الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة75%

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة مؤلف:
تصنيف: التوحيد
الصفحات: 79

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة
  • البداية
  • السابق
  • 79 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32359 / تحميل: 5581
الحجم الحجم الحجم
الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقوله سبحانه:( هُوَ اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ ) ( الزمر|٤).

وقوله سبحانه:( وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ ) (الرعد|١٦).

إلى غيرها من الآيات الدالة على أنّه واحد لا نظير له، و لا مثيل ولا ثانٍ له و لا عديل.

وأمّا البراهين العقلية في هذا المجال و إبطال (الثنوية) و (التثليث) فموكول إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

إنّ هناك معنى آخر للتوحيد في الذات وهو انّه سبحانه بسيط لا جزء له، فرد ليس بمركب من أجزاء، و لعلّ قوله سبحانه: «في سورة الاِخلاص»( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد ) يعني هذا القسم من التوحيد كما أنّ الآية الاَخيرة أعني قوله:( وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد ) تهدف إلى معنى التوحيد في الذات بالمعنى الاَوّل، وبهذا يندفع إشكال التكرار فيها.

الثانية: التوحيد في الخالقية

والمراد منه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق غير اللّه، ولا فاعل سواه، و أنّكلّ ما يوجد في صفحة الوجود من فواعل و أسباب فإنّما هي غير مستقلات في التأثيرات و إنّما توَثر بإذنه سبحانه وأمره، فجميع الاَسباب والمسببات مخلوقة للّه بمعنى أنّها تنتهي إليه.

و يدل على التوحيد بهذا المعنى( قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ القَهّار ) (الرعد|١٦).

و قوله سبحانه:( اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيٍءٍ وَهُوَ عَلى كلِّ شيّءٍ وَكيل ) (الزمر|٦٢).

وقوله سبحانه:( ذلِكُمُ اللّهُ ربّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلهَ إِلاّ هُوَ ) (الموَمن|٦٢) .(١)

____________

(١) ولاحظ في هذا الموضوع سور الاَنعام ١٠١و ١٠٢ ، الحشر|١٤، فاطر |٣، و الاَعراف|٥٤.

٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير

والمراد منه أنّ للكون مدبّراً و متصرفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شيء فهو سبحانه المدبّر للعالم، و أنّتدبير الملائكة وسائر الاَسباب إنّما هو بأمره سبحانه، و هذا على خلاف ما ذهب إليه أكثر المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ ما يرتبط باللّه سبحانه و تعالى هو الخلق والاِيجاد و الاِبداع و أمّا تدبير الاَنواع و الكائنات الاَرضية فقد فوّض إلى الاَجرام السماوية والملائكة والجنّ و سائر الموجودات الروحية وغير ذلك ممّا تحكي عنه الاَصنام المعبودة، و ليس للّه سبحانه أيّ مدخلية في أمر تدبير الكون و إرادته و تصريف شوَونه.

إنّ القرآن الكريم ينص ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّاللّه هو المدبر للعالم و ينفي أيّتدبير لغيره و إذا كان هناك مدبر سواه فإنّما هو جندي من جنوده، مأمور بالعمل بأمر منه سبحانه:

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الّذي خَلَق السَّمواتِ وَالاََرض في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى علَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْر ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرون ) (يونس|٣).

وقال سبحانه:( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِعَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استوى علَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَكُلٌّ يَجْري لاَجلٍ مُسمًّى يُدبِّرُ الاَمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعلّكُمْ بِلِقاءِ ربّكُمْ تُوقِنونَ ) (الرعد|٢).

فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه:( فالمدبّرات أمْراً ) (النازعات|٥) و قوله سبحانه:( وَ هُوَ القاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ وَ يُرسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظةً ) (الاَنعام|٦١)، إنّ هوَلاء مدبرات بأمره، و حفظة للاِنسان و إرادته فلا ينافي ذلك انحصار التدبير باللّه.

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين

لا شكّ أنّ حياة الاِنسان الاِجتماعية رهن قانون ينظم أحوال المجتمع البشري و يقوده إلى الكمال و هو لا يتحقّق إلاّفي ظلّقانون يحقّق السعادة الاِنسانية، فبما أنّ خالق الاِنسان أعرف بخصوصيات المخلوق و ما يصلحه و يفسده فهو أولى بالتشريع و التقنين بل هو المتعين له، قال سبحانه:( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبير ) (الملك|١٤).

٢٢

إنّ القرآن الكريم لم يعترف بتشريع سوى تشريعه سبحانه، ولا بقانون سوى قانونه فهو، يرى اللّه سبحانه هو المشرع المحيط الذي يحقّ له التقنين خاصة، وأمّا وظيفة غيره فهو تنفيذ القانون الاِلهي.

قال سبحانه:( إنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه ) (يوسف|٤٠)

والمراد من الحكم في قوله:( إنِ الْحُكْم ) هو الحكم التشريعي بقرينة قوله ( أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه ذلك الدِّينُ القيّمُ ) .

وقال سبحانه:( أَفَحُكْم الْجاهِلِيةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنونَ ) (المائدة|٥٠).

إنّ هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين: إلهي، وجاهليّ، وبما أنّما كان من صقع الفكر البشرى ليس إلهياً فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقال سبحانه:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (المائدة|٤٤).

وقال سبحانه:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (المائدة|٤٥).

و قال:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (المائدة|٤٧)

فهذه المقاطع الثلاثة توضح أنّ التقنين أوّلاً و الحكم ثانياً حقّ مخصوص للّه لم يفوضه إلى أحد من خلقه و لاَجل ذلك يصف من يعدل عنه بالكفر تارة و الظلم أُخرى و بالفسق ثالثة.

فهم كافرون لاَنّهم يخالفون التشريع الاِلهي بالردّ و الاِنكار والجحود.

وهم ظالمون لاَنّهم يسلِّمون حقّالتقنين الّذي هو خاصّباللّه إلى غيره.

وهم فاسقون لاَنّهم خرجوا بهذا العمل عن طاعة اللّه.

وأمّا عمل الفقهاء و المجتهدين فهو إمّا استخراج الاَحكام الشرعية من الكتاب والسنّة و الاستخراج غير التشريع، وإمّا تخطيط لكلّ مايحتاج إليه المجتمع في إطار القوانين الاِلهية، و التخطيط غير التشريع.

٢٣

الخامسة: التوحيد في الطاعة

والمراد أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّاللّه تعالى فهو وحده الّذي يجب أن يطاع و أمّا طاعة غيره فإنّما تجب بإذنه و أمره.

قال سبحانه:( وما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ ) (البيّنة|٥) و الدين في الآية بمعنى الطاعة أي مخلصين الطاعة له لا لسواه.

وعلى ذلك فكلّمن افترض اللّه طاعته و الانقياد لاَوامره و الانتهاء عن مناهيه فبإذنه سبحانه و أمره، قال سبحانه:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (النساء|٦٤).

وبالجملة فهنا مطاع بالذات وهو اللّه سبحانه وغيره مطاع بالعرض و بأمره.

السادسة: التوحيد في الحاكمية

إنّالحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام بعد التشريع و التقنين. و وظيفة الحكومة تعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ووظائفهم و مالهم و ما عليهم من حقوق ، ثمّ تحقيقها و تجسيدها.

إنّ أعمال الحكومة والحاكمية في المجتمع لاتنفك عن التصرف في النفوس و الاَموال و تنظيم الحريّات و تحديدها أحياناً والتسلّط عليها ولا يقوم بذلك إلاّ من كانت له الولاية على الناس و لولا ذلك لعُدّ التصرف عدواناً، وبما أنّجميع الناس سواسيه أمام اللّه و الكلّ مخلوق له بلا تمييز فلا ولاية لاَحد على أحد بالذات بل الولاية للّه المالك الحقيقي للاِنسان والكون، والواهب له الوجود والحياة ، فلا يصحّ لاَحد الاِمرة على العبادة إلاّبإذنه.

فالاَنبياء والعلماء والموَمنون مأذونون من قبله سبحانه في أن يتولوا الاَمر من قبله و يمارسوا الحكومة على الناس من ناحيته، فالحكومة حقّمختصّ باللّه سبحانه و الاَمارة ممنوحة من قبله.

قال سبحانه:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَخَيْرُ الْفاصِلينَ ) (الاَنعام|٥٧).

وقال سبحانه:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبينَ ) (الاَنعام|٦٢).

نعم إنّاختصاص حقّالحاكمية باللّه سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصياً بممارسة الاِمرة، بل المراد أنّ من قام بالاِمرة في المجتمع البشري، يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لاِدارة الاَُمور، والتصرّف في النفوس و الاَموال.

٢٤

ولذلك نرى أنّه سبحانه: يمنح لبعض حقّ الحكومة بين الناس، إذ يقول:

( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الاََرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (ص|٢٦) و على ضوء ذلك فلا محيص عن كون الحكومة في المجتمع الاِسلامي مأذوناً بها من قبل اللّه سبحانه: ممضاة من جانبه، و إلاّ كانت حكم الطاغوت، الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.

