مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة44%

مطارحات في الفكر والعقيدة مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
ISBN: 964-319-046-3
الصفحات: 168

مطارحات في الفكر والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 168 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51379 / تحميل: 5441
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٠٤٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أُسنِدت إلى الوجوه ، لا إلى العيون ولا إلى الأبصار المنفيّة بآية صريحة اُخرى ، كما أنَّ الآية الكريمة وما بعدها تتحدثان عن صنفين من الناس يوم القيامة :

صنف فرح مسرور ينتظر رحمة الله تعالى ، وهم المؤمنون ، وصنف آخر ينتظر العذاب المهين ، وهم ممن استحق العذاب. ألا ترى قوله تعالى بعد ذلك( وَوُجُوهٌ يَومَئذ بَاسِرَةٌ *تَظُنُّ أنْ يُفعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) (١) عبوسة تعلم أنّه سيفعل بها ما يقصم الظهر.

فالمزاوجة بين حال هذه الوجوه وتلك يعلم منها أنَّ المقام مقام انتظار لا نظر.

انتظار من رضي الله تعالى عنه لرحمة ربه.

وانتظار من سخط الله تعالى عليه لنقمته.

ومن ظريف ما وقع في عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنَّ زنديقاً سأل الإمام ( صلوات الله تعالى وسلامه عليه ) قائلاً : أجد الله يقول :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرةٌ *إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) وأجده يقول :( لا تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ) فقالعليه‌السلام :« إنَّ المؤمنين يؤمرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم ، أي : النظر إلى ما وعدهم ـ عزّ وجلّ ـ فذلك قوله تعالى : ( إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) . والناظرة : المنتظرة.

ثم قالعليه‌السلام :ألَمْ تسمع قوله تعالى : ( فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ) (٢)

__________________

(١) القيامة ٧٥ : ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) النمل ٢٧ : ٣٥.

٢١

أي : منتظرة » (١) . وهذا من روائع الاستدلال.

وكم يعجبني قول ابن رشد في فصل المقال ، قال : « إنّ ما من منطوق في الشرع مخالف في ظاهره لما أدّى إليه البرهان ، إلاّ إذا اعتُبر وتصفحت سائر أجزائه ، وُجد في ألفاظ الشّرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد »(٢) .

وتتأكد صحة قول ابن رشد من خلال تتبع الآيات المتشابهة في تفسير أهل البيتعليهم‌السلام التي تدل بظاهرها على التشبيه أو التجسيم ونحوهما. فإنَّ الأصل في تفسيرها ردّها إلى المحكم كقوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) (٣) .

وفي ذلك يقول ابن خلدون : « إنّ الآي القليلة التي توهم التشبيه اتّبعها مبتدعة العصر ، وتوغلوا في التشبيه فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق التي هي أكثر مواردَ وأوضح دلالةً »(٤) .

وعلى الرغم من ذلك تجد من يتعصب لتلك الآراء الفاسدة والمعتقدات الباطلة التي ليس لها نصيب من واقع الدين ، ويدافع عنها الأتباع في كل عصر وجيل ؛ لأنهم كما وصفهم أمير المؤمنينعليه‌السلام :« همجٌ رعاع ، أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلِّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم

__________________

(١) بحار الانوار ٩٠ : ٩٨.

(٢) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، لابن رشد : ٣٣.

(٣) الشورى ٤٢ : ١١.

(٤) مقدمة ابن خلدون : ٤٦٣.

٢٢

يلجؤوا إلى ركن وثيق » (١) .

وكيف لا ؟ وهم لم يفرقوا بين قول الأولياء وقول الأشقياء ؛ لابتعادهم عن أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة ، ومهبط التنزيل ، ولهذا قال أمير المؤمنين ـ كما مرَّ في خُطْبَتِهِعليه‌السلام ـ :« فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه » .

وأما العارفون بالله ( عزّ وجلّ ) بعين الحقيقة ، والسالكون إليه بنور البصيرة من أهل الإسلام ، فهم العلماء الربّانيون الذين عرفوا الحقَّ فاتّبعوه ، ولم ينازعوا فيه أهله ، والراجعون إليهم بعدما اختلط الحابل بالنابل ، والآخذون عنهم بعدما امتزج الحق بالباطل.

