• البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18313 / تحميل: 4376
الحجم الحجم الحجم
كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

مؤلف:
العربية

كشف

الحقيقة السَّابعة

١٤١

١٤٢

قال الجزائري:

الحقيقة السابعة

اعتقاد ردَّة وكفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته

ماعدا آل البيت ونفراً قليلاً كسلمان وعمار وبلال

هذا المعتقد يكاد يجمع عليه رؤساء الشيعة من فقهائهم وعلمائهم، وبذلك تنطق تآليفهم وتصرِّح كتبهم، وما ترك الإعلان به أحد منهم غالباً إلا من باب التقية الواجبة عندهم.

وأقـول:

إن الشيعة الإمامية لا يعتقدون بكفر عامة صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا نفر قليل كما زعم الجزائري، وعقيدتهم في هذه المسألة معروفة، وقد بيَّنها العلماء في كتبهم، وأوضحوها في مصنفاتهم.

ويمكن أن نجملها بأن نقول:

عقيدة الشيعة الإمامية في الصحابة

يعتقد الشيعة الإمامية أن من اصطُلح عليهم بصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقسمون إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: هم الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، واتَّبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، حتى جعلوا كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان.

١٤٣

وهؤلاء هم الذين مدحهم الله في كتابه وأثنى عليهم بقوله( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ) (١) .

الفئة الثانية: هم المنافقون الذين كانوا يتربَّصون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الدوائر، ويكيدون المكائد للإسلام ولخُلَّص المؤمنين.

وهم الذين عناهم الله سبحانه بقوله( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مرَدوا على النفاق لا تعلَمهم نحن نعلَمهم سنعذّبهم مرتين ثم يُردّون إلى عذاب عظيم ) (٢) .

وهؤلاء المنافقون قد دلَّت الأحاديث الكثيرة على وجودهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن حذيفة أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدُّبيلة(٣) ، وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم(٤) .

والفئة الثالثة: وهم المؤمنون الذين خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيّئ، فلم يبلغوا بأعمالهم إلى مرتبة الفئة الأولى، ولم تحطَّهم ذنوبهم إلى أن يكونوا من الفئة الثانية.

ومن هؤلاء مَن وصفهم الله سبحانه بقوله( وآخرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) (٥) .

ومنهم مَن أشار إليهم بقوله جل شأنه( قالت الأعراب آمنَّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا

____________________

(١) سورة التوبة، الآية ١٠٠.

(٢) سورة التوبة، الآية ١٠١.

(٣) قال في لسان العرب ١١/٢٣٥: الدبيلة: خراج ودمل كبير تظهر في الجوف، فتقتل صاحبها غالباً. وورد تفسيرها في بعض الأحاديث كما في البداية والنهاية ٥/١٩ ودلائل النبوة ٥/٢٦١ بأنها شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك.

(٤) صحيح مسلم ٤/٢١٤٣ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٩.

(٥) سورة التوبة، الآية ١٠٢.

١٤٤

أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلِتْكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم ) (١) .

هذا ما يعتقده الشيعة الإمامية في صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من نسب إليهم غير ذلك إما جاهل بعقيدتهم غير متثبِّت في نقلها، أو كاذب مفترٍ عليهم.

وهذا الذي قلناه هو ما قرَّره علماؤنا الأعلام في كتبهم وأوضحوه في تآليفهم.

قال السيد شرف الدين الموسوي أعلى الله مقامه:

إن مَن وقف على رأينا في الصحابة علم أنه أوسط الآراء، إذ لم نفرِّط فيه تفريط الغلاة الذين كفَّروهم جميعاً، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثَّقوهم أجمعين، فإن الكاملية ومن كان في الغلو على شاكلتهم قالوا بكفر الصحابة كافة، وقال أهل السنة بعدالة كل فرد ممن سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه من المسلمين مطلقاً، واحتجوا بحديث كل من دب أو درج منهم أجمعين أكتعين أبصعين.

أما نحن فإن الصحبة بمجرَّدها وإن كانت عندنا فضيلة جليلة، لكنها - بما هي ومن حيث هي - غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول، وهم عظماؤهم وعلماؤهم، وأولياء هؤلاء، وفيهم البغاة، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين، وفيهم مجهول الحال، فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة، أما البغاة على الوصي أخي النبي، وسائر أهل الجرائم والعظائم كابن هند وابن النابغة وابن الزرقاء وابن عقبة وابن أرطاة وأمثالهم، فلا كرامة لهم، ولا وزن لحديثهم، ومجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبيَّن أمره(٢) .

ومما تقدم يظهر أن ما زعمه الجزائري من أن كفر عامة الصحابة مما يكاد يجمع عليه رؤساء الشيعة وبه تنطق تآليفهم وتصرِّح كتبهم، غير صحيح، وحسبك أنه لم يدلِّل على زعمه بدليل واحد منقول من كلمات علماء الشيعة، الذين ينبغي الاحتجاج بكلماتهم في هذه المسألة، فإن ذلك أولى من ذكر حديث يمكن المناقشة في سنده ودلالته.

