الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة50%

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة مؤلف:
تصنيف: التوحيد
الصفحات: 79

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة
  • البداية
  • السابق
  • 79 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32355 / تحميل: 5581
الحجم الحجم الحجم
الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

مؤلف:
العربية

الاَسماء الثلاثة

الاِله، الربّ، والعبادة

رسالة موجزة

في تفسير الاَسماء الثلاثة الواردة في القرآن،

والّتي تدور عليها رحى البحث

عن التوحيد والشرك

جعفر السبحاني

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الاَوّل فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، الظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه، و هو القائل عزّاسمه و علا سلطانه " هو الاَوّل والآخر والظاهر والباطن و هو بكلّ شيء عليم".

والصّلاة و السّلام على أشرف خليقته، و خاتم رسله و أنبيائه محمّد أمين وحيه ورسالاته، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه، و عيبة علمه، و موئل حِكَمه صلاة طيّبة ، لا يحصيها العادّون.

أمّا بعد: فانّاللّه سبحانه بعث رسوله الخاتم لاِنجاز عدته، و إتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيّين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده، وأهل الاَرض يومئذ مِلل متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتّتة، بين مشبِّهٍ للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشيرٍ إلى غيره، فهداهم من الضلالة ، وأنقذهم من الجهالة.(١)

بعثه سبحانه بمعجزته الخالدة، فيها هدىً و نور، وشفاء لما في الصدور، ولمتزل تشع نوراً و رحمة، و سيباً و عطاءً لمن أنس بها و درسها، و خالطت جسمه و روحه و قلبه و دمه.

إنّ القرآن المجيد هو المعجزة الباقية عبر القرون إلى يوم القيامة، مشتملة على معارف و حقائق لم تكن في زبر الاَوّلين، و لم تتجاوز عنها عباقرة المتأخرين، يقف و بناءً على ذلك فمن قرأالقرآن و تدبّر، وتلا آياته و فكّر، أحسّ ـ عند ذاك ـ أنّه أمام بحر ليس له ساحل.

____________

(١) اقتباس من خطبة الاِمام أمير المؤمنين ٧ ، رقم ١ .

٢

و إنّ من أبرز تعاليمه العالية ما أتى به حول التوحيد و الشرك، و التنزيه و التشبيه، و ربما يدور معظمها حول كلمات ثلاث، أعني: الاِله ، و الربّ، و العبادة.

و لمّا كان لها هذا الشأن العظيم ، فجدير بالمسلم الواعي أن يقف على معانيها، و يحلّلها حسب ما ورد في القرآن الكريم، ويزيل عنها الاَغشية التي أحاطت بها عبر تمادي القرون.

فلاَجل ذلك قمنا في هذه الرسالة، بدراسة هذه الكلمات الثلاث، في فصول أربعة مستنطقين الذكر الحكيم، والسنّة النبوية الكريمة، و كلمات علمائنا الاَبرار من السلف الصالح ،و الخلف السائر على ضوء نهجهم، راجين أن تكون نبراساً للمحقّقين و ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلاّمن أتى اللّه بقلب سليم.

جعفر السبحاني

٦|صفر|١٤١٧هـ.ق

٣

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم

قد ورد لفظ «إله» في القرآن الكريم بصوره المختلفة مفرداً و تثنية و جمعاً، مضافاً و غير مضاف ١٤٧ مرّة، كما أنّ لفظ الجلالة «اللّه» ورد فيه ٩٨٠ مرة، و بما أنّ الثاني عَلَم، فهو لايثنّى و لايجمع و لايضاف، بل يستعمل مفرداً مطلقا.

وكثرة ورودهما في الكتاب العزيز تُعرِب عن دورهما في مجال المعارف الاِلهيّة ولعلّ الوقوف على مفهومهما مضافاً إلى لفظي الربّ و العبادةمفتاح لفهم جلّ المعارف القرآنيّة.

هل الاِلـه بمعنى المعبود؟

قد اشتهر في الاَلسن أن ّ الاِله من «اَلَه» بمعنى عَبَدَ، وأنّالاِله بمعنى المعبود، و هذا و إن كان مشهوراً لكن لا تصدقه وحدة المادّة ولا القرآن الكريم و إليك الكلام في المقامين.

الاِله في اللغة

أمّا الاَُول: فلاَنّاللفظين (اللّه و إله) مأخوذان من مادة واحدة فلابدّ أن يكونا بمعنى واحد غير أنّالاَوّل عَلَم دون الآخر، و لايتجاوز التفاوت بينهما هذا الحدّ، فلفظ الجلالة مأخوذ من «إله»، فحذفت منه الهمزة وحلّ مكانها اللام فصار«اللّه».

٤

يقول الزمخشري: اللّه، أصله «الاه»، قال الشاعر:

معاذ الاِله أن تكون كظبية

ولا دمية ولا عقيلة ربرب (١)

ونظيره، الناس، أصله أُناس، فحذفت الهمزة وعوضت عنها حرف التعريف.

و لذلك قيل في النداء يا اللّه بالقطع، كما يقال يا إله، و الاِله من أسماء الاَجناس كرجل.(٢)

و قال سيبويه في تفسير لفظ الجلالة: انّأصله «إلاه» على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة و جعلت الاَلف و اللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة(٣) الداخلة على لام التعريف في النداء في نحو قوله: يا اللّه اغفر لي، و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا(٤) الاسم.

وقال الراغب في مفراداته: اللّه أصله إله فحذفت همزته و أُدخل عليه الاَلف واللام فخص بالباري و لتخصصه به قال تعالى: "هل تعلم له سمياً".(٥)

و على هذا فلا نحتاج إلى تفسير «إله» إلى شيء وراء تصور أنّهذا اللفظ كليّ و ما وضع عليه لفظ الجلالة، و بما أنّهذا اللفظ (اللّه) من أوضح المفاهيم فلانحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي من هذا الفرد إلى شيء آخر.

وعلى ذلك، فلا فرق بينَ لفظ الجلالة و لفظ «إله» سوى أنّ أحدَهما علم والآخر موضوع لمعنى كليّ، ومصداق لفظ الجلالة فرد منه، و إن لم يوجد لهذا الكلي فرد حقيقي سوى اللّه سبحانه.

____________

(١) استعاذ الشاعر باللّه من تشبيه حبيبه بالظبية أو الدمية، و الربرب هو السرب من الوحشي.

(٢) الزمخشري: الكشاف١: ٣٠ في تفسير البسملة.

(٣) المقصود ثباتها عند دخول حرف النداء.

(٤) الطبرسي: مجمع البيان١:١٩.

(٥) الراغب: المفردات: ٣١، مادة اله.

٥

نعم اخترعت الاَوهام لهذا الكليّ مصاديقَ خاطئة تصوروا أنّها من مصاديقه ولكنّها آلهة كاذبة ليست لها من الاَُلوهية سوى الاسم الذي أطلقوه عليها، يقول سبحانه:( إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سمَّيتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباوَُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطان ) (النجم|٢٣).

فإذا كان المتبادرُ من لفظ الجلالة شيء غير المعبود، كواجب الوجود، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والكمال او خالق السماوات والاَرض و مافيهنّ و مابينهنّ مدبّرها أو ما يقرب ممّا ذكر، فليكن المتبادر من «الاِله» هو ذلك غير أنّ أحدهما علم والآخر كلي.

و يوَيد وحدة مفهومها بالذات مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة المادة، أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاِله بمعنى أنّه يستعمل في المعنى الكلي و الوصفي دون العلمي فيصح وضعه مكان الاِله كما في قوله سبحانه:

( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمواتِ وَ فِي الاََرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) (الاَنعام|٣)، فالآية تهدف إلى أنّ إله السماء هو إله الاَرض و ليس هناك آلهة بحسب الاَنواع و الاَقوام، فالضمير (هو) مبتدء و لفظ الجلالة خبر والمعنى هو المتفرد بالاِلهيّة في السماوات فوزانها وزان قوله سبحانه:

( وَ هُوَ الّذي فِي السَّماءِ إلهٌ وَفِي الاََرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكيم العَليم ) (الزخرف|٨٤).

فانّ اللفظين في الآيتين بمعنى و احد، بمعنى أنّ لفظ الجلالة في الآية الاَُولى خرجَ عن العلمية و عاد إلى الكلّية والوصفية، ولذلك صح جعله مكانَ الاِله في الآية الاَُولى، و جيء بنفس لفظ الاِله في الآية الثانية.

و قريب من هاتين الآيتين الآية التالية إذ يقول سبحانه:

( وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنّما اللّهُ إِلهٌ واحِد سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَد ) (النساء|١٧١).

ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة في الآية منسلخ عن معنى العلمية لوضوح أنّ مصداق العلم واحد لا كثير فلا وجه للتركيز على انّه واحد، فإذاً لايصحّ التركيز إلاّ بانسلاخ لفظ الجلالة عن معنى العلمية حتى يصحّ التأكيد على أنّ اللّه إله واحد.

٦

نعم لقائل أن يقول: إنّ الاِله في الآية بمعنى المعبود، والهدف من التأكيد بالوحدانيّة، أنّه لا معبود سواه، فتكون النتيجة حصر المعبود الواحد فيه سبحانه.

