مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة0%

مطارحات في الفكر والعقيدة مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
ISBN: 964-319-046-3
الصفحات: 168

مطارحات في الفكر والعقيدة

مؤلف: مركز الرسالة
تصنيف:

ISBN: 964-319-046-3
الصفحات: 168
المشاهدات: 48573
تحميل: 4604

توضيحات:

مطارحات في الفكر والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 168 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48573 / تحميل: 4604
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة

مؤلف:
ISBN: 964-319-046-3
العربية

ويكثر العثار فيها » (1) .

أما مسألة التأويلات الفاسدة التي يلجأ البعض اليها في مثل هذه الموارد ، فلا تجدي نفعاً لمن ألقى السمع وهو شهيد ، ولمن رام الحقيقة ، وإلا فإنّه لا يضيع على من اتبع الهوى مخرجٌ وتأوّل.

ثم ما المانع أن يكون المدح من الإمام عليّعليه‌السلام لهم ووصفه لهم بالخلافة ، قد صدر منه تقية ؟

لا يقال : إنَّ التقية مرتفعة.

لأنّا نقول : كيف وقد أُخرجعليه‌السلام من منزله يقاد قهراً ليكره على البيعة(2) .

ثم كيف ، وقد اتقى قبله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في الأثر الصحيح :« بئس أخو العشيرة » لما في خلق ذلك الرجل من الشكاسة والخشونة(3) .

وهل يستلزم المدح على فعل معين أكثر من التشجيع على المثابرة عليه ، ومتى كان الممدوح أحق من المادح بالخلافة ؟!! ثم هل أبقت الشقشقية للمدح عيناً أو أثراً ، وهنا لابدّ من الاشارة إلى نكتة طريفة وهي أنّ المدح لا يدلّ على تعديلٍ وفي الشقشقية جرح ، وأن الجرح هو المتعيَّن للأخذ مع كونه المتقدم في حالة التساوي.

هذا ، وقد ورد من طرقٍ صحيحة تقريعُهم ولومُهم وبيانُ خطئهم وما

__________________

(1) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح خطبة 3 « الشقشقية ».

(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 6 : 49 ـ 50. وتاريخ الطبري 2 : 448 ، حوادث سنة 11 ه‍ حديث السقيفة.

(3) صحيح البخاري 8 : 38 كتاب الاكراه باب المداراة مع الناس.

٨١

ارتكبوه في حق الامة عندما حرموها من إمامة وخلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وما جرَّ على الامة ذلك من الويلات والنكبات وتسلّط الفسّاق والفجّار على رقاب المسلمين ، وهذا ما أشارت إليه عائشة زوجة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

وكلّ هذا مسطور في محاورة عبد الله بن عباس لعمر كما نقلها الزبير بن بكار في الأخبار الموفقيات ، ونقلها ابن أبي الحديد في شرح النهج(2) .

ما أشارت إليه الزهراءعليها‌السلام في خطبتها :

وأما عن خطبة سيدة النساء سلام الله عليها كما نقلها ابن طيفور في بلاغات النساء. فقد كشفت الكثير ونبّهت الامة إلى ما سيلحقها من الويلات ويكفي أنها صلوات الله عليها ماتت غاضبة عليهما(3) ، ودفنت ليلاً دون أن يحضروا جنازتها(4) ، وفي ذلك أبلغ دليل وأقوى حجة على ما كانوا عليه من الحال(5) .

ثانياً : حجة المصاهرة :

وأما عن خبر تزويج أم كلثوم من عمر فقد طال الكلام حوله ، ولم يلتفت المستدل إلى أنَّ أهل البيتعليهم‌السلام قد أصّلوا قاعدة عامة اقتداء بجدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلاصتها التعامل مع المسلم على ظاهر إسلامه

__________________

(1) الدر المنثور ، للسيوطي 6 : 19.

(2) شرح النهج 6 : 45.

(3) صحيح البخاري 8 : 286.

(4) شرح النهج 6 : 48 ـ 50. وصحيح البخاري 5 : 177 باب غزوة خيبر.

(5) صحيح البخاري 5 : 288. وصحيح مسلم 3 : 138.

٨٢

دون الفحص عن خفاياه ونواياه ، ويكفي في التزويج الإسلام على أنَّ في بعض طرقنا ما يدل على الاتقاء في ذلك التزويج على فرض صحته ، وذهب فريق آخر إلى إنكار الموضوع واستدلوا عليه بجملة من الأدلة.

ومهما يكن فان المصاهرة لا تدل على أكثر من اتصال الوشائج والروابط وإحياء السُنّة أما أن تدل على أرجحية الصهر فدون إثباته خرط القَتاد.

