مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة22%

مطارحات في الفكر والعقيدة مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
ISBN: 964-319-046-3
الصفحات: 168

مطارحات في الفكر والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 168 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51409 / تحميل: 5442
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٠٤٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ويكثر العثار فيها » (١) .

أما مسألة التأويلات الفاسدة التي يلجأ البعض اليها في مثل هذه الموارد ، فلا تجدي نفعاً لمن ألقى السمع وهو شهيد ، ولمن رام الحقيقة ، وإلا فإنّه لا يضيع على من اتبع الهوى مخرجٌ وتأوّل.

ثم ما المانع أن يكون المدح من الإمام عليّعليه‌السلام لهم ووصفه لهم بالخلافة ، قد صدر منه تقية ؟

لا يقال : إنَّ التقية مرتفعة.

لأنّا نقول : كيف وقد أُخرجعليه‌السلام من منزله يقاد قهراً ليكره على البيعة(٢) .

ثم كيف ، وقد اتقى قبله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في الأثر الصحيح :« بئس أخو العشيرة » لما في خلق ذلك الرجل من الشكاسة والخشونة(٣) .

وهل يستلزم المدح على فعل معين أكثر من التشجيع على المثابرة عليه ، ومتى كان الممدوح أحق من المادح بالخلافة ؟!! ثم هل أبقت الشقشقية للمدح عيناً أو أثراً ، وهنا لابدّ من الاشارة إلى نكتة طريفة وهي أنّ المدح لا يدلّ على تعديلٍ وفي الشقشقية جرح ، وأن الجرح هو المتعيَّن للأخذ مع كونه المتقدم في حالة التساوي.

هذا ، وقد ورد من طرقٍ صحيحة تقريعُهم ولومُهم وبيانُ خطئهم وما

__________________

(١) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح خطبة ٣ « الشقشقية ».

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ٦ : ٤٩ ـ ٥٠. وتاريخ الطبري ٢ : ٤٤٨ ، حوادث سنة ١١ ه‍ حديث السقيفة.

(٣) صحيح البخاري ٨ : ٣٨ كتاب الاكراه باب المداراة مع الناس.

٨١

ارتكبوه في حق الامة عندما حرموها من إمامة وخلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وما جرَّ على الامة ذلك من الويلات والنكبات وتسلّط الفسّاق والفجّار على رقاب المسلمين ، وهذا ما أشارت إليه عائشة زوجة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وكلّ هذا مسطور في محاورة عبد الله بن عباس لعمر كما نقلها الزبير بن بكار في الأخبار الموفقيات ، ونقلها ابن أبي الحديد في شرح النهج(٢) .

ما أشارت إليه الزهراءعليها‌السلام في خطبتها :

وأما عن خطبة سيدة النساء سلام الله عليها كما نقلها ابن طيفور في بلاغات النساء. فقد كشفت الكثير ونبّهت الامة إلى ما سيلحقها من الويلات ويكفي أنها صلوات الله عليها ماتت غاضبة عليهما(٣) ، ودفنت ليلاً دون أن يحضروا جنازتها(٤) ، وفي ذلك أبلغ دليل وأقوى حجة على ما كانوا عليه من الحال(٥) .

ثانياً : حجة المصاهرة :

وأما عن خبر تزويج أم كلثوم من عمر فقد طال الكلام حوله ، ولم يلتفت المستدل إلى أنَّ أهل البيتعليهم‌السلام قد أصّلوا قاعدة عامة اقتداء بجدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلاصتها التعامل مع المسلم على ظاهر إسلامه

__________________

(١) الدر المنثور ، للسيوطي ٦ : ١٩.

(٢) شرح النهج ٦ : ٤٥.

(٣) صحيح البخاري ٨ : ٢٨٦.

(٤) شرح النهج ٦ : ٤٨ ـ ٥٠. وصحيح البخاري ٥ : ١٧٧ باب غزوة خيبر.

(٥) صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨.

٨٢

دون الفحص عن خفاياه ونواياه ، ويكفي في التزويج الإسلام على أنَّ في بعض طرقنا ما يدل على الاتقاء في ذلك التزويج على فرض صحته ، وذهب فريق آخر إلى إنكار الموضوع واستدلوا عليه بجملة من الأدلة.

ومهما يكن فان المصاهرة لا تدل على أكثر من اتصال الوشائج والروابط وإحياء السُنّة أما أن تدل على أرجحية الصهر فدون إثباته خرط القَتاد.

ولقد كان من أصهار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبناء أبي لهب ، واُمهما حمالة الحطب !