اُولئك هم المؤمنون حقاً الذين سبقت لهم العناية بالحُسنى ؛ لاقتدائهم بمن خلف فيهم النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله رايةَ الحقِّ ، من تقدّمهاها مَرَقَ ، ومن تخلَّف عنها زَهَقَ ، ومن لَزِمَها لَحِقَ.

وكيف لا ؟ وقد هَجَمَ بِهِمُ العْلِمُ على حقيقةِ البصيرةِ ، وباشروا روحَ اليقينِ ، واستلانوا ما اسْتَوْعَرَهُ المترفون ، وأنِسُوا بما استَوْحَش منه الجَاهِلُونَ ، وَصَحِبُوا الدُّنْيا ـ بعد طلاقها ثلاثاً ـ بأبدانٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالمحلِّ الأعلى.

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الحكم : ١٤٧.

٢٣
٢٤

٢٥

٢٦

المبحث الأول

قضيّة النصّ والمنهج النبوي في ترسيخه

مقدمة

إنَّ تثبيت أحقية الإمام عليّعليه‌السلام والنصّ عليه التي قام بها النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإعدادهِ الاَُمّة وتثقيفها وتوعيتها بذلك ، قد تمّت وفق منهج دقيق ومحكم ، تضافرت الروايات والوقائع التاريخية المؤكدّة على نقله.

ولقد كانت عملية تثبيت النصّ وترسيخه في أحقية الإمام عليّعليه‌السلام بالخلافة تسير في خطين متوازيين ومتكاملين ، وهما إعداد الإمام عليّعليه‌السلام للخلافة ، وإعداد الاَُمّة لتقبلها في آن واحدٍ. فبينما نجدُ الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله يتعهد الإمام عليّاًعليه‌السلام ـ برعايةٍ خاصة ـ وفق برنامج دقيق ويومي متواصل ، نجده صلوات الله عليه يتولّى تهيئة ذهنية الاَُمّة المسلمة ، وتربيتها فكرياً وعقائدياً لترسيخ النصّ على خلافة الإمام عليّعليه‌السلام ، وتأكيد أهليته لقيادة المسيرة الإسلامية بعده مباشرةً. وقد كان تدخّل الوحي المباشر في كثير من الموارد والمناسبات ـ كما سيأتي ـ يجري في هذا الاتجاه.

لقد كانت آيات من القرآن تنزل دائماً تحمل الإشادة بفضل الإمام عليّعليه‌السلام تارةً ، وتشير إلى خصائصه تارةً ، وتشخّصه دون غيره إلى أن

٢٧

يصل الأمر إلى تعليق إكمال تبليغ الرسالة على الاعلان عن ولايته ، والتصريح بها للاَُمة ـ كما سيأتي البيان ـ.

وهذا ما سنحاول استيضاحه وتوثيقه ، ولذا سنوزّع المبحث على مطلبين نتناول في المطلب الأول المنهج النبوي في إعداد الإمام عليّعليه‌السلام للخلافة ، ونعرض في المطلب الثاني مسألة إعداد الاُمّة وتهيئتها لخلافة الإمام عليّعليه‌السلام .

٢٨

المطلب الأول

الإعداد الفكري والتربوي

للإمام عليّعليه‌السلام وتثبيت أحقيّته بالخلافة

نستطيع القول بكلِّ تأكيد : إنَّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد قامَ بعملية الإعداد الرسالي « التربوي والفكري » للإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام والنصّ عليه منذ صدع بالوحي ، وكان صلوات الله عليه يضع الخطوات العملية من أجل بلوغ الغاية المتوخاة من ذلك ، وهي تولي الإمام عليّعليه‌السلام للمهمة القيادية « الاجتماعية والسياسية » بعده مباشرةً. ويظهر لنا من سير الأحداث ، وما تناقلته كتبُ السيرة والتواريخ ، وما نقله الرواة الثقاة ، أنَّ ذلك تمَّ بمرحلتين ، وهما :

المرحلة الأولى : ابتدأ تاريخ هذه المرحلة ـ باتفاق كتب السيرة والتاريخ ـ قبل بزوغ شمس الإسلام ثم اتصلت بفجره المبارك إلى أن اتصلت بالمرحلة الثانية والتحمت معها.

