• البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18302 / تحميل: 4376
الحجم الحجم الحجم
كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

مؤلف:
العربية

ومن أسباب شهرة هذا الكتاب أيضاً وسمو مكانته أنه امتاز بحسن الترتيب، وزيادة الضبط والإتقان كما مر، وذلك لأن الكليني رحمه الله قد تأنَّى في تأليفه، فصرف في جمعه من عمره الشريف عشرين سنة، بذل فيها جهده، وسافر فيها إلى البلدان الكثيرة لمصاحبة شيوخ الإجازات، وملاقاة المهرة في معرفة الأحاديث.

هذا مع أنه عاش في زمن سفراء الإمام المهدي عليه السلام حيث كانت الأصول الأربعمائة التي حوت آثار الصادقين عليهم السلام متداولة ومتوافرة، وهذان الأمران ربما يسَّرا له السبيل للتحقق من صحة رواياته.

كتاب الكافي فيه الصحيح والضعيف

إن علماء الشيعة الإمامية لم يعطوا كتاب الكافي ولا غيره من كتب الحديث تلك المنزلة التي أعطاها علماء أهل السنة إلى صحيحي البخاري ومسلم، الذين أجمعوا على صحة كل ما فيهما من أحاديث، وحكموا بأنها صادرة من النبي صلى الله عليه وآله قطعاً. وإنما حكم علماء الإمامية بأن ما في الكافي من الأحاديث، منه الصحيح المعتبر، ومنه الضعيف الذي لا يُحتج به ولا يعوَّل عليه.

قال المحقق السيد الخوئي أعلى الله مقامه: لم تثبت صحة جميع روايات الكافي، بل لا شك في أن بعضها ضعيفة، بل إن بعضها يُطمأن بعدم صدورها من المعصوم عليه السلام(١) .

وقال السيد محمد المجاهد قدس سره (ت ١٢٤٢هـ): الذي عليه محققو أصحابنا عدم حجية ما ذكره الكليني، ولهذا لم يعتمدوا على كل رواية مروية في الكافي، بل شاع بين المتأخرين تضعيف كثير من الأخبار المروية فيه سنداً... وقد اتفق لجماعة من القدماء كالمفيد وابن زهرة وابن إدريس والشيخ والصدوق الطعن في بعض أخبار الكافي... وقد ذُكرت عباراتهم في الوسائل(٢) .

وبهـذا يتضح أن علـماء الإمامية وقفوا من كتاب الكافي موقفاً معتدلاً، لم يجنحوا فيه إلى طرف الإفراط بتصحيح كل أحاديثه، فيسـاووه بكتاب الله العزيـز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يميلوا إلى جانب التفريط بإسقاطه عن الحجية

____________________

(١) معجم رجال الحديث ١/٩٢.

(٢) مفاتيح الأصول، ص٣٣٤.

٢١

والاعتبار فيبخسوه حقه.

قال السيد هاشم معروف: ومع أنه نال إعجاب الجميع وتقديرهم لم يغالِ به أحد غلو محدِّثي السنة في البخاري، ولم يدَّعِ أحد بأنه صحيح بجميع مروياته لا يَقبل المراجعة والمناقشة، سوى جماعة من المتقدمين تعرضوا للنقد اللاذع من بعض من تأخر عنهم من الفقهاء والمحدثين، ولم يقل أحد بأن من روى عنه الكليني فقد جاز القنطرة كما قال الكثيرون من محدّثي السنة في البخاري، بل وقف منه بعضهم موقف الناقد لمروياته من ناحية ضعف رجالها، وإرسال بعضها، وتقطيعها، وغير ذلك من الطعون التي تخفف من حدة الحماس له والتعصب لمروياته(١) .

فأحاديث الكافي إذن فيها الصحيح وفيها الضعيف، بل إن الضعيف منها أكثر من الصحيح كما نص عليه كثير من الأعلام، مثل فخر الدين الطريحي (ت ١٠٨٥هـ)(٢) ، والشيـخ يـوسف البحـراني (ت ١١٨٦هـ) عـن بعـض مشائـخه المتـأخرين(٣) ، والسيد بحر العلوم(٤) ، والميرزا محمد بن سليمان التنكابني (ت ١٣١٠هـ)(٥) ، وآغـا بزرك الطهراني(٦) ، وغيرهم.

قـال الطـريحي قـدس سـره: أمـا الكـافي فجميع أحاديثه حُصرت في [١٦١٩٩ ] ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثاً، الصحـيح منها باصـطلاح مَن تأخر [ ٥٠٧٢ ] خمسة آلاف واثنان وسبعون، [ والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً ]، والموثَّق [ ١١١٨ ] ألـف ومـائة وثمانية عشر حديثاً، والقوي منها [ ٣٠٢ ] اثنان وثلاثمائة، والضعيف منها [ ٩٤٨٥ ] أربعمائة وتسعة آلاف وخمسة وثمانون حديثاً، والله أعلم.