السابعة: التوحيد في العبادة

والمراد منه حصر العبادة في اللّه سبحانه، و هذا هو الاَصل المتّفق عليه بين جميع المسلمين بلا أيّاختلاف فيهم قديماً أو حديثاً فلا يكون الرجل مسلماً ولا داخلاً في زمرة المسلمين إلاّ إذا اعترف بحصر العبادة في اللّه، أخذاً بقوله سبحانه:( إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعين ) (الفاتحة|٥) و ليس أصل بين المسلمين أبين و أظهر من هذا الاَصل، فقد اتّفقوا على العنوان العام جميعهم و من تفوّه بجواز عبادة غيره فقد خرج عن حظيرة الاِسلام.

نعم وقع الاختلاف في المصاديق والجزئيات لهذا العنوان، فهل هي عبادة غير اللّه أو أنّها تكريم و احترام و إكبار وتبجيل.

والهدف في الفصل الآتي هو تمييز الجزئيات بعضها عن بعض، بوضع تعريف منطقي للعبادة حتى يقف القارىَ على مصاديق العبادة ومصاديق التكريم عن كثب و لا يختلط بعضها بالبعض الآخر.

إنّ الوهابيين جعلوا الشرك في العبادة ذريعة لتكفير المسلمين و جعلهم في عداد المشركين في العبادة و هم ربما يتلون قوله سبحانه:( وَ ما يُوَْمِنُ أَكْثرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (يوسف|١٠٦) و يفسرونه بإيمان المسلمين، و لكن ما هو الدليل على هذا التطبيق. و لماذا لا ينطبق هذا عليهم.

إنّ المسلم الواعي لا ينسب شيئاً إلى إنسان إلاّإذا كان مقروناً بالبرهان والدليل، معتمداً على قوله سبحانه:( قُلْ هاتُوا بُرهانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (البقرة|١١١) ، فلا يتهم المسلم بالشرك إلاّبالدليل ، ولا يضفي عليه عنوان التوحيد إلاّكذلك.

٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة

العبادة من الموضوعات التي تطرّق إليها الذكر الحكيم كثيراً. وقد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ وآية وخصَّها باللّه سبحانه و قال:( وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) (الاِسراء|٢٣) و نهى عن عبادة غيره من الاَنداد المزعومة و الطواغيت والشياطين، وجعل اختصاص العبادة به الاَصلَ الاَصيل بين الشرائع السماوية و قال:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّاللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران|٦٤) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه:( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) (النحل|٣٦).

فإذا كانت لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير بالباحث المسلم أن يتناوله بالبحث و التحقيق العلمي، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميزاً منطقياً.

والذي يُضفي على الدراسة، أهمية أكثر، هو أنّالتوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه، ثمّ عقد القلب عليه، و التحرر من أيّ لون من ألوان الشرك. فلا تُنال تلك الاَُمنيةُ في مجالي العقيدة و العمل إلاّ بمعرفة الموضوع معرفة صحيحة، مدعمة بالدليل حتى لا يقع المسلم في مغبَّة الشرك، و عبادة غيره سبحانه.

و رغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها، وحدّها الذي يُفصلها عن التكريم و التعظيم أو الخضوع والتذلل، و كأنّ السلف ـ رضوان اللّه عليهم ـ تلقّوها مفهوماً واضحاً، و اكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم. ولو صحّ ذلك فإنّما يصحّ في الاَزمنة السالفة، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناس أمر إدّعاء الشرك في العبادة، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح ـ بادعائهم ـ كلّ تعظيم و تكريم للنبيّ، عبادة له، وكلّ خضوع أمام الرسول شرك، فلا يلتفت الزائر يميناً و شمالاً في المسجد الحرام و المسجد النبوي إلاّو توقر سمعه كلمةُ «هذا شرك يا حاج»، وكأنّه ليس لديهم إلاّ تلك اللفظة، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلاّ بذلك.

٢٦

فاللازم على هوَلاء ـ الذي يعدون مظاهر الحبّ والودّ، و التكريم و التعظيم شركاً و عبادة ـ وضعُ حدٍّ منطقيّ للعبادة، تُميَّز به، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاصي العالم وأدانيه، ضابطة كلّية في المشاهد و المواقف، ،و لكن ـ و للاَسف ـ لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة و تبيينها في كتبهم و نشرياتهم و دورياتهم.

فلاَجل ذلك قمنا في هذا الفصل، بمعالجة هذا الموضوع، بشرح مفهوم العبادة لغة و قرآناً، حيث بيّنا أنّ حقيقة العبادة في تعاليم الاَنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم و كتب اللّغة.

العبادة في المعاجم و التفاسير

بالرغم من عناية اللغويين و المفسّرين بتفسير لفظ العبادة و تبيينها، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل، و ذلك لاَنّـهم فسّـروه بأعمّ المعاني وأوسعها و ليس مرادفاً للعبادة طرداً و عكساً.

١ـ قال الراغب في المفردات: «العبودية : إظهار التذلّل، و العبادة أبلغ منها، لاَنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلاّمن له غاية الاِفضال و هو اللّه تعالى و لهذا قال:( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ... ) (الاِسراء |٢٣) ».

٢ـ قال ابن منظور في لسان العرب: «أصل العبودية: الخضوع والتذلل».

٣ـ قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: «العبادة: الطاعة».

٤ـ قال ابن فارس في المقاييس: «العبد، الذي هو أصل العبادة، له أصلان متضادّان، والاَوّل من ذينك الاَصلين، يدلّ على لين و ذُلّ، و الآخر على شدّة وغلظه».

هذه أقوال أصحاب المعاجم و لا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّره به أهل اللغة، غير مكترثين بأنّتفسيرهم، تفسير لها بالمعنى الاَعم.

١ـ قال الطبري في تفسير قوله :( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) : اللّهمّ لك نخشع و نذلّ و نستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّالعبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة و أنّـها تسمّى الطريق المذلّل الذي قد وطئته الاَقدام و ذلّلته السابلة معبَّداً، و من ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج: معبَّد، و منه سمّي العبد عبداً، لذلّته لمولاه.(١)

____________

(١) الطبري:التفسير ١: ٥٣، ط دار المعرفة، بيروت.

٢٧

٢ـ قال الزجاج: معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع، يقال: هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلاً لكثرة الوطء، و بعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران، فمعنى( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) : إيّاك نطيع، الطاعة التي نخضع منها.(١)

٣ـ و قال الزمخشري: العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلّل، و منه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة، وقوة النسج، و لذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى لاَنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.(٢)

٤ـ قال البغوي: العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع و سمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال: طريق معبّد، أي مذلّل.(٣)

٥ـ قال ابن الجوزي: المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال:

أ: بمعنى التوحيد( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) عن علي و ابن عباس.

ب: بمعنى الطاعة كقوله تعالى:( لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ) (مريم|٤٤) .

ج: بمعنى الدعاء.(٤)

٦ـ قال البيضاوي: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، و منه الطريق المعبّد أي المذلّل، و ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفافة، و لذلك لاتستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى.(٥)

و سيأتي أنّتفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالاَخص، إذ لاتشترط في صدقها غاية الخضوع، و لذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به أبناء الدنيا أمام اللّه سبحانه عبادة، و إن لم يكن بصورة غاية التعظيم، و ربّما يكون تفسيراً بالاَعمّ، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته و لا يكون عبادة.

____________

(١) الزجاج: معاني القرآن ١:٤٨.

(٢) الزمخشري: الكشاف١: ١٠.

(٣) البغوي: التفسير١: ٤٢.

(٤) ابن الجوزي: زاد المستنير ١:١٢.

(٥) البيضاوي: أنوار التنزيل١:٩.

٢٨

٧ـ و قال القرطبي: نعبُد، معناه نطيع، و العبادة: الطاعة والتذلّل، وطريق معبّد إذا كان مذلّلاً للسالكين.(١)

٨ـ و قال الرازي: العبادة عبارة عن الفعل الذي يوَتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم: طريق مُعبَّد.(٢)

و إذا قصرنا النظر في تفسير العبادة، على هذه التعاريف و قلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للاَفراد و مانعة للاَغيار، لزم رَمي الاَنبياء و المرسلين، و الشهداء والصديقين بالشرك وأنّهم ـ نستعيذ باللّه ـ لم يتخلّصوا من مصائد الشرك، و لزم ألاّيصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. و ذلك لاَنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها:

١ـ إظهار التذلّل.

٢ـ إظهار الخضوع.

٣ـ الطاعة و الخشوع و الخضوع.

٤ـ أقصى غاية الخضوع.

و ليس على أديم الاَرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير اللّه سبحانه و إليك بيان ذلك:

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع و التذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حدّاًمنطقياً لها، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده، و التلميذ أمام أُستاذه، و الجنديُّ أمام قائده، ليس عبادة لهم و إن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى و لو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين، لايعد عمله عبادة، لاَنّ اللّه سبحانه يقول:( وَاخْفِضْ لَهُما جناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (الاِسراء|٢٤).

____________

(١) القرطبي: جامع أحكام القرآن١:١٤٥.