ثالثاً : حجة التسمية :

وأما عن حجتهم بتسمية أهل البيتعليهم‌السلام باسماء الثلاثة فهو من المضحكات حقاً لأنك واجد في أسماء أخلص الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام من تسمى باسم يزيد ، أو معاوية ، أو مروان ، أو عبيدالله ، أو زياد وغيرها من الاسماء التي صادف وأن حملها طواغيت الاُمة وفراعنتها ، كما أنَّك واجد في الطرف المقابل من تسمى بعلي مع بغضه لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، كعليّ بن الجهم الشاعر المشهور بنصبه.

رابعاً : حجة المعاتبة :

أما معاتبة عثمان في النهج(١) فهو منهج عند الإمام في إدانة المتعاقبين على الخلافة ، والكشف عن أعمالهم باسلوبه الخاص الذي يتحرّى فيه ـ كما هو دأبه ـ مصلحة الإسلام العليا ، فتقديم النصح والمشورة لهم هو أحق بها من غيره.

__________________

(١) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح خطبة ٣ « الشقشقية ».

٨٣

ولهذا نجد الإمام الحسنعليه‌السلام يقول لرسول معاوية بعد أن دعى الرسول على معاوية :« لا تخن من ائتمنك ، وحسبك أن تحبني لحبّ رسول الله ولأبي ولاُمّي ، ومن الخيانة أن يثق بك قوم وأنت عدوّ لهم وتدعو عليهم » (١) .

فهل يحمل هذا على حبّ السبطعليه‌السلام لابن آكلة الأكباد ؟ فهذا نظير لذاك.

الإشكال الثامن :

عدم معرفة زيد الشهيد بالنصّ لعدم تواتره :

قالوا : لو كانت الإمامة بالنص معروفة عند أهل البيتعليهم‌السلام فكيف دعا زيد بن عليّ بن الحسينعليهم‌السلام لنفسه وهذا يتعارض مع دعوى الشيعة بتواتر النصّ ، وعلى فرض وجوده فهو من الآحاد ولا عبرة بالآحاد في الاُصول.

جواب الإشكال الثامن :

معرفة زيد الشهيد بالنصّ واثبات تواتره :

إنّ هذا من الافتراء على زيد الشهيدرضي‌الله‌عنه ، وخير دليل على ذلك هو أنَّ الإمام عليّ بن موسى الرضاعليهما‌السلام قال للمأمون وهو يحدّثه عن زيد بن عليّ بن الحسينعليهما‌السلام الشهيد :« إنه كان من علماء آل محمّد ، غضِبَ لله تعالى فجاهدَ أعداءه ، حتى قُتل في سبيله ، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه

__________________

(١) التشريف بالمنن ، لابن طاووس : ٣٦٣.

٨٤

سمع أباه جعفر بن محمّد يقول : رَحِمَ اللهُ عمي زيداً ، إنه دعا إلى الرضا من آل محمّد ، ولو ظفر به لوفى بما دعا إليه إنَّ زيد بن عليّ لم يدع ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله تعالى من ذلك ، إنه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) .

وفي رواية أنه ذُكر بين يدي الإمام الصادق من خرج من آل محمّد ، فقالعليه‌السلام :« لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد ، ولوددتُ أنَّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليَّ نفقة عياله » (٢) .

ومواقف الصادقعليه‌السلام مع أولاد عمومته من بني الحسن تعرب عن شدة أسفه وحزنه لما لا قوه من كيد الظالمين ، وفي الكافي وغيره عشرات الروايات الدالة على ذلك.

أما كون النص متواتراً فنعم هو متواتر عند المسلمين ، فلقد جاءت الروايات تترى في مناسبات جمةٍ ، وفي موارد لا تحصى كثرة ، فدونك حديث الدار(٣) ، وحديث المنزلة(٤) ، وحديث الثقلين(٥) ، وحديث الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش(٦) ، وحديث من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية(٧) فضلاً عن حديث الغدير الذي اعترف بتواتره

__________________

(١) وسائل الشيعة ، للحر العاملي ١٥ : ٥٤ ، كتاب الجهاد.

(٢) السرائر ، لابن ادريس الحلي ٣ : ٥٦٩.

(٣) تقدم ذكره والاشارة إلى بعض مصادره.

(٤) صحيح البخاري ٥ : ٨١ باب ٣٩.

(٥) صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣. وسنن الترمذي ٥ : ٥٩٦.

(٦) صحيح البخاري ٤ : ١٦٤ باب الاستخلاف. وصحيح مسلم ٢ : ١١٩ كتاب الامارة.

(٧) بهذا اللفظ في شرح المقاصد للتفتازاني وبألفاظٍ اُخرى في مصادر كثيرة جدّاً كما تقدّم.

