الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة0%

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة مؤلف:
تصنيف: التوحيد
الصفحات: 79

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 79
المشاهدات: 30619
تحميل: 4816

توضيحات:

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 79 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30619 / تحميل: 4816
الحجم الحجم الحجم
الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

مؤلف:
العربية

٤ـ إنّه سبحانه: «يصف اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم و رُهبانهم أرباباً. قال سبحانه:( اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسيحَ ابْنَ مَرْيََمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (التوبة|٣١).

و ليس المراد أنّهم اعتقدوا بأنّ علماء دينهم و رهبانهم خالقون أو مدبرون للكون بل كانوا يعتقدون أنّلهم شأناً من شوَونه سبحانه: وهو أنّلهم تحليل الحرام و تحريمه و انّه فوض إليهم زمام التشريع و بالتالي مصيرهم بأيديهم و يكفي ذلك في صدق الربوبية.

روى المفسرون عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللّه و في عنقي صليب من ذهب فقال لي : يا عدي إطرح هذا الوثنَ في عنقك قال: فطرحته ثم انتهيتُ إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية( اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً ) حتّى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرِّمون ما أحل اللّه فتحرّمونه ، ويُحلّون ما حرّم اللّه فتستحلونه ؟ قال: فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم.(١)

هذا قليل من كثير ممّا يعرب عن عقيدة المشركين القدامى والجدد في حقّ معبوداتهم.

ونختم المقال بشيء من شعر زيد بن عمر بن نوفل الذي أسلم قبل أن يبعث النبيّالاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول بعد استبصاره معرباً عن عقيدته في الجاهلية:

أرب واحد أم ألف رب

أدين إذا تقسّمت الاَُمور

عزلتُ اللاة والعُزى جميعاً

كذلك يفصل الجلد الصبور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها

ولا صنَمَي بني عمرو أزور

و يقول في شعر آخر:

إلى الملك الاَعلى الذي ليس فوقه

إله و لا ربّ يكـون مداينـا(٢)

هذه الاَشعار و سائر الكلمات المروية عن الاَمّة الجاهلية قبل مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت أمراً واحداً وهو أنّ آلهتهم كانت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبة مالكة لها موَثرة في الكون و مصير الاِنسان و انّ هوَلاء آلهة و أرباب واللّه سبحانه إله الآلهة و ربّ الاَرباب.

____________

(١) الطبرسي: مجمع البيان :٣|٢٣ـ٢٤.

(٢) الالوسي: بلوغ الارب٢:٢٤٩.

٤١

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة

المقصود من التعريف المنطقي، هو التعريف الجامع الشامل لجميع أفراد العبادة سواء كانت حقّة أو باطلة، صحيحة أو فاسدة، و ـ التعريف ـ المانع عن دخول غيرها، ممّا ليس من مصاديقها و جزئياتها، و إن كانت شبيهة بها في الظاهر، ولكنّها في الواقع تكريم و تبجيل ويتوهمها الجاهل عبادة.

و بما أنّا لم نقف على تعريف للعبادة، في الكتاب و السنّة، لا محيص لنا عن اصطياده عن طريق تحليلها في ضوء المصدرين الكريمين فانّ دراستها كذلك يُشرِف الباحثَ على تمييز العبادة عن غيرها و بالتالي على صبّما استفاده منهما في قالب تعريف جامع و مانع.

أقول: العبادة تتقوم بعنصرين ولا يُغني أحدهما عن الآخر:

الاَوّل: الاعتقادُ الخاص في حقّ المعبود، أعني الاعتقادَ بأنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير العابد آجلاً وعاجلاً في تمام شوَون الحياة أو بعضها، وقد تعرّفتَ على معنى «الاِله» و «الرب» في الفصلين السابقين فلا نعود إلى ما ذكرنا سابقاً، فإذا كان الخضوع و التذلل، مجرّداً عن هذا النوع من الاعتقاد لايعدّ العمل عبادة سواء أكان باللسان، أم بسائر الجوارح، نعم يمكن أن يكون حراماً موجباً للعقاب لا لاَنّه عبادة بل لكونه عملاً محرماً كسائر المحرّمات الّتي ليست بعبادة قطعاً كالكذب و الغيبة.

الثاني: العمل الحاكي عن الخضوع، و يكفي في ذلك أبسط الخضوع إلى أعلاه سواء أكان باللفظ والبيان، أم بسائر الجوارح، فإذا كان الخضوع نابعاً عن الاعتقاد الخاص في مورد المخضوع له، يتصف بالعبادة.

إنّ الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له، أو ربوبيته، أو كون مصير العباد بيده، مجرّداً عن الخضوع العملي أو اللفظي، يستلزم كونَصاحبه مشركاً في العقيدة لا مشركاً في العبادة، و إنّما يكون مشركاً فيها إذا انضمّ إلى العقيدة، خضوع عملي كما أنّ مجرّدَ الخضوع النابع عن الحب و العطف، يكون تكريماً و تبجيلاً، و خضوعاً و تذلّلاً لا عبادة، و ربما يكون حلالاً و مباحاً و يعدّ مَظْهَراً للتكريم و سبباً لاِظهار الحبّ و الودّ، و ربما يكون حراماً كالسجود للمحبوب بما أنّه جميل، لا لاَنّه إله و ربّ أو بيده مصيره، و مع ذلك فالسجود لمثله حرام حسب ما ورد في السنّة و إن لميكن عبادة و كونه مثلها في الصورة لا يُدخله في عنوانها لاَنّ العبرة بالنيّات و البواطن، لا بالصور و الظواهر.

٤٢

أمّا العنصر الثاني: فلم يختلف في لزوم وجوده اثنان إنّما الكلام في مدخلية العنصر الاَوّل في صدق العبادة و دخوله في واقعها و نحن نستدل على مدخليته بطريقين:

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين

إنّ الاِمعان في أعمالهم، يدلُّ بوضوح على أنّخضوعهم جميعاً لم يكن منفكاً عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها و كانت تلك العقيدة هي التي تَجرُّهم إلى الخضوع و التذلل أمامها ولولاها لم يكن لخضوعهم وجه ولا سبب فالموحِّد يخضع أمام اللّه لاعتقاده بأنّه خالق، بارىَ ، مبدع، و مصور، مدبّر، و متصرّف، و بكلمة جامعة: إنّه إله العالمين إلى غير ذلك من الشوَون، فمن هذا الاعتقاد، ينشأ الخضوع و التذلل.