(٢) الرازي: مفاتيح الغيب١: ٢٤٢، في تفسير قوله تعالى: (إِيّاكَ نَعْبُدُ) .

٢٩

و أوضح دليل على أنّالخضوع المطلق و إن بلغ النهاية لا يعدّعبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال:( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (البقرة|٣٤) و آدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له، مع أنّالاَوّل لميكن عبادة و إلاّ لم يأمر به سبحانه، إذ كيف يأمر بعبادة غيره و في الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدمعليه‌السلام إلى الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لكن الثاني أي الخضوع للّه، عبادة .

و اللّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّالدعوة إلى عبادة اللّه سبحانه و النهي عن عبادة غيره، كانت أصلاًمشتركاً بين جميع الاَنبياء، قال سبحانه:( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) (النحل|٣٦) و قال سبحانه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُون ) (الاَنبياء|٢٥) و في موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة: الاَصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية، إذ يقول:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهََ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (آل عمران|٦٤)، و معه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الاِشكال لايندفع إلاّ بنفي كون مطلق الخضوع عبادة، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً آخر ـ كما سيوافيك ـ لميكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.

و لم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه، بل يوسف الصديق كان نظيره، فقد سجد له أبواه و إخوته، وتحقّق تأويل روَياه بنفس ذلك العمل، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف :( إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدينَ ) (يوسف|٤).

كما يحكي تحقّقه بقوله سبحانه:( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُوَْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقّاً ) (يوسف|١٠٠) و معه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته.

٣٠

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت، الذي ليس هو إلاّحجراً و طيناً، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة، قال سبحانه:( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (الحج|٢٩) و قال سبحانه:( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (البقرة|١٥٨).

فهل ترى أنّالطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الاَشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟! إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للموَمن و التعزّز على الكافر، قال سبحانه:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

فمجموع هذه الآيات و جميع مناسك الحجّ، يدلاّن بوضوح على أنّمطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. و إذا فسّرها أئمة اللغة بالخضوع و التذلّل، فقد فسّروها بالمعنى الاَوسع، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّالعبادة ليست إلاّنوعاً خاصاً من الخضوع. و إن سُميت في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة، فإنّما سُميت من باب المبالغة و المجاز، يقول سبحانه:( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكيلاً ) (الفرقان|٤٣) فكما أنّإطلاق اسم الاِله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة له، ضرب من المجاز.

و من ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ* وَأَنِ اعْبُدُوني هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ ) (يس|٦٠ـ ٦١).

فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام، و يترك الفرائض أو يشرب الخمر و يرتكب الزنا، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي لا أنّه يعبده كعبادة اللّه، أو كعبادة المشركين للاَصنام و لاَجل ذلك، لايكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك، و خارجاً عن عداد المسلمين، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع للعبادة الاَعمّمن الحقيقي و المجازيّ.و ربما يتوسع في إطلاق العبادة فتستعمل في مطلق الاِصغاء لكلام الغير، وفي الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يوَدي عن اللّه عزّوجلّ فقدعبد اللّه، و إن كان الناطق يوَدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان». (١)

____________

(١) الكليني: الكافي ٦:٤٣٤.

٣١

توجيه غير سديد

إنّ بعض من يفسّـر العبادة بالخضوع و التذلّل عند مايقف أمام هذه الدلائل الوافرة، يحاول أن يجيب و يقول: إنّسجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب و أبنائه ليوسف، لم يكن عبادة له و لا ليوسف، لاَنّذلك كان بأمر اللّه سبحانه و لولا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما. و هذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق، لاَنّ معنى ذلك أنّ أمر اللّه يُغيّر الموضوع، و يبدل واقعه إلى غير ما كان عليه، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فإذا افترضنا أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك و المنافق، فأمره سبحانه لا يخرج السبَّ عن كونه سباً، إذن لو كان مطلقُ الخضوع المتجلّي في صورة السجود لآدم، أو ليوسف، عبادة لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره، مع أنّها فحشاء بتصريح الذكر الحكيم ولا يأمر بها سبحانه، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (الاَعراف|٢٨).

وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحقّقين نأتي بها واحداً بعد الآخر:

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل لايرد عليه الاِشكال، ولذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة:

أ : العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدّ النهاية.

ب: ناشىَ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها.

ج: واعتقادٍ بسلطة لا يُدرَك كنهُها و ماهيتها.

ويلاحظ على هذا التعريف:

أوّلاً: أنّالتعريف غير جامع، و ذلك لاَنّه إذا كان مقوُّم العبادة، الخضوعَ البالغَ حدّالنهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يوَديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة، و ربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من خضوع هوَلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبأً و جهداً.

و ثانياً: ماذا يريد بقوله «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الاَنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم

٣٢

يستشعر عظمة المعبود و يعرف منشأها، وهو أنّه سبحانه: الخالق البارىَ، المصوّر، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس، السّلام، الموَمن، المهيمن العزيز الجبّار المتكبر.

و ثالثاً: ماذا يريد بقوله: «و اعتقادٍ بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها»؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة، فلازم ذلك عدم صدقها على عبادة الاَصنام والاَوثان، فإنّعُبّاد الاَوثان يعبدونها و كانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند اللّه سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر

وقد عرّف شيخ الاَزهر الاَسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار، و لكنّه يختلف عنه لفظاًو يتّحد معه معنًى، فقال: العبادة خضوع لا يحدُّ، لعظمة لا تحد.(١)

وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً و إشكالاً، و ذلك أنّالعبادة ليست منحصرة في «خضوع لا يحدّ» بل الخضوع المحدود أيضاً ربّما يعد عبادة، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه. و كذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ، إذ ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الاَصنام، و مع ذلك يعبدها و كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند اللّه.

٣ـ تعريف ابن تيمية

و أكثر التعاريف عرضة للاِشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:

«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه اللّه و يرضاه من الاَقوال والاَعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام، والحجّ، و صدق الحديث و أداء الاَمانة، و برّالوالدين و صلة الاَرحام».(٢)

____________

(١) تفسير القرآن الكريم:٣٧.

(٢) مجلة البحوث الاِسلامية، العدد٢: ١٨٧، نقلاً عن كتاب العبودية:٣٨.

٣٣

وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة و التقرّب، و تصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى اللّه، فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّالاَمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا اللّه، و تستوجب ثوابَه لكنّها قد تكون.

عبادة

كالصوم و الصلاة والحجّ، و قد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة، كالاِحسان إلى الوالدين، و إعطاء الزكاة، و الخمس، فكلّ هذه الاَُمور (الاَخيرة) توجب القربى إلى اللّه في حين لا تكون عبادة. و إن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها او شرطيّة قصد القربة في صحّتها.

و بعبارة أُخرى: إنّالاِتيان بهذه الاَعمال يعدّطاعة للّه و لكن ليس كلُّ طاعة عبادة.

وإن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عباديّة و أُموراً قربية، و كلّعبادة مقرِّبة، و ليس كلّ مقرِّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام، و العطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب و لكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداًبعمله للّهتعالى.

و إذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين، كلّ يلازم الآخر.

التعريف الصحيح:

العبادة هي الخضوع للشي بما هو إلـه

أو : العبادة هي الخضوع للشيء بما هو ربّ

إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة، و ربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الاِمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين و المشركين، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه:( وَ لكِنْ أَعبدُ اللّهَ الّذي يَتَوفّاكُمْ ) (يونس|١٠٤) وقال سبحانه:( قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) (الزمر|١١).

٣٤

وقال في النهي عن عبادة غيره:( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (العنكبوت|١٧) وقال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) (الصافّات|٩٥): فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة من أفعال العباد، و عقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين و عبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الاِمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّالعبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران:

١ـ الفعل او القول المنبىَ عن الخضوع و التذلّل.

٢ـ العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبه، كالتكلّم بكلام يوَدي إلى الخضوع له أوبعمل خارجي كالركوع و السجود بل الانحناء بالرأس، أو غير ذلك ممّا يدلّ على ذلّته و خضوعه أمام موجود.

وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع و التذلّل فهي عبارة عن:

١ـ الاعتقاد بأُلوهيته.

٢ـ الاعتقاد بربوبيته.(١)

او مايعادلهما و تعلّم صحة التعريفين من دراسة عقيدة المشركين في أصنامهم و أوثانهم.

____________

(١) قد وقفت على معنى الاِله و الاَلوهيّة، و الربّ والربوبيّة، فلو حكمنا على المشركين بأنّهم كانوا يعتقدون بألوهيّة اصنامهم و ربوبيّتها، فانّما تعنى من اللفظين ماذكر لهما من المعنى في الفصلين السابقين.