فقد تعهد الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه بكفالة الإمام عليّعليه‌السلام منذ صغره ، وتولي تربيته ورعايته ، والحرص البالغ على أن لا يفارقه إلاّ لضرورة.

وهذا من أوضح ما تزخر به سيرته الشريفة(١) ويكفي أن نوردَ ما بيّنه

__________________

(١) السيرة النبويّة ، لابن هشام ١ : ٢٤٦.

٢٩

الإمام عليّعليه‌السلام نفسه في خطبته الشهيرة بالقاصعة إذ يقول :« وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حِجره وأنا وَلدٌ ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويُمسُني جسده ، ويُشِمني عَرْفَه. وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه ، وما وَجَدَ لي كذبةً في قولٍ ، ولا خطلةً في فعل ولقد كنتُ أتّبعهُ اتّباعَ الفصيل اثرَ اُمِه ، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه عَلَماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاورُ في كلِّ سنةٍ بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجةَ وأنا ثالثُهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشمُ ريح النبوة » (١) .

إنَّ هذه الصورة التي ينقلها لنا الإمام عليّعليه‌السلام نفسه عن كيفية وطريقة التعامل التي كان يتبعها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معه ، تكشف لنا عن حقيقة وأبعاد الهدف الأعظم من ذلك.

الرعاية النبوية الخاصة للإمام عليّعليه‌السلام :

إنَّ هذه التربية المخصوصة للإمام عليّعليه‌السلام ، والرعاية الفائقة ، والحرص على أن يكون الإمام عليّعليه‌السلام قريباً جداً من أنوار الوحي ، وأن يكون متعرضاً لنفحات النبوة ، وأن يكون ثالث ثلاثة في بيت الرسول القائد حيثُ مهبط الوحي ، إنّما لكي يتلقّى الإمام عليّعليه‌السلام في هذا المكان المشرّف الدروس الأولى ، والتوجيهات النبوية المباشرة ، فينعكس ذلك على تكوينه الفكري والعقيدي «فلا يسجد لصنم قط»(٢) ولا يخالط عقله

__________________

(١) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح : ٣٠٠ ـ ٣٠١ خطبة ١٩٢.

(٢) مناقب أمير المؤمنين ٢ : ٥٤٠ / ١٠٤٥ عن أبي سعيد الخدري. والروض الآنف ، للسهيلي ٣

٣٠

لحظة شرك ، وينعكس على سلوكه« فلا كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل » . وهذا يكشفُ عن إعدادٍ تربوي خاص بلا أدنى شك مع اننا نعتقد اعتقاداً جازماً بكون الإمام عليّ وذريته الطاهرةعليهم‌السلام معصومين بمقتضى آية التطهير وحديث الثقلين.

ومما يلاحظ في هذا الصدد أنّ تعهد الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام عليّعليه‌السلام بالرعاية والعناية الخاصتين لم يقتصر على فترة الطفولة والصبا ، ولم يتوقف عند مرحلةٍ معينة ، لأننا نجدُ أنّ الرسول القائد كان حريصاً على أن يكون الإمام عليّعليه‌السلام إلى جانبه دائماً لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً ، كما ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام قال :« كان لي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مدخلان ، مدخل بالليل ، ومدخل بالنهار » (١) بل نجد الرسول القائد لا يفارق الإمام عليّعليه‌السلام ولايتركه إلاّ لضرورةٍ تتصل بحفظ حياة الرسول نفسه ، أو بحفظ الدعوة الإسلامية وحمايتها من أخطار محتملة.

ونذكر على كلِّ موردٍ مثالاً واحداً ، لتأكيد المطلب.

أ ـ المورد الأول : وهو ما يتصل بحفظ حياة الرسول القائد نفسه ، وذلك عندما تركَ رسولُ الله الإمام عليّعليه‌السلام ليبيت في فراشه ليلة هجرته(٢) المباركة إلى المدينة ، إيهاماً لقريش المترصدين ، وإنجاءً لنفسه صلوات الله عليه وآله وسلّم من مؤامرتهم لقتله(٣) . وقد نزل في ذلك قوله تعالى :

__________________

: ١٦ وفيه : أول من صلّى عليّ ، وقال في هامشه : وإليه ذهب سلمان وخباب وجابر وأبو سعيد كذا في الطبراني.