ولقد كان من أصهار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبناء أبي لهب ، واُمهما حمالة الحطب !

ثالثاً : حجة التسمية :

وأما عن حجتهم بتسمية أهل البيتعليهم‌السلام باسماء الثلاثة فهو من المضحكات حقاً لأنك واجد في أسماء أخلص الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام من تسمى باسم يزيد ، أو معاوية ، أو مروان ، أو عبيدالله ، أو زياد وغيرها من الاسماء التي صادف وأن حملها طواغيت الاُمة وفراعنتها ، كما أنَّك واجد في الطرف المقابل من تسمى بعلي مع بغضه لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، كعليّ بن الجهم الشاعر المشهور بنصبه.

رابعاً : حجة المعاتبة :

أما معاتبة عثمان في النهج(1) فهو منهج عند الإمام في إدانة المتعاقبين على الخلافة ، والكشف عن أعمالهم باسلوبه الخاص الذي يتحرّى فيه ـ كما هو دأبه ـ مصلحة الإسلام العليا ، فتقديم النصح والمشورة لهم هو أحق بها من غيره.

__________________

(1) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح خطبة 3 « الشقشقية ».

٨٣

ولهذا نجد الإمام الحسنعليه‌السلام يقول لرسول معاوية بعد أن دعى الرسول على معاوية :« لا تخن من ائتمنك ، وحسبك أن تحبني لحبّ رسول الله ولأبي ولاُمّي ، ومن الخيانة أن يثق بك قوم وأنت عدوّ لهم وتدعو عليهم » (1) .

فهل يحمل هذا على حبّ السبطعليه‌السلام لابن آكلة الأكباد ؟ فهذا نظير لذاك.

الإشكال الثامن :

عدم معرفة زيد الشهيد بالنصّ لعدم تواتره :

قالوا : لو كانت الإمامة بالنص معروفة عند أهل البيتعليهم‌السلام فكيف دعا زيد بن عليّ بن الحسينعليهم‌السلام لنفسه وهذا يتعارض مع دعوى الشيعة بتواتر النصّ ، وعلى فرض وجوده فهو من الآحاد ولا عبرة بالآحاد في الاُصول.

جواب الإشكال الثامن :

معرفة زيد الشهيد بالنصّ واثبات تواتره :

إنّ هذا من الافتراء على زيد الشهيدرضي‌الله‌عنه ، وخير دليل على ذلك هو أنَّ الإمام عليّ بن موسى الرضاعليهما‌السلام قال للمأمون وهو يحدّثه عن زيد بن عليّ بن الحسينعليهما‌السلام الشهيد :« إنه كان من علماء آل محمّد ، غضِبَ لله تعالى فجاهدَ أعداءه ، حتى قُتل في سبيله ، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه

__________________

(1) التشريف بالمنن ، لابن طاووس : 363.

٨٤

سمع أباه جعفر بن محمّد يقول : رَحِمَ اللهُ عمي زيداً ، إنه دعا إلى الرضا من آل محمّد ، ولو ظفر به لوفى بما دعا إليه إنَّ زيد بن عليّ لم يدع ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله تعالى من ذلك ، إنه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (1) .

وفي رواية أنه ذُكر بين يدي الإمام الصادق من خرج من آل محمّد ، فقالعليه‌السلام :« لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد ، ولوددتُ أنَّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليَّ نفقة عياله » (2) .

ومواقف الصادقعليه‌السلام مع أولاد عمومته من بني الحسن تعرب عن شدة أسفه وحزنه لما لا قوه من كيد الظالمين ، وفي الكافي وغيره عشرات الروايات الدالة على ذلك.

أما كون النص متواتراً فنعم هو متواتر عند المسلمين ، فلقد جاءت الروايات تترى في مناسبات جمةٍ ، وفي موارد لا تحصى كثرة ، فدونك حديث الدار(3) ، وحديث المنزلة(4) ، وحديث الثقلين(5) ، وحديث الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش(6) ، وحديث من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية(7) فضلاً عن حديث الغدير الذي اعترف بتواتره

__________________

(1) وسائل الشيعة ، للحر العاملي 15 : 54 ، كتاب الجهاد.

(2) السرائر ، لابن ادريس الحلي 3 : 569.

(3) تقدم ذكره والاشارة إلى بعض مصادره.

(4) صحيح البخاري 5 : 81 باب 39.

(5) صحيح مسلم 4 : 1873. وسنن الترمذي 5 : 596.

(6) صحيح البخاري 4 : 164 باب الاستخلاف. وصحيح مسلم 2 : 119 كتاب الامارة.