٣٥

عقيدة المشركين في آلهتهم

إنّ الذي يسبر حياةَ المشركين يقف بوضوح على انّهم معتقدين بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها بشكل واضح و على القارىَ الكريم أن يستشفه عن كثب وما هو إلاّ حكم التاريخ أوّلاً، و حكم القرآن ثانياً، و نحن نذكر شيئاًيسيراً منهما:

حكم التاريخ في عقيدة المشركين

إنّ المشركين العرب و إن كانوا لا يعاونون من أيّ انحراف و إشكال في مسألة التوحيد في الخالقية و كانوا يعتقدون أنّه سبحانه هو الخالق وحده و أنّه لاخالق سواه و قد نقله سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات:

قال تعالى:( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزيز الْحَليمُ ) (الزخرف|٩) إلاّ أنّهم كانوا في مسألة التدبير الّتي نعبر عنها بالربوبيّة على طرف النقيض من الحق و على خلاف الصواب، فكانوا يعتقدون بأرباب مكان الربّ الواحد، و لكلّربٍّ شأن في عالم الكون. و ما اشتهر بين الناس من أنّ المشركين يعتبرون الاَصنام مجرّد شفعاء عند اللّه لا أكثر تصوّر خاطىَ، بل كانوا يعتقدون أنّ لها وراء هذا، شأناً أوشوَونا. ولاَجل هذه المكانة لها كانوا يعبدونها و يستشفعون بها، وإليك شواهد على ذلك:

لقد دخلت الوثنية في مكة و ضواحيها أوّل ما دخلت في صورة «الشرك في الربوبية» فقصة «عمرو بن لُحيّ» الخُزاعي دليل على أنّأهل الشام كانوا يعتبرون الاَوثان و الاَصنام مدبرة لجوانب من الكون .

يكتب ابن هشام في هذا الصدد فيقول:

كان «عمرو بن لُحيّ» أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة و ضواحيها فقد رأى في سفره إلى البلقاء من بقاع الشام أُناساً يعبدون الاَوثانَ و عند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً: ما هذه الاَصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا، و نستنصرها فَتَنصُرنا ، فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.

٣٦

وهكذا استحسن طريقتَهم و استصحب معه إلى مكّة صنماً كبيراً اسمه هُبل و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته.(١)

فاستمطار المطر من هذه الاَصنام و الاستنصار بها يكشف عن عقيدتهم فيها و أنّ لها مدخلية في تدبير شوَون الكون و حياة الاِنسان.

يقول هشام بن محمد بن السائب الكلبي: مرض لُحيّ بن حارث بن عامر الاَزدي و هو أبو خزاعة فقيل له: إنّ بالبلقاء من الشام حَمَّة(٢) إن أتيتَها بُرِئتَ فأتاها فاستحمّ بها فبَرىَ بها فوجد أهلها يعبدون الاَصنام، فقال: ما هذه ؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا فقدم بها إلى مكة و نصبها حول الكعبة.(٣)

وقال السيّد الآلوسي: وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة و كانت أعظمها هبل عندهم و كان ـ فيما بلغني ـ من عقيق أحمر على صورة الاِنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداًمن الذهب وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة و كان يقال له هبل خزيمة... إلى أن قال: فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية... الخ.

____________

(١) ابن هشام: السيرة النبوية١:٧٩.

(٢) بالفتح و تشديد الميم كلّعين فيها ماء حارّ ينبع، و يستشفي الاَعلاّء.

(٣) الكلبي| الاَصنام ص٨، شكرى الالوسي : بلوغ الارب في معرفة العرب٢:٢٠١.

٣٧

و يقول أيضاً: وكان لمالك و مِلْكان ابني كنانة، بساحل جدّة صنم يقال له سعد، وكان صخرة طويلة فأقبل رجل من بني مِلْكان بإبلٍ له موَبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته، فلما أدناها منه و رأته و كان يُهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كلّ وجه فغضب ربّها فتناول حجراً فرماه به فقال: لا بارك اللّه فيك إلهاً أنفرْتَ إبلي ثمّ خرج في طلب الاِبل حتى جمعها ثمّ انصرف يقول:

أتيـنا إلى سـعد ليجمع شـملنا

فشتتـنا سعد فما نحن من سعد

و هل سعدُ إلاّصـخرة بتنوفة (١)

من الاَرض لايدعى لغيّولا رشد (٢)

هذا شأن عبدة الاَصنام وأمّا شأن عبّاد الاَجرام العلوية فحدّث عنهم ولا حرج، فقد كانوا يعتقدون فيها ربوبية وتدبيراً للعوالم السفلية، و لم تكن مناظرة إبراهيمعليه‌السلام لهوَلاء إلاّ لاَنّهم كانوا يعتقدون بربوبية الكواكب والقمر والشمس، و لاَجل ذلك يصف إبراهيم آلهتهم بالربوبية مجاراة لهم حتى يقضي على تلك الفكرة ببرهان قاطع، يقول:

( فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللّيلُ رَأى كَوكباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ ) (الاَنعام|٧٦) وقد كرر لفظ الربّأيضاً عند مواجهته للقمر والشمس.

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس:

زعموا أنّها ملك من الملائكة لها نفس وعقل و هي أصل نور القمر و الكواكب وتكوّن الموجودات السفلية كلّها عندهم منها و هي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها انّـهم اتّخذوا لها ، صنماً بيده جوهر على لون النار، و له بيت خاص قد بنوه باسمه و جعلوا له الوقوف الكثيرة في القرى والضياع، وله سدنة و قوّام و حَجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم، و يأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم و يصلون و يدعونه و يستشفعون به. (٣)

____________

(١) التنوقة: المفازة والقفر من الاَرض.

(٢) شكري الالوسي: بلوغ الارب :٢:٢٠٥ و ٢٠٨.

(٣) الالوسي: بلوغ الارب٢:٢١٥ـ ٢١٦.

٣٨

نعم إنّالشوَون التي كانوا يعتقدونها لآلهتهم كانت متنوعة و أقلّها شأناً انّها تملك الشفاعة، و قد فوض إليها أمرها لتشفع لمن شاءت و تقبل شفاعتها عند اللّه بلا قيد و لا شرط.

قد وقفت على قضاء التاريخ في عقيدة المشركين و أنّهم ما انفكّوا في حياتهم عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها، و إليك دراسة حكم القرآن في عقيدة المشركين من غير فرق بين عبّاد الاَجرام السماوية أو الاَرضية وحتى المشركين من أهل الكتاب الذين يعدّهم القرآن مشركين أيضاً.

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين

١ـ إنّ الذكر الحكيم يصف المشركين بأنّهم قاطبة جعلوا للّه أنداداً فلذلك عبدوا غير اللّه، والمراد من جعلهم أنداداً للّه هو إشراكهم مع اللّه في شأن ممّا يرجع إلى اللّه سبحانه: و يختص به سواء أكان تدبيراًللكون و الحياة أم مغفرةللذنوب ، أو مالكيتهم للشفاعة.

يقول سبحانه:( فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة|٢٢).

وقال سبحانه:( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُ كَحُبِّ اللّهِ ) (البقرة|١٦٥).

وقال سبحانه:( وَجَعَلُوا للّه أنداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصيرَكُمْ إِلَى النّارِ ) (إبراهيم|٣٠).

وقال سبحانه:( إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنداداً ) (سبأ|٣٣).

وقال سبحانه:( وَ إِذا مَسَّ الاِِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ للّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْهُ سَبيلِهِ ) (الزمر|٨).

وقال سبحانه:( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرونَ بِالّذي خَلَقَ الاََرْضَ في يَومَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمينَ ) .(فصلت|٩).

٢ـ يحكي سبحانه عن المشركين انّهم يعترفون في يوم القيامة بانّهم كانوا يسوُّون بين اللّه وآلهتهم.

قال سبحانه : حاكياً عن لسان المشركين يوم القيامة:( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ ) (الشعراء|٩٧ـ ٩٨).

٣٩

فهذه الآيات ـ التي تحكي عقيدة المشركين و هي أنّهم جعلوا للّه سبحانه تعالى ندّاً بل أنداداً و أنّهم كانون يسوّون آلهتهم بربّ العالمين ـ تكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ، وهو انّ الاَصنام بزعمهم كانت موَثرة في الكون و لو في قسم منه، موَثرة في مصير عبادها، و لذلك سميت الآلهة أرباباً، أي مالكين لاَزمّة الاَُمور و مصير حياة العابد و إن كان فوق هذه الاَرباب ربّالعالمين.

٣ـ و هناك مجموعة من الآيات تحكي عن مناظرة إبراهيم لمشركي عصره من عبدة الاَجرام السماوية يقول سبحانه:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ لاََبيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلهة إِنّي أَراكَ وَقَومكَ في ضَلالٍ مُبينٍ ) .ثم إنّه سبحانه يسرد مناظرته معهم بشكل بديع و يذكر أنّبطل التوحيد حاجّهم بالنحو التالي:

( فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ* فَلَمّا رَءَا الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَومِ الضّالّينَ* فَلَمّا رَءَا الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمواتِ وَالاََرْضَ حَنيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ ) (الاَنعام|٧٤ـ٧٩).

نرى أنّ إبراهيم يركز على كلمة " ربّي" و يعترف مجاراة للقوم بربوبية الاَجرام السماويّة، و لم يزل يُظهر لهم أنّه على هذا الاعتقاد قبل أُفولها، ثمّ يعود و يبطل ربوبيتها بأُفولها.