(١) السنن الكبرى ، للنسائي ٥ : ١٤١ / ٨٥٠٢ ، كتاب الخصائص.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٩٥.

(٣) المصدر السابق.

٣١

( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْري نَفْسَهُ ابتِغآءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) (١) كما صرّح الفخر الرازي(٢) .

ب ـ المورد الثاني : وهو ما يتصل بحفظ الرسالة وحمايتها ؛ وذلك عندما أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخرج إلى بعض مغازيه ـ قيل تبوك ـ ترك الإمام عليّعليه‌السلام في المدينة خليفةً(٣) عنه ، لأنّ ابن أُبيّ بن سلول رأس المنافقين كان قد تخلّف في المدينة ، فاقتضى الموقف أن يُترك الإمام عليّعليه‌السلام لمواجهة أي تطور غير محسوب قد يهدد دولة الرسول القائد في المدينة ، قال الطبري : « إنّه لما سارَ رسول الله ـ إلى تبوك ـ تخلّف عنه ابن أُبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب ـ وكان عبدالله بن أُبيّ أخا بني عوف ابن الخزرج ـ وعبدالله بن نَبْتَل أخا بني عمرو بن عوف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع ، وكانوا ـ أي المذكورون ـ من عظماء المنافقين ، وكانوا ممن يكيد الإسلامَ وأهله.

ـ قال الطبري ـ وفيهم ـ فيما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن اسحاق ، عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري ـ أنزل الله تعالى :( لَقَدِ ابتَغَواْ الفِتْنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الاَُمورَ ) (٤) وهنا أدرك المنافقون أنَّ بقاء عليّ في المدينة سيفوّت الفرصة عليهم ـ قال الطبري في تتمة الخبر ـ فأرجف المنافقون بعليٍّ بن أبي طالب ، وقالوا : ما خلّفه إلاّ استثقالاً له وتخففاً منه. فلما قال ذلك المنافقون ، أخذ عليٌّ سلاحه ثم

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٠٧.

(٢) التفسير الكبير ٥ : ٢٠٤.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٥٩٦.

(٤) التوبة ٩ : ٤٨.

٣٢

خرج حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بالجُرف ـ موضع على مسافة من المدينة ـ فقال :« يا نبي الله ؛ زعم المنافقون أنّك إنما خلفتني أنّك استثقلتني وتخففت مني » ! فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« كذبوا ، ولكني إنما خلفتك لما ورائي أفلا ترضى أن تكون مني ـ يا عليّ ـ بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي » ! فرجع عليٌّ إلى المدينة ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على سفره »(١) .

وقد نقل البخاري(٢) ومسلم(٣) المنزلة هذا ، وفي الرواية عن سعد بن أبي وقاص : قال : « خلّف رسولُ الله عليّاً ـ في بعض مغازيه ـ في المدينة ، فقال عليٌّ :« يا رسول الله قد خلفتني مع النساء والصبيان » ؛ فسمعت رسول الله يقول :« أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبوةَ بعدي » (٤) .

ومن الاَُمور الملفتة للنظر أن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعبّرُ عن تلهفه وهواجسه عندما يغيب الإمام عليّعليه‌السلام عنه ، ويتطلع إلى رؤيته والاطمئنان عليه ، فعن أمّ عطية على ما أخرجه ابن كثير(٥) وحسنه ، قالت : بعثَ النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله جيشاً ، وفيهم عليٌّ. قالت : فسمعتُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :« اللّهم لا تمتني حتى تريني عليّاً » (٦) .

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٣. والبداية والنهاية ، لابن كثير ٧ : ٣٤٠ وما بعدها.

(٢) التاج الجامع للأصول ، للشيخ منصور عليّ ناصف ٣ : ٣٣٢. قال : رواه الشيخان والترمذي.

(٣) صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣.

(٤) سنن الترمذي ٥ : ٥٩٦.

(٥) البداية والنهاية ، لابن كثير ٧ : ٣٥٧.

(٦) التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول ، للشيخ منصور عليّ ناصف ٣ : ٣٣٤.