هذا مع أن الحديث الذي نقَلَه ليس من أحاديث الكافي، ولا يدل على مطلوبه كما سيأتي بيانه، وهذا دليل واضح على عوز النصوص التي يحتاج إليها لإثبات

____________________

(١) سورة الحجرات، الآية ١٤.

(٢) أجوبة مسائل جار الله، ص١٤ - ١٥.

١٤٥

حقيقته.

ثم إن ما قاله يتعارض مع قوله: « وما ترك الإعلان به أحد منهم غالباً إلا من باب التقيَّة الواجبة عندهم »، وذلك لأن التقية إذا كانت واجبة عند الشيعة، وكانت تقتضي ترك الإعلان بهذا المعتقَد، فكيف نطقت به تآليف علماء الشيعة وصرَّحت به كتبهم؟!

* * *

قال الجزائري: وتدليلاً على هذه الحقيقة وتوكيداً لها نورد النصوص الآتية:

جاء في روضة الكافي للكليني صاحب كتاب الكافي ص ٢٠٢ قوله: عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة هم: المقداد وسلمان وأبو ذر. كما جاء في تفسير الصافي - والذي هو من أشهر وأجل تفاسير الشيعة وأكثرها اعتباراً - روايات كثيرة تؤكد هذا المعتقد، وهو أن أصحاب رسول الله قد ارتدوا بعد وفاته إلا آل البيت ونفراً كسلمان وعمار وبلال رضي الله تعالى عنهم.

وأقـول:

هذا الحديث لم يروه الكليني في الكافي بهذا اللفظ(١) ، لا في الروضة ولا في غيرها، بل ولم يرد له ذكر في باقي الكتب الأربعة المشهورة عند الإمامية، وإنما جاء مروياً في رجال الكشِّي(٢) وبعض الكتب الأخرى التي لا يعوَّل عليها في إثبات الأحاديث.

ومع ذلك فهذا الحديث لا يدل على ما عنوَنَ به الجزائري حقيقته هـذه، فـإن الارتداد في اللغة هو الرجوع عن الشيء. قال عز من قائل( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (٣) ، وقال( قال الذي

____________________

(١) بل رواه بلفظ آخر سنذكره قريباً إن شاء الله، ولعل عدول الجزائري عنه إلى الحديث الذي احتج به على حقيقته مع أنه لم يرو في الكافي، إنما كان لأن الحديث الذي ذكره يوهم في الجلالة على مطلوبه أكثر من غيره، والله أعلم.

(٢) اختيار معرفة الرجال، ص٥.

(٣) سورة يوسف، الآية ٩٦.

١٤٦

عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (١) ، وقال( مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ) (٢) .

وإذا أُريد بالارتداد الرجوع عن الدين قُيِّد، ولهذا لم يَرِد في كتاب الله إلا مقيَّداً. قال سبحانه( مَن يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبّونه ) (٣) ، وقال( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ) (٤) ، وقال( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبيَّن لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم ) (٥) ، وقال( ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) (٦) .

والحاصل أن الحديث الذي احتج به الجزائري لم يقيَّد فيه الارتداد بأنه عن الدين أو على الأدبار والأعقاب.

وعليه، فمعنى الحديث هو أن الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجعوا عما التزموا به في حياته صلى الله عليه وآله وسلم من مبايعة علي عليه السلام بإمرة المؤمنين، فبايعوا غيره.

وبهذا المعنى للارتداد فسَّر ابن الأثير هذه اللفظة التي وردت في أحاديث الحوض التي سيأتي ذكرها، حيث قال:

وفي حديث القيامة والحوض: « فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم القهقرى »: أي متخلِّفين عن بعض الواجبات. ولم يُرِد ردَّة الكفر، ولهذا قيَّده بأعقابهم، لأنه لم يرتد أحد من الصحابة بعده، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب(٧) .

فإذا صحَّ ذلك يلتئم الحديثان، ويتطابق معناهما، ويكون المراد بارتداد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أنهم رجعوا عن أهم الواجبات الدينية المنوطة بهم، وهي مبايعة علي عليه السلام بإمرة المؤمنين وخلافة رسول رب العالمين.

____________________

(١) سورة النمل، الآية ٤٠.

(٢) سورة إبراهيم، الآية ٤٣.

(٣) سورة المائدة، الآية ٥٤.

(٤) سورة البقرة، الآية ٢١٧.

(٥) سورة محمد، الآية ٢٥.

(٦) سورة المائدة، الآية ٢١.

(٧) النهاية في غريب الحديث ٢/٢٢١٤. ونقل ابن منظور هذه العبارة بعينها في لسان العرب ٣/١٧٣.

١٤٧

والذي يدل على أن ما قلناه هو المراد بالحديث ما رواه الكليني رحمه الله في الروضة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة. فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، رحمة الله وبركاته عليهم، ثم عرَف أناسٌ بعدَ يسير(١) . وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وأبوا أن يبايعوا، حتى جاؤوا بأمير المؤمنين مكرَهاً فبايع، وذلك قوله تعالى( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) (٢) .