فماذا كان المشركون يقصدون من الاعتقاد بربوبية الاَجرام السماوية ؟! وماذا أراد بطل التوحيد حسب الظاهر من الاقرار بربوبيتها؟! أليس الربّ بمعنى الصاحب، أليس سياسة المربوب و تدبير حياته بيد الربّ فهل يمكن أن يعبد هوَلاء هذه الاَجرام من دون اعتقاد بتأثيرهم على حياتهم و مسيرتهم.

كلّ ذلك يعرب عن كيفية عقيدة المشركين بالنسبة إلى آلهتهم و أربابهم، وإنّما جرّتهم إلى عبادتها لاعتقادهم الخاص بها.

٤٠

التدريجي وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّيّاً متغيّراً وقابلاً للانقسام، وليس كذلك، فإنّ كلّ أحدٍ إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيّة اللاّزمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه ؛ وجده معنىً مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّدٍ وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواصّ الموجودة معها متغيّرة متبدّلة من كلّ جهةٍ في مادّتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابلٍ للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصّه - وكلّ مادّة وأمرٍ مادّيٍّ كذلك - ؛ فليست النفس هي البدن ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصّة من خواصّه، سواء أدركناه بشيءٍ من الحواسّ، أو بنحوٍ من الاستدلال، أو لم ندرك ؛ فإنّها جميعاً مادّية كيفما فُرضت، ومن حكم المّادة التغيّر وقبول الانقسام، والمفروض أنْ ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الأحكام ؛ فليست النفس بمادّيّة بوجه.

وأيضاً، هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً، ليس فيه كثرة من الأجزاء، ولا خليط من خارج، بل هو واحد صِرْف، فكلّ إنسانٍ يشاهد ذلك من نفسه، ويرى أنّه هو وليس بغيره، فهذا المشهود أمرٌ مستقلٌّ في نفسه، لا ينطبق عليه حدّ المادّة، ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللاّزمة، فهو جوهر مجرّد عن المادّة متعلّق بالبدن نحو تعلّق يوجب اتحاداً ما له بالبدن، وهو التعلّق التدبيري ؛ وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرّد النفس جميع المادّيّين، وجمعٌ من الإلهيّين من المتكلّمين والظاهريّين من المحدثين، واستدلّوا على ذلك، وردّوا ما ذُكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلّف من غير طائل.

قال المادّيّون: إنّ الأبحاث العلميّة على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية

٤١

الدقّة في فحصها وتجسّسها، لم تجد خاصّة من الخواصّ البدنيّة إلاّ وجدت علّتها المادّيّة، ولم تجد أثراً روحيّاً لا يقبل الانطباق على قوانين المادّة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة.

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدّي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي، على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متّحدة ذات وضع واحد لا يتميّز أجزائها ولا يُدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب-: أنا.

فالذي نرى أنّه غير جميع أعضائنا صحيح، إلاّ أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإنّ لازم الغفلة عنه - على ما تبيّن - بطلان الأعصاب، ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنّه ثابت صحيح لكنّه لا من جهة ثباته وعدم تغيّره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكيّة وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائماً، فما فيه من الماء يجده الحسّ واحداً ثابتاً، وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان، أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتا، وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغيّر تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصيّة التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يُقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنيّة، هي في الحقيقة مجموعة من خواصّ طبيعيّة، وهي: الإدراكات العصبيّة، التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثّر المتقابلين بين جزء المادّة الخارجيّة وجزء المركّب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعيّة لا وحدة واقعيّة حقيقيّة.

٤٢

أقول : أمّا قولهم: ( إنّ الأبحاث العلميّة المبتنية على الحسّ والتجربة، لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلاّ بها )، فهو كلام حقٍّ لا ريب فيه، لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجرّدة التي أُقيم البرهان على وجودها، فإنّ العلوم الطبيعيّة الباحثة عن أحكام الطبيعة، وخواص المادّة، إنّما تقدر على تحصيل خواصّ موضوعها الذي هو المادّة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادّيّة، التي نستعملها لتتميم التجارب المادّيّة، إنّما لها أن تحكم في الأُمور المادّيّة، وأمّا ما وراء المادّة والطبيعة فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادّي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه - كما عرفت - أن يجد ما بين المادّة التي هي موضوعها ولا بين أحكام المادّة وخواصّها، التي هي نتائج بحثها، أمراً مجرّداً خارجاً عن سنخ المادّة، وحكم الطبيعة.

والذي جرّأهم على هذا النفي ؛ زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجرّدة، إنّما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيويّة من وظائف الأعضاء، ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجرّدة لتكون موضوعاً مُبْدئاً لهذه الأفاعيل، فلمّا حصل العلم اليوم على عللها الطبيعيّة لم يبق وجهٌ للقول بها. ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباهٌ فاسدٌ، فإنّ المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك، ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنيّة إلى البدن، فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنيّة بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنّما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتّة، وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته، كما مرّ.

٤٣

وأمّا قولهم: ( إنّ الإنيّة المشهودة للإنسان على صفة الوحدة، هي عدّة من الإدراكات العصبيّة الواردة على المركز، على التوالي، وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - ) فكلام لا محصّل له، ولا ينطبق عليه الشهود النفساني ألبتّة، وكأنّهم ذهلوا عن شهودهم النفساني ؛ فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسّيّة إلى الدماغ، واشتغلوا بالبحث عمّا يلزم ذلك من الآثار التالية، وليت شعري، إذا فرض أنّ هناك أُموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتّة، وهذه الأُمور الكثيرة التي هي الإدراكات أُمور مادّيّة ليس ورائها شيء آخر إلاّ نفسها، وأنّ الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمِن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟!

ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً ؟!

والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد ؛ فإنّ الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة، وإنّما وحدتها في الحسّ أو الخيال - كالدار الواحد والخطّ الواحد مثلاً - لا في نفسه، والمفروض، في محلّ كلامنا، أنّ الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم:

إنّ هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة، كما يدرك الحاسّة أو الخيال المحسوسات، أو المخيّلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإنّ المفروض أنّ مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها، نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إنّ المُدْرك هاهنا الجزء الدماغي، يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة ؛ كان الإشكال بحاله، فإنّ المفروض: أنّ إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة

٤٤

المتعاقبة بعينها، لا أنّ للجزء الدماغي قوّة إدراك تتعلّق بهذه الإدراكات، كتعلّق القوى الحسيّة بمعلوماتها الخارجيّة وانتزاعها منها صوراً حسّيّة، فافهم ذلك.

والكلام في كيفيّة حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود، الذي هو متغيّر متجزّئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته، مع أنّ هذا الفرض أيضاً - أعني أن تكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورةً بشعورٍ دماغيٍّ على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوّة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها ؟!

وهي جميعاً أُمورٌ مادّيّةٌ، ومن شأن المادّة والمادّي الكثرة والتغيّر وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلميّة شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شيء.

وقولهم: ( إنّ الأمر يشتبه على الحسّ أو القوّة المُدْرِكة، فيدرك الكثير المتجزّي المتغيّر واحداً بسيطاً ثابتاً ) غلط واضح، فإنّ الغلط والاشتباه من الأُمور النسبيّة التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأُمور النفسيّة، مثال ذلك أنّا نشاهد الأجرام العظيمة السماويّة صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه على ما تبيّنه البراهين العلميّة، وكثير من مشاهدات حواسّنا، إلاّ أنّ هذه الأغلاط، إنّما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحسّ ممّا في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأمّا ما عند الحسّ في نفسه، فهو أمرٌ واقعيٌّ كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً ألبتّة.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ حواسّنا وقوانا المُدْرِكة إذا وجدت الأُمور الكثيرة المتغيِّرة المتجزّية على صفة الوحدة والثبات والبساطة ؛ كانت القوى المُدْرِكة غالطة في إدراكها، مشتبهة في معلومها

٤٥

بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج، وأمّا هذه الصورة العلميّة الموجودة عند القوّة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتّة، ولا يمكن أن يُقال للأمر الذي هذا شأنه: إنّه مادّي لفقده أوصاف المادّة العامّة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الحجّة التي أوردها المادّيون من طريق الحسّ والتجربة إنّما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود ( وهو مدَّعاهم ) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني - المثبت لوجود أمرٍ واحدٍ بسيطٍ ثابتٍ - تصوير فاسد، لا يوافق لا الأُصول المادّيّة المسلِّمة بالحسّ والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

وأمّا ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد، في أمر النفس، وهو أنّه الحالة المتّحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحيّة من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها، المنتجة لحالة متّحدة مؤلّفة، فلا كلام لنا فيه، فإن لكلّ باحثٍ أنّ يفترض موضوعاً، ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنّما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع، مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي، كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نُفاة تجرّد النفس من الملِّيّين: إنّ الذي يتحصّل من الأُمور المربوطة بحياة الإنسان: كالتشريح والفيزيولوجي، إنّ هذه الخواص الروحيّة الحيويّة تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأُصول في حياة الإنسان، وسائر الحيوان، وتتعلّق بها، فالروح خاصّة، وأثر مخصوص فيها لكلّ واحدٍ منها أرواح متعدّدة، فالذي يسمّيه الإنسان روحاً لنفسه، ويحكي عنه ب-: أنا: مجموعة متكوّنة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد

٤٦

والاجتماع، ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيّات الحيويّة، والخواصّ الروحيّة، تبطل بموت الجراثيم والسلولات، وتفسد بفسادها، فلا معنى للروح الواحدة المجرّدة الباقية بعد فناء التركيب البدني، غاية الأمر أنّ الأُصول المادّيّة المكتشَفة بالبحث العلمي لمّا لم تفِ بكشف رموز الحياة ؛ كان لنا أن نقول: إنّ العلل الطبيعيّة لا تفي بإيجاد الروح، فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأمّا الاستدلال على تجرّد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلم اليوم، لعدم اعتمادها على غير الحسّ والتجربة، هذا.