٣٣

ويصلُ الأمر أحياناً إلى أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما يُخصُّ بأكلةٍ لا يطيق أن يأكلها لوحده ، ثم هو لا يكتفي بأن يدعو الله إلى أن يشاركه الإمام عليّعليه‌السلام بتلك الأكلة ، بل يجعلها مناسبةً لبيان مقام الإمام عليّعليه‌السلام ومنزلته ، فعن أنس بن مالك قال : « كان عند النبي طيرٌ ـ وفي بعض الروايات طائر مشوي(١) ـ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير » ، فجاء عليٌّ فأكل معه »(٢) . ومن. الملفت للنظر أن بعض الروايات تنقل أن محاولةً جرت لصرف عليّ عند مجيئه إلى بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد دعوته تلك ، ولكنها فشلت بتدخل الرسول نفسه على ما نقله ابن كثير(٣) .

ويستفاد من هذه الرواية ـ كما هو ظاهر ـ أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يُرسّخ ويؤكد أنَّ الإمام عليّاًعليه‌السلام هو أحب الخلق إلى الله تعالى أيضاً(٤) .

كل ذلك يدلُ بما لا يدعُ مجالاً للشك على أنَّ التربية التي خصَّ بها نبينا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليّعليه‌السلام ، كانت تهدف إلى إعداده وتهيئته لمسؤولية قيادة الاُمّة ، وليس لمجرد أن يكون أحد أركانها ورجالها البارزين. إذ وجدنا الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله يتعهد جمعاً من صحابته بالتربية والتثقيف والرعاية ، ولكن ليس بمستوى العناية والرعاية التي اتّبعت مع الإمام عليٍّعليه‌السلام ، مما يكشف أن المسؤولية المنوطة بالإمام عليٍّعليه‌السلام هي

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ : ٣٥١.

(٢) التاج الجامع للاُصول ٣ : ٣٣٦.

(٣) البداية والنهاية ٧ : ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٤) غاية المأمول شرح التاج الجامع للاُصول ٣ : ٣٣٦ ، الهامش (٦). قال عن الحديث « وفيه أنَّ علياًرضي‌الله‌عنه أحب الخلق إلى الله تعالى ».

٣٤

أكبر بكثير من مسؤولية الآخرين.

المرحلة الثانية : وتبدأ هذه المرحلة بتسليط الاضواء النبوية الشريفة الكاشفة عن شخص الإمام عليّعليه‌السلام ومقامه الشريف ومنزلته الرفيعة من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقد أفردصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليّاًعليه‌السلام من بين أهله وسائر أصحابه ، وخصه بعلوم الشريعة كلّها زيادة على المواقف الحاسمة في تاريخ الرسول والرسالة التي تشهد بتقديمه ، ومن يراجع كتب الحديث والسيرة والتواريخ(١) يظفر بالكثير جداً.

ونذكر أمثلةً منها تثبيتاً للمطلب :

لقد تولّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ، وبأمرٍ إلهي مهمة الإعداد الفكري والعلمي للإمام عليّعليه‌السلام ، وتزويده دون سواه بالمعرفة القرآنية الشاملة ، وباُصول العلوم وينابيعها ، وبالحكمة وآدابها ، وأحكام الشريعة الإسلامية جميعاً.

وقد جاء عن الإمام عليٍّعليه‌السلام ما يؤيد هذا ، فقال صلوات الله عليه :« علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، يفتح لي من كلِّ باب ألف باب » (٢) . وكان الإمام عليّعليه‌السلام تارةً يبادر هو بالحصول على المعارف والعلوم والأحكام من الرسول الأعظم ، وتارةً يبادر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه بذلك ؛ قال الإمام عليّعليه‌السلام :« كنت إذا سألتُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطاني ، وإذا

__________________

(١) مختصر تاريخ ابن عساكر ، لابن منظور ١٧ : ٣٥٦ وما بعدها و ١٨ : ٥١.

(٢) الارشاد ، للشيخ المفيد ، أخرجه عن عبدالله بن مسعود : ٢٢. وفتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، للحافظ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني المغربي.

٣٥

سكتُّ ابتدأني » (١) . ثم قالعليه‌السلام مرةً : إنَّ الله وهبَ لي لساناً سؤولاً ، وقلباً عقولاً(٢) وفي حديث طويل تحدّث الإمام عليّعليه‌السلام في هذا الصدد قائلاً :« ما نَزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، ودعا الله لي أن يعطيني فهمها وحفظها فما نسيتُ آية من كتاب الله تعالى ولا علماً أملاه عليَّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك رسول الله علماً علّمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمرٍ ولا نهي كان أو يكون إلاّ علّمنيه وحفظته ، ولم أنسَ حرفاً واحداً منه » (٣) .