و لكن التمعن في صدرها و ذيلها، لا يدعم ذلك الرأي و ذلك لانّها بصدد إثبات توحيد الذات و إبطال التثليث كما عليه النصرانية في عصر الرسول و ما بعده إلى يومنا هذا. فالمسيح عندهم جزء من العناصر الثلاثة التي تشكل إلهاً واحداً ويُشار إلى ذلك الواحد بلفظ الجلالة، ففي ذلك الموقف الخطير الذي يريد فيه النصراني نفي توحيد الذات وإثبات كثرتها يُناسب التركيز على وحدة الذات، وتوحيدها، لا وحدة المعبود التي لا تصل النوبة إليها إلاّ بعد الفراغ عن مسألة وحدة الذات وكثرتها قال سبحانه:

( يا أهْلَ الْكِتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاّ الحَقَّ إِنَّما الْمَسيحُ عيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتهُ أَلْقيها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّما اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الاََرْض وَكَفى بِاللّهِ وَكيلاً ) (النساء|١٧١).

قد صيغت الآية و كأنّها سبيكة واحدة، لدحض مزعمة التثليث التي لاتتفق مع وحدانية الذات و لاَجل ذلك يقول بعد قوله:( إِنّما اللّه إله واحد ) ( سبحانه أن يكون له ولد ) أي فهو موجود بسيط ،( لم يلد و لم يولد ) ، فكيف يكون له ولد، و هو في غنى عن الولد، وهو مالك لما في السماوات و الاَرض.

وكلّ عربي صميم إذا تجرد عن كلّ رأي مسبق و دعمِ أي مذهب، لا يتلقى من الآية، إلاّ ما ذكرنا و انّ المقصود أنّه لا مصداق للاِله الذي يعتقده الاِنسان بقضاء الفطرة إلاّ هو.

٧

وهناك مجموعة من الآيات يمكن أن نستظهر منها ما قويناه و هو وحدة مفهوم اللفظين (اللّه ـ الاِله) و الاختلاف بينهما في الجزئية والكلية. قال سبحانه:

( هُوَ اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُو عالِمُ الغَيبِ و الشَهادَةِ هوَ الرَحْمنُ الرَحيم * هُوَ اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبـّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبـْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللّهُ الْخالِقُ البارىَ المُصَوِّرُ لَهُ الاََسْـماءُ الْحُسنى يُسَبِحُ لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَ الاََرض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم) (الحشر|٢٣ـ٢٤).

وأمّا كيفية الدلالة، فبيانها: انّمرجعَ الضمير في صدر الآيات هو الموجود الذي يعتقده الاِنسان بقضاء الفطرة و يتوجه إليه في الشدائد و المصائب و تعبِّر عنه كلّأُمة بلغتها ـ فعندئذٍ ، يكون مفاد الآية أنّ ذاك المعتقد العام (هو) ليس إلاّمن له هذه الاَوصاف.

( اللّهُ الّذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ..." "اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ..." "اللّهُ الْخالِقُ البارىَ المُصَوِّر...) (الحشر|٢٢ـ٢٤).

إلى غير ذلك من خصائص الاِله.

فلا مناص في تفسير الآيات عن القول بانسلاح لفظ الجلالة عن معنى العلمية، وترادفه مع لفظ الاِله حتى يقع وصفاً كسائر الاَوصاف.

مفهوم الاِله في القرآن

قد تعرفت على معنى الاِله في اللغة، و حان حينُ البحث في المقام الثاني و هو مفهومه في القرآن الكريم نقول:

إنّهنا آيات تدل بوضوح على أنّ الاِله ليس بمعنى المعبود، بل بمعنى المتصرف المدبر أو من بيده أزمّة الاَمور ، أو ما يقرب من ذلك على وجه يميّزه عن الموجودات الاِمكانيّة. و إليك بعض هذه الآيات:

١ـ( لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسدَتا ) (الاَنبياء |٢٢).

٨

فانّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلاّإذا جعلنا «الاِله» في الآية بمعنى المتصرف، المدبر أو من بيده أزمّة الاَُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الاِله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدد المعبود في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، و قد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة، و مركزاً لها و كان العالم منتظماً، غير فاسد.

و عندئذٍ يجب على من يجعل «الاِله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا، و لما كان المعبود بالحقّ مدبِّراً و متصرفاً لزم من تعدده فساد النظام و هذا كلّه تكلّف لامبرّر له.

٢ـ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (الموَمنون|٩١).

ويتم هذا البرهان أيضاً إذا فسرنا الاِله بما ذكرنا من أنّه كلي ما يطلق عليه لفظ الجلالة. و إن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق، أو المدبّر، المتصرف، أو من يقوم بأفعاله و شوَونه. والمناسب في هذا المقام هو الخالق. و يلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلّإله بما خلق و اعتلاء بعضهم على بعض.

و لو جعلناه بمعنى المعبود لا نتقض البرهان، لاَنّه لايلزم من تعدده أيي اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّفي العالم آلهة متعددة، و قد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة و ستون إلهاً و لم يقع أيّفساد و اختلال في الكون.

فيلزم على من يفسر (الاِله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

٣ـ( قُل لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابتغَوْا إلى ذِي الْعَرْش سَبِيلاً ) (الاِسراء|٤٢).

فانّابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الاَُلوهية، و أمّا تعدد المعبود فلا يلزم ذلك إلاّ بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

٤ـ( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حصبُ جهَنّمَ أنتُمْ لها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هوَلاءِ آلهةً ما وَردُوها ) (الاَنبياء|٩٨ـ ٩٩).

والآية تستدل بورود الاَصنام و الاَوثان في النار على أنّها ليست آلهة إذ لو كانوا آلهة ما وردوا النار.

٩

والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره و المتصرف فيه أو من فوض إليه أفعال اللّه أجلّ من أن يُحكَم عليه بالنار و أن يكون حصبَ جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان، إذ لا ملازمة بين كونها معبودات و عدم كونها حصبُ جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الاِله و الآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.وإليك مورداً منها في قولهتعالى:

٥ـ( فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وبَشِّرِ المُخْبِتينَ ) (الحج|٣٤).

فلو فسر الاِله في الآية بالمعبود لزم الكذب، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري، و لاَجل دفع هذا ربما يقيد الاِله هنا بلفظ «الحقّ» أي المعبود الحقّ إله واحد. ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف، و إيصال النفع ، و دفع الضرّ على نحو الاستقلال لصحّ حصر الاِله ـ بهذا المعنى ـ في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لاإله في الحياة الاِنسانية و المجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها إلاّ اللّه سبحانه.

ولا نريد أن نقول: إنّلفظ «الاِله» بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر، إذ لا يتبادر من لفظ «الاِله» إلاّالمعنى البسيط.بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الذي وضع له لفظ الاِله. و معلوم أنّكونَ هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غيرُ كونها معنى موضوعاً له الّلفظ المذكور كما انّ كونه تعالى ذو سلطة على العالم كله أو سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف نشير به إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ «اللّه»، لا أنّه نفس معناه.

إلى هنا ـ أيّـها القارىَ الكريم ـ قد وقفت على معنى الاِله، و الاَُلوهية، وانّه ليس الاِله بمعنى المعبود بل المراد منه نفس المراد من لفظة «اللّه» لا غير، إلاّ أنّ أحدهما علم، والآخر كلّـي.

نعم ربما يفسّر الاِله بمعنى المعبود و لكنّه تفسير باللازم فانّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فانّه يعبده قهراً و يفزع إليه عند الشدائد، و تسكن نفسه عند ذكره إلى غير ذلك من اللوازم والآثار للاِله و هذا لا يسوِّغ لنا أن نفسر الملزوم بكلّ لازم له.

١٠

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية:

إنّاللفظين واحد مبدءاً و معنًى، و إنّالمفهوم من لفظ «إله» هو المفهوم من لفظ الجلالة ولا فرق بينهما سوى في الجزئية و الكلّية.

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم

قد ورد لفظ «الربّ» في الذكر الحكيم بصيغه المختلفة، مفرداً و جمعاً، مضافاً و غير مضاف ٩٨٧مرّة، و لايقال الرّب لغير اللّه الاّ بالاِضافة.

ذكر أصحاب المعاجم للربّ معاني مختلفة قائلين بأنّ:

ربُّ كلّشيء: مالكُه و مستحقّه و صاحبه.

ربَّ الاَمر: أصلحه.

الربُّ: المالك، المصلح، السيد.(١)

وما يشابه هذه المعاني و يماثلها.

إنّالمفروض على كتب اللغة هو ضبط موارد استعمال الكلمة، سواء أكان المستعمل فيه هو الّذي وضعت له اللفظة أم لا، و لذلك جاءت المعاني المجازيّة في جنب المعاني اللغوية بحجة أنّالجميع مستعمل فيه، و هذا نقص واضح و مشهود في كتب اللغة و معاجمها.