أقول : وأنت خبير بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة الماديّين وارد على هذه الحجّة المختلَقة من غير فرق، ونزيدها أنّها مخدوشة:

أوّلاً : بأنّ عدم وفاء الأُصول العلميّة المكتَشَفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة، لا ينتج عدم وفائها أبداً، ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادّيّة في نفس الأمر على جهلٍ منّا، فهل هذا إلاّ مغالطة وُضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟!

وثانياً : بأنّ استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادّيّة - إلى المادّة وبعضها الآخر - وهي الحوادث الحيويّة - إلى أمر وراء المادّة - وهو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، ولا يرتضيه المادّي ولا الإلهي، وجميع أدلّة التوحيد تُبطله.

وهنا إشكالات أُخر أوردوها على تجرّد النفس، مذكورة في الكتب الفلسفيّة والكلاميّة، غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمّل والإمعان فيما مرّ من البرهان، وعدم التثبّت في تعقّل الغرض منه ؛ ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام

٤٧

عليها، فمَن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانّها، والله الهادي(١) انتهى كلامه.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية - وهي دلالة القرآن والسنّة على أنّ للإنسان روحاً ونفساً غير البدن، فنقتصر فيه على نقل جملةٍ من الآيات الكريمة:

١ -( وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‌ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‌ ) (آل عمران ١٦٩ - ١٧١ ).

٢ -( وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لٰکِنْ لاَ تَشْعُرُونَ‌ ) ( البقرة ١٥٤ ).

٣ - (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدْخِلُوا آل فروعون أشدّ العذاب ) ( المؤمن ٤٥ - ٤٦ ).

واعلم أنّ هذه الآيات الثلاث تدلّ على أمرين:

أوّلهما : الحياة البرزخيّة للشهداء وأئمّة الكفر فقط دون غيرهما، أي لا يُستفاد منها عموم الحياة البرزخيّة للجميع، والاستدلال عليه بآيات أُخر لا يخلو عن منع وإشكال.

ثانيهما : أنّ للإنسان شيئاً آخر وراء البدن لا يموت بموت البدن وفنائه، وهو المستحقّ للثواب والعذاب، وهو الذي يُسمّى بالروح والنفس.

٤ -( فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‌ ) ( الواقعة ٨٣ ).

___________________

(١) ص ٣٦٤ إلى ٣٧٠ ج١ تفسير الميزان.

٤٨

٥ -( کَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي ) ( القيامة ٢٦ ).

٦ -( إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ کَافِرُونَ‌ * قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ‌ ) ( السجدة ١٠ ).

أقول : ملك الموت لا يتوفّى الجسم الذي يُدفن في الأرض ويضلّ فيها، بل يتوفّى النفس.

٧ -( وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلاَئِکَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.. ) ( الأنعام ٩٣ ).

٨ -( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذٰلِکَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَکَّرُونَ‌ ) ( الزمر ٤٢)(١) .

___________________

(١) وقد يُقال أنّ قوله تعالى( هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاکُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُکُمْ فِيهِ ) ( الأنعام ٦٠ )، يدلّ على موت الإنسان في المنام، والحال أنّه حيّ نائم.

وقد يُجاب عنه بأنّ الموت والنوم يشتركان في انقطاع تصرّف النفس في البدن، كما أنّ البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرّفها في البدن بعد الانقطاع، فلأجله عُدت الإنامة توفياً، وإن شئت فقل إنّ التوفّي على قسمين: توفّي مؤقّت وهو الإنامة، وتوفّي يستمر وهو الإماتة كما يُستفاد من قوله تعالى:

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى... ) ( الزمر آية ٤٢).

ويقول بعض الأطبّاء: إنّ حياة النوم ليست بها حسّ ولا وعي ولا حركة.

ويجب أن نعرف أنّ للنوم درجات، والدرجات السطحيّة منه يخالطها بعض اليقظة، وبعض الحسّ والحركة من تقليب وخلافه.

وأمّا الدرجات العميقة فلا، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقّت، وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخّ الكامل ( ص ٣٤٤ الحياة الإنسانيّة ).

أقول : وبعد فقد بقى الفرق العلمي بين الموت والنوم، وأخواته المشار إليها، وكذا الجنون وبيانه على عهدة العلوم.

وسيأتي في الفصل الثاني من المسألة التاسعة

=

٤٩

( البحث الرابع ) : النفس والروح مفهومان لحقيقةٍ واحدةٍ، فهما موجود واحد قطعاً، ومهما قيل في الفرق بينهما فهو بلحاظ الاعتبارات والمراتب لا غير، فإنّ كلّ إنسان يُدرك من ضميره أنّه واحد لا اثنان !

وتخيّل التعدّد من أوهام العوام، ومَن بحكمهم من مدّعي العلم المبتلين بالجهل المركّب.

ويناسب هنا أنْ نرجع إلى الكتاب والسنّة ؛ لنرى رأيهما في حقّهما وما يتعلّق بهما من خصوصياتهما.

أمّا الروح فقد استُعملت في القرآن في معانٍ مختلفةٍ غير ما به حياة الإنسان وشخصيّته، بل ليس فيه أنّ آدمعليه‌السلام أعطاه الله روحاً، وإنّما فيه أنّه تعالى نفخ في آدم من روحه ( الحجر ٢٩ - ص٧٢ ) كما ورد ( مثله ) في حقّ عيسىعليه‌السلام ، فلعلّ المراد من النفخ هو الإحياء فقط لا أنّ آدم وعيسى صاحبا روح(١) .

وأمّا قوله تعالى:( ويسئلونك عن الرُّوح قُلِ الرُّوح من أمر ربّي ) فالمراد بها مجهول، ويُحتمل أنّها الروح الأمين، أو روح القُدُس(٢) ، أو أُريد به ما أُريد بقوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلاَئِکَةُ وَ الرُّوحُ ) ، وبقوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاَئِکَةُ صَفّاً ) ، أو روح الإنسان. لكن في الأحاديث أنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل...(٣) .

وأمّا قوله تعالى:( أُولٰئِکَ کَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ( المجادلة ٢٢ ) فهي الروح المؤيّدة للمؤمنين - رزقنا الله بفضله -

___________________

=

عشرة حول النسيج الشبكي ما ينفع للمقام، وكذا في الفصل الرابع في جواب الإشكال السابع.

(١) نعم الأحاديث تدلّ على أن للإنسان روحاً كما تأتي.

(٢) بناءً على أنّه غير الروح الأعلين أي جبرئيل وفيه بحث.

(٣) لاحظ ج١٨ وغيره من بحار الأنوار.

٥٠

وليست بروح تنشأ منها الحياة الإنسانية، كما لا يخفى.

وأما النفس والأنفس فقد وردت في القرآن كثيراً، وإليك بعض ما يتعلّق بها:

١ - النفس هي المسؤولة عن أعمال الإنسان كقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّى کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ ) ( البقرة ٢٨١ )، وقوله:

( وَ وُفِّيَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‌ ) (١) .

والآيات الدالّة عليه كثيرة(٢) .

٢ - أنّها تذوق الموت وإليها أُسند القتل، كقوله تعالى:( کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ( آل عمران ١٨٠ )، ( الأنبياء ٢٥ )، ( العنكبوت ٥٧ ).

٣ - أنّها تُلْهَم فجورها وتقواها.

٤ - أنّها المكلّفة:( لاَ يُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة ٢٨٦ )، ولاحظ سورة الأنعام ١٥٢، والأعراف ٤٢، والمؤمنون ٦٢، والطلاق ٧.

٥ - أنّها أمّارة بالسوء، وأنّها لوّامة، ومطمئنة وترجع إلى ربّها راضيةً مرضيّة.

٦ - أنّها متنعّمة في الجنّة، ( الزخرف ٧١ - فُصّلت ٣١ )(٣) .

وأمّا الأحاديث المعتَبَرة الواردة في المقام فقد استوفيناها في موسوعتنا الحديثيّة( معجم الأحاديث المعتبرة ) وذكرنا بعضها في سائر كتبنا ( گوناگون ج١ - عقايد براى همه وغيرها )، وإليك جملة منها:

١ - صحيح أبي ولاّد المروي في الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر

___________________

(١) آل عمران أية ٢٥.

(٢) البقرة ٤٨، ١٢٣، ٢٨١، آل عمران ٢٥..