والمشرك يخضع أمام الاَصنام والاَوثان، أو الاَجرام السماوية، لاعتقاده بأنّها آلهة و أرباب بيدها مصيره في الدنيا و الآخرة و لذلك كانوا يستمطرون بها، ويطلبون منها الشفاعة والمغفرة و بذلك صاروا آلهة و أرباباً.

إنّ الموحّد يرى أنّ العزّة بيد اللّه سبحانه و هو القائل عزّ من قائل:( فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَميعاً ) (فاطر|١٠)( وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ) (آل عمران|٢٦)

ولكن المشرك يرى أنّالعزة بيد الاَصنام والاَوثان يقول سبحانه حاكياً عن عقيدته:( وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (مريم|٨١).

إنّ الموحّد لا يُثبت شيئاًمن صفاته سبحانه، و أفعاله، لغيره ولا يرى له مثيلاً و لا نظيراًفي الصفات والاَفعال فهو المتفرِّد في جماله و كماله، وفي أسمائه و صفاته، وفي أعماله و أفعاله، و لكن المشرك يسوي الاَصنام بربّالعالمين إذ يقول سبحانه حاكياً عنهم:( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبين* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين ) (الشعراء|٩٧ـ٩٨) و إذا لم تكن التسوية متحقّقة في تمام الشوَون فقد كانت متحقّقة في بعضها فقد كانوا عندهم مالكين للشفاعة النافذة التي لا تردّ، و لغفران الذنوب، فلاَجل ذلك تُركّز الآيات على أنّ الشفاعة للّه و المغفرة بيده، يقول سبحانه:( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) (الزمر|٤٤) و يقول:( وَ مَنْ يَغْفِرُالذُّنُوبَ إِلاّ اللّه ) (آل عمران|١٣٥)

إنّ النبيّ إبراهيم يصف ربّه بقوله:( الّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالّذي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقينِ*وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالّذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيينِ* وَالّذي أَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتي يَومَ الدّينِ ) (الشعراء|٧٨ـ٨٢) و هو في هذا المقام يحاول ردّ عقيدة المشركين حيث كانوا يثبتون بعضَ هذه الاَفعال لمايعبدون من الاَجرام السماوية والاَرضية.

٤٣

وحصيلة الكلام أنّ التاريخ القطعي وآيات الذكر الحكيم متّفقان على أنّخضوع المشركين لم يكن مجرّدَ عمل دون أن يكون نابعاً من الاعتقاد الخاصّ في حقّ معبوداتهم و لم تكن عقيدتهم سوى إثبات ما لربّ العالمين من الشوَون، كلّها أو بعضها لهم، و لاَجل ذلك كانوا يتذلّلون أمامهم.

هذه هي الطريقة الاَُولى لاستكشاف مدخلية العنصر الاَوّل في صدق العبادة و قد وقفنا عليها من طريق الامعان في عبادة الموحدين و المشركين و إليك الكلام في الطريقة الثانية.

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير

إنّ الآيات الحاثة على عبادة اللّه و المحذرة عن عبادة غيره، تعلل لزوم عبادته سبحانه بالاَُلوهية تارة و الربوبية أُخرى، و هذا إن دلّعلى شيء فإنّما يدلّ على أنّ العبادة من شوَون الاِله و الربّ، و انّها كانت ضابطة مسلّمة بين المخاطبين، و لم يكن فيها أيّاختلاف و إنّما كان الاختلاف في الموصوف بهما، فالذكر الحكيم لا يرى في صحيفة الوجود، إلهاً ولا ربّاً غيره، و يُحصر العنوانين في اللّه سبحانه بينما يرى المشركين أصنامَهم آلهة و أرباباً و لذلك ذهبوا إلى عبادتها و الخضوع أمامها لاَنّها أرباب و آلهة عندهم و لها نصيب من العنوانين.

وعلى الجملة : انّالدعوة إلى عبادة اللّه أو حصرها فيه معللاًبأنّه سبحانه إله و ربّ و لا إله ولا ربّغيره، يعطي اتفاق الموحد والمشرك على تلك الضابطة و أنّها من شوَون من كان ربّاً و إلهاً و إنّما كان الاختلاف و الجدال في المصاديق، و إنّه هل هناك إله أو ربّ غيره سبحانه، أو لا؟ فالاَنبياء يوَكدون على الثاني، و المشركون على الاَوّل، وعلى هذا لو كان هناك خضوع أمام شيء، من دون هذه العقيدة فلا يكون عبادة باتّفاق الموحد و المشرك. و إليك ما استظهرناه من الآيات:

١ـ قال سـبحانه:( يا قَومِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (الاَعراف|٥٩).

وقد وردت هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن.(١)

____________

(١) لاحظ، الاَعراف|٦٥، ٧٣و ٥٨. و سورة هود|٥، ٦١، ٨٤ ، و سورة الاَنبياء|٢٥ و سورة الموَمنين|٢٣، ٣٢ و سورة طه |١٤.

٤٤

إنّ قوله سبحانه:( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) بمنزلة التعليل للاَمر بحصر العبادة في اللّه تعالى و معناه : اعبدوا اللّه و لا تعبدوا سواه، و ذلك لاَنّ العبادة من شوَون الاَُلوهية ولا إله غيره.

٢ـ قال سبحانه:( وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسرائِيلَ اعْبُدُوا اللّه َرَبّي وَ ربَّكُمْ ) (المائدة|٧٢).

( إنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمّةً واحِدة وأَنَا ربُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الاَنبياء|٩٢).

( إِنَّ اللّهَ ربّي وَربُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقيم ) (آل عمران|٥١).

( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (البقرة|٢١).