٨٥

الجمُّ الغفير من الفريقين ، وكلها نصوص صريحة قطعية متواترة في المقام ، ولكنّ منهج المخالفين لأهل البيتعليهم‌السلام ، يصرفون النصوص عن ظواهرها ، ويتأوّلونها كما يشتهون ، وكذلك كانت نظريتهم وقانونهم كلما جوبهوا بالحق لجأوا إلى التأويل الباطل(١) أو تكذيب الاحاديث كلما أعوزهم الدليل على ما يقولون كابن تيمية ونظرائه.

ثم ليعلم هنا أنَّ هذا الادعاء واضح الفساد من أصله ؛ لأن المخالف لشيعة الإمام عليّعليه‌السلام قسمان : قسم ينظر في أخبار الشيعة ويطّلع على أقوالهم ، وفي هذا القسم من يمنعه اعتقاده عن اعتقاد صحتها ، ومنهم المكابر ظاهراً لا باطناً طلباً لحطام الدنيا وتوصّلاً إلى المقاصد العاجلة ، ومنهم المقرُّ المعترف الساتر لأمره ، ومنهم المقرُّ المعترف الصادح بالحق.

وأما القسم الثاني ، فهم من دعاة التعصب الذين لا ينظرون في أخبارنا ألبتة ويطرحونها حتى كأن ـ في عقيدتهم ـ لا تجتمع الوثاقة والتشيّع في شخص مسلم ولذلك فهم لا يعملون بأخبارنا لإهمالهم لها ، والمنكر لتواتر النصّ لا يصعب علينا تشخيص موقعه بينهم.

أما زعمهم إنَّ النصَّ لم يعرفه أهل البيت ، وإنّهم أنكروه ! فهو قولٌ في غاية الغرابة ، بل هو مُنْكَرٌ للغاية ، لأنّ المطّلع على التاريخ وكتب الصحاح والسيرة تتجلى أمامه الحقيقة الناصعة بمعرفة خصوم أهل البيتعليهم‌السلام

__________________

(١) تأويلات ابن تيمية الفاسدة التي لا تقوم على مستند علمي في كتابه منهاج السُنّة مثلاً. وكذلك ما نقله في كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ( الخوارج والشيعة ) ، للدكتور أحمد محمّد أحمد جلي ١٩٨٨ م ، لاحظ تخبطهم وتعسفهم في تفسير الآية ٥٥ من المائدة وقارن مع ما جاء في تفسير الكشاف ١ : ٦٤٩.

٨٦

للنصّ فكيف بأهل البيت ومن ينتمي إليهم ؟! ، ودونك المحاورة التي جرت بين عمر بن الخطاب وبين ابن عباس ، ونقلها ابن أبي الحديد في شرح النهج(١) . ننقلها حرفياً كالآتي : « روي أنَّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه قال : دخلتُ على عمرَ في أول خلافته وقد اُلقي إليه صاع من تمر فدعاني إلى الأكل ...

قال : ( عمر ) : يا عبدالله عليك دماءُ البُدن إن كتمتَها ، هل بقي في نفس ( عليّ ) شيء من أمر الخلافة ؟ قلتُ : نعم ، قال : أيزعم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نصَّ عليه ؟ قلتُ ( والقول لابن عباس ) نعم ، وأزيدك ، سألتُ أبي عمّا يدعيه ، فقال : صَدَق ، فقال عمر : لقد كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمره ذرْوٌ من قول لا يثبت حُجّة ، ولا يقطع عُذراً ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك »(٢) وفيه إشارة إلى قوله هجَر رسول الله أو غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ، على ما نقل البخاري(٣) .

وراجع : المحاورة في تاريخ الطبري وما نقله عن عمر بن الخطاب من قوله لابن عباس : « إنّ قومكم يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة »(٤) .

وهناك ما هو أصرح وأبلغ ، وهو حديث المناشدة. فراجعه في مسند أحمد من أكثر من طريق وفيه : فقام ثلاثون صحابياً فشهدوا بحديث الغدير(٥) .

__________________

(١) شرح النهج ١٢ : ٢٠ ـ ٢١.

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ١٢ : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) صحيح البخاري ٨ : كتاب الاعتصام.

(٤) تاريخ الطبري ٢ : ٥٧٧.

(٥) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٨٨ ، ١١٨. واُسد الغابة ، لابن الاثير ٢ : ٢٣٣. وحلية الاولياء ،

٨٧

الإشكال التاسع :

انقطاع سلسلة الإمامة عند الشيعة بالإمام العسكريعليه‌السلام :

وقد زعموا بان عقيدة الشيعة بوجود الإمام المهديعليه‌السلام تقوم على ادعاء نائب واحد وبه يثبتون وجوده وامامته.