فإن هذا الحديث ظاهر في أن الثلاثة المذكورين التزموا ببيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبايعوا غيره، حتى بايع مكرَهاً فبايعوا بعده.

ومن الغريب أن الجزائري الذي ساق هذا الحديث ونسبه للكافي وفسَّر معناه بغير ما هو مراد، نسي أو تناسى أحاديث كثيرة صحيحة أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما تدل على ردَّة زُمَر وأقوام من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيُحَلَّؤن(٣) عن الحوض، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى(٤) .

وعن أبي هريرة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: بينما أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلُمَّ. فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلُمَّ. قلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همَل النعم(٥) .

____________________

(١) أي ثم إن أناسا عرفوا أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الأولى بالأمر بعد وقت يسير.

(٢) روضة الكافي، ص٢١٣ - ٢١٤.

(٣) أي يطردون يبعدون.

(١) صحيح البخاري ٨/١٥٠ كتاب الرقاق، باب في الحوض.

(٢) صحيح البخاري ٨/١٥٠. قال في لسان العرب ١١/٧١٠: وفي حديث الحوض: « فلا يخلص منهم =

١٤٨

قلت: الظاهر أن الضمير المجرور في « فلا يخلص منهم » يعود على صحابته صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يعود على خصوص المرتدين على أدبارهم، لأن هؤلاء المرتدين لا يخلص منهم أحد.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يرِد عليَّ الحوض رجال من أصحابي، فيحلّؤون عنه، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى(١) .

وأخرج مسلم عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا فرَطكم(٢) على الحوض، ولأُنازَعَنَّ أقواماً ثم لأُغلَبَنَّ عليهم(٣) ، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك(٤) .

وأخرج البخاري - واللفظ له - ومسلم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله: إني فرطكم على الحوض، من مرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، لَيَرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أَشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: فأقول: إنهم مني. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي(٥) .

وهذه الأحاديث رواها حفَّاظ الحديث من أهل السنة بطرق كثيرة جداً وبألفاظ متقاربة، وفيما ذكرناه كفاية(٦) .

____________________

= إلا مثل همل النعم » الهمل: ضوال الإبل، واحدها هامل، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة.

(١) صحيح البخاري ٨/١٥٠.

(٢) أي سابقكم ومتقدمكم.

(٣) أي سأجادل عن أقوام رغبة في خلاصهم فلا ينفعهم ذلك.

(٤) صحيح مسلم ٤/١٧٩٦ كتاب الفضائل، باب رقم ٩.

(٥) صحيح البخاري ٨/١٥٠. صحيح مسلم ٤/١٧٩٣.

(٦) راجع إن شئت سنن الترمذي ٥/٣٢١. سنن النسائي ٢/١٣٣، ٤/١١٧. سنن ابن ماجة ٢/١٠١٦. مسند أحمد ١/٢٣٥، ٢٥٣، ٢٥٤، ٣٨٤، ٤٠٢، ٤٠٦، ٤٠٧، ٤٢٥، ٤٣٩، ٤٥٣، ٤٥٥، ٣/٢٨، ١٠٢، ٢٨١، ٥/٤٨، ٥٠، ٣٨٨، ٣٩٣، ٤٠٠، ٤١٢. صحيح ابن خزيمة ١/٦. مجمع الزوائد ١٠/٣٦٣ - ٣٦٥. صحيح سنن النسائي ٢/٤٩٩. صحيح سنن ابن ماجة ٢/١٨٢.

١٤٩

قال الجزائري:وأما بخاصة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ففي كتب القوم نصوص لا تحصى كثرة في تكفير الشيعة لهما، ومن ذلك ما جاء في كتاب الكليني صفحة ٢٠ حيث قال: سألت أبا جعفر عن الشيخين. فقال: فارقا الدنيا ولم يتوبا، ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين، فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وأورد أيضاً في صفحة ١٠٧ قوله: تسألني عن أبي بكر وعمر؟ فلعمري لقد نافقا وردَّا على الله كلامه، وهزئا برسوله، وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وأقـول:

مما يؤسف له أن يعمد الجزائري للتدليل على حقائقه إلى اختلاق أحاديث مكذوبة ينسبها إلى الكافي، لتكفير طائفة كبيرة من طوائف المسلمين.

ومع أن هذين الحديثين لا يشبهان أحاديث أهل البيت عليهم السلام، ولم يسبق أن قرأتهما لا في الكافي ولا في غيره، فإني بحثت عنهما فيه وفي باقي الكتب الأربعة فلم أجد لهذين الحديثين عيناً ولا أثراً.

نعم الذي وجدته مروياً في صفحة ١٠٧ من روضة الكافي بسند ضعيف(١) مكاتبة الإمام الكاظم عليهم السلام لعلي بن سويد، وهي مشتملة على أجوبة مسائل عديدة سُئل عنها الإمام عليهم السلام.