والحاصل أن الكليني رضوان الله عليه مع أنه حاول أن يجمع في كتابه الكافي الأحاديث الصحيحة التي يكون بنظره عليها المعوّل، وبها يؤدَّى فرض الله عز وجل كما أوضح في مقدمة الكتاب، إلا أن علـماء الإمـامية لـم يتابعوه في تصحيح كل

____________________

(١) دراسات في الحديث والمحدثين ص١٣٢.

(٢) جامع المقال، ص١٩٣.

(٣) لؤلؤة البحرين، ص٣٩٤.

(٤) رجال السيد بحر العلوم ٣/٣٣١.

(٥) قصص العلماء، ص٤٢٠.

(٦) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٧/٢٤٥.

٢٢

الأحاديث التي رواها في كتابه، وفي جواز العمل بها، بل ضعَّفوا كثيراً من أحاديثه كما تقدم، مع أنه من أجَل الكتب عندهم وأكثرها فائدة، من حيث إنه حوى أكثر من ستة آلاف وسبعمائة حديث معتبر.

وبذلك يتضح الفارق بين نظر أهل السنة إلى صحيح البخاري، ونظر الشيعة إلى كتاب الكافي، فإن مكانة صحيح البخاري التي تبوَّأها عند أهل السنة إنما حصلت بسبب إجماع علماء أهل السنة على صحة أحاديثه كلها(١) ، بخلاف الكافي وغيره من كتب الحديث عند الشيعة الإمامية، فإنها لم تنل هذه المنزلة عندهم.

ولهذا نرى جمعاً من حفَّاظ الحديث من أهل السنة مع أنهم صنَّفوا كتباً التزموا فيها جمع الصحيح من الحديث بنظرهم(١) ، إلا أن كتبهم تلك لم تنل مكانة صحيح البخاري عند أهل السنة، فإن العلماء لم يُجْمِعوا على صحَّة كل ما روي فيها من أحاديث، كما كان الحال في أحاديث صحيح البخاري.

ومن ذلك يتضح أن حال كتاب الكافي عند الشيعة الإمامية حال المستدرك على الصحيحين أو صحيح ابن حبان وغيرهما من المصنفات التي حاول مؤلفوها جمع الصحيح فيها فقط، ولم يتحقق إجماع على قبول كل ما فيها من أحاديث.

وحينئذ فلا مناص من عرض أحاديث هذه المجاميع على قواعد علم الدراية، لتمييز الصحيح من غيره، فيُحكم بصحة ما كان مستجمعاً لشرائط الصحة، وبضعف ما لم يستجمع تلك الشرائط وإن حكم مؤلفٌ ما بصحة هذا الحديث أو ذاك، لأن اجتهاد مجتهد لا يكون حجَّة على غيره من المجتهدين.

____________________

(١) قال الحافظ أبو نصر الوايلي السجزي: أجمع أهل العلم - الفقهاء وغيرهم - على أن رجلاً لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي قد صح عنه، ورسول الله (ص) قاله، لا شك أنه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته (مقدمة ابن الصلاح، ص١٣). وقال أبو المعالي الجويني: لو حلف إنسان بطلاق امرأته ان ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي (ص) لما ألزمته الصلاق ولا حنثته، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما (صحيح مسلم بشرح النووي ١/٢٠، تدريب الراوي ١/١٣١). وقال ابن تيمية في كتابه علوم الحديث، ص٧٢: ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث، كجمهور أحاديث البخاري ومسلم، فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تبع لهم في معرفة الحديث.

٢٣

لا يُحتج بكتاب الكافي في إثبات المذهب

وهذه المسألة تتضح بأمور:

١- أن كتـاب الكـافي - كمـا أوضحنا - فيه الأحاديث الصحيحة المعتبرة، وفيه الأحـاديث الضعيفة، وعليه فلا يصح الاستناد في إثبات شيء من الأحكام الشرعية الفقهية، فضلاً عن إثبات المذاهب الكلامية والأصول الاعتقادية على أي حديث مروي في كتاب الكافي ما لم يستجمع شرائط الاعتبار والحجية.

٢- أن أصول الدين لا يصح إثباتها بأخبار الآحاد(١) وإن كانت تلك الأخبار صحيحة، وذلك لأن المسائل الاعتقادية يشترط فيها أن تكون قطعية، وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن الذي لا يجوز التعويل عليه في هذه المسائل.

قـال السيد المرتضى أعـلى الله مـقامـه (ت ٤٣٦هـ) في معرض الجواب عـن جـواز الرجـوع في تعرُّف الأحـكام إلى رسالـة « المقنعة » للمفيد، أو رسالة ابن بابويه، أو كتاب « الكافي » للكليني، أو غيرها: إن الرجوع فيالأصول إلى هذه الكتب خطأ وجهل(٢) .

وقال في النكير على من يعمل بأخبار الآحاد مطلقاً: ألا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجّون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة في ذلك(٣) .