و كيفية البرهنة في هذا الصنف من الآيات مثلها في الآية السابقة.

وقد ورد مضمون هذه الآيات أعني: جعل العبادة دائرة مدار الربوبية في آيات أُخرى.(١)

إنّتعليق الاَمر بالعبادة على لفظ الربّ في قوله "اعبدوا ربّكم" دليل على أنّوجه تخصيص العبادة باللّه سبحانه هو كونه ربّاً و لا ربّ غيره، فهذا يعرب عن كون العبادة من شوَون من يكون ربّاً، وليس الربّ إلاّاللّه سبحانه، وأمّا ربوبية غيره فباطلة.

٣ـ قال سبحانه:( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (الاَنعام١٠٢).

فقد علل الاَمر بعبادة اللّه سبحانه في هذه الآية بشيئين:

أ : إنّه( ربّكم ) .

ب: إنّه( خالق كلّ شيء ) .

فيدل بوضوح على أنّالعبادة من شوَون الربوبية و الخالقية، فمن كان خالقاً، أو ربّاً، مدبّراً للكون والاِنسان، تجب عبادته، وأمّا من كان مجرداًعن هذه الشوَون فكان مخلوقاً بل خالقاً و لا ربّاًو مدبّراً متصرفاً فيه مكان كونه مدبِّراً و متصرِّفاً، فلا يصلح أن يكون معبوداً.

____________

(١) لاحظ : يونس |٣، الحجر|٩٩، مريم |٣٦، ٦٥، الزخرف|٦٤.

٤٥

إنّه سبحانه يشرح في مجموعة من الآيات بأنّه الخالق الرازق المميت المحيي، و إنّ الشفاعة له جميعاً، وهو الغافر للذنوب لا غيره، ولا يهدف من ذكر هذه الاَوصاف لنفسه إلاّ توجيه نظر الاِنسان نحو صلاحيته للعبادة لا غيره و هو يعرب عن أنّالعبادة من شوَون من يكون خالقاً، و رازقاً، مميتاً، محيياً، غافراً للذنوب، ماحياً للسيئات و ليس إلاّ هو، و إنّالمشركين يعبدون أصناماً، يزعمون أنّها تملك شيئاً من هذه الاَُمور أو بعضها و لكنّها عقيدة خاطئة، إذ هو الرازق المحيي المميت الغافر، للذنوب لا غيره.

٥ـ يقول سبحانه:

( اللّهُ الّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (الروم|٤٠).

وقال تعالى:( هَلْ لَكُمْ مِن ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ شُرَكاء فِي ما رَزَقْناكُمْ ) (الروم|٢٨).

وقال تعالى:( هُوَ يُحْيي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرجَعُونَ ) (يونس|٥٦).

وقال سبحانه:( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) (الزمر|٤٤).

وقال تعالى:( وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّاللّه ) (آل عمران|١٣٥).

فهذا الصنف من الآيات التي تلونا عليك قسماً قليلاً منها يدل على أنّه لايستحقّ العبادة إلاّمن يتمتع بهذه الشوَون وماضاهاها فلو كان متمتعاً بها واقعاً

فهو المعبود حقّاً و إلاّفلا يكون مستحقّاً للعبادة.

والعجب، أنّكلّ من ارتأى تعريف العبادة فإنّما نظر إلى العنصر الثاني (الخضوع) الذي لم يختلف فيه اثنان، و لم يركز الكلام على العنصر الاَوّل (الاِعتقاد الخاصّ)، مع أنّه الفيصل بين العبادة ، والتكريم.

وحاصل هذا البيان أنّه لا يصحّ أن ينظر إلى ظاهر الاَعمال بل يجب النظر في مبادئها و مناشئها فالعبادة لا تتحقق و لا يصدق عنوانها على شيء إلاّإذا اتّحد العمل مع عمل الموحدين أو المشركين فقد كان عمل الموحدين نابعاً عن الاعتقاد الخاص بأُلوهيته سبحانه وربوبيته كما كان عمل المشركين أيضاً نابعاًمن هذا المبدأ لكن في حقّ أصنامهم و أوثانهم.

نعم المشركون لم يكونوا معتقدين بخالقية معبوداتهم و لكنّهم كانوا معتقدين بأُلوهيتهم و ربوبيتهم و تصرّفاتهم في الكون و بكونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.

٤٦

و على ضوء هذا فكلّ خضوع يتمتع بنفس هذا العنصر يُضفى عليه عنوانُ العبادة فإن أتى به للّه سبحانه يكون موحّداً و إن أتى به لغيره يكون مشركاً. فلايصحّ لنا القضاء على ظاهر الاَعمال من دون التفتيش عن بواطنها.

التعاريف الثلاثة للعبادة

و قد خرجنا ـ بالاِمعان في عقائد الموحّدين و المشركين و بالاِمعان في الآيات الحاثة على عبادة اللّه والنهي عن عبادة غيره بالنتيجة التالية:

إنّ العبادة ليست خضوعاً فارغاًمهما بلغ أعلاه بل خضوعاً نابعاًعن عقيدة خاصة وهي الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً، أو إلهاً، أو مصدراً للاَفعال الاِلهية فلذلك يصحّ تعريفها على أحد الوجوه التالية و يكون جامعاً لعامة أفرادها، و دافعاً عن دخول غيرها في تعريفها:

١ـ خضوع لفظي أو عملي ناشىَ من العقيدة بأُلوهية المخضوع له.

٢ـ العبادة هي الخضوع بين يدي من يعتبره «ربّاً»و بعبارة أُخرى. هي الخضوع العملي أو القولي لمن يعتقد بربوبيته، فالعبودية كلازم الاعتقاد بالربوبية.

٣ـ العبادة خضوع أمام من يُعْتبر إلهاً حقّاً أو مصدراً للاَعمال الاِلهية كتدبير شوَون العالم و الاِحياء والاِمامة و بسط الرزق بين الموجودات و غفران الذنوب.

ولك صبّ هذا المعنى في قالب رابع و خامس.