ومما جاء في هذه المكاتبة قوله عليهم السلام: وسألتَ عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل الله، فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حمَّلاه إياه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما، فلما أحرزاه تولَّيا إنفاقه، أيبلغان بذلك كفراً؟ فلعمري لقد نافقا قبل ذلك، وردَّا على الله عز وجل كلامه، وهزئا برسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما الكافران، عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وهذه الفقرة الأخيرة هي التي نقلها الجزائري في الحديث الذي احتج به بعد أن وضع لها سؤالاً من عنده، ليلائم الغرض الذي يريده.

____________________

(١) روي هذا الحديث بثلاثة طرق. الأول منها في سنده سهل بن زياد، وقد مر تضعيفه، ومحمد بن منصور الخزاعي وهو مجهول. والطريق الثاني: فيه حمزة بن بزيع، وهو واقفي ضعيف. والطريق الثالث: فيه محمد بن منصور، وهو الخزاعي المذكور آنفاً.

١٥٠

وكيف كان، فلا يمكن أن نقول: إن المراد بالرجلين المذكورين في هذه المكاتبة أبو بكر وعمر، إلا بحمل ألفاظ الحديث على ما لا تحتمله، فإن المال لا يمكن أن يرمز به إلى الخلافة، لأن الحديث قد نصَّ على أن صاحب المال كان ينفقه على الفقراء والمساكين، والخلافة لا يُنفق شيء منها على فقير أو مسكين.

ثم كيف حمَّل أبو بكر وعمر عليًّا عليه السلام الخلافة إلى منازلهما لينفقا منها كيف شاءا؟

وجواب الإمام عليه السلام بأن الرجلين المسؤول عنهما قد نافقا فيه بيان بأن الذي لا يسلَم المسلمون من يده ولسانه فليس بمسلم، وإظهاره للإسلام إذا لم يعمل به هو ضرب من النفاق.

والحاصل أن تحريف الجزائري لهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أنه لم يعثر على حديث واضح يدلِّل به على حقيقته هذه، وأن ما قاله من أن النصوص المروية في كتب الشيعة في تكفير أبي بكر وعمر لا تحصى كثرة، غير صحيح.

وعلى كل حال فإنَّا لا ننكر أن في بعض كتب الشيعة أحاديث ظاهرها الطعن في بعض مَن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن هذه الأحاديث مع التسليم بصحتها ووضوح دلالتها لا تستلزم كفراً، وإلا لزم تكفير الأمة جمعاء، لأن كتب الشيعة إن كانت مشتملة على أحاديث ظاهرها الطعن في بعض الصحابة، فكتب أهل السنة مملوءة بأحاديث كثيرة تطعن في بعض آخر منها، بل فيها ما هو أدهى وأمَرّ، وهو الطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيتّضح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

* * *

قال الجزائري:وبعد أيها الشيعي، فهل من المعقول الحكم بالكفر والردة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم حواريوه وأنصار دينه، وحملة شريعته، رضي الله عنهم في كتابه، وبشَّرهم بجنَّته على لسان نبيِّه، حمى الله بهم الدين، وأعزَّ بهم المسلمين، وخلّد لهم ذكراً في العالمين وإلى يوم الدين؟!

والجواب:

لقد أوضحنا آنفاً أنَّا لم نقل بكفر أو ارتداد أو فسق عامة الصحابة، وبيَّنَّا بما لا

١٥١

مزيد عليه أن رأي الشيعة الإمامية في الصحابة هو أعدل الآراء، وهو الموافق لآيات الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهَّرة.

والذي لا ينبغي إنكاره والمناقشة فيه أن بعض من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان منافقاً في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، وأن بعضهم ارتد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما دلَّت عليه الأحاديث المتقدمة وغيرها، ومن أنكر ذلك فهو مكابر متعصب عنيد، أو جاهل بليد.

وأما أصحاب رسول الله المنتجبون، وحواريوه وأنصار دينه وحملة شريعته، الذين رضي الله عنهم في كتابه، وبشّرهم بجنّته على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وحمى الله بهم الدين، وأعزَّ بهم المسلمين، فهؤلاء نتولاهم في الدنيا والآخرة، وندعو لهم، ونترحم عليهم.

وأما غيرهم من المنافقين وأعداء أمير المؤمنين وأهل بيته الطيبين الطاهرين فلا حرمة لهم ولا كرامة، وإن تسمَّوا بالصحبة، وتظاهروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمودة والمحبة.

وتمييز هذين الصنفين من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بد فيه من الإجتهاد والنظر، بدراسة سِيَرهم ومعرفة أحوالهم وما صدر منهم.

واختلاف الاجتهاد في هذه المسألة وإن أدَّى إلى الحكم بكفر أو نفاق بعضهم لا يستلزم تكفير طائفة من طوائف المسلمين أو أحد من أهل القِبلة، ولا سيما إذا كان صدور ذلك الحكم ناشئاً عن خطأ وشبهة.

ولو تأملنا صحاح أهل السنة ومصادر الحديث عندهم لوجدناها مملوءة بأمثال هذه الإجتهادات، وحسبك ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وأحمد وغيرهم عن عمر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق(١) - يعني حاطب بن أبي بلتعة الذي هو واحد من أهل بدر.