جواب الإشكال التاسع :

وما نقول في جواب هذا الإشكال : أنه قد أثبت الشيعة بمئات الكتب المطبوعة أدلّتهم على تواتر ولادة الإمام المهديعليه‌السلام واستمرار وجوده الشريف وغيبته ، فهل يريد منّا المفترون أن نكتب لهم موسوعة في الإمام المهديعليه‌السلام كجواب على افتراء نمّقوه بسطر واحد ؟!

إنّنا نذّكر بأنّ من جملة أدلتهم على ما أنكروه ، استدلالهم باعترافات علماء العامّة بذلك وعلى حسب القرون ، ابتداءً من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري ، حتى بلغوا مائة وثمانية وعشرين شخصاً بين عالمٍ وفقيهٍ ومحدثٍ ومفسرٍ ومؤرخٍ ، وقد ذُكرت اسماؤهم ، وبُيِّنت أقوالهم في بعض الدراسات تفصيلاً(١) .

__________________

لابي نعيم الاصبهاني ٥ : ٢٦.

(١) دفاع عن الكافي ، للسيّد ثامر العميدي ١ : ٥٦٧ ـ ٥٩٢. وقد كان لمركز الرسالة شرف الاسهام في بيان هذه الحقيقة الناصعة في اصداره الأول بعنوان : ( المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ) ، فراجع.

٨٨

المبحث الرابع

تهافت العامّة واضطرابهم في الإمامة والخلافة

لقد وقعت بعض المذاهب والفرق الإسلامية بتهافت كثير وتناقضات صارخة في كثير من معتقداتها ومقولاتها ونعني بها : المرجئة ، والأشاعرة ، والحشوية ، والمجسمة ، والسلفية ، ووريثة ذلك الخليط الوهابية المعاصرة.

وقد سطّر كلٌّ منهم من بدع الآخر الشيء الكثير جداً(١) وهي منازعات معروفة بينهم ، وقد يحاول بعض علمائهم إخفاءها والتنكّر لها مخادعةً للبسطاء الذين لا يقرءون ولا يبحثون عن الواقع !

ولعلّ من أهمّ ما وقعوا فيه من تهافت : مقولاتهم المتذبذبة في الإمامة والخلافة ، يتنقّلون من قولٍ إلى قول مع تقلّب الصيغ التاريخية ، كاشفين عن فراغ تامّ في الرؤية لهذا الموضوع المهمّ ، فكلّما وصلت حالة أفرزت خليفة في التاريخ المتقدّم جعلوها تشريعاً ، حتّى انتهى بهم الأمر إلى القول بشرعية الفوضى والفتن والتقاتل على الخلافة ، والقول بشرعية إمامة الفاسق والجاهل والظالم !

__________________

(١) تاريخ بغداد في ترجمة أبي حنيفة. والجزء الأول من منهاج السُنّة ، لابن تيمية. والرد على الطوائف الملحدة ، لابن تيمية. والخطط ، للمقريزي : ٢٦٠. والفصل في الملل والنحل ، لابن حزم. والملل والنحل ، للشهرستاني ، وغيرها.

٨٩

يقول أحمد بن حنبل : « الإمامة لمن غلب » !!

ويقول : من غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً وسُمّي أمير المؤمنين فلا يحلّ لاَحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً ، برّاً كان أو فاجراً !!

فتابعه فقهاؤهم بالقول : « والأمر مطَّرد ، فلو ثبتت الإمامة لواحد بالقهر والاستيلاء ، فيجيء آخر يقهره ويستولي على الأمر ، ينعزل الأول ويصير الإمام هو الثاني »(١) !!

إنّها الأطروحة التي لا يقرّها دين ولا يرتضيها ذو عقل سليم ، إنّما هي من شرائع الجاهلية الجهلاء قديماً وحديثاً ، وهي أنسب بالغاب وساكنيها منها ببني الإنسان !! لكنّهم ارتضوا أن يشوّهوا صورة الإسلام العظيم عصبيّةً لخلفاء فسّاق وطواغيت جعلوا الخلافة الإسلامية ملكاً يتنازعون عليه ، وليس أكثر من ذلك !

إنّهم احتجّوا لهذه العقيدة الباطلة بأنّ عبد الله بن عمر قد صلّى بأهل المدينة في وقعة الحَرَّة التي حدثت على إثر المعارضة والانتفاضة من أهل المدينة المنورة على يزيد بن معاوية ، وقد قال ابن عمر في وقتها : « نحن مَعَ مَن غلب »(٢) !!