وقد صرّح السيوطي أن معمراً روى عن وهب بن عبدالله عن أبي الطفيل قال : «شهدتُ عليّاً يخطب وهو يقول :« سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم به ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلمُ أبليلٍ نزلت أم في نهار أم في سهل أم في جبلٍ » (٤) .

قال السيوطي : «إنَّ أحداً من الصحابة لم يجرؤ على أن يقول سلوني غير عليّ »(٥) .

وكل ما تحدّث به الإمام عليّعليه‌السلام ، ونقله لنا التاريخ نقلاً أميناً ، شهد به

__________________

(١) التاج الجامع للاصول ٣ : ٣٣٥. وتاريخ الخلفاء ، للسيوطي : ١٧٠. والصواعق المحرقة ، لابن حجر : ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) الاتقان ، للسيوطي ٤ : ٢٣٤.

(٣) كمال الدين ١ : ٢٨٤ / ٣٧ باب ٢٤. وبحار الانوار ، للمجلسي ٩٢ : ٩٩.

(٤) الاتقان ٤ : ٢٣٣. والصواعق المحرقة ، لابن حجر : ١٢٧.

(٥) تاريخ الخلفاء : ١٦٦.

٣٦

أجلاء الصحابة وأقرَّ به علماؤهم وكبارهم ؛ فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود أنه قال : « إنَّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرفٌ إلاّ وله ظهرٌ وبطن ، وإنَّ عليّ بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن »(١) . وجاء عن ابن عباس أنه قال : « والله لقد أُعطي عليُّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم »(٢) وورد عنه أيضاً قوله : « كنا نتحدّث أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إلى عليٍّ سبعين عهداً ، لم يعهد إلى غيره »(٣) .

وعملياً كان أمير المؤمنينعليه‌السلام مرجع الصحابة في كلِّ ما يعترضهم من المسائل العلمية والمشاكل الإدارية ، والمعضلات القضائية. فلقد ثبتَ عن عمر بن الخطاب أنه قال : « لولا عليٌّ لهلك عمر »(٤) ، وأنه كان يقول : « أعوذ بالله من معضلةٍ ، ولا أبو حسن لها »(٥) ، وثبتَ عنه أنه قال : « أقضانا عليٌّ »(٦) . والقضاء يعني العلم بكلِّ أحكام الشرع. وكذلك غيره من كبار الصحابة ، فقد كثر رجوعهم إليه في مختلف القضايا المشكلة حتى قال الحافظ النووي : « سؤال كبار الصحابة له ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات مشهور »(٧) .

__________________

(١) نقله في الاتقان السيوطي ٤ : ٢٣٣.

(٢) ينابيع المودة ، للقندوزي ١ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) حلية الأولياء ١ : ٦٨.

(٤) البداية والنهاية ، لابن كثير ٧ : ٣٥٩. وتاريخ الخلفاء ، للسيوطي : ١٧١.

(٥) البداية والنهاية ، لابن كثير ٧ : ٣٧٣. والصواعق المحرقة ، لابن حجر : ١٢٧.

(٦) الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٣ : ٣٣٩.

(٧) تهذيب الاَسماء واللغات ١ : ٣٤٤ ترجمة رقم ٤٢٩.

٣٧

المطلب الثاني

إعداد الاَُمّة وتهيئتها لتولي

الإمام عليّعليه‌السلام الخلافة وترسيخ النصّ عليه

لقد بدأت عملية إعداد الاَُمة وتربيتها لقبول واستقبال خلافة الإمام عليّعليه‌السلام ، وقيادته للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبالنصّ عليه منذ وقتٍ مبكّر ، وآية الانذار خير دليل على ذلك. إذ من الثابت عند جميع المفسرين ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أُمر في السنة الثالثة من البعثة المشرفة باظهار دعوته جهرة لقوله تعالى :( فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِض عَنِ المُشْرِكينَ ) (١) لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ـ كما يقول ابن قتيبة الدينوري ـ متستراً على دعوته متخفياً في أمره ، متوقياً بعض التوقي(٢) . وقد بدأ بانذار عشيرته الأقربين لقوله تعالى :( وَأنذِر عَشِيرَتَكَ الأقرَبِينَ ) (٣) وفي الخبر الصحيح عن عبدالله بن عباس عن الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال :« لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ الأقرَبِينَ ) دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لي يا عليّ إنَّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقتُ بذلك ذرعاً ، وعرفتُ أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبريل ، فقال يا محمّد إلاّ تفعل ما

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩٤.