ومن ذلك ما ورد في حديث الإفك المروي عن عائشة، أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين(٢) .

ومنه ما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن جابر، أنه قال: صلى

____________________

(١) صحيح البخاري ٤/٧٢ - ٧٣ كتاب الجهاد، باب الجاسوس. صحيح مسلم ٤/١٩٤١ كتاب فضائل الصحابة، باب رقم ٣٦. سنن الترمذي ٥/٤٠٩. سنن ابي داود ٣/٤٧. مسند أحمد ١/٧٩ - ٨٠، مسند حميدي ١/٢٧. وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ٨/١٢٥ عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وأحمد والحميدي وأبي عوانة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبي نعيم وعبد بن حميد.

(٢) صحيح البخاري ٣/٢٢٩ كتاب الشهادات، باب تعديل النساء، ٥/١٥٣ كتاب المغازي، باب حديث الإفك، ٦/١٣٠ كتاب التفسير، تفسير سورة النور.

١٥٢

معاذ بن جبل الأنصاري بأصحابه العشاء، فطوَّل عليهم، فانصرف رجل منا فصلى، فأُخبر معاذ عنه، فقال: إنه منافق. فلما بلغ ذلك الرجل، دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ما قال معاذ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتريد أن تكون فتَّاناً يا معاذ؟ إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا يغشى(١) .

وقد كانت عائشة تكفِّر عثمان، وكانت تقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر(٢) .

فلما أرادت بعد قتله أن تطالب بدمه قال لها ابن أم كلاب:

منكِ البداءُ ومنكِ الغيـرْ * ومنكِ الرياحُ ومنكِ المطر

وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإمام * وقلتِ لنا: إنه قد كفــرْ

فهبنـا أطعناكِ في قتلِهِ * وقاتلُه عندنا مَن أمَـرْ(٣)

ولما حُصِر عثمان في بيته كفَّر كل أهل المدينة من الصحابة وغيرهم.

قال الطبري: لما رأى عثمان ما قد نزل به، وما قد انبعث عليه من الناس، كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام:

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن أهل المدينة قد كفروا، واخلفوا الطاعة، ونكثوا البيعة، فابعث إليَّ من قِبَلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول(٤) .

هذا مضافاً إلى أن جمهور أهل السنة قد ذهبوا إلى كفر أبي طالب عليه السلام، مع أنه من أجِلاء صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإسلامه ودفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذبّه عن الإسلام أوضح من أن يحتاج إلى بيان. وحسبك دليلاً على إيمانه أقواله المأثورة وأشعاره المشهورة.

ومنها قوله:

واللهِ لن يصلـوا إليـكَ بجمعِهــم * حتـى أُوسَّدَ في التـرابِ دفينــا

____________________

(١) صحيح مسلم ١/٣٤٠ كتاب الصلاة، باب رقم ٣٦. سنن النسائي ٢/١٧٢. سنن ابن ماجة ١/٣١٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢/٧٧.

(٣) تاريخ الطبري ٣/٤٧٧. الكامل في التاريخ ٣/٢٠٦.

(٤) تاريخ الطبري ٣/٤٠٢.

١٥٣

فاصدعْ بأمرِك ما عليكَ غضاضةٌ * وابشرْ بـذاك وقـرَّ منكَ عيونــا

ولقد علمتُ بــأن دينَ محمــدٍ * مِن خيرِ أديانِ البريَّـةِ دينــا(١)

وقوله:

ألا أبلِغـا عني على ذاتِ بينِنــا * لُؤيًّا وخُصَّـا من لؤيّ بني كعْـبِ

ألم تعلمـوا أنَّـا وجدنــا محمداً * نبيًّا كمـوسى خُطَّ في أولِ الكتْـبِ

وأن عليه في العبــادِ محبــة * ولا خير ممن خصَّه الله بالحُبِّ(٢)

والحاصل أن القول بكفر واحد ممن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن جلَّ عند قوم لا يستلزم كفر طائفة من طوائف المسلمين أو أحد من أهل القبلة، وما يُلزَم به الشيعة من تكفير بعض من يعتبرهم أهل السنة من أجلاء الصحابة، يرِد على أهل السنة سواءً بسواء، بل إن الحجة على أهل السنة أتم وأظهر، وذلك لأن أبا طالب عليه السلام الذي تجرَّأوا على تكفيره، يعترف جمع من علمائهم بإيمانه، فكان الواجب عليهم ألا يتسرَّعوا في تكفير من اختلفوا هم أنفسهم في إيمانه وكفره، بخلاف من كفره الشيعة، فإنهم لم يختلفوا فيه، وشتان ما بين هذين الأمرين.

* * *

قال الجزائري:فقل لي بربك أيها الشيعي، ألم يكن لهذا التكفير واللعن والبراء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هدف وغاية؟ بلى أيها الشيعي، إن هناك هدفاً وأي هدف؟ وغاية وأية غاية؟ إن الهدف هو القضاء على الإسلام خصم اليهودية والمجوسية وعدو كل شرك ووثنية!!