وهناك نقص آخر و هو، أنّاللغوي ربما يعدّللكلمة معاني كثيرة على وجه يظنُّ القارىَ أنّها مشتركة وضعاً بين هذه المعاني، و لكنّه سرعان ما يرجع بعد التمعّن بأنّها صور مختلفة لمعنى واحد و ليس اللفظ موضوعاً إلاّ لمعنى جامع ، و من الصدف أنّ لفظة الرب تعاني من واجهت هذا المصير حتى أنّكاتباً كالمودوديّتصور أنّ لها خمسة معان في الاَصل و ذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم ولكنّه خفي عليه أنّها ليست معاني مختلفة و إنّما هي صور موسعة لمعنى واحد و إليك هذه الموارد والمصاديق:

١ـ التربية، مثل ربّ الولد، ربّاه.

____________

(١) ابن فارس: مقاييس اللغة٢:٣٨١، الفيروز آبادي، قاموس اللغة، مادة رب، و المنجد كذلك.

١١

٢ـ الاِصلاح والرعاية مثل ربَّالضيعة.

٣ـ الحكومة والسياسة مثل فلان قد ربَّ قومَه أي ساسهم وجعلهم ينقادونله.

٤ـ المالك كما جاء في الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربُّ غنمٍ أم ربّإبل.

٥ـ الصاحب مثل قوله: ربّ الدار أو كما يقول القرآن الكريم:( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْت ) (قريش|٣).

لاريب أنّهذه المعاني قد أريدت من اللفظة في هذه الموارد و ما يشابهها و لكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل، وما هذه المعاني إلاّمصاديق و صور مختلفة لذلك المعنى الاَصيل وماهي سوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي و هو، من فوض إليه أمر الشيء المربّى من حيث الاصلاح و التدبير و التربية.

فإذا قيل لصاحب المزرعة أنّه ربّها، فلاَجل أنّإصلاح أُمور المزرعة مرتبطة به و في قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم، صفة الربّ، فلاَنّ أُمور قومه مفوّضة إليه، فهو قائدهم، ومالك تدبيرهم و منظم شوَونهم.

وإذا أطلقنا على صاحبِ الدار و مالِكه اسمَ الربّ، فلاَنّه فوض إليه أمر تلك الدار و إدارتها و التصرّف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي و المصلح و الرئيس و المالك و الصاحب و ما يشابهها مصاديق و صور لمعنى واحد أصيل يوجد في كلّ هذه المعاني المذكورة، و ينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة و مختلفة للفظة الربّ بل المعنى الحقيقي و الاَصيل للفظ هو: من بيده أمر التدبير و الاِدارة و التصرّف، وهو مفهوم كلّي و متحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة ( أعني: التربية، و الاِصلاح، و الحاكمية و المالكية، و الصاحبية).

فإذا أطلق يوسف الصديقعليه‌السلام لفظ الربّ على عزيز مصر ، و قال:

( إنّه رَبّي أحسنَ مَثْوايَ ) (يوسف|٢٣).

فلاَجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفلاً لتربيته الظاهرية وقائماً بشوَونه.

١٢

و إذا وصف يوسف عزيزَ مصر بكونه ربّاً لصاحبه في السجن، و قال:

( أمّا أحَدُكُما فَيَسقي ربَّهُ خَمراً ) (يوسف|٤١).

فلاَنّعزيز مصر كان سيّدَمصر و زعيمها و مدبّر أُمورها و متصرّفاً في شوَونها و مالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود و النصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً إذ يقول:

( اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (التوبة|٣١).

فلاَجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة و قدرة فيما يختص باللّه.

وإذا وصف اللّه نفسه بأنّه «ربّالبيت» فلاَنّإليه أُمور هذا البيت مادّيها و معنويها، ولا حقّلاَحد في التصرّف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن «اللّه»بأنّه:

( رَبُّ السَّمواتِ وَ الاََرْضِ ) (الصافات|٥).

وانّه :

( ربُّ الشِّعْرى ) (النجم|٤٩).

وما شابه ذلك، فلاَجل أنّه تعالى مدبّرها و المتصرف فيها و مصلح شوَونها والقائم عليها.

وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى:

١ـ التوحيد في الربوبية.

٢ـ التوحيد في الاَُلوهية.

قائلين بأنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

١٣

وأمّا التوحيد في الاَُلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى اللّه، و قد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الاَمر.(١)

والحقّ أنّاتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك، و لكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ و اشتباه.

وذلك لانّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق، بل هو ـ كما أوضحنا و بينا سلفاً ـ ما يفيد التدبير و إدارة العالم، و تصريف شوَونه و لميكن هذا ـ كما نبيّن ـ موضع اتّفاق بين جميع المشركين و الوثنيين في عهد الرسالةكما ادعى هذا الفريق. (٢)

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبّر سوى اللّه و لكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممن يعتقدون بتعدد المدبر والتدبير، و هي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر التاريخيّة.

و هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية، بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية حتى يتضح لهم أنّالدعوة إلى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة إلى «التوحيد في المدبّرية» والتصرف، و قد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً من التوحيد الربوبي، و يعتقد بتعدد المدبِّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

____________

(١) محمّدبن عبدالوهّاب، تسع رسائل: الرسالة الثالثة|٥٧ـ٥٨.

(٢) سيوافيك عقائد المشركين في ربوبيّة الآلهة في الفصل الآتي.

١٤

و لايمكن ـ أبداً ـ أن نفسر الربّفي هذه الآيات بالخالق والموجد. و إليك بعض هذه الآيات.

أ:( بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرض الّذي فَطرهنّ ) (الاَنبياء|٥٦).

فلو كان المقصود من الربّهنا هو الخالق و الموجد، لكانت جملة( الّذي فطرهن ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الربّ في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذٍ ـ إلى الجملة المذكورة (أعني:( الذي فطرهن ) ).

بخلاف ما إذا فسّـر الربّ بالمدبّر و المتصرّف، ففي هذه الصورة تكون الجملة الاَخيرة مطلوبة، لاَنّها تكون ـ حينئذٍ ـ علّة للجملة الاَُولى، فتعني هكذا: إنّخالق الكون ، هو المتصرف فيه و هو المالك لتدبيره و القائم بإدارته، لاشخص آخر فلماذا فرقتم بين الخالق والربّو لماذا حصرتم الخالقية في اللّه سبحانه، و أعطيتم الربوبية لغيره.

ب:( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذي خَلَقَكُمْ ) (البقرة|٢١).

فانّ لفظة الربّ في هذه الآية ليست بمعنى «الخالق» و ذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدمة المشابهة لما نحن فيه، إذ لو كان الربّ بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة "الّذي خلقكم" وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأنّالربّ يعني المدبّر فتكون جملة: "الّذي خلقكم" علّة للتوحيد في الربوبية إذ يكون المعنى حينئذٍ هو: انّالّذي خلقكم، هو مدبّركم.

ج:( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغي رَبّاً وَ هُوَ رَبُّ كُلّ شَيْءٍ ) (الاَنعام|١٦٤).

وهذه الآية حاكية عن أنّمشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة الربوبية على نحو من الاَنحاء وانّالنبي الاَعظم كان مكلّفاً بأن يُفنّد رأيهم و يبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللّه ربّاً على خلاف ما كانوا عليه. و من المحتّمأنّخلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة «التوحيد في الخالقية» بدليل أنّالآيات السابقة تشهد من غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى، و لذلك فلا مناص من الاِذعان بأنّالخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية، و ليس هو إلاّمسألة تدبير الكون، بعضه أو كلّه.

١٥

د:( أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلينَ ) (الاَعراف|١٧٢).

فقد أخذ اللّه في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الاِقرار بالتوحيد الربوبي و كانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول:

( أوْ تَقُولُوا إنَّما أشركَ آباوَنا مِنْ قبلُ وَ كُنّا ذُريّةً من بعدِهمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (الاَعراف|١٧٣).

إذا تبيّن هذا فنقول: إنّنزولَ هذه الآية في بيئة مشركة، دليل ـ و لا شكّ ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبيّ في الخالقية، و لكن الفرض هو عدم وجود أيّ اختلاف في مسألة «توحيد الخالقية» في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليُعتبروا مخالفين للميثاق المذكور، فلا محيص ـ حينئذٍ ـ من أنّالخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم و إدارة الكون.

و بهذا التقرير يكون معنى الربّ في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.

هـ:( أتقتلُونَ رجُلاً أنْ يقوَل ربِّي اللّهُ و قد جاءكُمْ بالبيِّنات منْ ربِّكُمْ ) (غافر|٢٨).

تتعلق هذه الآية بموَمن آل فرعون الّذي كان يدافع عن النبيّموسى عليه السَّلام وراء قناع النصيحة و الصداقة لآل فرعون ويسعى تحتَ ستار الموافقة لهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبيّ العظيم.وأمّا دلالتها على كون الربّ بمعنى المدبّر فواضحة، لاَنّ فرعون ما كان يدّعي انّه خالق الاَرض و السماء ولا الشركة مع اللّه سبحانه فيخلق العالم و إيجاده، و هذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً. و في هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبيّموسى بقوله: ربّي اللّه، هو حصر «التدبير» في اللّه سبحانه لا مسألة الخلق. ولو كانت تتعلق بمسألة الخلق والاِيجاد لما كان بينه و بين فرعون أيّ خلاف و نزاع، إذ المفروض أنّ فرعون كان يعترف بخالقية اللّه ـ كما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أن ّاللّه تعالى يقول في الآية السابقة لهذه الآية.