وقال الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه (ت ١٢٨١هـ): ظاهر الشيخ [ الطوسي ] في « العُدّة » أن عدم جواز التعويل في أصول الدين على أخبار الآحاد اتفاقي، إلا عن بعض غَفَلة أصحاب الحديث. وظاهر المحكي في « السرائر » عن السيد المرتضى عدم الخلاف فيه أصلاً(٤) .

وقال شيخنا الشهيد الثاني أعلى الله مقامه (ت ٩٦٦هـ) في « المقاصد العلية » بعد أن ذكر أن المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازمة: وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وآله في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصـديق بـه مطلقاً وإن كان طريقه صحيحاً، لأن الخبر

____________________

(١) وهي الأحايث غير المتواترة. وكون أكثر أحاديث الكافي من أخبار الآحاد مما لا نزاع فيه.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ٢/٣٣٣.

(٣) المصدر السابق ١/٢١١.

(٤) فرائد الاصول ١/٣٧٢.

٢٤

الواحد ظني، وقد اختُلف في جواز العمل به في الأحكام الشرعية الظنية، فكيف بالأحكام الاعتقادية العلمية؟!(١) .

وعليه، فالـذي يجب اعتقاده هـو مـا دلَّ عليه ظاهر كتاب الله المجيد، وما عُلم بالتواتر من أقوال النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين من أهل بيته عليهم السلام وأفعالهم وتقريرهم، وما عُلم بالضرورة أنه من دين الإسلام.

وأما ما عدا ذلك فهو موضوع عن الناس، لا يجب عليهم الاعتقاد به إلا إذا حصل لهم العلم به.

قال الشيخ الأنصاري قدس سره: المستفاد من الأخبار المصرّحة بعدم اعتبار معـرفة أزيد مما ذُكـر فيها - وهو الظاهر من جماعة من علمائنا الأخيار، كالشهيدين في الألفية وشرحها، والمحقق الثاني في الجعفرية وشارحها وغيرهم - هو أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه موجوداً، وواجب الوجود لذاته، والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث، وأنه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً...

ويكفي في معرفة النبي صلى الله عليه وآله معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص بـه، والتصديق بنبوته وصدقه، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته - أعني كـونه معصوماً بالملكة - من أول عمره إلى آخره...

إلى أن قال: ويكفي في معرفة الأئمة صلوات الله عليهم معرفتهم بنسبهم المعروف، والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق، ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم، وفي وجوب الزائد على ما ذُكر من عصمتهم الوجهان...

ويكفي في التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله التصديق بما عُلم مجيئه به متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد، كالتكليف بالعبادات، والسؤال في القبر وعذابه، والمعاد الجسماني، والحساب والصراط والميزان والجنة والنار إجمالاً...

ثم قال: وما استقربناه فيما يعتبر في الإيمان وجَدْتُه بعد ذلك في كلام محكي عن المحقق الورع الأردبيلي في شرح إرشاد الأذهان(١) .

____________________

(١) المصدر السابق ١/٣٧١.

(٢) فرائد الاصول ١/٣٧٧ - ٣٨٠.

٢٥

الخلاصة

أن أبا بكر الجزائري لم يتَّبع في « نصيحته » إلى كل شيعي المنهج الصحيح للبحث العلمي، إذ وصف كتاب الكافي بأنه عمدة الشيعة في إثبات مذهبهم، وأنه أهم كتاب يعتمدون عليه في إثبات المذهب، وأنه عمدة مذهب الشيعة، ومصدر تشيعهم.

وهـذا كـله لـم يثبت، بل الثابت خلافه، فإن كتاب الكافي وإن كان من أجَل الكتب المعتمدة عند الشيعة الإمامية في استنباط الأحكام الشرعية، إلا أن فيه أحاديث ضعيفة لا يجوز الاستناد إليها في فروع الدين فضلاً عن أصوله، كما لا يصح الاستناد إلى أحاديث الكافي وغيره - وإن كـانت صحيحة - في إثبات المذهب، أو إثبات شيء من أصوله وعقائده التي لا بد أن تكون معلومة بالقطع واليقين، اللهم إلا ما كان منها متواتراً قد عُلم صدوره من النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم السلام.

ثم إن علماء المذهب قدس الله أسرارهم قد أثبتوا صحة مذهب الإمامية وسلامة عقائده بالأدلة القطعية، العقلية منها والنقلية، واحتجوا على خصومهم بما صحَّ من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله مما رواه الخصوم في كتبهم المعتمدة، ولم يُلزِموا مخالفيهم بما رووه هم في كتبهم من الأحاديث التي لا يسلِّم بها غيرهم.

وهذا معلوم من حالهم، يعرفه كل من اطّلع على ما حرروه في كتبهم الكلامية، وما كتبوه في إثبات المذهب وإبطال مذاهب أهل الخلاف، فراجـع إن شئت كتاب « الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد » للشيخ محمد بـن الحسن الطوسي، وكتاب « كشف المراد » و « نهج المسترشدين » و « الباب الحادي عشر » و « نهج الحق وكشف الصدق » و « كشف اليقين » كلها للعلامة الحلّي، وكتاب « الغدير » للشيخ عبد الحسين الأميني، وكتاب « المراجعات » للسيد عبد الحسين شرف الدين... وغيرها من الكتب التي لا تحصى كثرة.