والجـواب:

أنا لم نقل بارتداد عامة الصحابة عن الدين كما أوضحناه مكرَّراً، وإنما قلنا

____________________

(١) البداية والنهاية ٣/٤١. المواهب اللدنية ١/٤٦. أسنى المطالب، ص٢٥. وهذه الأبيات أورده الأميني رضوان الله عليه في موسوعة الغدير ٧/٣٣٤ وقال: رواها الثعلبي في تفسيره وقال: قد اتفق على صحة نقل هذه الأبيات عن أبي طالب مقاتل وعبدالله بن عباس والقسم بن محضرة وعطاء بن دينار.

(٢) السيرة النبوية ١/٣٥٢. البداية والنهاية ٣/٨٤. أسنى المطالب، ص٢٤.

١٥٤

برجوع أكثرهم عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا المعنى هو المراد بالارتداد المذكور في الحديث الذي احتج به.

وأما ما ألصقه بالشيعة من القول بارتداد عامة الصحابة إلا نفراً قليلاً - وإن كنا لا نقول به - إلا أنه هو الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث البخاري المتقدم الذي قال فيه: « فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همَل النعَم » كما بيَّنَّاه آنفاً.

وبعبارة أخرى: إن ما ألصقه بالشيعة من القول بارتداد أكثر الصحابة عن الدين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقوله الشيعة، ولا تدل عليه الأحاديث المروية من طرقهم، بل دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة التي ذكرنا بعضاً منها.

ومما تقدَّم يتَّضح سقوط كل ما سيأتي من اللوازم الفاسدة التي ساقها الجزائري، لأنها كلها مبتنية على القول بارتداد عامة الصحابة عن الدين، ونحن لا نقول به كما بيَّنَّاه مفصَّلاً، وهو واضح.

وقوله: «إن الهدف من هذا التكفير واللعن والبراء لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القضاء على الإسلام خصم اليهودية والمجوسية » لا يخفى فساده، ولا يستحق الرد عليه، إلا أنا مع ذلك نقول:

إن أراد بأصحاب النبي كل أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن لا نكفِّرهم ولا نلعنهم جميعاً كما أوضحناه فيما تقدَّم.

وإن أراد بعضهم فارتداد ونفاق بعض من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متَّفق عليه، ودلَّت عليه الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة كما مر آنفاً.

والنتيجة المتحصَّلة هي أن الشيعة وأهل السنة في هذه المسألة سواء، فما يلزم أولئك يلزم هؤلاء.

ثم إنا لا نعلم كيف يتم القضاء على الإسلام بسبب الاعتقاد بنفاق أو ارتداد بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الشيعة وأهل السنة كلهم يرون ذلك والإسلام بحمد الله باقٍ، وسيبقى إن شاء الله تعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!!

ولا يخفى أن الجزائري في كلامه هنا بل في كل ما سطَّره في هذا الكتيِّب يريد بالإسلام مذهب أهل السنة، المبني على القول بعدالة كل من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع

١٥٥

أن القول بعدالة كل الصحابة يبطله الكتاب والسنة والإجماع والعقل، والإسلام غير منحصر في مذهب تبطله الأدلة الصحيحة.

والحكم بأن الغاية من اعتقاد ردَّة بعض من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي القضاء على الإسلام خصم اليهودية والمجوسية حكم باطل، بل هو من الكلام الذي لا يجوز قوله، لما فيه من رد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة.

ثم كيف يتسبَّب من اعتقاد ردَّة بعض من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القضاء على الإسلام؟ والحال أن الردة حقيقة تاريخية لا ينكرها أحد، غاية ما في الأمر أنهم يقولون إنها وقعت في كل الأمصار ما عدا الحرمين والطائف، ولو سلَّمنا بذلك فصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا متوافرين في بلاد العرب كلها.

وأما هدف الشيعة من بيان أن جمعاً من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ارتدّوا من بعده فهو بيان ما أراد رسول الله بيانه للأمة، حتى لا يُغتَر بكل من يدَّعي الصحبة، ويتخذها وسيلة لإضلال الأمة المهدية وتحريف السنة النبوية.

* * *

قال الجزائري:وإن الغاية هي إعادة دولة المجوس الكسروية بعد أن هَدم الإسلام أركانها، وقوَّض عروشها، ومحا أثر وجودها، وإلى الأبد إن شاء الله تعالى، وهاك إشارة مغنية عن عبارة: ألم يُقتل ثاني خليفة للمسلمين بيد غلام مجوسي؟

ألم يحمل راية الفتنة ضد الخليفة عثمان فيذهب ضحيَّتها وتكون أول بذرة للشر والفتنة في ديار المسلمين، اليهودي عبد الله بن سبأ؟

والجـواب:

أن إعادة دولة المجوس الكسروية ليست من غايات الشيعة، ولو كانت هذه هي غايتهم لَسَعوا إليها وأعادوا بناءها، فإن الشيعة قامت لهم دول على ممر العصور، ولم يعيِدوا المجوسية ولا اليهودية، ولم يدعُوا إليهما.