١٦

و :( ذَرُوني أقتلْ مُوسى و لْـيَدعُ ربَّهُ إنّي أخافُ أنْ يبدِّلَ دينَكُمْ ) (غافر|٢٦).

فانّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لاَيّ تبدّل و تبديل.

و من هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون:

( أنَا ربُّكُمُ الاَعلى ) (النازعات|٢٤).

ز:( فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دونهِ إلهاً ) (الكهف|١٤).

إنّ الفتية الّذين فرّوا من ذلك الجوّ الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان، كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بأُلوهية غير اللّه، و لكن أُلوهية غير اللّه ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن بصورة تعدد الخالق، خاصة أنّواقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية و أفكارها قد تقدمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقى بمقدار معتد به، و لم يكن يعقل ـ في ظلّهذا الرقي الفكري ـ وجودُمجتمعٍ منكرٍ لخالقية اللّه، أو مشرك فيها فلابدّ أن يقال إنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر و هو الاعتقاد بتعدد المدبر.

ح: إنّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبرية و ليس الخالقيّة كما يتوهم، هو الآية المتكررة في سورة «الرحمن».

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان ) .

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة ٣١ مرة و جاءت لفظة «ربّ» جنباً إلى جنب مع لفظة « آلاء» التي تعني النعَم و غير خفي أنّ التذكير باسباغ النعم مرّة بعد أُخرى يناسب مقام التربية و التدبير فإرداف ذكرها، بذكر الربشاهد على أنّ اللفظ بمعنى المدبّر والمدير والمربّي والمصلح. لا الخالق والموجد.

و إن شئت قلت: إنّذكر النعم (التي هي من شعب التربية الاِلهية التي يُوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم و إدامة الاِفاضة.

١٧

ط: لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الربّ في خمسة موارد في القرآن الكريم، و الشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الاِنسانية و دوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد، و ليست حقيقة تدبير الاِنسان إلاّإدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

و إليك هذه الموارد:

( وَ إِذْ تَأَذَّن رَبّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَََزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَديد ) (إبراهيم|٧).

( وَ قالَرَبِّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ) (النمل|١٩).

( قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَني ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِِ ) (النمل|٤٠).

( قالَ رَبّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ) (الاَحقاف|١٥).

( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وربٌّ غَفور ) (سبأ|١٥).

ي: و ممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه:

( فَقُلْتُ استغفِرُوا رَبَّكُمْ إنّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السّماءَ عَلَيْكُمْ مِدراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) (نوح|١٠ـ١٢).

و مثله قوله سبحانه في سورة هود الآية ٥٢.

يلاحظ القارىَ الكريم كيف جعلت إدارة الكون و تدبير شوَونه تفسيراً للرب: فهو الذي يرسل المطر،و هو الذي يُمْدد بالاَموال والبنين، و هو الّذي يجعل الجنات، و هو الّذي يجعل الاَنهار، وكلّهذه الاَُمور جوانب و صور من التدبير .

إنّ الحوار الدائر بين النبي إبراهيم و طاغوت عصره نمرود يكشف القناع عن معنى الربّ و الربوبية فالآية التالية تتضمن مضمون الحوار و إليك نصّها قال سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاه اللّهُ الملك إِذْقالَ إِبْراهيم رَبّي الّذي يحي و َيُميت قالَ أَنَ أُحْيى و َ أُميت قالَ إِبْراهيم فانّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرق فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذي كَفَرَوَ اللّهُ لا يَهْدِي القوم الظّالمين ) (البقرة|٢٥٨).

١٨

فكأنّ نمرود كان يدعى أنّه ربّ من يسوسهم بدليل انّإبراهيم إبتدأ كلامه بقوله: "ربّي الّذي يحيى و يميت" ومعناه لو كنت صادقاً في ادعاء الربوبية فعليك القيام بشوَون الربوبية كالاحياء و الاماتة و لما فوجىَ بهذا البرهان الدامغ المبطل لاِدعائه السخيف حاول أن يفسر كلام إبراهيم بشكل خاطىَ قال أنا أيضاً أملك الموت والحياة فأقتل من أشاء و أحقن دم من أُريد، فعندئذٍ عدل إبراهيم إلى حجّة أُخرى ليقطع الطريق عليه و لايكون في وسع نمرود أن يعارضها فقال: أنّ ربّي له سلطان على الشّمس في طلوعها و غروبها فلو صحّ انّك ربّ فقم بهذا العمل» فأنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب» فلما سمع نمرود هذا الدليل القاطع و أيقن انّه ليس في وسعه المعارضة سكت و لم ينبس ببنت شفه يقول سبحانه( فَبُهِتَ الّذي كَفَرَ ) .

لم يكن النزاع بين النبي إبراهيم و نمرود في خالقيته إذ لا يدعيها إلاّ المصاب بعقله بل في ربوبيته لمن كان يسوسهم فكان إبراهيم يدعي انّه لا ربّ إلاّ ربّ واحد و أنّ الكون بأجمعه مربوب للّه و لم يكن هناك أي تقسيم للربوبية و لكن نمرود كان يعتقد بربوبية نفسه و كانت حجّته أنّه ذا سلطة و ملك كمايحكى عنه قوله سبحانه:( إن آتاه اللّه الملك ) فجعل ذلك دليلاً على ربوبيّته لمن كانوا يعيشون في ملكه و زعم انّأمرهم وحياتهم و مماتهم و كلّتشريع يرجع إليه وبيده.

فالحوار بمضمونه يفسر لنا معنى الربّوالربوبية و هو المتصرف المالك لشوَون المربوب في آجله فإذا كان الاحياء والاماتة وا لسلطة على طلوع الشمس من آثار الربوبية فهي غير الخالقية. و بالتالي يرجع معناها إلى كون الرب مالكاً لحياته و موته ، و لاصلاحه و افساده.

نتيجة هذا البحث:

من هذا البحث الموسع يمكن أن نستنتج أمرين:

١ـ إنّ ربوبية اللّه عبارة عن مدبريته تعالى للعالم و ليس معناها خالقيته.

٢ـ دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة «التوحيد في التدبير» لم تكن موضع اتّفاق بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» و أنّه كان ثمة فريق يعتقد بمدبرية غير اللّه للكون كلّه أو بعضه، و كانوا يخضعون أمامه باعتقاد أنّ هربّ.

١٩

و بما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض الفرق موحِّداً في الثاني ومشركاً في القسم الاَوّل، فاليهود و النصارى تورطوا في «الشرك الربوبي» التشريعي لاَنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الاَحبار و الرهبان و جعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنّه فُوِّض أمر التشريع إليهم !!!، و من المعلوم أنّالتقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.

فها هو القرآن يقول عنهم:

( اتَّخَذوا أحبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (التوبة|٣١).

( وَ لا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران|٦٤).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل يتمثل في إسناد تدبير بعض جوانب الكون، و شوَون العالم إلى الملائكة و الجنّ والاَرواح المقدسة، أو الاَجرام السماوية، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزي تدبير «كل» جوانب الكون إلى غير اللّه، و لكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الاَغلبشبه تدبير «بعض» الاَُمور الكونية إلى بعض خيار العباد وبعض المخلوقات.

خاتمة المطاف

إذا تعرّفت على مفهوم «الاِله» و «الرب» فاعلم إنّ للتوحيد مراتب قد بيّنها علماء الاِسلام في كتبهم العقائدية و برهنوا عليها من الكتاب والسنة والعقل الصريح، و بما أنّ بحثنا في الاَمر الثالث مركّز على التوحيد في العبادة والشرك فيها، نذكر مراتب التوحيد بايجاز ، ثمّنتكلم عن القسم الاَخير بالتفصيل، و في فصل خاص. فنقول: للتوحيد مراتبَ عديدة وهي:

الاَُولى: التوحيد في الذات

والمراد منه أنّه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له، و يدلّ عليه مضافاً إلى البراهين العقلية قوله سبحانه:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصير ) (الشورى|١١).

وقوله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ*وَلَمْ يُولَد* وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد ) (الاخلاص|١ـ٤).

٢٠

وقوله سبحانه:( هُوَ اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ ) ( الزمر|٤).

وقوله سبحانه:( وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ ) (الرعد|١٦).

إلى غيرها من الآيات الدالة على أنّه واحد لا نظير له، و لا مثيل ولا ثانٍ له و لا عديل.