ثمرات البحث

لقد وقفت ـ أخي العزيز ـ على معنى «العبادة» و مفهومها و حقيقتها في ضوء الكتاب والسنّة، و لم يبق لك أيّ إبهام في معناها و لا أيّغموض في حقيقتها، و الآن يجب عليك ـ بعد التعرّف على الضابطة الصحيحة في العبادة ـ أن تقيس الكثير من الاَعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زماننا هذا لترى هل تزاحم التوحيد، وتضاهي الشرك، أو أنّها عكس ذلك توافق التوحيد، و ليست من الشرك في شيء أبداً؟

٤٧

ولهذا نجري معك في هذا السبيل (أي عرض هذه الاَعمال على الضابطة التي حققناها في مسألة العبادة) جنباً إلى جنب فنقول:

إنّالاَعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن:

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج

فهل هذا شرك أو لا؟

يجب عليك أخي القارىَ أن تجيب على هذا السوَال بعد عرضه على الضابطة التي مرّت في تحديد معنى العبادة و مفهومها، فهل المسلِم المتوسِّل بالاَنبياء والاَولياء يعتقد فيهم «أُلوهية» أو «ربوبية» و لو بأدنى مراتبهما و قد عرفت معنى الاَُلوهية والربوبية بجميع مراتبهما و درجاتهما، أو إنّه يعتقد بأنّهم عباد مكرمون عند اللّه تعالى تستجاب دعوتُهم، و يجاب طلبهم بنص القرآن الكريم.

فإذا توسّل المتوسّل بالاَنبياء والاَولياء بالصورة الاَُولى كان عمله شركاً، يخرجه عن ربقة الاِسلام.

و إذا توسّل بالعنوان الثاني لميفعل مايزاحم التوحيد ويضاهي الشرك أبداً.

و أمّا أنّ توسّله بهم مفيد أو لا، محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير الشرك؟ فالبحث فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد عن الشرك، و بيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين

هناك من ثبت قبول شفاعتهم بنصّالقرآن الكريم و السنّة الصحيحة.

ثمّ إنّ طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنّهم مالكون للشفاعة و أنّها حقّ مختصّ بهم، و أنّ أمر الشفاعة بيدهم، أو إنّه قد فُوِّض إليهم ذلك المقام، فلا شكّ أنّ ذلك شرك و انحراف عن جادة التوحيد، و اعتراف بأُلوهية الشفيع(المستَشْفع به) و ربوبيته، ودعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى والقيد شرك لا محالة.

وأمّا إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنّهم عباد مأمورون من جانب اللّه سبحانه للشفاعة في من يأذن لهم اللّه بالشفاعة له، ولا يشفعون لمن لم يأذن اللّه بالشفاعة له، و إنّ الشفاعة بالتالي حقّ مختص باللّه بيد أنّه تعالى، يجري فيضه على عباده عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.

فالطلب بهذا المعنى و بهذه الصورة لا يزاحم التوحيد، ولا يضاهي الشرك، فهو طلب شيء من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة و مأموريته الخاصة.

٤٨

وأمّا أنّه طلب مفيد أو لا، أو أنّه محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد؟ فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز ـ كما أسلفنا ـ على بيان التوحيد والشرك في العبادة.

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم.

فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك؟

الجواب هو أنّهذا العمل قد يكون توحيداًمن وجه، و قد يكون شركاً من وجه آخر.

فإن كان التعظيم و التكريم ـ بأيّصورة كان ـ قد صدر عن الاَشخاص تجاه أُولئك الاَولياء بما أنّهوَلاء الاَولياء عِباد أبرار، وقفوا حياتهم على الدعوة إلى اللّه، و ضحّوا بأنفسهم و أهليهم و أموالهم في سبيل اللّه، و بذلوا في هداية البشرية كلّ غالٍ و رخيص، فانّ مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد، لاَنّه تكريم عبدٍ من عباد اللّه لما أسداه من خدمة في سبيل اللّه، مع الاعتراف بأنّه عبد لا يملك شيئاً إلاّ ما ملّكه اللّه، و لا يقدر على عمل إلاّبما أقدره اللّه عليه.

انّ مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أيّشكّ.

وأمّا أنّه مفيد أو لا، أو أنّه حلال أو حرام من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك. وأمّا إذا وقع التعظيم والتكريم للولي معتقداً بأنّه ـ حيّاً كان أو ميّتاً ـ مالك لواقعية الاَُلوهية أو درجة منها، أو أنّه واجد لمعنى الربوبيّة أو مرتبة منها، فانّه ـ و لا شكّ ـ شرك و خروج عن جادة التوحيد.

٤ـ الاستعانة بالاَولياء:

فهل الاِستعانة بالاَولياء توافق التوحيد أم توافق الشرك؟ إنّ الاِجابة على ذلك تتضح بعد عرض الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا، فلو استعان أحد بولي ـ حياً كان أو ميتاً ـ على شيء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً، و الميت حياً، باعتقاد أنّ المستعان إله، أو ربّ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.

وأمّا إذا طلب منه كلّ ذلك أوبعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شيء إلاّ بما أقدره اللّه عليه، وأعطاه و أنّه لا يفعل ما يفعل إلاّبإذن اللّه تعالى، و إرادته، فالاستعانة به و طلب العون منه حينئذٍ من صلب التوحيد، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميّتاً، و أن يكون العمل المطلوب منه عملاً عادياً أو خارقاً للعادة.

٤٩

وأمّا أنّ المستعان قادر على الاِعانة أو لا، أو أنّ هذه الاِستعانة مجدية أو لا، و أنّ هذه الاستغاثة محلّلة أو محرمة، من جهات أُخرى أو لا؟ فكلّذلك خارج عن إطار هذا البحث.

وقس عليه سائر ما يرد عليك من الموضوعات التي يتشدد فيها الوهابيون من غير سند سوى التقليد لابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، و هم يعتمدون على أقوال الرجال مكان الاعتماد على النصوص في الكتاب و السنّة فترى انّ استدلالاتهم تدور حول أقوالهم

لقد حصحص الحقّ و بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها ولعلّه لم تبق لمجادل شبهة، ولمرتاب، شك، غير أنّ هنا أُموراًربما تطرح بصورة السوَال أو تدور في خلد القارىَ الكريم فلنأت بها، مع أجوبتها على وجه الايجاز.