وهكذا اتّخذوا هذه المقولة سنّة وديناً يدينون به لكلِّ سلطان ، ولسبب واحد ، وهو أنّ الغالب قد صار سلطاناً ، فهم في طاعة السلطان ، برّاً كان أو

__________________

(١) الأحكام السلطانية ، للفرّاء : ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٣. وشرح المقاصد للتفتازاني ٥ : ٢٣٣.

(٢) الأحكام السلطانية ، للفرّاء : ٢٣ ـ ٢٤.

٩٠

فاجراً ، عادلاً كان أو ظالماً ، عالماً كان أو جاهلاً ، انّما الطاعة للسلطان وحسب !!

لقد تمسّكوا بعبد الله بن عمر وتركوا الحسين سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنّة الذي قال فيه جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله :« حسين منّي وأنا من حسين ، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط » (١) .

فإذا وجدنا للحسينعليه‌السلام أثراً فهو من سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلا كلام لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « حسين منّي وأنا من حسين حسين سبط من الأسباط » ، والحسينعليه‌السلام هو القائل في يزيد نفسه :

« أيّها الناس إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرَم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مُدْخَلَه ..

ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غَيَّر » (٢) .

فكيف أتوا إذن بتلك المقولة المتخاذلة « نحن مع من غلب » واتّخذوها ديناً ، وأعرضوا عن الدين الذي أُمروا أن يتمسّكوا به ، ويعضّوا عليه

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٦٥٨ / ٣٧٧٥. وسنن ابن ماجة ١ : ٥١ / ١٤٤. ومسند أحمد ٤ : ١٧٢. والمعجم الكبير ، للطبراني ٢ : ٢٢ / ٢٥٨٩. والمصنف لابن أبي شيبة ١٢ : ١٠٣ / ١٢٢٤٤. ومصابيح السُنّة ، للبغوي : / ٤٨٣٣. والتاريخ الكبير ، للبخاري : / ٣٥٣٦.

(٢) الكامل في التاريخ ٤ : ٤٨ في حوادث سنة ٦١ ه‍. وتاريخ الطبري ٥ : ٤٠٤ في حوادث السنة المذكورة.

٩١

بالنواجذ ؟!!

كيف لا ، والحسين هو الذي قرأنا فيه قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المتقدم ؟.. وهو أحد النفر الأربعة الذين جمعهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت كسائه وقال :« اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ؟ » وأنزل الله تعالى فيهم :( إنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّركُم تَطهِيرا ) (١) ؟! وقد مرّ أكثر من ثلاثين مصدراً من مصادر الفريقين المعتبرة في الحديث والتفسير التي صرّحت بهذه الحقيقة(٢) .

والحسينعليه‌السلام هو أحد العترة الطاهرة التي خاطب النبي أمته فيها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض » (٣) .

إذن قد ارتكب هؤلاء أمراً عظيماً ووقعوا في انحراف خطير حين تركوا الدين الذي أُمروا باتّباعه ، واتبعوا خلافه !! وليتهم وقفوا عند هذا الحد فقبلوا مقولةً وتركوا أخرى ، لكنّهم بالغوا في الانحراف حين جعلوا الإمام الحسينعليه‌السلام رجلاً في هامش التاريخ له جملة من الفضائل ، ثمّ اتّخذوا

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٢) راجع : ما ذكرناه عن آية التطهير المذكورة آنفاً.

(٣) صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ / ٢٤٠٨. وصحيح مسلم بشرح النووي ١٥ : ١٧٩ ـ ١٨١. وسنن الترمذي ٥ : ٦٦٢ / ٣٧٨٦. وسنن الدارمي ٢ : ٤٣١. ومسند أحمد ٣ : ١٤ و ١٧ و ٢٦ و ٥٩ ، ٤ : ٣٦٧ ، ٥ : ١٨٢ و ١٨٩. وتحفة الاحوذي ١٠ : ٢٨٧ ـ ٢٨٩ / ٣٨٧٤ و ٣٨٧٦. والمعجم الكبير ، للطبراني ٥ : ١٦٦ ـ ١٦٧ / ٤٩٧١. والمصنف ، لابن أبي شيبة ١١ : ٤٥٢ / ١١٧٢٥ و ١١٧٢٦. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤. ومعالم التنزيل ، للبغوي ١ : ٥١٦. وكنز العمال ، للمتقي الهندي الحنفي ١ : ١٧٢ / ٨٧٠ و ٨٧٢ ، ١ : ١٧٣ / ٨٧٣ ، ١ : ١٨٥ / ٩٤٤ و ٩٤٦ ، ١ : ١٨٦ / ٩٥٠ ، ١ : ١٨٧ / ٩٥١ و ٩٥٣.