ولهذا كله لم يحاول الجزائري أن يُثْبت شيئاً مما ادّعاه، بالنقل عن جهابذة علماء الشيعة وأساطين المذهب الذين حرّروا هذه المسألة في مصنفاتهم المعروفة.

كما أنـه لـم يحاول أن يُثبت لقارئـه أيضـاً أن « حقائقه » التي ذكرها في كُتيّبه قد استخلصها من أحاديث صحيحة، وأن الشيعة يعتقدون بمفادها، ويعدُّونها من أُسس

٢٦

تشيّعهم وأصول مذهبهم.

وهذا كله لو حاول إثباته فلن يتأتى له، لأن علماءنا الأبرار قد أثبتوا في مصنفاتهم أن كتـاب الكافي - كما تقـدم - فيه جملة وافرة من الأحاديث الضعيفة التي لا يجوز العمل بها، ولا يصح الاحتجاج بها في فروع الدين وأصوله، وصرَّحوا أنه لا يلزم الشيعي حتى يكون شيعياً أن يعتقد بتفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة وغيرها، بل يجب عليه أن يعتقد بالأُسس العامة للمذهب كما أوضحناه مفصلاً.

ومـن الغـريب أن هذا الرجل قد اختار أحاديث ضعيفة زعم أن الشيعة تعتقد بمفادها، وزعم أنه توصَّل بها إلى حقائق ثابتة هي أصل مذهب التشيع، مع أن تلك الأحاديث - مضافاً إلى ضعف سندها - لا تدل على ما ادّعى أنها تدل عليه، فإنه حمَّلها ما لا تحتمل من الوجوه الضعيفة والمعاني الباطلة.

هذا مضافاً إلى أنه جاء ببعض الأحاديث التي حرَّفها بأبشع تحريف، ونسبها إلى الكافي كما سيتضح في كشف الحقيقة السابعة إن شاء الله تعالى. وهذا مما يؤسف له، ويدل على أن الرجل لم يكن مخلصاً في نصيحته، ولا صادقاً في دعوته، ولا أميناً في نقله، ولا ثقة في قوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )

٢٧

٢٨

كشف

الحقيقة الأولى

٢٩

٣٠

قال الجزائري:

الحقيقة الأولى

استغناء آل البيت وشيعتهم عن القرآن الكريم بما عند آل البيت

من الكتب الإلهية الأولى التي هي التوراة والزبور والإنجيل

إن الذي يثبت هذه الحقيقة ويؤكدها، ويلزمك أيها الشيعي بها: هو ما جاء في كتاب الكافي من قول المؤلف: « باب أن الأئمة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من الله عز وجل، وأنهم يعرفونها كلها على اختلاف ألسنتها » مستدلاً على ذلك بحديثين يرفعهما إلى أبي عبد الله، وأنه كان يقرأ الإنجيل والتوراة والزبور بالسريانية.

وأقول:

الحديث الأول: أخرجه الكليني رحمه الله بسنده عن هشام بن الحكم في حديث بُرَيه، أنه لما جاء معه إلى أبي عبد الله عليه السلام فلقي أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، فحكى له هشام الحكاية، فلما فرغ قال أبو الحسن عليه السلام لبريه: يا بريه، كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به عالم. ثم قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه. قال: فابتدأ أبو الحسن عليه السلام يقرأ الإنجيل، فقال بريه: إيَّاك كنتُ أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك. قال: فآمن بريه، وحسن إيمانه، وآمنت المرأة التي كانت معه.

فدخل هشام وبريه والمرأة على أبي عبد الله عليه السلام، فحكى له هشام الكلام الذي جرى بين أبي الحسن موسى عليه السلام وبين بريه، فقال أبو عبد الله عليه السلام:( ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) . فقال بريه: أنَّى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم، نقرأها كما قرأوها، ونـقولها كمـا قـالوا، إن الله لا يجعل حـجَّة في

٣١

أرضه يُسأل عن شيء فيقول: لا أدري(١) .

سند الحديث

هذا الحديث ضعيف السند، لجهالة أحد رواته، وهو الحسن بن إبراهيم.

قال المولى محمد باقر المجلسي قدس سره: [ في سنده ] مجهول(٢) .

وقال المامقاني قدس سره في ترجمة الراوي المذكور: الحسن بن إبراهيم الكوفي، عـدَّه الشيخ في رجـاله مـن أصحاب الرضا عليهم السلام... وظاهره كونه إمامياً إلا أن حاله مجهول(٣) .