أسئلة و أجوبة

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟

الجواب

إنّ هناك جماعة من المحقّقين من يفسر العبادة بنحو ما تقدم، منهم الاَقطاب الاَربعة للعلم و الفضيلة من علماء النجف الاَشرف و الاَزهر الشريف، و نذكرهم حسب تقدم تاريخ وفاتهم.

١ـ الشيخ جعفر كاشف الغطا (١١٥٦ـ١٢٢٨ )

قال في كتابه الذي ألّفه رداً على رسالة عبد العزيز بن سعود:

لا ريب انّه لا يُراد بالعبادة (التي لا تكون إلاّ للّه، و من أتى بها لغير اللّه، فقد كفر) مطلقُ الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، و إلاّ لزم كفر العبيد والاَُجراء و جميعُ الخدّام للاَُمراء، بل كفر الاَنبياء في خضوعهم للآباء، و جميع من تواضع للاخوان، أو لاَحد من أصحاب الاِحسان.

وإنّما الباعث على الكفر، إنقياد البعض لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الاَمر من الكريم المتعال، و أنّ لهم تدبيراً و اختياراً.

٥٠

إين حال المسلمين مِنْ حال مَنْ جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، و اتخذ الملائكة أرباباً دون اللّه، وبعض المخلوقين أنداداً و شركاء، يعبدونها من دون اللّه أو مع اللّه، إمّا لاَهليتهم، أو لترتب التقرب إلى اللّه زلفى، من دون أمر اللّه لهم بذلك، قال تعالى:( وَ ما أنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ ) . (يوسف|٤٠)

إعلم انّالاَلفاظ اللغوية والعرفية العامة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواء وردت في السنة و القرآن أم لا.

وأمّا إذا انقلبت عن المعاني الاَوّلية إلى غيرها، أو استعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان، كلفظ الصلاة، و الصيام، و الحجّ، فانّه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والاِمساك والقصد، بل معنى جديد تتوقف معرفته على بيان و تحديد.

و من هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فانّه لايراد بهما في لحوق الشرك بهما، المعنى القديم، و إلاّ لزم كفر الناس من يوم أدم إلى يومنا هذا، لاَنّ العبادة بمعنى الطاعة، و الدعاء بمعنى النداء والاستعانة بالمخلوق لايخلو منها أحد.

ومن أطوع من العبد لسيّده، و الزوجة لزوجها، و الرعية لملوكهم، ولا زالو ينادونهم و يطلبونهم إعانتهم و مساعدتهم، بل الروَسا، لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم و يندبونهم.

فعلم انّه لا يراد بهذه المذكورات المعاني السابقات، و تعينت إرادة المعاني الجديدة.

وقال في تحقيق الدعاء الذي هو مخّ العبادة: إن أُريد بدعوة غير اللّه والاستغاثة، اسناد الاَمر إلى المخلوق على انّه الفاعل المختار، الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار، و المسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة، و من قائلها، و ما أظن أنّ أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي، ولاسمعناه من أحد إلى يومنا هذا.

وإن أريد انّ المدعوّ و المستغاث به، له اختيار وتصرّف في أمر اللّه، فيحكم على اللّه، فهذا أشدّ كفراً من الاَوّل.

وإن أُريد دعاوَه و الاستغاثة به، للدعاء والشفاعة (أي ليدعوَ له أو يشفع له عند اللّه)، فهذا من أعظم الطاعات، و فيه محافظة على الآداب من كلّالجهات.

٥١

وكون الدعاء عبادة إنّما يجري في قسم منه، و هو الطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الاَشياء والنظائر، ولو جعلت كلّ دعاء عبادة، للزم أن يكون دعاء زيد لاصلاح بعض الاَُمور، أو دفع بعض المحذور، من قبيل الكفر.(١)

٢ـ البلاغي النجفي (١٢٨٤ـ ١٣٥٢هـ)

إنّالعلاّمة الحجّة المحقّق ، الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي قد قام بتفسير العبادة في تفسيره الشريف المسمى بـ «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» بنفس التعريف الذي ذكرناه فقد أدى حقّ المقال و نقتبس منه ما يلي:

لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رِسْلِهم و مجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر، و يعرفون بذوقهم مجازه و وجه التجوز فيه. و إنّالمحور الذي يدور عليه استعمالهم و تبادرهم هو أنّ العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالالهيّة. أو بعنوان أنّه رمز أو مجسمة لمن يزعمه إلهاً، تعالى اللّه عمّا يشركون. و لكن الخطأ و الشرك أو البهتان و الزور أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة:

الاَوّل: الاِتيان بما تتحقّق به حقيقة العبادة لما ليس أهلاً لذلك بل هو مخلوق للّه كعبادة الاَوثان مثلاً.

الثاني: مقام البهتان والافتراء و خدمة الاَغراض الفاسدة لترويج التحزبات الاَثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الاِمام شيئاًمن الاحترام بعنوان أنّه عبد مخلوق للّه، مقرّب عنده لاَنّه عبده و أطاعه، أنّه عَبد ذلك المحترم وأشرك باللّه في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك، يبهتون من يحترم النبي أو الاِمام تقرباًإلى اللّه، لاَنّه اختاره و أكرمه بمقام الرسالة أو الاِمامة التي هي بجعل اللّه و عهده كما وعد اللّه بذلك إبراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة:( وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ ) (البقرة|١٢٤) و هذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه و لا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هوَلاء المتحزبين، لملوكهم، وزعمائهم، وحكّامهم، وخضوعهم لهم بالقول والعمل.

____________

(١) جعفر النجفي المعروف بكاشف الغطاء، منهج الرشاد:٨٦ـ٩١ بتلخيص.