وأما ما أشار إليه من قتل عمر بن الخطاب بيد غلام مجوسي، فهذا لا علاقة له بالشيعة، لأن هذا الغلام لم يكن شيعياً ولا مملوكاً لواحد من الشيعة، وإنما كان غلاماً

١٥٦

للمغيرة بن شعبة الذي كان من المنحرفين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

وكان هذا الغلام حدَّاداً نقَّاشاً نجَّاراً حاذقاً، وكان المغيرة قد ضرب عليه مائة درهم في الشهر كما في بعض الأخبار، أو أربعة دراهم في اليوم كما في بعض آخر، فاشتكى إلى عمر شدة الخراج، فقال له عمر: ما خراجك بكثير. فانصرَف ساخطاً يتذمّر، وأضمر لعمر السوء، فكمن له وقتله(١) .

هذا مع أن الذي ذكره غير واحد أنه كان غلاماً نصرانيًّا ولم يكن مجوسيًّا(٢) ، ولا أقل فالأخبار في دينه متضاربة. ولعله كان مسلماً، إلا أنه لمَّا قتل عمر وصَموه بالمجوسية، والله أعلم بحقائق الأمور.

وأما عبد الله بن سبأ: فإن مذهب الشيعة الإمامية لا يرتبط به من قريب ولا بعيد، وحسبك دليلاً على ذلك:

١ - أنا لا نجد حديثاً واحداً مروياً عنه في كتب الإمامية، ولا قولاً منقولاً له فيها، ولا سيرة له مُتَّبعة، ولا فتوى له معمولاً بها، ولا شيئاً في المذهب يمتّ إليه بصلة، ولو كان مذهب الشيعة من صنيعة عبد الله بن سبأ لكانت آثاره في مذهبهم لائحة، وأخباره جليّة واضحة، ولكانت أقواله منقولة، وفتاواه مدوَّنة، وآراؤه في الفروع والأصول في كتبهم ومصنفاتهم مبثوثة، فإذا لم يكن شيء من ذلك فكيف تصح نسبة مذهبهم إليه؟!

وأما ما نسبه خصوم الشيعة إلى ابن سبأ من عقائد الإمامية ككون عليّ عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه دابة الأرض، وكذا القول بالرجعة، فهو مكذوب مختلق عليه، من أجل أن تتم لهم هذه الفرية، وتلتئم به هذه الكذبة، فإن ذلك كله ورد إما في روايات سيف بن عمر الوضَّاع، وهي لا يعوَّل عليها، وإما في أقوال بعض علماء أهل السنة التي ليس لها مستنَد إلا أخبار سيف المذكورة.

وقد دلَّت بعض الأخبار على أن ابن سبأ كان يؤلِّه أمير المؤمنين عليه السلام، ومن الواضح أن مَن يؤلِّهه لا يعتقد فيه أنه دابة الأرض، أو أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٣/٣٤٥. المستدرك ٣/٩١. تاريخ الإسلام ٣/٢٧٧. تاريخ الخلفاء، ص١٠٦. تاريخ الخميس ٢/٢٤٨. مروج الذهب ٢/٣٢٠. الكامل في التاريخ ٣/٤٩.

(٢) المستدرك ٣/٩١. الكامل في التاريخ ٣/٤٩.

١٥٧

ثم إن القول بالوصاية لأمير المؤمنين عليه السلام لم يختص به الشيعة الإمامية، بل كان جمع من الصحابة يقولون به، ودلَّ على ذلك الكثير المنقول من أقوالهم وأشعارهم(١) .

وكذا القول بأن عليًّا عليه السلام هو دابة الأرض، فقد روى أهل السنة ما يمكن أن يستفاد منه ثبوت ذلك لعلي عليه السلام، وليس هذا محل ذكره، فإنه خارج عن موضوع الكتاب(٢) .

٢ - أن الأحاديث المروية في بعض كتب الإمامية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد وردت بذمِّه ولعنه والبراءة منه.

منها: صحيحة هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول وهو يحدِّث أصحابه بحديث عبدالله بن سبأ، وما ادَّعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: إنه لما ادَّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين عليه السلام فأبى أن يتوب، فأحرقه بالنار.

منها: صحيحة أبان بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ، إنه ادَّعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وكان والله أمير المؤمنين عليه السلام عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم.

ومنها: صحيحة أبي حمزة الثمالي، قال: قال علي بن الحسين عليه السلام: لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادّعى أمراً عظيماً، ما له لعنه الله؟! كان علي عليه السلام والله عبداً لله صالحاً، أخو رسول الله، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكرامة من الله إلا بطاعته(٣) .

وإنك لا تجد طائفة من طوائف المسلمين تروي في كتبها ولو بأسانيد ضعيفة روايات تتضمن الطعن واللعن في من أسّس تلك الطائفة، فضلاً عن روايتها بأسانيد صحيحة.

____________________

(١) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١/٤٨، ط محققه ١/١٤٧.

(٢) راجع كتابنا (عبد الله بن سبأ)، ص ٢٤١-٢٨٩.

(٣) اختيار معرفة الرجال، ص ١٠٦-١٠٨.