والحديث الثاني : رواه الكليني أيضاً عن مفضل بن عمر، قال: أتينا باب أبي عبد الله ونحن نريد الإذن عليه، فسمعناه يتكلم بكلام ليس بالعربية، فتوهمنا أنه بالسريانية، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم خـرج إلينا الغلام، فـأذن لنا فدخلنا عليه، فقلت: أصلحك الله، أتيناك نريد الإذن عليك، فسمعناك تتكلم بكلام ليس بالعربية، فتوهمنا أنه بالسريانية، ثم بكيت فبكينا لبكائك. فقال: نعم، ذكرتُ إلياس النبي، وكان من عبَّاد أنبياء بني إسرائيل، فقلت كما كان يقول في سجوده. ثم اندفع فيه بالسريانية، فلا والله ما رأينا قسًّاً ولا جاثليقاً أفصح لهجة منه به، ثم فسره لنا بالعربية، فقال: كان يقول في سجوده: أتراك معذِّبي وقد أظمأتُ لك هواجري؟ أتراك معذّبي وقد عفّرت لك في التراب وجهي؟ أتراك معذّبي وقد اجتنبتُ لك المعاصي؟ أتراك معذبي وقـد أسهرت لك ليلي؟. قال: فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك، فإني غير معذبك، قال: فقال: إن قلتَ: « لا أعذِّبك » ثم عذَّبتَني ماذا؟ ألستُ عبدك، وأنت ربّي؟! قال: فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك، فإني غير معذّبك، إني إذا وعدتُ وعداً وفيتُ به(٤) .

سند الحديث

هذا الحديث أيضاً ضعيف السند.

____________________

(١) أصول الكافي ١/٢٢٧. والحديث بطوله مذكور في مرآة العقول ٣/٢٥، وكتاب التوحيد، ص٢٧٠.

(٢) مرآة العقول ٣/٢٤.

(٣) تنقيح المقال ١/٢٦٥.

(٤) أصول الكافي ١/٢٢٧.

٣٢

قال المولى المجلسي قدس سره: الحديث الثاني ضعيف(١) .

وحسبك أن من جملة رواته سهل بن زياد، وبكر بن صالح، ومحمد بن سنان.

أما سهل بن زياد فذهب المشهور إلى أنه ضعيف.

قال المامقاني قدس سره: إن علماء الرجال قد اختلفوا في الرجل على قولين:

أحدهما: أنه ضعيف، وهو خيرة النجاشي وابن الغضائري والشيخ في الفهرست، والعلاَّمة في الخلاصة وجملة من كتبه الفقهية كالمنتهى والمختلف وغيرهما، وابن داود في رجاله، والمحقق في الشرائع ومواضع من نكت النهاية والمعتبر، والآبي في محكي كشف الرموز، والسيوري في التنقيح، والشهيد الثاني والشيخ البهائي وصاحب المدارك والمولى الصالح المازندراني والمحقق الأردبيلي والسبزواري وغيرهم، بل هو المشهور بين الفقهاء وأصحاب الحديث وعلماء الرجال(٢) .

وقـال المحقق الخوئي قـدس سـره: وكيف كان فسهل بن زياد الآدمي ضعيف جزماً، أو لم تثبت وثاقته(٣) .

وأما بكر بن صالح فقد ضعَّفه النجاشي(٤) .

وقال ابن الغضائري: بكر بن صالح الرازي ضعيف جـداً، كثير التفـرد بالغرائب(٥) .

وضعَّفه العلاَّمة في الخلاصة بنحو ما قاله ابن الغضائري(٦) .

وذكره ابن داود في القسم الثاني وضعَّفه، ونقل كلام ابن الغضائري، كما ضعَّفه الشيخ البهائي في الوجيزة(٧) .

قال المامقاني قدس سره: ضعْف بكر بن صالح الضبي الرازي الراوي عن الكاظم

____________________

(١) مرآة العقول ٣/٢٨.

(٢) تنقيح المقال ٢/٧٥.

(٣) معجم رجال الحديث ٨/٣٤٠.

(٤) رجال النجاشي ١/٢٧٠.

(٥) تنقيح المقال ١/١٧٨.

(٦) رجال العلامة الحلي، ص٢٠٧.

(٧) تنقيح المقال ١/١٧٨.

٣٣

عليه السلام مما لا ينبغي الريب فيه، واشتراك غيره معه مـن دون تمييز صحيح يُسقِط كـل رواية لبكر بن صالح - أيّ بكر كان - عن الاعتبار(١) .

وأما محمد بن سنان فالمشهور أيضاً أنه ضعيف.

قال المامقاني بعد أن ذكر أنه اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه ضعيف، وهو المشهور بين الفقهاء وعلماء الرجال.

ثم نقل تضعيفه عن الشيخ الطوسي في رجاله وفهرسته، والنجاشي وابن عقدة أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد وابن الغضائري والمفيد الذي قال فيه: محمد بن سنان وهو مطعون فيه، لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه، ومن كان هذا سبيله لا يُعتمد عليه في الدين(٢) .