وأمّا البراهين العقلية في هذا المجال و إبطال (الثنوية) و (التثليث) فموكول إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

إنّ هناك معنى آخر للتوحيد في الذات وهو انّه سبحانه بسيط لا جزء له، فرد ليس بمركب من أجزاء، و لعلّ قوله سبحانه: «في سورة الاِخلاص»( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد ) يعني هذا القسم من التوحيد كما أنّ الآية الاَخيرة أعني قوله:( وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد ) تهدف إلى معنى التوحيد في الذات بالمعنى الاَوّل، وبهذا يندفع إشكال التكرار فيها.

الثانية: التوحيد في الخالقية

والمراد منه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق غير اللّه، ولا فاعل سواه، و أنّكلّ ما يوجد في صفحة الوجود من فواعل و أسباب فإنّما هي غير مستقلات في التأثيرات و إنّما توَثر بإذنه سبحانه وأمره، فجميع الاَسباب والمسببات مخلوقة للّه بمعنى أنّها تنتهي إليه.

و يدل على التوحيد بهذا المعنى( قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ القَهّار ) (الرعد|١٦).

و قوله سبحانه:( اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيٍءٍ وَهُوَ عَلى كلِّ شيّءٍ وَكيل ) (الزمر|٦٢).

وقوله سبحانه:( ذلِكُمُ اللّهُ ربّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلهَ إِلاّ هُوَ ) (الموَمن|٦٢) .(١)

____________

(١) ولاحظ في هذا الموضوع سور الاَنعام ١٠١و ١٠٢ ، الحشر|١٤، فاطر |٣، و الاَعراف|٥٤.

٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير

والمراد منه أنّ للكون مدبّراً و متصرفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شيء فهو سبحانه المدبّر للعالم، و أنّتدبير الملائكة وسائر الاَسباب إنّما هو بأمره سبحانه، و هذا على خلاف ما ذهب إليه أكثر المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ ما يرتبط باللّه سبحانه و تعالى هو الخلق والاِيجاد و الاِبداع و أمّا تدبير الاَنواع و الكائنات الاَرضية فقد فوّض إلى الاَجرام السماوية والملائكة والجنّ و سائر الموجودات الروحية وغير ذلك ممّا تحكي عنه الاَصنام المعبودة، و ليس للّه سبحانه أيّ مدخلية في أمر تدبير الكون و إرادته و تصريف شوَونه.

إنّ القرآن الكريم ينص ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّاللّه هو المدبر للعالم و ينفي أيّتدبير لغيره و إذا كان هناك مدبر سواه فإنّما هو جندي من جنوده، مأمور بالعمل بأمر منه سبحانه:

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الّذي خَلَق السَّمواتِ وَالاََرض في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى علَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْر ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرون ) (يونس|٣).

وقال سبحانه:( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِعَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استوى علَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَكُلٌّ يَجْري لاَجلٍ مُسمًّى يُدبِّرُ الاَمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعلّكُمْ بِلِقاءِ ربّكُمْ تُوقِنونَ ) (الرعد|٢).

فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه:( فالمدبّرات أمْراً ) (النازعات|٥) و قوله سبحانه:( وَ هُوَ القاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ وَ يُرسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظةً ) (الاَنعام|٦١)، إنّ هوَلاء مدبرات بأمره، و حفظة للاِنسان و إرادته فلا ينافي ذلك انحصار التدبير باللّه.

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين

لا شكّ أنّ حياة الاِنسان الاِجتماعية رهن قانون ينظم أحوال المجتمع البشري و يقوده إلى الكمال و هو لا يتحقّق إلاّفي ظلّقانون يحقّق السعادة الاِنسانية، فبما أنّ خالق الاِنسان أعرف بخصوصيات المخلوق و ما يصلحه و يفسده فهو أولى بالتشريع و التقنين بل هو المتعين له، قال سبحانه:( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبير ) (الملك|١٤).

٢٢

إنّ القرآن الكريم لم يعترف بتشريع سوى تشريعه سبحانه، ولا بقانون سوى قانونه فهو، يرى اللّه سبحانه هو المشرع المحيط الذي يحقّ له التقنين خاصة، وأمّا وظيفة غيره فهو تنفيذ القانون الاِلهي.

قال سبحانه:( إنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه ) (يوسف|٤٠)

والمراد من الحكم في قوله:( إنِ الْحُكْم ) هو الحكم التشريعي بقرينة قوله ( أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه ذلك الدِّينُ القيّمُ ) .

وقال سبحانه:( أَفَحُكْم الْجاهِلِيةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنونَ ) (المائدة|٥٠).

إنّ هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين: إلهي، وجاهليّ، وبما أنّما كان من صقع الفكر البشرى ليس إلهياً فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقال سبحانه:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (المائدة|٤٤).

وقال سبحانه:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (المائدة|٤٥).

و قال:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (المائدة|٤٧)

فهذه المقاطع الثلاثة توضح أنّ التقنين أوّلاً و الحكم ثانياً حقّ مخصوص للّه لم يفوضه إلى أحد من خلقه و لاَجل ذلك يصف من يعدل عنه بالكفر تارة و الظلم أُخرى و بالفسق ثالثة.

فهم كافرون لاَنّهم يخالفون التشريع الاِلهي بالردّ و الاِنكار والجحود.

وهم ظالمون لاَنّهم يسلِّمون حقّالتقنين الّذي هو خاصّباللّه إلى غيره.

وهم فاسقون لاَنّهم خرجوا بهذا العمل عن طاعة اللّه.

وأمّا عمل الفقهاء و المجتهدين فهو إمّا استخراج الاَحكام الشرعية من الكتاب والسنّة و الاستخراج غير التشريع، وإمّا تخطيط لكلّ مايحتاج إليه المجتمع في إطار القوانين الاِلهية، و التخطيط غير التشريع.

٢٣

الخامسة: التوحيد في الطاعة

والمراد أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّاللّه تعالى فهو وحده الّذي يجب أن يطاع و أمّا طاعة غيره فإنّما تجب بإذنه و أمره.

قال سبحانه:( وما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ ) (البيّنة|٥) و الدين في الآية بمعنى الطاعة أي مخلصين الطاعة له لا لسواه.

وعلى ذلك فكلّمن افترض اللّه طاعته و الانقياد لاَوامره و الانتهاء عن مناهيه فبإذنه سبحانه و أمره، قال سبحانه:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (النساء|٦٤).

وبالجملة فهنا مطاع بالذات وهو اللّه سبحانه وغيره مطاع بالعرض و بأمره.

السادسة: التوحيد في الحاكمية

إنّالحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام بعد التشريع و التقنين. و وظيفة الحكومة تعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ووظائفهم و مالهم و ما عليهم من حقوق ، ثمّ تحقيقها و تجسيدها.

إنّ أعمال الحكومة والحاكمية في المجتمع لاتنفك عن التصرف في النفوس و الاَموال و تنظيم الحريّات و تحديدها أحياناً والتسلّط عليها ولا يقوم بذلك إلاّ من كانت له الولاية على الناس و لولا ذلك لعُدّ التصرف عدواناً، وبما أنّجميع الناس سواسيه أمام اللّه و الكلّ مخلوق له بلا تمييز فلا ولاية لاَحد على أحد بالذات بل الولاية للّه المالك الحقيقي للاِنسان والكون، والواهب له الوجود والحياة ، فلا يصحّ لاَحد الاِمرة على العبادة إلاّبإذنه.

فالاَنبياء والعلماء والموَمنون مأذونون من قبله سبحانه في أن يتولوا الاَمر من قبله و يمارسوا الحكومة على الناس من ناحيته، فالحكومة حقّمختصّ باللّه سبحانه و الاَمارة ممنوحة من قبله.

قال سبحانه:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَخَيْرُ الْفاصِلينَ ) (الاَنعام|٥٧).

وقال سبحانه:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبينَ ) (الاَنعام|٦٢).

نعم إنّاختصاص حقّالحاكمية باللّه سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصياً بممارسة الاِمرة، بل المراد أنّ من قام بالاِمرة في المجتمع البشري، يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لاِدارة الاَُمور، والتصرّف في النفوس و الاَموال.

٢٤

ولذلك نرى أنّه سبحانه: يمنح لبعض حقّ الحكومة بين الناس، إذ يقول:

( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الاََرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (ص|٢٦) و على ضوء ذلك فلا محيص عن كون الحكومة في المجتمع الاِسلامي مأذوناً بها من قبل اللّه سبحانه: ممضاة من جانبه، و إلاّ كانت حكم الطاغوت، الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.

السابعة: التوحيد في العبادة

والمراد منه حصر العبادة في اللّه سبحانه، و هذا هو الاَصل المتّفق عليه بين جميع المسلمين بلا أيّاختلاف فيهم قديماً أو حديثاً فلا يكون الرجل مسلماً ولا داخلاً في زمرة المسلمين إلاّ إذا اعترف بحصر العبادة في اللّه، أخذاً بقوله سبحانه:( إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعين ) (الفاتحة|٥) و ليس أصل بين المسلمين أبين و أظهر من هذا الاَصل، فقد اتّفقوا على العنوان العام جميعهم و من تفوّه بجواز عبادة غيره فقد خرج عن حظيرة الاِسلام.

نعم وقع الاختلاف في المصاديق والجزئيات لهذا العنوان، فهل هي عبادة غير اللّه أو أنّها تكريم و احترام و إكبار وتبجيل.