٥٢

المقام الثالث: كثيراً ما فُسِّرت العبادة بأنّها ضرب من الشكر، مع ضرب من الخضوع، أو الطاعة وهل يخفى عليك أنّهذه التفاسير مبنيّة على التساهل بخصوصيات الاستعمال، أو الارتباك في مقام التفسير، وهل يخفى أنّأغلب الاَفراد من كلّ واحد ممّا ذكروه لا يراه الناس عبادة و يغلطون من يسمّيها أو بعضها عبادة إلاّ على سبيل المجاز. و إنّلفظ العبادة و ما يشتق منه كَعَبَدَو يَعْبُد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلاّفيما ذكرناه من معاملة الاِنسان لمن يتخذه إلهاًمعاملة الاِله، المستحق لذلك بمقامه في الآلهية.(١)

٣ـ القضاعي العزامي الشافعي (١٢٨٤ـ ١٣٥٨هـ)

قد ألف العلاّمة المدقق الشيخ سلامة القضاعي العزامي المصري كتاباً أسماه «فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الاَكوان»، و طُبع في مقدمة الاَسماء و الصفات للبيهقي وهو من أنفس ما كتب في هذا الموضوع، و قداشتمل بإيجازه على عقائد ابن تيمية و نقده بالعرض على الكتاب والسنّة غير أنّأنصار الحشوية، عمدوا في الآونة الاَخيرة إلى إبعاد الكتاب عن متناول الطالبين فطبعوا كتاب البيهقي مجرّداًعن هذا التقديم. مع أنّه لايقلّ عن ذيه لولم نقل إنّه يزيد عليه وزناًو قيمة. فقد أفاض الكلام في معنى العبادة على وجه دقيق نقتبس منه مايلي:

إنّ الغلط في تفسير العبادة، المزلقةُ الكبرى والمزلَّة العظمى، التي أُستحِلت بها دماءُ لا تحصى، وانتهكت بها أعراض لا تعد، وتقاطعت فيها أرحام أمر اللّه بها أن توصل، عياذاً باللّه من المزالق والفتن. ولاسيما فتن الشبهات. فاعلم أنّهم فسروا العبادة بالاِتيان بأقصى غاية الخضوع ، و أرادوا بذلك المعنى اللغوي، أمّا معناها الشرعي فهو أخصّ من هذا كما يظهر للمحقّق الصبّار على البحث من استقراء مواردها في الشرع، فانّه الاِتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً، باعتقاد ربوبية المخضوع له، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً، في كثير ولا قليل مهما كان المأتي به و لو سجوداً.

____________

(١) البلاغي: آلاء الرحمن في تفسير القرآن ١:٥٧ـ ٥٨.

٥٣

ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع و الضرّ، و كنفوذ المشيئة لا محالة و لو بطريق الشفاعة لعابده عند الربّ الّذي هو أكبر من هذا المعبود. و إنّما كفر المشركون بسجودهم لاَوثانهم و دعائهم إيّاهم، وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقّق هذا القيد فيهم، و هو اعتقادهم ربوبية ما خضعوا له، أو خاصة من خواصها كما سيأتيك تفصيله.و لا يصحّ أن يكون السجود لغير اللّه فضلاً عمّا دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد، عبادة شرعاً (كسجود الملائكة لآدم)، فانّه حينئذٍ يكون كفراً و ما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع، ولا يأمر اللّه عزّ وجلّ به( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (الاَعراف|٢٨)( وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْر ) (الزمر|٧) و ذلك ظاهر إن شاء اللّه.

و ها أنت ذا تسمع اللّه تعالى قد قال للملائكة:( اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ ابلِْيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ ) (البقرة|٣٤)و قال:( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) (الاَعراف|١٢)وقال:( ءَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (الاِسراء|٦١) والقول بأنّ آدم كان قبلة قول لا يرضاه التحقيق و يرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم.

فإن تعسّر عليك فهم هذا و هوليس بعسير إن شاء اللّه تعالى، فانظر إلى نفسك فانّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك و احترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها، و لا يكون ذلك منك عبادة له، لماذا لاَنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شيء من خصائص الربوبية فيه. و تقف في الصلاة قدر الفاتحة و تجلس فيها قدر التشهد و هو قدر دقيقة أو دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيتَ له، و سرّ ذلك هو أنّهذا الخضوع الممثّل في قيامك و قعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعتَ له عزّوجل.

٥٤

وتدعو رئيسك في عمل من الاَعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك و أنت معتقد فيه انّه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر، و لكن اللّه جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلاً منه سبحانه، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعوّ، و أنت على ما وصفنا، فإن دعوتَه و أنت تعتقد فيه أنّه مستقل بالنفع، أو الضرّ، أو نافذ المشيئة مع اللّه لا محالة، كنت له بذلك الدعاء عابداً، و بهذه العبادة أشركته مع اللّه عزّوجلّ، لاَنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية، فانّالاستقلال بالجلب أو الدفع و نفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لاَصنامهم و نحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع، أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لامحالة مع اللّه تعالى، و لو على سبيل الشفاعة عنده، فانّهم يعتبرونه الربّ الاَكبر و لمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته، و بمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ المشيئة معه لا محالة.

ويدل لما قلنا آيات كثيرة كقوله تعالى:( أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُركُمْ مِنْ دُونِ الرَّحمنِ إِنِ الْكافِرونَ إِلاّ في غُرُورٍ ) (الملك |٢٠) و قوله :( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنْها يَصْحَبُونَ ) (الاَنبياء|٤٣) و الاستفهام في الآيتين إنكاري على سبيل التوبيخ لهم على ما اعتقدوه. وحكى اللّه عن قوم هود قولهم لهعليه‌السلام :( إِنْ نَقُولُ إِلاّاعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ) (هود|٥٤) وقوله لهم:( فَكِيدُوني جَميعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ*إِنّي تَوَكَلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ... ) (هود|٥٥ـ٥٦) و كقوله تعالى موبخاً لهم يوم القيامة على ما اعتقدوه لها من الاستقلال بالنفع ووجوب نفوذ مشيئتها:( أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) (الشعراء|٩٢ـ٩٣) و قولهم و هم في النار يختصمون يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية و خصائصها:( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ ) (الشعراء|٩٧ـ٩٨) فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب، ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم. فانّالتسوية المذكورة إن كانت في إثبات شيء من صفات الربوبية فهو المطلوب، و من هذه الحيثية شركهم و كفرهم، لاَنّصفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها في سواه عزّ وجلّ. و إن كانت التسوية في استحقاقها للعبادة فهو يستلزم اعتقاد الاشتراك فيما به الاستحقاق، و هو صفات الاَُلوهية أو بعضها، و إن كانت في العبادة نفسها فهي لا تكون من العاقل إلاّلمن يعتقد استحقاقه لها كربّ العالمين ، تعالى اللّه عمّا يشركون.