قال المامقاني: وممن ضعَّفه المحقق رحمه الله في مواضـع من المعتبر، والعلاّمة في موضع من المختلف، وكاشف الرموز والشهيد الثاني في باب المهور من المسالك، وصاحب المدارك، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة، وصاحب الذخيرة، وهو المحكي عن المعتصم والمنتقى ومشرق الشمسين والحبل المتين وحاشية المولى صالح والتنقيح والفخري في مرتب مشيخة الصدوق والذكرى والروضة وغيرها(٣) .

قال السيد الخوئي قدس سره: تضعيف هؤلاء الأعلام يصدّنا عن الاعتماد عليه والعمل برواياته(٤) .

مناقشة الجزائري في دلالة الحديثين:

قال الجزائري: وقصد المؤلف من وراء هذا معروف، وهو أن آل البيت - وشيعتهم تبع لهم - يمكنهم الاستغناء عن القرآن الكريم بما يعلمون من كتب الأوّلين.

وهذه خطوة عظيمة في فصل الشيعة عن الإسلام والمسلمين، إذ ما من شك في أن من اعتقد الاستغناء عن القرآن الكريم بأي وجه من الوجوه فقد خرج من

____________________

(١) المصدر السابق ١/١٧٩.

(٢) المصدر السابق ٣/١٢٤.

(٣) المصدر السابق ٣/١٢٥.

(٤) معجم رجال الحديث ١٦/١٦٠.

٣٤

الإسلام، وانسلخ من جماعة المسلمين.

ثم قال: إن اعتقاد امرئ الاستغناء عنه أو عن بعضه بأي حال من الأحوال، هو ردَّة عن الإسلام ومروق منه، لا يبقيان لصاحبها نسبة إلى الإسلام ولا إلى المسلمين.

أقول:

لو سلمنا بصحَّة الحديثين جدلاً فهما مع ذلك لا يدلان على شيء مما قاله.

أما الحديث الأول: فهو لا يدل على أن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم قـد استغنوا بكتب الأوَّلِين عن القرآن الكريم، وإنما يدل بوضوح على أن أهل البيت عليهم السلام عندهم تلك الكتب غير محرَّفة ولا مبدَّلة، ورثوها من النبي صلى الله عليه وآله، وهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها كما عنْوَنَ الكليني رحمه الله الباب بذلك.

وظاهر الحديث أن أبا الحسن موسى عليه السلام قرأ على بُريه من الإنجيل ما يُلزمه ويأخذ بعنقه للدخول في الإسلام، بدليل أنه أسلم في الحال، ولعلَّه قرأ عليه من الإنجيل ما يدل على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله، فإن ذلك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل كما أخبر سبحانه وتعالى في محكم كتابـه إذ قـال:( والذين هـم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم... ) (١) .

قال ابن كثير: هذه - يعني قوله تعالى( يأمرهم بالمعروف... ) الآية - صفة محمد صلى الله عليه وآله في كتب الأنبياء، بشَّروا أُممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم(٢) .

وقال: إن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتّباعه ونصره ومؤازرته إذا بعث(٣) .

وقال البيهقي: إن الله تعالى أمَر عيسى عليه السلام فبشَّر به قومه، فعرفه بنو إسرائيل

____________________

(١) سورة الاعراف، الآتيان ١٥٦ - ١٥٧.

(٢) تفسير القرآن العظيم ٢/٢٥١.

(٣) المصدر السابق ٤/٣٦٠.

٣٥

قبل أن يُخلق(١) .

قلت: يدل على ذلك قوله تعالى( وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدِّقاً لما بين يدي من التوراة ومبشِّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) (٢) .

والاحتجاج بالتوراة والإنجيل على أهل تلك الملل جائز لا ضير فيه، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمر (رض) أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقـال لهم: كيف تفعـلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نُحمِّمُهما(٣) ونضربهما. فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مِدْراسها الذي يُدَرِّسها منهم كفَّه على آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد، فرأيت صاحبها يجنأ عليها(٤) ، يقيها الحجارة(٥) .

ولهذا أفتى مَن وقفنا على فتاواه من العلماء بجواز اقتناء التوراة والإنجيل، بل كتب الضلال كلها لنقضها أو للاحتجاج بها على من يعتقد بها.

وعليه، فلعل اقتناء أهل البيت عليهم السلام لهـذه الكتب كان لأجل هذه الغاية، فلا يستخرجون شيئاً منها إلا وقت الحاجة إليه، كما صنع الإمام عليه السلام مع بُريه.

وقد ورد ما يشهد لذلك في كتبهم، فقد قال الشيخ محمد بن علي الصبان: إن المهدي يستخرج تابوت السكينة من غار أنطاكية، وأسفار التوراة من جبل بالشام، يحاج بها اليهود، فيسلم كثير منهم(٦) .

ومما ينبغي بيانه ههنا أن الكتب السماوية التي في أيدي الناس لا ريب في كونها

____________________

(١) دلائل النبوة ١/٨١.

(٢) سورة الصف، الآية ٦.

(٣) أي نسكب عليهما الماء الحميم، وقيل: نجعل في وجوههما الحمة، أي السواد.