٩٢

عبد الله بن عمر إماماً لهم في العلم والفتيا !! ومال بعضهم إلى أقبح العقائد وأبغضها إلى الله ورسوله ، فاتّهموا الإمام الحسين نفسه ودافعوا عن الفاجر المريد ، يزيد بن معاوية بكل صلافة ووقاحة ، هذا وهم يدّعون بكل ما يملكونه من حماس وهياج بأنّهم على صواب كما صنع شيخهم ابن تيمية وسار على أثره وهّابية العصر الحديث ! فإن كانوا يدّعون أنهم من أهل السُنّة ، فتلك سُنّة بني اُميّة وجماعتهم ، فقد صدقوا وما عدوا الحقيقة ، وأما إن كانوا يعنون سنة النبي وجماعة المؤمنين ، فقد كذبوا وافتروا وخابوا.

لقد فارقوا في هذا الاتجاه من لا يفارق القرآن ، وحالفوا عدوّه !!

فارقوا من قال فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أنا حربٌ لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم » (١) .

فارقوا هؤلاء وحالفوا أعداءهم الذين أبغضوهم وانتقصوا من شأنهم ، فاتخذوهم أولياء ، من دون أولياء الله ورسوله ، فأصبحوا بعقيدتهم ومواقفهم هذه حرباً على الله ورسوله بنص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونظائره ، كقوله

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٦٠ / ٣٩٦٢. وسنن ابن ماجه ١ : ٥٢ / ١٤٥ أخرجه عن زيد بن أرقم قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام : أنا سِلمٌ لمن سالمتم ، وحربٌ لمن حاربتم. وأخرجه أحمد في مسنده ٢ : ٤٤٢. والبغوي في مصابيح السُنّة ٤ : ١٩٠. والحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٩ إذن حرب عليّ والسبطين الحسن والحسينعليهم‌السلام هي حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنص هذا الحديث ، وقد عرفت من وقف بوجههم ممن تسمى زوراً وبهتاناً باسم ( إمرة المؤمنين ) كمعاوية الباغي وولده الفاسق الفاجر ونظائرهما من الذين لا زالت الوهابية تعدهم مثلها الأعلى !!

٩٣

الشريف :« اللّهم عادِ من عاداهم ووالِ من والاهم » (١) .

وأشهر منه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله المتواتر في الإمام عليٍّعليه‌السلام :« من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه » (٢) .

__________________

(١) مسند أبي يعلى / ٦٩٥١. مجمع الزوائد ٩ : ١٦٦ ـ ١٦٧ قال : إسناده جيّد.

(٢) هذا هو حديث الغدير المتواتر الذي أشرنا إليه فيما تقدم مراراً ، فقد رواه من الصحابة مائة وعشرة أنفس كما فصّله العلاّمة الأميني في كتابه الخالد الغدير ١ : ١٤ ـ ٧٢ وقد مرّ ذكر بعضهم ، وسنشير هنا إلى من اعترف به دون من رواه وسكت عليه ، وهم :

١ ـ الترمذي في سننه ٥ : ٦٣٣ / ٣٧١٣ ، كتاب المناقب قال : « هذا حديث حسن صحيح ».

٢ ـ ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ : ٢٧٣ قال : « هذه كلها آثار ثابتة ».

٣ ـ الطحاوي في مشكل الآثار ٢ : ٣٠٨ قال : « فهذا الحديث صحيح الإسناد ولا طعن لاحد في روايته ».

٤ ـ الحاكم في المستدرك ٣ : ١٠٩ ـ ١١٠ قال : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ـ البخاري ومسلم ـ ولم يخرجاه ، شاهده حديث سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل أيضاً صحيح على شرطهما ، وحديث بريده الأسلمي صحيح على شرط الشيخين ».

٥ ـ ابن كثير في البداية والنهاية ٥ : ٢٠٩ من المجلد الثالث قال : « قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : هذا حديث صحيح ».

٦ ـ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري قال عن حديث الغدير : « وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من اسانيدها صحاح وحسان ».

٧ ـ ابن حجر المكي في الصواعق المحرقة : ٤٢ قال : « انه حديث صحيح لا مرية فيه وطرقه كثيرة جداً وكثير من اسانيدها صحاح وحسان وقول بعضهم : إن زيادة اللّهم والِ من والاه إلى آخره ، موضوعة. مردود ، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثير منها ».

٨ ـ الجزري الشافعي في أسنى المطالب : ٤٨ ، قال : « صحيح عن وجوه كثيرة ، متواتر عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وهو متواتر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رواه الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم ، وصحّ عن جماعة ممن يحصل القطع بخبرهم ».