(7) بهذا اللفظ في شرح المقاصد للتفتازاني وبألفاظٍ اُخرى في مصادر كثيرة جدّاً كما تقدّم.

٨٥

الجمُّ الغفير من الفريقين ، وكلها نصوص صريحة قطعية متواترة في المقام ، ولكنّ منهج المخالفين لأهل البيتعليهم‌السلام ، يصرفون النصوص عن ظواهرها ، ويتأوّلونها كما يشتهون ، وكذلك كانت نظريتهم وقانونهم كلما جوبهوا بالحق لجأوا إلى التأويل الباطل(1) أو تكذيب الاحاديث كلما أعوزهم الدليل على ما يقولون كابن تيمية ونظرائه.

ثم ليعلم هنا أنَّ هذا الادعاء واضح الفساد من أصله ؛ لأن المخالف لشيعة الإمام عليّعليه‌السلام قسمان : قسم ينظر في أخبار الشيعة ويطّلع على أقوالهم ، وفي هذا القسم من يمنعه اعتقاده عن اعتقاد صحتها ، ومنهم المكابر ظاهراً لا باطناً طلباً لحطام الدنيا وتوصّلاً إلى المقاصد العاجلة ، ومنهم المقرُّ المعترف الساتر لأمره ، ومنهم المقرُّ المعترف الصادح بالحق.

وأما القسم الثاني ، فهم من دعاة التعصب الذين لا ينظرون في أخبارنا ألبتة ويطرحونها حتى كأن ـ في عقيدتهم ـ لا تجتمع الوثاقة والتشيّع في شخص مسلم ولذلك فهم لا يعملون بأخبارنا لإهمالهم لها ، والمنكر لتواتر النصّ لا يصعب علينا تشخيص موقعه بينهم.

أما زعمهم إنَّ النصَّ لم يعرفه أهل البيت ، وإنّهم أنكروه ! فهو قولٌ في غاية الغرابة ، بل هو مُنْكَرٌ للغاية ، لأنّ المطّلع على التاريخ وكتب الصحاح والسيرة تتجلى أمامه الحقيقة الناصعة بمعرفة خصوم أهل البيتعليهم‌السلام

__________________

(1) تأويلات ابن تيمية الفاسدة التي لا تقوم على مستند علمي في كتابه منهاج السُنّة مثلاً. وكذلك ما نقله في كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ( الخوارج والشيعة ) ، للدكتور أحمد محمّد أحمد جلي 1988 م ، لاحظ تخبطهم وتعسفهم في تفسير الآية 55 من المائدة وقارن مع ما جاء في تفسير الكشاف 1 : 649.

٨٦

للنصّ فكيف بأهل البيت ومن ينتمي إليهم ؟! ، ودونك المحاورة التي جرت بين عمر بن الخطاب وبين ابن عباس ، ونقلها ابن أبي الحديد في شرح النهج(1) . ننقلها حرفياً كالآتي : « روي أنَّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه قال : دخلتُ على عمرَ في أول خلافته وقد اُلقي إليه صاع من تمر فدعاني إلى الأكل ...

قال : ( عمر ) : يا عبدالله عليك دماءُ البُدن إن كتمتَها ، هل بقي في نفس ( عليّ ) شيء من أمر الخلافة ؟ قلتُ : نعم ، قال : أيزعم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نصَّ عليه ؟ قلتُ ( والقول لابن عباس ) نعم ، وأزيدك ، سألتُ أبي عمّا يدعيه ، فقال : صَدَق ، فقال عمر : لقد كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمره ذرْوٌ من قول لا يثبت حُجّة ، ولا يقطع عُذراً ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك »(2) وفيه إشارة إلى قوله هجَر رسول الله أو غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ، على ما نقل البخاري(3) .

وراجع : المحاورة في تاريخ الطبري وما نقله عن عمر بن الخطاب من قوله لابن عباس : « إنّ قومكم يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة »(4) .

وهناك ما هو أصرح وأبلغ ، وهو حديث المناشدة. فراجعه في مسند أحمد من أكثر من طريق وفيه : فقام ثلاثون صحابياً فشهدوا بحديث الغدير(5) .

__________________

(1) شرح النهج 12 : 20 ـ 21.

(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 12 : 20 ـ 21.

(3) صحيح البخاري 8 : كتاب الاعتصام.

(4) تاريخ الطبري 2 : 577.