(٤) أي يحني ظهره عليها.

(٥) صحيح البخاري ٦/٤٦ كتاب التفسير، سورة آل عمران، ٩/٢٠٥ كتاب المحاربين من أهل الردة والكفر، باب الرجم في البلاط، وصفحة ٢١٤ باب أحكام أهل الذمة. وراجع صحيح مسلم ٣/١٣٢٦ كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.

(٦) إسعاف الراغبين ص١٥٠، وأخرج السيوطي في كتابه « العرف الوردي في أخبار المهدي » المطبوع ضمن الحاوي للفتاوي ٢/٨١ نقلا عن أبي عمرو الداني في سننه، عن ابن شورب قال: إنما سمي المهدي لأنه يهدى إلى جبل من جبال الشام، يستخرج منه أسفار التوراة، يحاج بها اليهود فيسلم على يديه جماعة من اليهود.

٣٦

من كتب الضلال، بسبب ما دخلها من التحريف، وأما ما عند أهل البيت عليهم السلام من كتب الأنبياء السابقين فهي وإن كانت منسوخة قد انتهى أمد العمل بها، إلا أنها لا تشتمل على ضلال، لأن الله سبحانه لا يقول إلا الحق، ولا يُنْزل إلى الناس باطلاً.

قال صاحب الجواهر أعلى الله مقامه: ليس من كتب الضلال كتب الأنبياء السابقين، ما لم يكن فيها تحريف، إذ النسخ لا يُصيُرها ضلالاً، ولذا كان بعضها عند أئمتنا عليهم السلام، وربما أخرجوها لبعض أصحابهم، بل ما كان منها مثل الزبور ونحوه من أحسن كتب الرشاد، لأنها ليست إلا مواعظ ونحوها على حسب ما رأينا، والله أعلم(٢) .

ولهذا قال الإمام عليه السلام في حديث الكافي الذي نحن بصدد الكلام فيه: « نقرؤها كما قرأوها، ونقولها كما قالوا »: أي أن ما نقـرؤه منها هو عين ما كان يقرؤه الأنبياء عليهم السلام من هذه الكتب، لا تحريف فيه ولا تغيير، وأن ما نقوله للناس في تفسيرها وتأويلها هو عين ما يقولونه عليهم السلام من التفسير والتأويل.

وبهذا يتضح مما تقدم أن أئمة أهل البيت عليهم السلام وإن كانت كتب الأنبياء السابقين عندهم، إلا أن ما يخصُّون شيعتهم به من العلوم الإلهية والمعارف الدينية هو مما أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله، فعلَّمه لباب مدينة العلم، الأُذُن الواعية لعلمه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي أفاض علومه على مَن جاء بعده من أئمة العترة النبوية الطاهرة، ثم أفاض كل إمام ما عنده من العلوم على الإمام الذي يأتي من بعده.

وما أحسن قول الشاعر:

إذا شئتَ أن تبغــي لنفسـك مذهبــاً * وتعلـمَ أن النـاس في نقـل أخبــارِ

فدَعْ عنــك قــولَ الشافعـي ومالكٍ * وأحمـدَ والمروي عن كعـب أحبــارِ

ووالِ أنــاســاً قولُهـم وحديثـهـم * روى جـدُّنا عـن جبرئيلَ عن الباري

* * *

وأما الحديث الثاني: فهو لا يدل أيضاً على ما قاله، بل إن أقصى ما

____________________

(١) جواهر الكلام ٢٢/٦٠.

٣٧

يدل عليه الحديث أن أبا عبد الله عليه السلام كان يدعو بدعاء النبي إلياس عليه السلام.

أما أن هذا الدعاء كان مذكوراً في أحد الكتب السماوية، أو مما رواه الصادق عليه السلام عن آبائه الطاهرين عن النبي صلى الله عليه وآله أو غير ذلك، فهذا لم يتضح من الحديث.

وعلى كل الاحتمالات فلا دلالة في ذلك على الاستغناء عن كتاب الله العزيز، فإن مجرد الدعاء بمثل ما دعا به أحد الأنبياء عليهم السلام لا يدل على الرغبة عما جاء به النبي صلى الله عليه وآله كما هو واضح.

ولو سلمنا أن ما دعا به أبو عبد الله عليه السلام كان قد أخذه من أحد الكتب السماوية، فإن التحديث عن تلك الكتب التي لم تصل إليها يد التحريف ولا سيما في الدعاء وما شابهه جائز، وهو أولى من التحديث عن اليهود والنصارى الذي جوّزه علماء أهل السنَّة.

فقد أخـرج البخاري والترمذي وأحمد بن حنبل - واللفظ لهم - وأبو داود وغيرهم عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وآله قال: بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار(١) .

قال ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم، لأنه كان قد تقدم منه صلى الله عليه وآله الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك. وكأن النهي قد وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.

وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدِّثوا عن بني اسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوِّزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم(٢) .