٥٥

وكيف يُنفى عنهم اعتقاد الربوبية بآلهتهم وقد اتّخذوها أنداداً و أحبوها كحبّاللّه كما قال تعالى فيهم:( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) (البقرة|١٦٥) و الاَنداد جمع «ند» و هو على ما قاله أهل التفسير واللغة: المثل المساوى، فهذا ينادي عليهم انّهم اعتقدوا فيها ضرباً من المساواةللحقّ تعالى عمّا يقولون. (١)

٤ـ فقيه العصر السيد الخوئي (١٣١٧ـ ١٤١٢هـ)

إنّ للسيد الفقيه المحقّق السيد أبي القاسم الخوئيقدَّس سرَّه كلاماً في العبادة في تفسير قوله سبحانه: "إيّاك نعبد و إيّاك نستعين" نأتي به: قال: إنّ حقيقة العبادة خضوع العبد لربّه بما أنّه ربّه و القائم بأمره، و الربوبية تقتضي حضورَ الربّ لتربية مربوبه، و تدبير شوَونه. وكذلك الحال في الاستعانة فانّحاجة الاِنسان إلى إعانة ربّه و عدم استغنائه عنه في عبادته، تقتضي حضورَ المعبود لتتحقّق منه الاِعانة، فلهذين الاَمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربّه غير غائب عنه.

مما لا يرتاب فيه مسلم أنّالعبادة بمعنى التألّه، تختص باللّه سبحانه وحده، وقد قلنا : إنّهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ العبادة عند الاِطلاق، و هذا هو التوحيد الذي أُرسلت به الرسل، و أُنزلت لاَجله الكتب:

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً وَلايَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران|٦٤).

فالاِيمان باللّه تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق، و إنكار التوحيد في الذات، أم نشأت عن الاعتقاد بأنّالخلق معزولون عن اللّه فلا يصل إليه دعاوَهم، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة أُخرى تكون وسائط بينهم و بين اللّه يقربونهم إليه، و شأنه في ذلك شأن الملوك و حفدتهم، فانّالملك لما كان بعيداً عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم، و يجيبون دعواتهم.

____________

(١) القضاعي العزامي المصريّ، فرقان القرآن : ١١١ _ ١١٤ .

٥٦

وقد أبطل اللّه سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة:

( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدتا ) (الاَنبياء|٢٢)( وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ) (الموَمنون|٩١).

وأمّا الاعتقاد الثاني ـ و هو إنّما ينشأ عن مقايسته بالملوك و الزعماء من البشر ـ فقد أبطله اللّه بوجوه من البيان:

فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى، و انّها ممّا لم يدل عليه دليل، فقال:

( ءَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (النمل|٦٤)( قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظِلُّ لَها عاكِفينَ* قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعونَ*او يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُّون* قالُوا بَلْوَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) (الشعراء٧١ـ ٧٤).

و أُخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أنّما يعبدونه لا يملك لهم ضرّاًو لا نفعاً، والّذي لا يملك شيئاًمن النفع والضرّ، والقبض والبسط، و الاِماتة و الاِحياء، لا يكون إلاّمخلوقاً ضعيفاً، ولا ينبغي أن يتخذ إلهاً معبوداً.

( قالَ أَفَتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيئاً وَ لايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَفٍلا تَعْقِلُونَ ) (الاَنبياء |٦٦ـ ٦٧).( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لا نَفْعاً ) (المائدة|٧٦)( أَلَمْ يَرَوا أَنّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيِهِمْ سَبيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمينَ ) (الاَعراف|١٤٨)(١)

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟

إذا كانت العبادةُ هي الخضوع أمام موجود بما أنّه إله أو ربّ أو من بيده مصير الاِنسان أو بيده أفعاله من شفاعة و مغفرة، فما هو المراد منها في الآيات التالية التي لايصحُّ تفسير العبادة فيها بالمعنى المذكور؟

____________

(١) السيدا لخوئي: البيان في تفسير القرآن:٤٥٥ـ ٤٦٢.

٥٧

قال سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :

( يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيطانَ كانَ للرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (مريم|٤٤).

ومن المعلوم أنّمخاطَبَ الخليل ، لم يكن يعبد الشيطان بالمعنى المذكور إذ لميتخذه إلهاً و رباً، و إنّما كان يعبد التماثيل والاَصنام بما أنّها آلهة و أرباب و هذا إن دلّعلى شيء، فإنّما يدل على أنّه يصحّ استعمالها في مورد لم يكن المخضوع له إلهاً ولا ربّاً لدى الخاضع.

وقال سبحانه:

( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ ) (يس|٦٠) و ليس الشيطان عند الكفّار والعصاة إلهاً ولا ربّاً، مع أنّه وصف الانقياد له بالعبادة.

وقال سبحانه:

( فَقالُوا أَنُوَْمِنُ لِبَشَرينِ مِثْلِنا وَقَومُهُما لَنا عابِدُونَ ) (الموَمنون|٤٧) و لميكن بنو إسرائيل عبدةً لفرعونَ و قومه بالمعنى المطلوب وإنّما كانوا أذلاّء بأيديهم.