(5) مسند أحمد بن حنبل 1 : 88 ، 118. واُسد الغابة ، لابن الاثير 2 : 233. وحلية الاولياء ،

٨٧

الإشكال التاسع :

انقطاع سلسلة الإمامة عند الشيعة بالإمام العسكريعليه‌السلام :

وقد زعموا بان عقيدة الشيعة بوجود الإمام المهديعليه‌السلام تقوم على ادعاء نائب واحد وبه يثبتون وجوده وامامته.

جواب الإشكال التاسع :

وما نقول في جواب هذا الإشكال : أنه قد أثبت الشيعة بمئات الكتب المطبوعة أدلّتهم على تواتر ولادة الإمام المهديعليه‌السلام واستمرار وجوده الشريف وغيبته ، فهل يريد منّا المفترون أن نكتب لهم موسوعة في الإمام المهديعليه‌السلام كجواب على افتراء نمّقوه بسطر واحد ؟!

إنّنا نذّكر بأنّ من جملة أدلتهم على ما أنكروه ، استدلالهم باعترافات علماء العامّة بذلك وعلى حسب القرون ، ابتداءً من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري ، حتى بلغوا مائة وثمانية وعشرين شخصاً بين عالمٍ وفقيهٍ ومحدثٍ ومفسرٍ ومؤرخٍ ، وقد ذُكرت اسماؤهم ، وبُيِّنت أقوالهم في بعض الدراسات تفصيلاً(1) .

__________________

لابي نعيم الاصبهاني 5 : 26.

(1) دفاع عن الكافي ، للسيّد ثامر العميدي 1 : 567 ـ 592. وقد كان لمركز الرسالة شرف الاسهام في بيان هذه الحقيقة الناصعة في اصداره الأول بعنوان : ( المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ) ، فراجع.

٨٨

المبحث الرابع

تهافت العامّة واضطرابهم في الإمامة والخلافة

لقد وقعت بعض المذاهب والفرق الإسلامية بتهافت كثير وتناقضات صارخة في كثير من معتقداتها ومقولاتها ونعني بها : المرجئة ، والأشاعرة ، والحشوية ، والمجسمة ، والسلفية ، ووريثة ذلك الخليط الوهابية المعاصرة.

وقد سطّر كلٌّ منهم من بدع الآخر الشيء الكثير جداً(1) وهي منازعات معروفة بينهم ، وقد يحاول بعض علمائهم إخفاءها والتنكّر لها مخادعةً للبسطاء الذين لا يقرءون ولا يبحثون عن الواقع !

ولعلّ من أهمّ ما وقعوا فيه من تهافت : مقولاتهم المتذبذبة في الإمامة والخلافة ، يتنقّلون من قولٍ إلى قول مع تقلّب الصيغ التاريخية ، كاشفين عن فراغ تامّ في الرؤية لهذا الموضوع المهمّ ، فكلّما وصلت حالة أفرزت خليفة في التاريخ المتقدّم جعلوها تشريعاً ، حتّى انتهى بهم الأمر إلى القول بشرعية الفوضى والفتن والتقاتل على الخلافة ، والقول بشرعية إمامة الفاسق والجاهل والظالم !

__________________

(1) تاريخ بغداد في ترجمة أبي حنيفة. والجزء الأول من منهاج السُنّة ، لابن تيمية. والرد على الطوائف الملحدة ، لابن تيمية. والخطط ، للمقريزي : 260. والفصل في الملل والنحل ، لابن حزم. والملل والنحل ، للشهرستاني ، وغيرها.

٨٩

يقول أحمد بن حنبل : « الإمامة لمن غلب » !!

ويقول : من غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً وسُمّي أمير المؤمنين فلا يحلّ لاَحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً ، برّاً كان أو فاجراً !!

فتابعه فقهاؤهم بالقول : « والأمر مطَّرد ، فلو ثبتت الإمامة لواحد بالقهر والاستيلاء ، فيجيء آخر يقهره ويستولي على الأمر ، ينعزل الأول ويصير الإمام هو الثاني »(1) !!

إنّها الأطروحة التي لا يقرّها دين ولا يرتضيها ذو عقل سليم ، إنّما هي من شرائع الجاهلية الجهلاء قديماً وحديثاً ، وهي أنسب بالغاب وساكنيها منها ببني الإنسان !! لكنّهم ارتضوا أن يشوّهوا صورة الإسلام العظيم عصبيّةً لخلفاء فسّاق وطواغيت جعلوا الخلافة الإسلامية ملكاً يتنازعون عليه ، وليس أكثر من ذلك !

