولا حديثاً ، بل حتى فرق الشيعة البائدة التي كفّرها أئمة اهل البيتعليهم‌السلام مع سائر علماء الإمامية ، لم يؤثر عنهم ذلك الا ما ينقله بعض المتعصبين والمشنعين من مخالفيهم.

نعم نسب هذا إلى فرق المجسمة والمشبهة لما لديهم من المقالات التي هي أشبه بالخرافات منها بالديانات حتى قال بعضهم كما في ملل الشهرستاني : « اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك »(٦) !! تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً ، وكبر مقتا ان يقولوا على الله زوراً وكذباً ما لا يعلمون.

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ١ : ١٣ من المقدمة.

(٢) المستصفى ١ : ١١٠.

(٣) التفسير الكبير للرازي ١٩ : ٦٦.

(٤) الأحكام في اُصول الأحكام ، للآمدي ٣ : ١٠٢.

(٥) مقالات الإسلاميين ، للاشعري : ٣٩.

(٦) الملل والنحل ، للشهرستاني ١ : ٩٦.

١٣٩

هذا ، وإذا ما رجعت إلى كتب الشيعة العقائدية بل وحتى الحديثية ستجد التصريح بخلاف هذا المدّعى تماماً ، مع تكفيرهم لكلِّ من يزعم بأنّ الله سبحانه يبدو له عن جهل.

ففي الكافي بسنده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام « ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له » (١) .

وعنهعليه‌السلام « إنّ الله لم يبدُ له من جهل » (٢) .

وعنه أيضاً وقد سأله منصور بن حازم ( هل يكون اليوم شيءٌ لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قالعليه‌السلام :« لا ، من قال هذا فأخزاه الله » . قلت : أرأيت ما كان وما كائن إلى يوم القيامة ، أليس في علم الله ؟ قال :« بلى ، قبل أن يخلق الخلق » (٣) .

علم الله تعالى عند الشيعة الإمامية :

فإذا انضم هذا إلى أقوال علماء الشيعة في علمه تعالى ، علم المقصد بأنّه ليس كما يزعم هؤلاء المفترون ، قال الشيخ المفيد : « إنّ الله تعالى عالم بكل ما يكون قبل كونه ، وأنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه ، ولا معلوم وممكن أن يكون معلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته ، وأنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وبهذا اقتضت دلائل العقول ، والكتاب المسطور والأخبار المتواترة من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مذهب

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١١٤ / ٩ باب البَدَاء.

(٢) اُصل الكافي ١ : ١١٤ / ١٠ من باب البَدَاء.

(٣) اُصول الكافي ١ : ١١٤ / ١١ باب البَدَاء.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168