(٣) ونسب إلى النفس - أيضاً - زائداً على ما في المتن: الإيمان والتفريط في جنب الله، والوسوسة، والتسويل، والشّحّ، والاشتهاء، والهوى، والأكنان، والحرج، والإخفاء، والاستيقان في آيات أُخر.

٥١

حول العرش، فقال: ( لا، المؤمن أكرم على الله مِن أن يجعل روحه في حوصلة طير ( و ) لكن في أبدان كأبدانهم )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن قيس المروي في الخصال عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سأل الشامي... عن العين التي تأوي إليها أرواح المشركين ؟ فقال: ( هي عينٌ يُقال لها سلمى )(٢) .

٣ - صحيح الكناسي المروي في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام ...: ( إنّ لله جنّة خلقها الله في المغرب... وإليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كلّ مساء... وإنّ لله ناراً في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار... )(٣) .

٤ - صحيح الأحول المروي فيه قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الروح التي في آدم قوله:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (٤) ، قال: ( هذه روح مخلوقة، والروح في عيسى مخلوقة)(٥) .

٥ - حسنة حمران، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَرُوحٌ مِنْهُ ) (٦) قال: ( هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى )(٧) .

٦ - صحيح أبي بصير المروي في الكافي، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَ يَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (٨) ،

___________________

(١) ص ٢٦٨ ج٦ بحار الأنوار.

(٢) ص ٢٧٤ نفس المصدر.

(٣) ص ٢٩٠ المصدر.

(٤) الحجر آية ٢٩.

(٥) ص ١٣٣ ج١ الكافي.

(٦) النساء آية ١٧١.

(٧) الكافي ١: ١٣٣.

(٨) الإسراء آية ٨٥.

٥٢

قال: ( خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل(١) ... )

٧ - معتبرة ابن أبي يعفور المرويّة في العلل عن الصادقعليه‌السلام :

( إنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف ههنا، وما تناكر منها في الميثاق اختلف ههنا )(٢) .

أقول : هذا المضمون وارد في عدّة من الأحاديث، لكنّ أكثرها ضعيفة سنداً فتكون مؤيّدة لها.

٨ - موثّقة ابن بكير، عن الباقرعليه‌السلام : (... وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفَي عام)(٣) .

أقول : خلقة الأرواح قبل الأبدان بألفي عام وردت في جملة من الأحاديث(٤) ، ولا يبعد حصول الاطمئنان بصدور بعضها عن الأئمّةعليهم‌السلام ، والظاهر أنّها تنافي قول بعض الفلاسفة: إنّ الروح جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء، ولذا أوّله في الأسفار تأويلاً باطلاً.

واعلم أنّ الروح لا تُطلق على الإنسان المركّب منها ومن البدن، بل يطلق على نفسها فقط، بخلاف النفس، فإنّها تطلق على خصوص معناها، كما تُطلق على معنىً يُعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة ( خود، خودتان، خودما )، أي: على مجموع الإنسان، كقوله تعالى:( فسلِّموا على أنفُسِكُم ) (٥) ، بل ربّما على ما استحال البدن والنفس فيه ؛ كما في حقّه تعالى:( وَ يُحَذِّرُکُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) (٦) .

___________________

(١) الكافي ١: ٢٧٣، نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ١٣٩ ص ٥٨ البحار.

(٣) ص ١٣٨ ج ١ الكافي.

(٤) النور آية ٦١.

(٥) لاحظ ج٥٨ وغيره من بحار الأنوار.

(٦) آل عمران آية ٢٨ و ٣٠.

٥٣

بقي شيء وهو: أنّ عوام المسلمين يزعمون أنّ الروح لا تأمر بالشرّ بل تأمر بالخير دائماً، وأمّا النفس، فهي تأمر بالخير والشرّ، ولعلّ وجه هذا الزعم أنّ القرآن أسند الشرّ إلى النفس ولم يسنده إلى الروح، لكنّ القرآن لم يفصّل القول في الروح الإنسانيّة، كما عرفت، وما تقدّم من الأحاديث المعتبرة يكفي في ضعف الزعم المذكور.

وبالجملة : هما مفهومان لمصداقٍ واحدٍ كما عرفت.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة - وهي دلالة العلم على وجود الروح - فهو طويل نقتصر فيه هنا على كلام بعض الفضلاء فقط ؛ حتى لا يطول بنا المقام:

والمادّة التي يتكوّن منها الدماغ، هي عين المادّة التي تنشأ منها بقيّة أعضاء الجسد، ونوع الحياة الذي يتسبّب في نشوء الجميع واحد. فإنّ أصل الجنين خليّة واحدة ثمّ تتكثّر، وعليه، يلزم أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنسٍ واحدٍ دون اختلاف تخصّصاتها، وهي وظائف غير إراديّة ولا فكريّة، لأنّها اللاّرادة، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولّد - بصورة آليّة - المريد من غير المريد والمفكِّر من غير المفكِّر.

وماقيل من أنّ: الإرادة، والفكر، والشعور، وغيرها من الأنشطة الإنسانيّة الاختياريّة، إنّما تنشأ من الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، غير صحيح ؛ فإنّ كلّ تفاعلٍ لابُدّ له من عامل، فهو إن كان خارجيّاً يلزم استناد إرادته وأفكاره ومشاعره المختلفة غير اختياريّة له، مع أن المادّيّين لم يستطيعوا - ولن يستطيعوا - ولا مرّة واحدة أن يضعوا العناصر والمركّبات في أنابيب الاختبار، ثمّ يدفعونها بالتأشيرات المعنويّة بدلاً من العوامل المادّيّة المعهودة.

٥٤

وإن كان داخليّاً فما هو ؟

هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب، أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ، أم هو شيءٌ آخر ؟

فليكن أيّ شيء فلماذا تتحدّد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم، باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهةٍ أُخرى ؟

إنّ محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص والأزمان، وأنشطتهما المادّيّة واحدة، فلماذا تتعدّد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها ؟

فتتعدّد الأفكار، وتتعدّد المشاعر والأحاسيس، وتعدّد الاكتشافات، وتتعدّد المواهب عند الأشخاص، بل وتعدّد عند الشخص الواحد في ساعتين...، أقول : ولا تفسير له سوى الإقرار بوجود الروح...(١) . انتهى ما أردنا نقله.

واعلم أنّ الاعتقاد بوجود الروح، لا ينقص من أهميّة المخّ وعظم عمله، فلا تغفل، ويقول طبيب مسلم: إنّ كثيراً من العلماء، ذكروا أنّ المظاهر النفسيّة: كالوعي، والإدراك، والانفعال، والذاكرة، والقدرة على التعلّم، والإحساس النهائي للّذّة والألم، وكلّ هذه المظاهر النفسيّة لم يثبت علميّاً - إلى الآن - أنّ مراكزها النهائيّة موجودة في خلايا المخّ.

والحقيقة أنّنا نتعلّم الطبّ حسب المدرسة الغربيّة، التي ينفصل عندها العلم عن الدين، فهي ترى: أنّ المظاهر النفسيّة عبارة عن تفاعلات كيمياوية معقّدة تحدث داخل خلايا المخّ، وهذا أمر لم يثبت علميّاً للآن(٢) .

أقول : ولتأثير الروح والمخّ وأهمّيّة كلتيهما لنضرب مثلاً، ونشبّه

___________________

(١) ص ١٢٧ إلى ص١٣١ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة، نقلنا عنها بعض القليل مع الاختصار.

(٢) ص٨٦ نفس المصدر.

٥٥

الروح بالمصوِّر، وخلايا المخّ بجهاز التصوير، والصورة كما تحتاج إلى المصوِّر تحتاج إلى آلة التصوير ولا يغني أحدهما عن الآخر في إنتاج الصورة.

( البحث الخامس ) في بدء حياة الإنسان.

المتدبّر في البحثين الأخيرين، يقتنع بسهولة أنّ الحياة الإنسانيّة إنّما هي بتعلّق الروح بالبدن، كما أنّ موت الإنسان بانقطاع هذا التعلّق نهائياً، ولا ربط لحياة الخلايا بحياة الإنسان، ولا موته بموتها، وهذا الذي اعتقده علماء الإسلام، هو الصحيح المطابق للبراهين العقليّة أيضاً.

وإنْ شئت فقل: إنّ قوام إنسانيّة الإنسان بروحه لا ببدنه، وإنّ فُرض موجوداً تامّاً في الخارج وكان جميع خلاياه حيّة، فالجنين مهما تكامل وتنامى فهو - قبل تعلّق الروح - جنين الإنسان، وما يؤل إلى الإنسان وليس بإنسان نفسه.