الجواب

أمّا الآية الاَُولى، فقد استعيرت العبادة فيها ، للطاعة العمياء ، للشيطان على الدوام، فكان اتباعهم الشيطان في كل ما يأمر و ينهى يمثِّل أنّهم اتّخذوه إلهاً و ربّاً فأطاعوه كإطاعة الموَمنين للّه على بصيرة من أمرهم بما انّه إلههم و ربّهم. فكأنّ الخليل يخاطب آزر و يقول له: يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الاَصنام لاَنّالشيطان عصِـيّ مقيم على معصية اللّه الّذي هو مصدر كلّرحمة و نعمة، فهو لا يأمر إلاّ بما فيه معصيته و الحرمان من رحمته.

ومثلها الآية الثانية، فالمراد هوالطاعة فاستعيرت لها العبادة تبييناً لاَمرها والمراد منها التبعيّة المطلقة العشوائية التي نهيت عنها في عدّة آيات بهذه اللفظة قال سبحانه:( كُلُوا مِمّا فِي الاََرْضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (البقرة|١٦٨) و قال تعالى:( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً وَ لا تَبَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (البقرة|٢٠٨) و قال عزّمن قائل :( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِ لُفِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَريدٍ ) (الحجّ|٣).

و بالجملة: تبعيتهم للشيطان أو إطاعتهم للهوى و الميول النفسانية، يمثّل اتّخاذهم لها إلهاً، أو ربّاً قال سبحانه:( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (الفرقان|٤٣).

٥٨

وقال عزّ من قائل:( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (الجاثية|٢٣) أي «انقاد لهواه كانقياده لاِلهه، فيرتكب ما يدعوه إليه ، نعم انّهم لم يتخذوا هواهم إلهاً حقيقة لكنّهم لمّا إنقادوا حيثما قادهم الهوى، فكأنّه صار إلهاً لهم.

ومثله قوله سبحانه:( أَنُوَْمِنُ لِبَشَرَيْنِ وَ قَوْمَهُما لَنا عابدون ) و المراد هو المعنى اللغوى المحض أي خاضعون، متذللون، و منه أيضاً إطلاق المعبّد على الطريق الذي يكثر المرور عليه. والآية نظير قوله:( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ ) (الشعراء|٢٢) أي جعلتهم أذلاّء تَذْبَح أبناءهم و تستحيي نساءهم.

وحصيلة البحث: أنّ استعمال العبادة في مورد الشيطان، أو الاِله في مورد الهوى من باب مجاز الاستعارة، والغاية هو بيان فرط خضوعهم للشيطان أو الميول النفسانية، وأمّا استعمالها في قوم موسى فالمقصود هو المعنى اللغوي. و ممّا ذكرنا تقف على مفاد العبادة في الحديث المعروف:

من أصغى إلى ناطق فقدعبده، فإن نطق عن اللّه فقد عبد اللّه، و إن نطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان.(١)

فقد استعيرت العبادة في الحديث للطاعة المطلقة التي نعبر عنها بالاستسلام المطلق فيتقبل السامع كلّما يلقيه فيكون مطيعاً في أوامره و نواهيه، وفي مثل هذا الموقف بما أنّ الناطق مبلِّغ عن غيره فكأنّه مطيع للغير محقّاً كان أو مبطلاً.

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟

قد تعرفت ـ فيما مضى ـ أنّ التوحيد في الطاعة من مراتب التوحيد وانّه لا مطاع إلاّاللّه سبحانه فيقع الكلام في إطاعة غيره فنقول هي على أقسام:

الاَوّل: أن تكون طاعتُه بأمر من اللّه سبحانه كما هو الحال في إطاعة الرسول و خلفائه الطاهرين و هي في الحقيقة اطاعة للّه، قال سبحانه:( وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ ) (النساء|٨٠)و قال عزّمن قائل:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (النساء|٦٤).

____________

(١) الكليني: الكافي٤|٤٣٤.

٥٩

الثاني: أن تكون طاعته منهيّاً عنها كإطاعة الشيطان و من يأمر بالعصيان

قال سبحانه:( يا أَيهَا النَبِيُّ اتَّقِ اللّهِ وَلا تُطِعِ الْكافِرينَ وَالْمُنافِقينَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيماً ) (الاَحزاب|١) وقال عزّ من قائل:( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) (لقمان|١٥)

الثالث: أن لا يتعلّق بها أمر و لا نهي في الشرع فتكون حينئذٍ جائزة غير واجبة ولا محرّمة كإطاعة الجندي لآمره، و العامل لربّ عمل، وهكذا إطاعة كلّ مروَوس لرئيسه في أيّ تجمع كان، إذا لم يأمر بالحرام.

إنّ كلّ تجمع سواء كان عسكرياً أو مدنياً، يتشكّل من أعضاء ذوي مراتب مختلفة و لايصل إلى الغاية المنشودة إلاّإذا كانت بين الاَعضاء درجات في مستويات الاِمرة، ففي مثل هذا التجمع تلزم الطاعة من العناصر المقومة للوصول إلى الغاية، و لاتعد تلك الطاعة شركاً منافياً لحصر الطاعة في اللّه و ذلك لاَنّالشارع أعطى حرية التعامل بين هذه المستويات بشرط أن لا يكون فيه تجاوز عن الحدود، و الطاعة بين المروَوس و رئيسه من لوازم انجاز الاَعمال وتحقيق الغاية ضمن عقد اجتماعي، وأين هي من طاعة اللّه سبحانه بما أنّه إله، خالق، ربّ.

وأمّا الخضوع للغير فهو على أقسام:

أحدها: الخضوع لمخلوق من دون أن يكون بينه و بين خالقه، إضافة خاصة كخضوع الولد لوالده، و الخادم لسيده و المتعلم لمعلّمه و غير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس، و هذا الفرع من الخضوع جائز مالم يرد فيه نهي كالسجود لغير اللّه قال سبحانه:( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغيراً ) (الاِسراء|٢٤).

ثانيها: الخضوع للمخلوق باعتقاد أنّ له إضافة خاصة إلى اللّه يستحقّمن أجلها، الخضوع له، مع كون العقيدة خاطئة، باطلة كخضوع أهل المذاهب الفاسدة لروَسائهم، فلا شكّ في أنّها حرام لكونها تشريعاً و إدخالاً في الدين لما ليس منه قال سبحانه:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً ) (الكهف|١٥).

٦٠