إنّهم احتجّوا لهذه العقيدة الباطلة بأنّ عبد الله بن عمر قد صلّى بأهل المدينة في وقعة الحَرَّة التي حدثت على إثر المعارضة والانتفاضة من أهل المدينة المنورة على يزيد بن معاوية ، وقد قال ابن عمر في وقتها : « نحن مَعَ مَن غلب »(2) !!

وهكذا اتّخذوا هذه المقولة سنّة وديناً يدينون به لكلِّ سلطان ، ولسبب واحد ، وهو أنّ الغالب قد صار سلطاناً ، فهم في طاعة السلطان ، برّاً كان أو

__________________

(1) الأحكام السلطانية ، للفرّاء : 20 ، 22 ، 23. وشرح المقاصد للتفتازاني 5 : 233.

(2) الأحكام السلطانية ، للفرّاء : 23 ـ 24.

٩٠

فاجراً ، عادلاً كان أو ظالماً ، عالماً كان أو جاهلاً ، انّما الطاعة للسلطان وحسب !!

لقد تمسّكوا بعبد الله بن عمر وتركوا الحسين سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنّة الذي قال فيه جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله :« حسين منّي وأنا من حسين ، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط » (1) .

فإذا وجدنا للحسينعليه‌السلام أثراً فهو من سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلا كلام لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « حسين منّي وأنا من حسين حسين سبط من الأسباط » ، والحسينعليه‌السلام هو القائل في يزيد نفسه :

« أيّها الناس إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرَم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مُدْخَلَه ..

ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غَيَّر » (2) .

فكيف أتوا إذن بتلك المقولة المتخاذلة « نحن مع من غلب » واتّخذوها ديناً ، وأعرضوا عن الدين الذي أُمروا أن يتمسّكوا به ، ويعضّوا عليه

__________________

(1) سنن الترمذي 5 : 658 / 3775. وسنن ابن ماجة 1 : 51 / 144. ومسند أحمد 4 : 172. والمعجم الكبير ، للطبراني 2 : 22 / 2589. والمصنف لابن أبي شيبة 12 : 103 / 12244. ومصابيح السُنّة ، للبغوي : / 4833. والتاريخ الكبير ، للبخاري : / 3536.

(2) الكامل في التاريخ 4 : 48 في حوادث سنة 61 ه‍. وتاريخ الطبري 5 : 404 في حوادث السنة المذكورة.

٩١

بالنواجذ ؟!!

كيف لا ، والحسين هو الذي قرأنا فيه قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المتقدم ؟.. وهو أحد النفر الأربعة الذين جمعهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت كسائه وقال :« اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ؟ » وأنزل الله تعالى فيهم :( إنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّركُم تَطهِيرا ) (1) ؟! وقد مرّ أكثر من ثلاثين مصدراً من مصادر الفريقين المعتبرة في الحديث والتفسير التي صرّحت بهذه الحقيقة(2) .

والحسينعليه‌السلام هو أحد العترة الطاهرة التي خاطب النبي أمته فيها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض » (3) .

إذن قد ارتكب هؤلاء أمراً عظيماً ووقعوا في انحراف خطير حين تركوا الدين الذي أُمروا باتّباعه ، واتبعوا خلافه !! وليتهم وقفوا عند هذا الحد فقبلوا مقولةً وتركوا أخرى ، لكنّهم بالغوا في الانحراف حين جعلوا الإمام الحسينعليه‌السلام رجلاً في هامش التاريخ له جملة من الفضائل ، ثمّ اتّخذوا

__________________

(1) الأحزاب 33 : 33.

(2) راجع : ما ذكرناه عن آية التطهير المذكورة آنفاً.

(3) صحيح مسلم 4 : 1873 / 2408. وصحيح مسلم بشرح النووي 15 : 179 ـ 181. وسنن الترمذي 5 : 662 / 3786. وسنن الدارمي 2 : 431. ومسند أحمد 3 : 14 و 17 و 26 و 59 ، 4 : 367 ، 5 : 182 و 189. وتحفة الاحوذي 10 : 287 ـ 289 / 3874 و 3876. والمعجم الكبير ، للطبراني 5 : 166 ـ 167 / 4971. والمصنف ، لابن أبي شيبة 11 : 452 / 11725 و 11726. ومستدرك الحاكم 3 : 124. ومعالم التنزيل ، للبغوي 1 : 516. وكنز العمال ، للمتقي الهندي الحنفي 1 : 172 / 870 و 872 ، 1 : 173 / 873 ، 1 : 185 / 944 و 946 ، 1 : 186 / 950 ، 1 : 187 / 951 و 953.