والهدف في الفصل الآتي هو تمييز الجزئيات بعضها عن بعض، بوضع تعريف منطقي للعبادة حتى يقف القارىَ على مصاديق العبادة ومصاديق التكريم عن كثب و لا يختلط بعضها بالبعض الآخر.

إنّ الوهابيين جعلوا الشرك في العبادة ذريعة لتكفير المسلمين و جعلهم في عداد المشركين في العبادة و هم ربما يتلون قوله سبحانه:( وَ ما يُوَْمِنُ أَكْثرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (يوسف|١٠٦) و يفسرونه بإيمان المسلمين، و لكن ما هو الدليل على هذا التطبيق. و لماذا لا ينطبق هذا عليهم.

إنّ المسلم الواعي لا ينسب شيئاً إلى إنسان إلاّإذا كان مقروناً بالبرهان والدليل، معتمداً على قوله سبحانه:( قُلْ هاتُوا بُرهانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (البقرة|١١١) ، فلا يتهم المسلم بالشرك إلاّبالدليل ، ولا يضفي عليه عنوان التوحيد إلاّكذلك.

٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة

العبادة من الموضوعات التي تطرّق إليها الذكر الحكيم كثيراً. وقد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ وآية وخصَّها باللّه سبحانه و قال:( وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) (الاِسراء|٢٣) و نهى عن عبادة غيره من الاَنداد المزعومة و الطواغيت والشياطين، وجعل اختصاص العبادة به الاَصلَ الاَصيل بين الشرائع السماوية و قال:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّاللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران|٦٤) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه:( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) (النحل|٣٦).

فإذا كانت لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير بالباحث المسلم أن يتناوله بالبحث و التحقيق العلمي، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميزاً منطقياً.

والذي يُضفي على الدراسة، أهمية أكثر، هو أنّالتوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه، ثمّ عقد القلب عليه، و التحرر من أيّ لون من ألوان الشرك. فلا تُنال تلك الاَُمنيةُ في مجالي العقيدة و العمل إلاّ بمعرفة الموضوع معرفة صحيحة، مدعمة بالدليل حتى لا يقع المسلم في مغبَّة الشرك، و عبادة غيره سبحانه.

و رغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها، وحدّها الذي يُفصلها عن التكريم و التعظيم أو الخضوع والتذلل، و كأنّ السلف ـ رضوان اللّه عليهم ـ تلقّوها مفهوماً واضحاً، و اكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم. ولو صحّ ذلك فإنّما يصحّ في الاَزمنة السالفة، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناس أمر إدّعاء الشرك في العبادة، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح ـ بادعائهم ـ كلّ تعظيم و تكريم للنبيّ، عبادة له، وكلّ خضوع أمام الرسول شرك، فلا يلتفت الزائر يميناً و شمالاً في المسجد الحرام و المسجد النبوي إلاّو توقر سمعه كلمةُ «هذا شرك يا حاج»، وكأنّه ليس لديهم إلاّ تلك اللفظة، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلاّ بذلك.

٢٦

فاللازم على هوَلاء ـ الذي يعدون مظاهر الحبّ والودّ، و التكريم و التعظيم شركاً و عبادة ـ وضعُ حدٍّ منطقيّ للعبادة، تُميَّز به، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاصي العالم وأدانيه، ضابطة كلّية في المشاهد و المواقف، ،و لكن ـ و للاَسف ـ لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة و تبيينها في كتبهم و نشرياتهم و دورياتهم.

فلاَجل ذلك قمنا في هذا الفصل، بمعالجة هذا الموضوع، بشرح مفهوم العبادة لغة و قرآناً، حيث بيّنا أنّ حقيقة العبادة في تعاليم الاَنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم و كتب اللّغة.

العبادة في المعاجم و التفاسير

بالرغم من عناية اللغويين و المفسّرين بتفسير لفظ العبادة و تبيينها، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل، و ذلك لاَنّـهم فسّـروه بأعمّ المعاني وأوسعها و ليس مرادفاً للعبادة طرداً و عكساً.

١ـ قال الراغب في المفردات: «العبودية : إظهار التذلّل، و العبادة أبلغ منها، لاَنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلاّمن له غاية الاِفضال و هو اللّه تعالى و لهذا قال:( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ... ) (الاِسراء |٢٣) ».

٢ـ قال ابن منظور في لسان العرب: «أصل العبودية: الخضوع والتذلل».

٣ـ قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: «العبادة: الطاعة».

٤ـ قال ابن فارس في المقاييس: «العبد، الذي هو أصل العبادة، له أصلان متضادّان، والاَوّل من ذينك الاَصلين، يدلّ على لين و ذُلّ، و الآخر على شدّة وغلظه».

هذه أقوال أصحاب المعاجم و لا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّره به أهل اللغة، غير مكترثين بأنّتفسيرهم، تفسير لها بالمعنى الاَعم.

١ـ قال الطبري في تفسير قوله :( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) : اللّهمّ لك نخشع و نذلّ و نستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّالعبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة و أنّـها تسمّى الطريق المذلّل الذي قد وطئته الاَقدام و ذلّلته السابلة معبَّداً، و من ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج: معبَّد، و منه سمّي العبد عبداً، لذلّته لمولاه.(١)

____________

(١) الطبري:التفسير ١: ٥٣، ط دار المعرفة، بيروت.

٢٧

٢ـ قال الزجاج: معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع، يقال: هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلاً لكثرة الوطء، و بعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران، فمعنى( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) : إيّاك نطيع، الطاعة التي نخضع منها.(١)

٣ـ و قال الزمخشري: العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلّل، و منه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة، وقوة النسج، و لذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى لاَنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.(٢)

٤ـ قال البغوي: العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع و سمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال: طريق معبّد، أي مذلّل.(٣)

٥ـ قال ابن الجوزي: المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال:

أ: بمعنى التوحيد( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) عن علي و ابن عباس.

ب: بمعنى الطاعة كقوله تعالى:( لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ) (مريم|٤٤) .

ج: بمعنى الدعاء.(٤)

٦ـ قال البيضاوي: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، و منه الطريق المعبّد أي المذلّل، و ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفافة، و لذلك لاتستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى.(٥)

و سيأتي أنّتفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالاَخص، إذ لاتشترط في صدقها غاية الخضوع، و لذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به أبناء الدنيا أمام اللّه سبحانه عبادة، و إن لم يكن بصورة غاية التعظيم، و ربّما يكون تفسيراً بالاَعمّ، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته و لا يكون عبادة.

____________

(١) الزجاج: معاني القرآن ١:٤٨.

(٢) الزمخشري: الكشاف١: ١٠.

(٣) البغوي: التفسير١: ٤٢.

(٤) ابن الجوزي: زاد المستنير ١:١٢.

(٥) البيضاوي: أنوار التنزيل١:٩.

٢٨

٧ـ و قال القرطبي: نعبُد، معناه نطيع، و العبادة: الطاعة والتذلّل، وطريق معبّد إذا كان مذلّلاً للسالكين.(١)

٨ـ و قال الرازي: العبادة عبارة عن الفعل الذي يوَتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم: طريق مُعبَّد.(٢)

و إذا قصرنا النظر في تفسير العبادة، على هذه التعاريف و قلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للاَفراد و مانعة للاَغيار، لزم رَمي الاَنبياء و المرسلين، و الشهداء والصديقين بالشرك وأنّهم ـ نستعيذ باللّه ـ لم يتخلّصوا من مصائد الشرك، و لزم ألاّيصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. و ذلك لاَنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها:

١ـ إظهار التذلّل.

٢ـ إظهار الخضوع.

٣ـ الطاعة و الخشوع و الخضوع.

٤ـ أقصى غاية الخضوع.

و ليس على أديم الاَرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير اللّه سبحانه و إليك بيان ذلك:

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع و التذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حدّاًمنطقياً لها، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده، و التلميذ أمام أُستاذه، و الجنديُّ أمام قائده، ليس عبادة لهم و إن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى و لو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين، لايعد عمله عبادة، لاَنّ اللّه سبحانه يقول:( وَاخْفِضْ لَهُما جناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (الاِسراء|٢٤).

____________

(١) القرطبي: جامع أحكام القرآن١:١٤٥.

(٢) الرازي: مفاتيح الغيب١: ٢٤٢، في تفسير قوله تعالى: (إِيّاكَ نَعْبُدُ) .

٢٩

و أوضح دليل على أنّالخضوع المطلق و إن بلغ النهاية لا يعدّعبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال:( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (البقرة|٣٤) و آدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له، مع أنّالاَوّل لميكن عبادة و إلاّ لم يأمر به سبحانه، إذ كيف يأمر بعبادة غيره و في الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدمعليه‌السلام إلى الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لكن الثاني أي الخضوع للّه، عبادة .

و اللّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّالدعوة إلى عبادة اللّه سبحانه و النهي عن عبادة غيره، كانت أصلاًمشتركاً بين جميع الاَنبياء، قال سبحانه:( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) (النحل|٣٦) و قال سبحانه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُون ) (الاَنبياء|٢٥) و في موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة: الاَصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية، إذ يقول:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهََ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (آل عمران|٦٤)، و معه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الاِشكال لايندفع إلاّ بنفي كون مطلق الخضوع عبادة، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً آخر ـ كما سيوافيك ـ لميكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.

و لم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه، بل يوسف الصديق كان نظيره، فقد سجد له أبواه و إخوته، وتحقّق تأويل روَياه بنفس ذلك العمل، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف :( إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدينَ ) (يوسف|٤).

كما يحكي تحقّقه بقوله سبحانه:( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُوَْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقّاً ) (يوسف|١٠٠) و معه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته.

٣٠

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت، الذي ليس هو إلاّحجراً و طيناً، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة، قال سبحانه:( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (الحج|٢٩) و قال سبحانه:( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (البقرة|١٥٨).

فهل ترى أنّالطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الاَشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟! إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للموَمن و التعزّز على الكافر، قال سبحانه:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

فمجموع هذه الآيات و جميع مناسك الحجّ، يدلاّن بوضوح على أنّمطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. و إذا فسّرها أئمة اللغة بالخضوع و التذلّل، فقد فسّروها بالمعنى الاَوسع، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّالعبادة ليست إلاّنوعاً خاصاً من الخضوع. و إن سُميت في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة، فإنّما سُميت من باب المبالغة و المجاز، يقول سبحانه:( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكيلاً ) (الفرقان|٤٣) فكما أنّإطلاق اسم الاِله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة له، ضرب من المجاز.

و من ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ* وَأَنِ اعْبُدُوني هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ ) (يس|٦٠ـ ٦١).

فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام، و يترك الفرائض أو يشرب الخمر و يرتكب الزنا، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي لا أنّه يعبده كعبادة اللّه، أو كعبادة المشركين للاَصنام و لاَجل ذلك، لايكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك، و خارجاً عن عداد المسلمين، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع للعبادة الاَعمّمن الحقيقي و المجازيّ.و ربما يتوسع في إطلاق العبادة فتستعمل في مطلق الاِصغاء لكلام الغير، وفي الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يوَدي عن اللّه عزّوجلّ فقدعبد اللّه، و إن كان الناطق يوَدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان». (١)

____________

(١) الكليني: الكافي ٦:٤٣٤.

٣١

توجيه غير سديد

إنّ بعض من يفسّـر العبادة بالخضوع و التذلّل عند مايقف أمام هذه الدلائل الوافرة، يحاول أن يجيب و يقول: إنّسجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب و أبنائه ليوسف، لم يكن عبادة له و لا ليوسف، لاَنّذلك كان بأمر اللّه سبحانه و لولا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما. و هذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق، لاَنّ معنى ذلك أنّ أمر اللّه يُغيّر الموضوع، و يبدل واقعه إلى غير ما كان عليه، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فإذا افترضنا أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك و المنافق، فأمره سبحانه لا يخرج السبَّ عن كونه سباً، إذن لو كان مطلقُ الخضوع المتجلّي في صورة السجود لآدم، أو ليوسف، عبادة لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره، مع أنّها فحشاء بتصريح الذكر الحكيم ولا يأمر بها سبحانه، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (الاَعراف|٢٨).

وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحقّقين نأتي بها واحداً بعد الآخر:

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل لايرد عليه الاِشكال، ولذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة:

أ : العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدّ النهاية.

ب: ناشىَ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها.

ج: واعتقادٍ بسلطة لا يُدرَك كنهُها و ماهيتها.

ويلاحظ على هذا التعريف:

أوّلاً: أنّالتعريف غير جامع، و ذلك لاَنّه إذا كان مقوُّم العبادة، الخضوعَ البالغَ حدّالنهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يوَديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة، و ربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من خضوع هوَلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبأً و جهداً.

و ثانياً: ماذا يريد بقوله «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الاَنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم

٣٢

يستشعر عظمة المعبود و يعرف منشأها، وهو أنّه سبحانه: الخالق البارىَ، المصوّر، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس، السّلام، الموَمن، المهيمن العزيز الجبّار المتكبر.

و ثالثاً: ماذا يريد بقوله: «و اعتقادٍ بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها»؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة، فلازم ذلك عدم صدقها على عبادة الاَصنام والاَوثان، فإنّعُبّاد الاَوثان يعبدونها و كانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند اللّه سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر

وقد عرّف شيخ الاَزهر الاَسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار، و لكنّه يختلف عنه لفظاًو يتّحد معه معنًى، فقال: العبادة خضوع لا يحدُّ، لعظمة لا تحد.(١)

وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً و إشكالاً، و ذلك أنّالعبادة ليست منحصرة في «خضوع لا يحدّ» بل الخضوع المحدود أيضاً ربّما يعد عبادة، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه. و كذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ، إذ ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الاَصنام، و مع ذلك يعبدها و كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند اللّه.

٣ـ تعريف ابن تيمية

و أكثر التعاريف عرضة للاِشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:

«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه اللّه و يرضاه من الاَقوال والاَعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام، والحجّ، و صدق الحديث و أداء الاَمانة، و برّالوالدين و صلة الاَرحام».(٢)

____________

(١) تفسير القرآن الكريم:٣٧.

(٢) مجلة البحوث الاِسلامية، العدد٢: ١٨٧، نقلاً عن كتاب العبودية:٣٨.

٣٣

وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة و التقرّب، و تصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى اللّه، فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّالاَمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا اللّه، و تستوجب ثوابَه لكنّها قد تكون.

عبادة

كالصوم و الصلاة والحجّ، و قد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة، كالاِحسان إلى الوالدين، و إعطاء الزكاة، و الخمس، فكلّ هذه الاَُمور (الاَخيرة) توجب القربى إلى اللّه في حين لا تكون عبادة. و إن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها او شرطيّة قصد القربة في صحّتها.

و بعبارة أُخرى: إنّالاِتيان بهذه الاَعمال يعدّطاعة للّه و لكن ليس كلُّ طاعة عبادة.

وإن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عباديّة و أُموراً قربية، و كلّعبادة مقرِّبة، و ليس كلّ مقرِّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام، و العطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب و لكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداًبعمله للّهتعالى.

و إذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين، كلّ يلازم الآخر.

التعريف الصحيح:

العبادة هي الخضوع للشي بما هو إلـه

أو : العبادة هي الخضوع للشيء بما هو ربّ

إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة، و ربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الاِمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين و المشركين، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه:( وَ لكِنْ أَعبدُ اللّهَ الّذي يَتَوفّاكُمْ ) (يونس|١٠٤) وقال سبحانه:( قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) (الزمر|١١).

٣٤

وقال في النهي عن عبادة غيره:( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (العنكبوت|١٧) وقال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) (الصافّات|٩٥): فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة من أفعال العباد، و عقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين و عبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الاِمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّالعبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران:

١ـ الفعل او القول المنبىَ عن الخضوع و التذلّل.

٢ـ العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبه، كالتكلّم بكلام يوَدي إلى الخضوع له أوبعمل خارجي كالركوع و السجود بل الانحناء بالرأس، أو غير ذلك ممّا يدلّ على ذلّته و خضوعه أمام موجود.

وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع و التذلّل فهي عبارة عن:

١ـ الاعتقاد بأُلوهيته.

٢ـ الاعتقاد بربوبيته.(١)

او مايعادلهما و تعلّم صحة التعريفين من دراسة عقيدة المشركين في أصنامهم و أوثانهم.

____________

(١) قد وقفت على معنى الاِله و الاَلوهيّة، و الربّ والربوبيّة، فلو حكمنا على المشركين بأنّهم كانوا يعتقدون بألوهيّة اصنامهم و ربوبيّتها، فانّما تعنى من اللفظين ماذكر لهما من المعنى في الفصلين السابقين.

٣٥

عقيدة المشركين في آلهتهم

إنّ الذي يسبر حياةَ المشركين يقف بوضوح على انّهم معتقدين بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها بشكل واضح و على القارىَ الكريم أن يستشفه عن كثب وما هو إلاّ حكم التاريخ أوّلاً، و حكم القرآن ثانياً، و نحن نذكر شيئاًيسيراً منهما:

حكم التاريخ في عقيدة المشركين

إنّ المشركين العرب و إن كانوا لا يعاونون من أيّ انحراف و إشكال في مسألة التوحيد في الخالقية و كانوا يعتقدون أنّه سبحانه هو الخالق وحده و أنّه لاخالق سواه و قد نقله سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات:

قال تعالى:( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزيز الْحَليمُ ) (الزخرف|٩) إلاّ أنّهم كانوا في مسألة التدبير الّتي نعبر عنها بالربوبيّة على طرف النقيض من الحق و على خلاف الصواب، فكانوا يعتقدون بأرباب مكان الربّ الواحد، و لكلّربٍّ شأن في عالم الكون. و ما اشتهر بين الناس من أنّ المشركين يعتبرون الاَصنام مجرّد شفعاء عند اللّه لا أكثر تصوّر خاطىَ، بل كانوا يعتقدون أنّ لها وراء هذا، شأناً أوشوَونا. ولاَجل هذه المكانة لها كانوا يعبدونها و يستشفعون بها، وإليك شواهد على ذلك:

لقد دخلت الوثنية في مكة و ضواحيها أوّل ما دخلت في صورة «الشرك في الربوبية» فقصة «عمرو بن لُحيّ» الخُزاعي دليل على أنّأهل الشام كانوا يعتبرون الاَوثان و الاَصنام مدبرة لجوانب من الكون .