(٢) المسائل والاَجوبة في الحديث والتفسير ، لابن قتيبة : ٢٢٢.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٢١٤.

٣٨

تؤمر به يعذّبك ربُّك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رِجلَ شاة ، وأملاَ لنا عسّاً من لبنٍ ثم اجمع لي بني عبدالمطلب حتى اُكلّمهم واُبلغهم ما اُمرتُ به ، ففعلتُ ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب والحمزة والعباس وأبو لهب » فلما أكلوا وشربوا ، قال الطبري : « فتكلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :« يا بني عبدالمطلب إني والله ما أعلمُ شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به ، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن ادعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم » . قال ـ أي الإمام عليعليه‌السلام ـ :« فأحجم القوم عنها جميعاً ، فقلتُ وإنّي لاَحدثهم سنّاً ، وأرمصهم عيناً أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، قال ـ أي الإمام عليّ عليه‌السلام ـ فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمعَ لابنك وتطيع » (١) .

ومن هذه الرواية يتضح لنا أن أول عملية لإعداد الاَمّة من أجل قبول الإمام عليّعليه‌السلام ، وصيّاً وخليفةً ، قد تمت في الوسط الخاص ، ( عشيرة النبي المقربين ) وكان ذلك جنباً إلى جنب مع التبشير برسالته والإعلان عن نبوته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.

ثم اتخذت عملية إعداد الاَُمة منحىً آخر يوم كان ابن عم الرسول صلوات الله عليهما متفانياً بكلِّ ما يملك من أجل الرسالة ، مستبسلاً في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢١٨ ـ ٢١٩. راجع تفصيل الرواية وأسانيدها في : ما نزل من القرآن في عليّ ، لابي نعيم ـ جمع الشيخ المحمودي : ١٥٥. وتفسير الخازن ٣ : ٣٧١.

٣٩

الدفاع عنها ، ومجاهداً في سبيلها بقلبه ولسانه ويده ، وقد تجسّد ذلك في جملة وافرة من الآيات المشيرة إلى فضل الإمام عليعليه‌السلام ومشيدة بفضائله ؛ لأجل تحقيق الهدف القرآني نفسه الذي استُهلَّ بآية الانذار.

أخرج ابن عساكر على ما نقله السيوطي : « أنّه ما نزل في أحدٍ من كتاب الله كما نزل في عليٍّ »(١) ، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس أيضاً « إنّه نزلت في عليٍّ ثلاثمائة آية »(٢) .

ونورد هنا بعض الآيات التي ذكر غيرُ واحدٍ أنها نزلت في الإمام عليّعليه‌السلام وهي تدخل في هذا الإطار ، أي تؤشر حقيقة إعداد الاَُمة وتربيتها في هذا الاتجاه بالنصّ عليهعليه‌السلام .

أ ـ جاء قوله تعالى :( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحمنُ وُدّاً ) (٣) أخرج غير واحد من الحفاظ بأسانيد مختلفة أنها نزلت في الإمام عليّعليه‌السلام ، لأنّ ما من مسلم إلاّ ولعلي في قلبه محبة(٤) .

فعن البراء بن عازب قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي بن أبي طالب« يا عليّ : قل اللّهم اجعل لي عندك عهداً ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة » .

فأنزل الله :( إنَّ الَّذِينَ امَنُوا ) قال : نزلت في عليٍّ »(٥) .

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ١٧١. والصواعق المحرقة ، لابن حجر : ١٢٧.

(٢) المصدران السابقان.

(٣) مريم ١٩ : ٩٦.

(٤) ما نزل من القرآن في عليٍّ ، لابي نعيم الاصبهاني : ١٣٠ وما بعدها.

(٥) شواهد التنزيل ، للحسكاني ١ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168