٩٢

عبد الله بن عمر إماماً لهم في العلم والفتيا !! ومال بعضهم إلى أقبح العقائد وأبغضها إلى الله ورسوله ، فاتّهموا الإمام الحسين نفسه ودافعوا عن الفاجر المريد ، يزيد بن معاوية بكل صلافة ووقاحة ، هذا وهم يدّعون بكل ما يملكونه من حماس وهياج بأنّهم على صواب كما صنع شيخهم ابن تيمية وسار على أثره وهّابية العصر الحديث ! فإن كانوا يدّعون أنهم من أهل السُنّة ، فتلك سُنّة بني اُميّة وجماعتهم ، فقد صدقوا وما عدوا الحقيقة ، وأما إن كانوا يعنون سنة النبي وجماعة المؤمنين ، فقد كذبوا وافتروا وخابوا.

لقد فارقوا في هذا الاتجاه من لا يفارق القرآن ، وحالفوا عدوّه !!

فارقوا من قال فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أنا حربٌ لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم » (1) .

فارقوا هؤلاء وحالفوا أعداءهم الذين أبغضوهم وانتقصوا من شأنهم ، فاتخذوهم أولياء ، من دون أولياء الله ورسوله ، فأصبحوا بعقيدتهم ومواقفهم هذه حرباً على الله ورسوله بنص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونظائره ، كقوله

__________________

(1) سنن الترمذي 5 : 360 / 3962. وسنن ابن ماجه 1 : 52 / 145 أخرجه عن زيد بن أرقم قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام : أنا سِلمٌ لمن سالمتم ، وحربٌ لمن حاربتم. وأخرجه أحمد في مسنده 2 : 442. والبغوي في مصابيح السُنّة 4 : 190. والحاكم في المستدرك 3 : 149 إذن حرب عليّ والسبطين الحسن والحسينعليهم‌السلام هي حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنص هذا الحديث ، وقد عرفت من وقف بوجههم ممن تسمى زوراً وبهتاناً باسم ( إمرة المؤمنين ) كمعاوية الباغي وولده الفاسق الفاجر ونظائرهما من الذين لا زالت الوهابية تعدهم مثلها الأعلى !!

٩٣

الشريف :« اللّهم عادِ من عاداهم ووالِ من والاهم » (1) .

وأشهر منه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله المتواتر في الإمام عليٍّعليه‌السلام :« من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه » (2) .

__________________

(1) مسند أبي يعلى / 6951. مجمع الزوائد 9 : 166 ـ 167 قال : إسناده جيّد.

(2) هذا هو حديث الغدير المتواتر الذي أشرنا إليه فيما تقدم مراراً ، فقد رواه من الصحابة مائة وعشرة أنفس كما فصّله العلاّمة الأميني في كتابه الخالد الغدير 1 : 14 ـ 72 وقد مرّ ذكر بعضهم ، وسنشير هنا إلى من اعترف به دون من رواه وسكت عليه ، وهم :

1 ـ الترمذي في سننه 5 : 633 / 3713 ، كتاب المناقب قال : « هذا حديث حسن صحيح ».

2 ـ ابن عبد البر في الاستيعاب 2 : 273 قال : « هذه كلها آثار ثابتة ».

3 ـ الطحاوي في مشكل الآثار 2 : 308 قال : « فهذا الحديث صحيح الإسناد ولا طعن لاحد في روايته ».

4 ـ الحاكم في المستدرك 3 : 109 ـ 110 قال : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ـ البخاري ومسلم ـ ولم يخرجاه ، شاهده حديث سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل أيضاً صحيح على شرطهما ، وحديث بريده الأسلمي صحيح على شرط الشيخين ».

5 ـ ابن كثير في البداية والنهاية 5 : 209 من المجلد الثالث قال : « قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : هذا حديث صحيح ».

6 ـ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري قال عن حديث الغدير : « وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من اسانيدها صحاح وحسان ».

7 ـ ابن حجر المكي في الصواعق المحرقة : 42 قال : « انه حديث صحيح لا مرية فيه وطرقه كثيرة جداً وكثير من اسانيدها صحاح وحسان وقول بعضهم : إن زيادة اللّهم والِ من والاه إلى آخره ، موضوعة. مردود ، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثير منها ».

8 ـ الجزري الشافعي في أسنى المطالب : 48 ، قال : « صحيح عن وجوه كثيرة ، متواتر عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وهو متواتر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رواه الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم ، وصحّ عن جماعة ممن يحصل القطع بخبرهم ».

9 ـ علي القاري في المرقاة في شرح المشكاة 5 : 568 قال : « والحاصل : ان هذا الحديث صحيح لا مرية فيه ، بل بعض الحفاظ عدّه متواتراً ، فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث ».