يكتب ابن هشام في هذا الصدد فيقول:

كان «عمرو بن لُحيّ» أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة و ضواحيها فقد رأى في سفره إلى البلقاء من بقاع الشام أُناساً يعبدون الاَوثانَ و عند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً: ما هذه الاَصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا، و نستنصرها فَتَنصُرنا ، فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.

٣٦

وهكذا استحسن طريقتَهم و استصحب معه إلى مكّة صنماً كبيراً اسمه هُبل و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته.(١)

فاستمطار المطر من هذه الاَصنام و الاستنصار بها يكشف عن عقيدتهم فيها و أنّ لها مدخلية في تدبير شوَون الكون و حياة الاِنسان.

يقول هشام بن محمد بن السائب الكلبي: مرض لُحيّ بن حارث بن عامر الاَزدي و هو أبو خزاعة فقيل له: إنّ بالبلقاء من الشام حَمَّة(٢) إن أتيتَها بُرِئتَ فأتاها فاستحمّ بها فبَرىَ بها فوجد أهلها يعبدون الاَصنام، فقال: ما هذه ؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا فقدم بها إلى مكة و نصبها حول الكعبة.(٣)

وقال السيّد الآلوسي: وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة و كانت أعظمها هبل عندهم و كان ـ فيما بلغني ـ من عقيق أحمر على صورة الاِنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداًمن الذهب وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة و كان يقال له هبل خزيمة... إلى أن قال: فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية... الخ.

____________

(١) ابن هشام: السيرة النبوية١:٧٩.

(٢) بالفتح و تشديد الميم كلّعين فيها ماء حارّ ينبع، و يستشفي الاَعلاّء.

(٣) الكلبي| الاَصنام ص٨، شكرى الالوسي : بلوغ الارب في معرفة العرب٢:٢٠١.

٣٧

و يقول أيضاً: وكان لمالك و مِلْكان ابني كنانة، بساحل جدّة صنم يقال له سعد، وكان صخرة طويلة فأقبل رجل من بني مِلْكان بإبلٍ له موَبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته، فلما أدناها منه و رأته و كان يُهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كلّ وجه فغضب ربّها فتناول حجراً فرماه به فقال: لا بارك اللّه فيك إلهاً أنفرْتَ إبلي ثمّ خرج في طلب الاِبل حتى جمعها ثمّ انصرف يقول:

أتيـنا إلى سـعد ليجمع شـملنا

فشتتـنا سعد فما نحن من سعد

و هل سعدُ إلاّصـخرة بتنوفة (١)

من الاَرض لايدعى لغيّولا رشد (٢)

هذا شأن عبدة الاَصنام وأمّا شأن عبّاد الاَجرام العلوية فحدّث عنهم ولا حرج، فقد كانوا يعتقدون فيها ربوبية وتدبيراً للعوالم السفلية، و لم تكن مناظرة إبراهيمعليه‌السلام لهوَلاء إلاّ لاَنّهم كانوا يعتقدون بربوبية الكواكب والقمر والشمس، و لاَجل ذلك يصف إبراهيم آلهتهم بالربوبية مجاراة لهم حتى يقضي على تلك الفكرة ببرهان قاطع، يقول:

( فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللّيلُ رَأى كَوكباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ ) (الاَنعام|٧٦) وقد كرر لفظ الربّأيضاً عند مواجهته للقمر والشمس.

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس:

زعموا أنّها ملك من الملائكة لها نفس وعقل و هي أصل نور القمر و الكواكب وتكوّن الموجودات السفلية كلّها عندهم منها و هي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها انّـهم اتّخذوا لها ، صنماً بيده جوهر على لون النار، و له بيت خاص قد بنوه باسمه و جعلوا له الوقوف الكثيرة في القرى والضياع، وله سدنة و قوّام و حَجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم، و يأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم و يصلون و يدعونه و يستشفعون به. (٣)

____________

(١) التنوقة: المفازة والقفر من الاَرض.

(٢) شكري الالوسي: بلوغ الارب :٢:٢٠٥ و ٢٠٨.

(٣) الالوسي: بلوغ الارب٢:٢١٥ـ ٢١٦.

٣٨

نعم إنّالشوَون التي كانوا يعتقدونها لآلهتهم كانت متنوعة و أقلّها شأناً انّها تملك الشفاعة، و قد فوض إليها أمرها لتشفع لمن شاءت و تقبل شفاعتها عند اللّه بلا قيد و لا شرط.

قد وقفت على قضاء التاريخ في عقيدة المشركين و أنّهم ما انفكّوا في حياتهم عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها، و إليك دراسة حكم القرآن في عقيدة المشركين من غير فرق بين عبّاد الاَجرام السماوية أو الاَرضية وحتى المشركين من أهل الكتاب الذين يعدّهم القرآن مشركين أيضاً.

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين

١ـ إنّ الذكر الحكيم يصف المشركين بأنّهم قاطبة جعلوا للّه أنداداً فلذلك عبدوا غير اللّه، والمراد من جعلهم أنداداً للّه هو إشراكهم مع اللّه في شأن ممّا يرجع إلى اللّه سبحانه: و يختص به سواء أكان تدبيراًللكون و الحياة أم مغفرةللذنوب ، أو مالكيتهم للشفاعة.

يقول سبحانه:( فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة|٢٢).

وقال سبحانه:( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُ كَحُبِّ اللّهِ ) (البقرة|١٦٥).

وقال سبحانه:( وَجَعَلُوا للّه أنداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصيرَكُمْ إِلَى النّارِ ) (إبراهيم|٣٠).

وقال سبحانه:( إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنداداً ) (سبأ|٣٣).

وقال سبحانه:( وَ إِذا مَسَّ الاِِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ للّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْهُ سَبيلِهِ ) (الزمر|٨).

وقال سبحانه:( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرونَ بِالّذي خَلَقَ الاََرْضَ في يَومَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمينَ ) .(فصلت|٩).

٢ـ يحكي سبحانه عن المشركين انّهم يعترفون في يوم القيامة بانّهم كانوا يسوُّون بين اللّه وآلهتهم.

قال سبحانه : حاكياً عن لسان المشركين يوم القيامة:( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ ) (الشعراء|٩٧ـ ٩٨).

٣٩

فهذه الآيات ـ التي تحكي عقيدة المشركين و هي أنّهم جعلوا للّه سبحانه تعالى ندّاً بل أنداداً و أنّهم كانون يسوّون آلهتهم بربّ العالمين ـ تكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ، وهو انّ الاَصنام بزعمهم كانت موَثرة في الكون و لو في قسم منه، موَثرة في مصير عبادها، و لذلك سميت الآلهة أرباباً، أي مالكين لاَزمّة الاَُمور و مصير حياة العابد و إن كان فوق هذه الاَرباب ربّالعالمين.

٣ـ و هناك مجموعة من الآيات تحكي عن مناظرة إبراهيم لمشركي عصره من عبدة الاَجرام السماوية يقول سبحانه:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ لاََبيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلهة إِنّي أَراكَ وَقَومكَ في ضَلالٍ مُبينٍ ) .ثم إنّه سبحانه يسرد مناظرته معهم بشكل بديع و يذكر أنّبطل التوحيد حاجّهم بالنحو التالي:

( فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ* فَلَمّا رَءَا الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَومِ الضّالّينَ* فَلَمّا رَءَا الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمواتِ وَالاََرْضَ حَنيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ ) (الاَنعام|٧٤ـ٧٩).

نرى أنّ إبراهيم يركز على كلمة " ربّي" و يعترف مجاراة للقوم بربوبية الاَجرام السماويّة، و لم يزل يُظهر لهم أنّه على هذا الاعتقاد قبل أُفولها، ثمّ يعود و يبطل ربوبيتها بأُفولها.

فماذا كان المشركون يقصدون من الاعتقاد بربوبية الاَجرام السماوية ؟! وماذا أراد بطل التوحيد حسب الظاهر من الاقرار بربوبيتها؟! أليس الربّ بمعنى الصاحب، أليس سياسة المربوب و تدبير حياته بيد الربّ فهل يمكن أن يعبد هوَلاء هذه الاَجرام من دون اعتقاد بتأثيرهم على حياتهم و مسيرتهم.

كلّ ذلك يعرب عن كيفية عقيدة المشركين بالنسبة إلى آلهتهم و أربابهم، وإنّما جرّتهم إلى عبادتها لاعتقادهم الخاص بها.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79