وقال المناوي: « حدِّثوا عن بني إسرائيل » أي بلِّغوا عنهم قصصهم ومواعظهم

____________________

(١) صحيح البخاري ٤/٢٠٧ كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. سنن أبي داود ٣/٣٢٢. مسند أحمد بن حنبل ٢/١٥٩، ٢٠٢، ٤٧٤، ٥٠٢، ٣/٤٦. سنن الدارمي ١/١٣٦. سنن الترمذي ٥/٤٠. صحيح سنن أبي داود ٢/٦٩٧. صحيح الجامع الصغير ٢/٦٠٠. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٨/٥٠ - ٥١. الجامع الصغير ١/٥٧٠.

(٢) فتح الباري ٦/٣٨٨.

٣٨

ونحو ذلك مما اتَّضح معناه، فإن في ذلك عبرة لأولي الأبصار، « ولا حرج » عليكم في التحديث عنهم ولو بغير سند، لتعذِّره بطول الأمد، فيكفي غلبة الظن بأنه عنهم، إنما الحرج فيما لم يتَّضح معناه(١) .

وقول الجزائري: وكيف تجوز قراءة تلك الكتب المنسوخة المحرَّفة والرسول صلى الله عليه وآله يرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي يده ورقة من التوراة فينتهره قائلاً: ألم آتيكم بها بيضاء نقية؟!

جوابه: أن ما عند أئمة أهل البيت عليهم السلام من كتب الأنبياء السابقين لم تصل إليها يد التحريف كما مر، وحينئذ يجوز التحديث عنها وإن كانت منسوخة، ولا سيما فيما يتعلق بالدعاء والمواعظ ونحوهما.

وأما نهر النبي صلى الله عليه وآله لعمر فلعله كان في بداية الدعوة، ثم رُفع المنع منه لما استقرت الأحكام كما تقدم في كلام ابن حجر.

أو لعل النبي صلى الله عليه وآله علم أن عمر أراد أن يأخذ بما حوَتْه تلـك الورقـة من عقـائد فاسدة وأحكام باطلة أو منسوخة لا يجوز العمل بها، لا مثل الدعاء والمواعظ التي لا بأس بالنظر فيها.

أو أن النبي صلى الله عليه وآله خشي أن يُعنى المسلمون بما يجدونه بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، فيأخـذون ما لا يصح، ويعملون بما لا يجوز، فنهى عمرَ عن ذلك سدًّا لهذا الباب الذي يأتي منه الفساد.

وقوله: إن اعتقاد امرئ الاستغناء عن القرآن أو عن بعضه بأي حال من الأحوال هو ردة عن الإسلام ومروق منه.

جوابه: أنه لا نزاع بيننا في أنه لا يجوز لمسلم أن يهجر كتاب الله العزيز أو يعتقد الاستغناء عنه بغيره، وإنما الكلام في أن الشيعة الإمامية هل يعتقدون جواز الاستغناء عن القرآن بالتوراة والإنجيل كما زعم الجزائري أم لا؟

والذي أقوله: إن عقيدة الشيعة الإمامية في كتاب الله العزيز أشهر من أن نتكلف بيانها، أو نتجشَّم إيضاحها، إلا أنا نذكر شيئاً مما قاله بعض علمائنا الأعلام في

____________________

(١) فيض القدير ٣/٣٧٧.

٣٩

بيان عقيدة الإمامية في القرآن، قطعاً لشغب المشاغبين، وتشويش المشوِّشين، فنقول:

١- قال أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه المعروف بالصدوق (ت ٣٨١هـ): اعتقادنا في القرآن أنه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم، وأنه القصص الحق، وأنه لقول فصل وما هو بالهزل، وأن الله تبارك وتعالى محدِثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلم به(١) .

٢- وقال الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره: يعتقد الشيعة الإمامية... أن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه - يعني النبي صلى الله عليه وآله - للإعجاز والتحدّي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم(٢) .

٣- وقال الشيخ محمد رضا المظفر قدس سره: نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم، فيه تبيان لكل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما حوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلهم على غير هدى، فإنه كلام الله الذي( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) (٣) .

ومن الغريب أن الجزائري قد اختار هذين الحديثين، وزعم أنهما يدلان على أن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم قد استغنوا عن القرآن الكريم بالتوراة والإنجيل المحرَّفين، ليصل إلى النتيجة التي يريدها، وهي أن كل من اعتقد الاستغناء عن كتاب الله فهو كافر، والشيعة يعتقدون ذلك، فهم كفار مارقون من الدين، مرتدون عن الإسلام.

فأقدم على تكفير الشيعة بهذين الحديثين الضعيفين، اللذين حمَّلهما من المعاني ما لا يحتملانه، وأعرض عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي أخرجها الكليني في « الكافي » في فضل القرآن، وفضل قراءته والعمل به.

____________________

(١) عقائد الصدوق، ص٣٠.

(٢) أصل الشيعة وأصولها، ص١٣٢.

(٣) عقائد الإمامية، ص٩٥.

٤٠