٩٤

والنصوص المتقدّمة توجب التمسّك بأهل البيتعليهم‌السلام وطاعتهم. إلاّ أنّ من افتتن بالبدع والأهواء وامتزج عليه الحق بالباطل ولم يعرف من أي الضغثين يأخذ أو يدع ، نراه ومن وافقه وقلّده قد تركوا خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الراشدين المهديين الذين قال فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ » وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الخلفاء بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش » . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه » . قال ذلك كلّه(1) ليفسّر بعضه بعضاً ولا يبقي عذراً لمعتذر.

انهم لم يتركوا المحجة الواضحة وينكروا أهلها فحسب ، بل حرّفوا الواقع وقلبوه ، فجعلوا خلفاءهم الذين استولوا على الخلافة بنحو أو بآخر وأبعدوا عنها أهلها ، جعلوهم المعنيين بالخلفاء الراشدين !! من غير دليل ولا سلطان ولا برهان !!

__________________

10 ـ أبو القاسم الفضل بن محمّد نقل عنه ابن المغازلي الشافعي في كتابه المناقب 27 : 39 أنه قال عن هذا الحديث ما نصه : « هذا حديث صحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وقد روى حديث غدير خم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نحو من مائة نفس منهم العشرة ـ أي العشرة المبشرة بالجنة عند العامّة ـ ، وهو حديث ثابت.

11 ـ برهان الدين الحلبي مفتي الشافعية قال في السيرة الحلبية 3 : 274 : « وهذا حديث صحيح ، ورد بأسانيد صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحته وقول بعضهم : ان زيادة ( اللّهم والِ من والاه الخ ، موضوعة ) مردود ، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيراً منها ». واُنظر تفاصيل أُخرى عن حديث الغدير في كتاب المراصد على شرح المقاصد للسيد عليّ الميلاني : 52 ، والجزء الاول من الغدير للعلاّمة الاميني ، ودفاع عن الكافي 1 : 113 ـ 144.

(1) وقد خرجنّا هذه الأقوال والنصوص من كتب الصحاح والمسانيد كما تقدم.

٩٥

وعلى هذه المغالطات والاَباطيل أسّس المتقدّمون عقائدهم فجاءت بعدهم أجيال مستضعفة مسكينة مخلصة لكنّها لم تعرف من الدين إلاّ هذه الصورة المقلوبة ، فأخذت تتعصّب لأوهام تظنّ أنّها الحقائق ، وأنّ كلّ ما خالفها فهو الباطل !!

ومن علمائهم المعاصرين من إذا وقف على هذه المغالطات ازداد عصبيّة وعنجهيّة وأزبد وأرعد ، أيكذّب بهذا ويتنكّر لذاك ، عبودية للهوى ليس إلاّ ..

لكنّ منهم من وقف مواقف الأحرار ونجا من طوق الهوى والعصبية إلى قدر جيّد ، فانتقدوا بشدّة تلك الآراء المتهافتة في اتّباع الغالب وإعذار السلف ، ووضع جنايات المفسدين منهم تحت عنوان الاجتهاد والتأويل ، وسخروا من ذلك كلّه.

ومن أجل تبرير ما صنعه بعض الصحابة أعني المتنازعين على الخلافة ، قالوا : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مات وترك الاُمّة هكذا هملاً بغير إمام ، وترك الأمر إلى الاُمّة. وهذا أعظم شيء افتروه على الله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّ العجيب أنّه لمّا يأتي ذكر أبي بكر وعمر وغيرهم ينزّهونهم عن هذه الخلّة ، ويقولون : إنّهم لا يمكن أن يتركوا هذه الاُمّة بلا إمام فتقع الفتنة(1) !!

فاذا كان الخليفة منزّهاً عن أن يترك الاُمّة هملاً بلا إمام ، أفليس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بهذا التنزيه ؟! هل أدرك الخلفاء أمراً غاب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أم كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله أقلّ منهم حرصاً على هذا الدين وعلى الاُمّة ؟!

__________________

(1) الأحكام السلطانية ، للفراء : 10. والأحكام السلطانية ، للبغوي : 25 ـ 26. والفصل ، لابن حزم 4 : 169. والكامل في التاريخ 3 : 65.