متى تتعلّق الروح بالبدن ؟

هذا هو السؤال المهمّ في المقام، ولا يصلح علم الطب وعلم الأجنّة، وسائر العلوم للإجابة عليه، لحدّ الآن، ولا أظنّ اهتداء العقل إليه أيضاً، فلا بُدّ من الرجوع إلى الدين فيه، لكنّ القرآن الكريم - وحسب فهمي - ليس فيه ما يدلّ على توقيت تعلّق الروح بالبدن، سوى قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‌ ) (١) ، ولا بُعد في إرادة تعلّق الروح بالجنين من هذه الآية، إذ إنشاء الجنين مخلوقاً آخر لا يناسب إلاّ صيرورته ذات روح، ويؤكِّده قوله:( فَتَبَارَکَ اللَّهُ... ) ، بل يدلّ على إرادة التعلّق المذكور بعض الروايات المعتبرة الآتية، لكن لا يُستفاد أنّ تعلق الروح

___________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

٥٦

بالجنين في أيّ شهرٍ من شهور الحمل، وإنّما يُستفاد من الآية المذكورة أنّه بعد كسوة العظام لحماً. وإن قدّر الطب بشكلٍ دقيقٍ محسوسٍ على تعيين زمن كسوتها لحماً لم يقدر على زمان تعلّق الروح بالجنين، إذ لا دليل على أنّه بعدها بلا فصل، بل ظاهر قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ ) ، الفصل بينهما، فلا يبقى أمامنا للحصول على جواب السؤال المذكور سوى الأحاديث، فنقول:

١ - الصحيح المرويّ في التهذيب عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

(... فإذا أُنشئ فيه خلقٌ آخر، وهو الروح، فهو حينئذٍ نفس، ألف دينار كاملة إن كان ذكراً، وإن كان أُنثى فخمسمئة دينار )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن مسلم المرويّ في الكافي، قال:

سألت أبا جعفرعليه‌السلام ... قلت: فما صفة النطفة التي تُعرف بها ؟

فقال: ( النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث في الرحم إذا صارت أربعين يوماً، ثمّ تصير إلى علقة.

قلت: فما صفة خلقة العلقة التي تُعرف بها ؟

فقال: هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة.

قلت: فما صفة المضغة وخلقتها التي تُعرف بها ؟

قال: هي مضغة لحمٍ حمراءَ فيها عروقٌ خضرٌ مشتبكة، ثمّ تصير إلى عظم.

قلت: فما صفة خلقته إذا كان عظماً ؟

فقال: إذا كان عظماً شقّ له السمع والبصر، ورُتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الديّة كاملة )(٢) ، ورواه الشيخ في تهذيبه بتفاوت(٣) .

أقول : لم يذكر في هذا الصحيح توقيت المضغة بأربعين يوماً، ولا

___________________

(١) ص ٢٨٥ ج ١٠ نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ٣٤٥ ج ٧ الكافي.

(٣) ص ٤٧٥ ج ٢٦ جامع الأحاديث.

٥٧

يضر، فإنّه مذكور في صحيح زرارة وغيره، الآتية في مسألة الإجهاض(١) . ولم يذكر تعلّق الروح بالجنين أيضاً.

أقول : لا يُفهم من هذه الأحاديث مع الآية أنّ بدء الحياة الإنسانيّة، في أوّل الشهر الخامس من الحمل، أي في اليوم ١٢١ من الحمل، بل يُحتمل نفخ الروح بأطول من ذلك، كما لا يخفى، بل في رواية أبي شبل:

( هيهاتَ يا أبا شبل، إذا مضت الخمسة الأشهر فقد صارت فيه الحياة، وقد استوجب الديّة)(٢) ، ولعلّه اشتباه ومحرّف الأربعة الأشهر، لكنّه محتمل، إذ لا يخالفه نصٌّ معتبر، سوى معتبرة ابن الجهم الآتية(٣) ، ولا بُدّ لك أن تُلاحظ ما يأتي من الآية والأحاديث في المسألة الآتية، مع هذه الأحاديث جمعاً.

ومقتضى النظر الدقيق، أنّ جميع الأحاديث لا تدلّ على أنّ نفخ الروح يكون في أوّل الشهر الخامس من الحمل، حتّى معتبرة ابن الجهم في المطلب الأوّل من المسألة الآتية، وإنْ كانت مشعرة بها، نعم مدلولها نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر، فلاحظ وتأمّل جيّداً، والله العالم.

ولعلّه لأجل ما ذكرنا ؛ قال صاحب الجواهرقدس‌سره في باب الدية ( ص٣٦٥ ج٤٣ ): بل عن ظاهر الأصحاب عدم اعتبار مضيّ الأربعة أشهر في الحكم بحياته على وجه يترتّب عليه الديّة، وإن قال الصادقعليه‌السلام في خبر زرارة:

( السّقط إذا تمّ له أربعة أشهر غُسِّل )(٤) .

وأفتى الأصحاب بمضمونه، إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي تحقّق العنوان في المقام.

أقول : أي حياة الجنين لوجوب الدية الكاملة.

___________________

(١) لاحظ ص ٦٤ هذا الكتاب.

(٢) جامع الأحاديث ٢٦ / ٤٨١.

(٣) الكافي ٧: ٣٤٦، نسخة الكومبيوتر.

(٤) الكافي ٣: ٢٠٦.

٥٨

المسألة السادسة

حول إجهاض الجنين(١)

الإجهاض: إلقاء حَمْلٍ ناقص الخَلْق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها، وكثيراً ما يُعبّر عن الإجهاض بالإسقاط، أو الطرح أو الإلقاء، وفي المقام مطالب ننقلها عن الأطبّاء:

١ - الثابت في علم الأجنّة أنّ الحياة موجودة في الحيوان المنوي قبل التلقيح، وموجودة في البويضة قبل الالتقاء، وقد يلتقي الحيوان المنوي والبويضة ويُسفر عن ذلك حمل عنقود وليس إنساناً، والحمل العنقودي ليس جنيناً، وإنّما مجرد خلايا لا تكون في مجموعها أي شكل من الأشكال، وإنّما شكلها شكل عنقود العنب، وبعد فترةٍ من الزمن يتقلّص الرحم ويطرد هذا المحتوى، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الإنسان، أو على صورة الإنسان، أو على الحياة، وهو - أيضاً - نتيجة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة(٢) .

٢ - فترة الإنشاء - يعني به قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) (٣) -

___________________

(١) الإجهاض - كما في معاجم اللُّغة واستعمال الفقهاء - هو إلقاء الحمْل ناقص الخَلْق، أو ناقص المدّة.

وقد أطلق مجمع اللُّغة العربية كلمة الإجهاض: على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة الإسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع. هكذا قيل.

(٢) قال بعض الأطباء: إنّ البويضة المخصبة من ناحية خلويّة بالتأكيد هي ليست الجنين، إنّ جزءً يسيراً منها يتكوّن منه الجنين، وهذا يحدث في اليوم العاشر بعد العلوق، وقد لا يحدث فتكون بويضةً فاسدةً لا ينتج عنها جنين، وقد يحدث منها حمل عنقودي، وقد يحدث توأم... ص٦٧٧، الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبّيّة.

(٣) المؤمنون آية ١٤.

٥٩

حسبما رأيناه في الفيلم: أنّه في الأُسبوع السادس أو السابع بعد الفترة من الأُسبوع الأوّل إلى الأُسبوع السادس كانت مجموعة من الأنسجة لم تظهر بالفيلم، وإنّما ظهر لنا من بعد الأُسبوع السادس، وبعد الأربعين يوماً بدأ يتخلّق، بدأ يظهر الرأس وتظهر الأطراف، بدء خَلْقٍ آخر... ( و) من بعد الأُسبوع السادس ما هو إلاّ نموٌّ وليس تكويناً جديداً(١) .

٣ - إنّ الجنين يتحرّك ويتحرّك من قبل نهاية الشهر الرابع بزمن ٍطويل، ولكنّ السيّدة لا تحس به ؛ لأنّ الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيراً فسيحاً بالنسبة لجسمه الصغير، ويمرّ زمن حتّى يكبر الجنين، فتستطيع لكماته وركلاته أنْ تطال جدار الرحم ؛ فتشعر بها السيّدة بعد أربعة أشهر من الحمل، بل إنّ لدينا الآن من الأجهزة ما نسمع به دقّات قلب الجنين وهو في الأُسبوع الخامس، ولدينا من الأجهزة ما نرصد به حركة الجنين حتّى مِن قبل ذلك...(٢) .

وقيل: إنّ الحركة متّصلة قبل ذلك ؛ لأنّ الخلايا منذ المراحل الأُولى في حركة، حتّى إنْ لم ترها الأجهزة ؛ لأنّ الخلايا تتحرّك، وترتّب نفسها إلى آخره(٣) .

٤ - مبرِّرات الإجهاض في الغرب قد اتّسعت حتّى بلغت خاتمة المطاف بالإجهاض حسب الطلب !!!

ومن المبرِّرات: الدواعي الطبّيّة، لكن وسع في بعض البلاد مدلولها فبدأت بالخطر على حياة الأُمّ إن استمرّ الحمل، ثمّ الخطر على صحّتها، ثمّ على صحّتها الجسميّة، أو النفسيّة، ثمّ عليها في الحاضر وفي المستقبل المنظور، ثمّ على الصحّة الجسميّة أو

___________________

(١) ص٢٣٤ وص٢٣٥، الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص٢٥٤ وص٢٥٥، نفس المصدر.

(٣) ص٢٨٢، نفس المصدر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79