٩ ـ علي القاري في المرقاة في شرح المشكاة ٥ : ٥٦٨ قال : « والحاصل : ان هذا الحديث صحيح لا مرية فيه ، بل بعض الحفاظ عدّه متواتراً ، فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث ».

٩٤

والنصوص المتقدّمة توجب التمسّك بأهل البيتعليهم‌السلام وطاعتهم. إلاّ أنّ من افتتن بالبدع والأهواء وامتزج عليه الحق بالباطل ولم يعرف من أي الضغثين يأخذ أو يدع ، نراه ومن وافقه وقلّده قد تركوا خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الراشدين المهديين الذين قال فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ » وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الخلفاء بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش » . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه » . قال ذلك كلّه(١) ليفسّر بعضه بعضاً ولا يبقي عذراً لمعتذر.

انهم لم يتركوا المحجة الواضحة وينكروا أهلها فحسب ، بل حرّفوا الواقع وقلبوه ، فجعلوا خلفاءهم الذين استولوا على الخلافة بنحو أو بآخر وأبعدوا عنها أهلها ، جعلوهم المعنيين بالخلفاء الراشدين !! من غير دليل ولا سلطان ولا برهان !!

__________________

١٠ ـ أبو القاسم الفضل بن محمّد نقل عنه ابن المغازلي الشافعي في كتابه المناقب ٢٧ : ٣٩ أنه قال عن هذا الحديث ما نصه : « هذا حديث صحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وقد روى حديث غدير خم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نحو من مائة نفس منهم العشرة ـ أي العشرة المبشرة بالجنة عند العامّة ـ ، وهو حديث ثابت.

١١ ـ برهان الدين الحلبي مفتي الشافعية قال في السيرة الحلبية ٣ : ٢٧٤ : « وهذا حديث صحيح ، ورد بأسانيد صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحته وقول بعضهم : ان زيادة ( اللّهم والِ من والاه الخ ، موضوعة ) مردود ، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيراً منها ». واُنظر تفاصيل أُخرى عن حديث الغدير في كتاب المراصد على شرح المقاصد للسيد عليّ الميلاني : ٥٢ ، والجزء الاول من الغدير للعلاّمة الاميني ، ودفاع عن الكافي ١ : ١١٣ ـ ١٤٤.

(١) وقد خرجنّا هذه الأقوال والنصوص من كتب الصحاح والمسانيد كما تقدم.

٩٥

وعلى هذه المغالطات والاَباطيل أسّس المتقدّمون عقائدهم فجاءت بعدهم أجيال مستضعفة مسكينة مخلصة لكنّها لم تعرف من الدين إلاّ هذه الصورة المقلوبة ، فأخذت تتعصّب لأوهام تظنّ أنّها الحقائق ، وأنّ كلّ ما خالفها فهو الباطل !!

ومن علمائهم المعاصرين من إذا وقف على هذه المغالطات ازداد عصبيّة وعنجهيّة وأزبد وأرعد ، أيكذّب بهذا ويتنكّر لذاك ، عبودية للهوى ليس إلاّ ..

لكنّ منهم من وقف مواقف الأحرار ونجا من طوق الهوى والعصبية إلى قدر جيّد ، فانتقدوا بشدّة تلك الآراء المتهافتة في اتّباع الغالب وإعذار السلف ، ووضع جنايات المفسدين منهم تحت عنوان الاجتهاد والتأويل ، وسخروا من ذلك كلّه.

ومن أجل تبرير ما صنعه بعض الصحابة أعني المتنازعين على الخلافة ، قالوا : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مات وترك الاُمّة هكذا هملاً بغير إمام ، وترك الأمر إلى الاُمّة. وهذا أعظم شيء افتروه على الله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّ العجيب أنّه لمّا يأتي ذكر أبي بكر وعمر وغيرهم ينزّهونهم عن هذه الخلّة ، ويقولون : إنّهم لا يمكن أن يتركوا هذه الاُمّة بلا إمام فتقع الفتنة(١) !!

فاذا كان الخليفة منزّهاً عن أن يترك الاُمّة هملاً بلا إمام ، أفليس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بهذا التنزيه ؟! هل أدرك الخلفاء أمراً غاب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أم كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله أقلّ منهم حرصاً على هذا الدين وعلى الاُمّة ؟!

__________________

(١) الأحكام السلطانية ، للفراء : ١٠. والأحكام السلطانية ، للبغوي : ٢٥ ـ ٢٦. والفصل ، لابن حزم ٤ : ١٦٩. والكامل في التاريخ ٣ : ٦٥.