٩٦

وعندما قال أهل الدين الحقّ ، أتباع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام : إنَّ هذا محال ، وإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن أن يعرّض دينه للاضطراب واُمّته للفتن والنزاع ، فلا يدعهم بلا إمام قادر على حملهم على المحجّة البيضاء ، عالم بتفصيل ما في الكتاب والسنّة لا يجهل منهما شيئاً ، مُنزّه عن الميل إلى الدنيا ومتابعة الهوى وهذا هو الذي جاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر ربه تعالى فإنّه( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى *إنْ هُوَ إلاَّ وَحيٌّ يُوحَى ) (1) ، وهو الذي قرأناه في جملة من أحاديثه الشريفة الصحيحة آنفاً(2) .

عندما قال أهل الدين الحقّ بهذا ، وأسموه « الوجوب العقلي على الله تعالى » أي أنّه تعالى يستحيل أن يترك ذلك ، فقد كتب على نفسه الرحمة خالفهم المتسمّون بغير إسمهم ، وقالوا : لا يجب على الله شيء ولا يستحيل منه شيء ، فنسبوا إليه حتى القبائح تعالى الله عمّا يصفون ، فقالوا : « إنّه عز وجل قادر على أن ينسخ التوحيد !! وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الأوثان !! وأنّه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلاً وحقّاً ، ولكان التوحيد كفراً وظلماً وعبثاً !! وأنّه لو أراد أن يتّخذ ولداً لاصطفى ممّا يخلُق ما يشاء»(3) !! هكذا جوّزوا أقبح المنكرات على الله تبارك وتعالى لجاجة وعناداً وعصبيّةً !!

وإذا قيل لهم كيف يجوز أن تنسبوا إلى الله تعالى القبائح ؟! قالوا إنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وإذا قلتم يمتنع نسبة القبائح إليه فقد أوجبتم على الله تركها ، ولا يجب على الله شيء !! انظر هذه السطحية في التفكير ،

__________________

(1) النجم 53 : 3 ـ 4.

(2) راجع المبحث الأول من هذا الفصل.

(3) الإحكام في أُصول الاحكام ، لابن حزم 4 : 475 ـ 476.

٩٧

لتعلم أنّه ما سار عليها الخَلَف إلاّ عصبيّةً لما قاله أسلافهم !

وإذا قيل إنّ الله تعالى لطيف بعباده فهو يفعل ما يقرّبهم إلى طاعته ويبعّدهم عن المعاصي ـ لا إلى حد الإلجاء ، بل لأجل التقريب والتمكين والتيسير ـ خالفوا في ذلك أيضاً وقالوا : لا يجب على الله فعل شيء يقرّب العباد إلى طاعته أو يبعدهم عن معصيته ! ثم احتجّوا بما يدل على اللجاج والسطحية ، فقالوا : لو وجب اللطف لما بقي كافر ولا فاسق(1) !! هذا ، وهم ينقلون عن أصحاب الحق القائلين باللطف أنّهم لا يعنون باللطف حد الإلجاء والقهر ، وإنّما هو ( اللطف المقرّب إلى الطاعة ) مثله مثل الباب تُفتح لدخول الدار ، فلا يقول عاقل أن الباب لو فتحت لما بقي أحد خارج الدار إلاّ ودخلها !! فبين الأمرين فرق شاسع لا يخفى على عاقل وإن خفي على مقلّد متعصّب همّه التقليد لا غير.

والذي صرفهم إلى كل هذا هو قضية الإمامة أيضاً ، فكل دين وعقيدة ونصّ يقدح باُولئك المتغلّبين على منصب الإمامة ، فعليهم أن يردّوه ويكذّبوا به دفاعاً عن أولئك الأمراء الخلفاء ، لا غير ! فهم يعلمون أنّ الإيمان بأن الله تعالى لطيف بعباده يفتح أمامهم الأبواب إلى طاعته ، فبعث الأنبياء لطفاً ليتوصل العباد إلى معرفته وطاعته ، وجعل من ورائهم أوصياء يحملون رسالتهم يبلّغونها حق تبليغها ، إذ لا يخفى عليهم شيء من علومها وأحكامها ، وكما فعل مع تلك الاَُمم فهو فعّال مع خير الاَمم ، أمّة خاتم النبيّين ، فاصطفى منها أوصياء ليكونوا الأمناء على هذا الدين وعلى الاُمّة بعد نبيّها الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(1) شرح المقاصد 4 : 322.

٩٨

فإذا آمنوا بذلك علموا علم اليقين أنّ خلفاءهم كانوا منحرفين عن أمر الرسول ونصوص الرسالة فلأجل ذلك كذّبوا ونسبوا حتّى القبائح إلى الله تعالى تنزيهاً لخلفائهم ، فارتضوا أن ينسبوا إلى الله تعالى كل قبيح لكنّهم لم يرتضوا أن يوصف خلفاؤهم بفعل قبيح ارتكبوه.

٩٩

١٠٠