١٥٨

٣ - أن علماء الإمامية نصّوا على كفر عبد الله بن سبأ وسوء حاله:

فقد قال الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في رجاله: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو(١) .

وقال العلاَّمة الحلي في كتابه خلاصة الأقوال: عبد الله بن سبأ غالٍ ملعون، حرَّقه أمير المؤمنين عليه السلام بالنار، كان يزعم أن عليًّا عليه السلام إله، وأنه نبي(٢) .

وهذه العبارة هي عين عبارة السيد أحمد بن طاووس في كتابه (حل الإشكال في معرفة الرجال) المنقولة في التحرير الطاووسي(٣) .

وقال أبو عمرو الكشي: كان يدَّعي النبوة وأن عليًّا عليه السلام هو الله، فاستتابه عليه السلام ثلاثة أيام، فلم يرجع فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلاً ادَّعوا فيه ذلك(٤) .

وقال الشيخ يوسف البحراني: وابن سبأ هذا هو الذي كان يزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام إله، فاستتابه أمير المؤمنين ثلاثة أيام، فلم يتب فأحرقه(٥) .

وهذه الكلمات وأمثالها هي مضمون الروايات التي رواها الكشي في رجاله وقد مرَّ آنفاً ذِكر بعضها، ولعلّ هؤلاء الأعلام قالوا بذلك اعتماداً على تلك الروايات.

وإنك لا تجد واحداً من علماء الشيعة الإمامية قديماً وحديثاً دافع عن ابن سبأ أو برَّأ ساحته، أو أثنى عليه أو مدحه، أو نعته بما فيه كمال ورِفعة، ولو كان مذهب الشيعة الإمامية من صنيعته لما عدمتَ من يمدحه ويثني عليه، ويدافع عنه.

٤- أن مذهب الشيعة الإمامية مذهب متكامل في أصوله وعباداته ومعاملاته وأحكامه، وهي كلها منقولة بالنقل الصحيح عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهذه كتبهم الكلامية والحديثية تشهد بذلك، والناظر فيها يعلم علماً يقينياً أن شيئاً من تلك الأصول والفروع لم يؤخذ عن عبد الله بن سبأ.

وأما ما رواه سيف بن عمر من أن ابن سبأ هو أول من قال: إن عليًّا عليه السلام وصي

____________________

(١) رجال الطوسي، ص ٥١.

(٢) رجال العلامة الحلي، ص٢٣٧.

(٣) التحرير الطاووسي، ص١٧٣.

(٤) عن رجال ابن داود، ص ٣٠ من القسم الثاني، تنقيح المقال ٢/١٨٤، وكلمة الكشي هذه غير مذكورة في (اختيار معرفة الرجال) المعروف برجال الكشي.

(٥) الحدائق الناضرة ٨/٥١١.

١٥٩

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنه هو دابة الأرض، وإنه أفضل صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنه أول من أحدث القول بالرجعة، فهذه كلها مع أنها منحولة على ابن سبأ كما حقَّقناه في كتابنا (عبد الله بن سبأ)، فهي لا تعدو أن تكون أربع مسائل من آلاف المسائل في أصول مذهب الشيعة وفروعه.

وعليه، فكيف يصح أن يُنسب مذهب الشيعة الإمامية جميعه لرجل جهر بمسائل أربع هي في الأصل كانت موجودة قبل ذلك، وقامت عليها الأدلة الصحيحة كما قلنا، ولا يصح نسبة مذاهب أهل السنة إلى اليهود، مع أنهم قد أخذوا كثيراً من المسائل الأصولية والفرعية من بعض اليهود ككعب الأحبار وغيره إما بالمباشرة أو بالواسطة؟!

مِن كل ذلك نخلص إلى أن مذهب الشيعة الإمامية بريء من عبد الله بن سبأ، ولا علاقة له به، ولا شيء من أصوله و فروعه مأخوذ منه، بل إن الشيعة يتبرّؤون من عبد الله بن سبأ، ويلعنونه ويلعنون كل من يعتقد باعتقاداته، ويأخذ بمبادئه، ومن نسب إليهم غير ذلك فهو كاذب مفترٍ عليهم.

وما أحسن ما قاله الأستاذ محمد كرد علي في كتابه (خطط الشام)، فإنه قال:

أما ما ذهب إليه بعض الكتّاب من أن أصل مذهب التشيّع من بدعة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهم وقلة علم بحقيقة مذهبهم، ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك، علم مبلغ هذا القول من الصواب(١) .

هذا مضافاً إلى أن جمعاً من الكتَّاب والباحثين من أهل السنة ذهبوا إلى أن عبد الله بن سبأ شخصية مختلقة، اختلقها خصوم الشيعة كيداً لهم وإزراءً عليهم.

قال الدكتور طه حسين: إن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلَّفاً منحولاً، قد اختُرع بأخَرَة، حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفِرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يُدخِلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهوديًّا، إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم(٢) .

____________________

(١) خطط الشام ٦/٢٤٦.

(٢) علي وبنوه، ص ٥١٨.

١٦٠