٩٦

وعندما قال أهل الدين الحقّ ، أتباع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام : إنَّ هذا محال ، وإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن أن يعرّض دينه للاضطراب واُمّته للفتن والنزاع ، فلا يدعهم بلا إمام قادر على حملهم على المحجّة البيضاء ، عالم بتفصيل ما في الكتاب والسنّة لا يجهل منهما شيئاً ، مُنزّه عن الميل إلى الدنيا ومتابعة الهوى وهذا هو الذي جاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر ربه تعالى فإنّه( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى *إنْ هُوَ إلاَّ وَحيٌّ يُوحَى ) (١) ، وهو الذي قرأناه في جملة من أحاديثه الشريفة الصحيحة آنفاً(٢) .

عندما قال أهل الدين الحقّ بهذا ، وأسموه « الوجوب العقلي على الله تعالى » أي أنّه تعالى يستحيل أن يترك ذلك ، فقد كتب على نفسه الرحمة خالفهم المتسمّون بغير إسمهم ، وقالوا : لا يجب على الله شيء ولا يستحيل منه شيء ، فنسبوا إليه حتى القبائح تعالى الله عمّا يصفون ، فقالوا : « إنّه عز وجل قادر على أن ينسخ التوحيد !! وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الأوثان !! وأنّه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلاً وحقّاً ، ولكان التوحيد كفراً وظلماً وعبثاً !! وأنّه لو أراد أن يتّخذ ولداً لاصطفى ممّا يخلُق ما يشاء»(٣) !! هكذا جوّزوا أقبح المنكرات على الله تبارك وتعالى لجاجة وعناداً وعصبيّةً !!

وإذا قيل لهم كيف يجوز أن تنسبوا إلى الله تعالى القبائح ؟! قالوا إنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وإذا قلتم يمتنع نسبة القبائح إليه فقد أوجبتم على الله تركها ، ولا يجب على الله شيء !! انظر هذه السطحية في التفكير ،

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤.

(٢) راجع المبحث الأول من هذا الفصل.

(٣) الإحكام في أُصول الاحكام ، لابن حزم ٤ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

٩٧

لتعلم أنّه ما سار عليها الخَلَف إلاّ عصبيّةً لما قاله أسلافهم !

وإذا قيل إنّ الله تعالى لطيف بعباده فهو يفعل ما يقرّبهم إلى طاعته ويبعّدهم عن المعاصي ـ لا إلى حد الإلجاء ، بل لأجل التقريب والتمكين والتيسير ـ خالفوا في ذلك أيضاً وقالوا : لا يجب على الله فعل شيء يقرّب العباد إلى طاعته أو يبعدهم عن معصيته ! ثم احتجّوا بما يدل على اللجاج والسطحية ، فقالوا : لو وجب اللطف لما بقي كافر ولا فاسق(١) !! هذا ، وهم ينقلون عن أصحاب الحق القائلين باللطف أنّهم لا يعنون باللطف حد الإلجاء والقهر ، وإنّما هو ( اللطف المقرّب إلى الطاعة ) مثله مثل الباب تُفتح لدخول الدار ، فلا يقول عاقل أن الباب لو فتحت لما بقي أحد خارج الدار إلاّ ودخلها !! فبين الأمرين فرق شاسع لا يخفى على عاقل وإن خفي على مقلّد متعصّب همّه التقليد لا غير.

والذي صرفهم إلى كل هذا هو قضية الإمامة أيضاً ، فكل دين وعقيدة ونصّ يقدح باُولئك المتغلّبين على منصب الإمامة ، فعليهم أن يردّوه ويكذّبوا به دفاعاً عن أولئك الأمراء الخلفاء ، لا غير ! فهم يعلمون أنّ الإيمان بأن الله تعالى لطيف بعباده يفتح أمامهم الأبواب إلى طاعته ، فبعث الأنبياء لطفاً ليتوصل العباد إلى معرفته وطاعته ، وجعل من ورائهم أوصياء يحملون رسالتهم يبلّغونها حق تبليغها ، إذ لا يخفى عليهم شيء من علومها وأحكامها ، وكما فعل مع تلك الاَُمم فهو فعّال مع خير الاَمم ، أمّة خاتم النبيّين ، فاصطفى منها أوصياء ليكونوا الأمناء على هذا الدين وعلى الاُمّة بعد نبيّها الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ : ٣٢٢.

٩٨

فإذا آمنوا بذلك علموا علم اليقين أنّ خلفاءهم كانوا منحرفين عن أمر الرسول ونصوص الرسالة فلأجل ذلك كذّبوا ونسبوا حتّى القبائح إلى الله تعالى تنزيهاً لخلفائهم ، فارتضوا أن ينسبوا إلى الله تعالى كل قبيح لكنّهم لم يرتضوا أن يوصف خلفاؤهم بفعل قبيح ارتكبوه.

٩٩

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168