• البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18304 / تحميل: 4376
الحجم الحجم الحجم
كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

مؤلف:
العربية

ومن راجع كتاب الكافي يجد أن الكليني رحمه الله جعل للقرآن كتاباً كاملاً، أسماه « كتاب فضل القرآن »، وذكر فيه ١٢٤ حديثاً، رتَّبها في أبواب مختلفة، منها:

- باب فضل حامل القرآن.

- باب من يتعلم القرآن بمشقة.

- باب من حفظ القرآن ثم نسيه.

- باب في قراءته.

- باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن.

- باب ثواب قراءة القرآن.

- باب قراءة القرآن في المصحف.

- باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن.

- باب فيمن يظهر الغشية عند قراءة القرآن.

- باب في كم يُقرأ القرآن ويُختم.

- باب في أن القرآن يُرفع كما أُنزل.

- باب فضل القرآن(١) .

فمما ورد في فضل العامل بالقرآن الحافظ له ما رواه الفضيل بن يسار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: الحافظ للقرآن العامل به مع السفَرة الكرام البررة(٢) .

ومما ورد في الحث على قراءته ما رواه حريز في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية(٣) .

ومما ورد في ثواب قراءته ما رواه الفضيل بن يسار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن، فتُكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيئات(٤) .

هذا مع أن الكليني رحمه الله قد روى في « الكافي » في باب الرد إلى الكتاب والسنة

____________________

(١) راجع الجزء الثاني من أصول الكافي من ص٥٩٦ إلى ص٦٣٤.

(٢) أصول الكافي ٢/٦٠٣.

(٣) المصدر السابق ٢/٦٠٩.

(٤) المصدر السابق ٢/٦١١.

٤١

ما يدل على أنه ليس شيء من الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس إلا وقد جاء في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله.

ومن ذلك صحيحة حمَّاد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة(١) .

وفي موثَّقة سماعة، عن أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: أّكُلُّ شيء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله؟ أو تقولون فيه؟ قـال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله(٢) .

وروى رحمه الله أيضاً في باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ما يدل على لزوم الأخذ بما وافق الكتاب من الأحاديث المروية، وطرح ما خالفه.

ومن ذلك صحيحة أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كـل شيء مـردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف(٣) .

وخبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى، فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافـق كتـاب الله فـأنا قلـته، وما جـاءكم يخـالف كتاب الله فلم أقله(٤) .

وهذا كله يدل على أن مَن يعتقد ذلك في كتاب الله العزيز لا يتّجه منه اعتقاد الاستغناء عن القرآن الكريم بغيره من كتب الأنبياء السابقين عليهم السلام وإن كانت غير محرفة.

والحاصل أن تمسُّك العترة النبوية الطاهرة وشيعتهم بكتاب الله المجيد واحتجاجهم به وتعويلهم عليه مما لا يخفى على أحد، وإنكار ذلك مكابرة ظاهرة وسفسطة واضحة.

____________________

(١) المصدر السابق ١/٥٩.

(٢) المصدر السابق ١/٦٢.

(٣) المصدر السابق ١/٦٩.

(٤) المصدر السابق ١/٦٩.

٤٢

كشف

الحقيقة الثانية

٤٣

٤٤

قال الجزائري:

الحقيقة الثانية

اعتقاد أن القرآن الكريم لم يجمعه ولم يحفظه أحد من أصحاب

النبي صلى الله عليه وآله إلا علي والأئمة من آل البيت

هذا الاعتقاد أثبتَه صاحب كتاب « الكافي » جازماً به مستدلاً عليه بقوله: عن جابر قال: سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادّعى أحد من الناس أنه جَمَع القرآن كله إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نُزِّل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.

وأقول:

أخرج الكليني رحمه الله طائفة من الأحاديث في باب « أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام، وأنهم يعلمون علمه كله »(١) ، ومنها الحديث الذي ذكره الجزائري في حقيقته هذه، وفي سنده عمرو بن أبي المقدام، وهو مختلف في وثاقته.

قال المولى المجلسي قدس سره: الحديث الأول [ في سنده ] مختلف فيه(٢) .

والذي يظهر من كلمات الأعلام أن الأكثر ذهب إلى تضعيفه(٣) .

وكيف كان فالرجل لم تثبت وثاقته بدليل معتمد، ولا سيما مع اضطراب كلام العلماء فيه، فإن ابن الغضائري وثَّقه في أحد قوليه، وضعَّفه في قوله الآخر، وذكره العلاّمة قدس سـره مرة في القسم الأول من خلاصته في الثقات، وذكره مرة ثانية في القسم

____________________

(١) أصول الكافي ١/٢٢٨.

(٢) مرآة العقول ٣/٣٠.

(٣) راجع تنقيح المقال ٢/٣٢٤، رجال العلامة، ص٢٤١.

٤٥

الثاني منها في الضعفاء(١) ، وكذلك صنع ابن داود في رجاله(٢) . وعليه فالرجل لا يُعتمد حديثه لجهالته.

وأما الحديث الثاني فقد رواه الكليني عن محمد بن الحسين، عن محمد بن الحسن، عن محمد بـن سنان، عن عمار بن مروان، عن المنخَّل، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأصياء.

وهذا الحديث ضعيف السند أيضاً، وحسبك أن من جملة رواته محمد بن سنان والمنخَّل.

أما محمد بن سنان فقد مرَّ بيان حاله، وأما المنخَّل فهو المنخل بن جميل الأسدي، وهو ضعيف جداً.

قال فيه النجاشي: ضعيف فاسد الرواية(٣) .

وقال ابن الغضائري: ضعيف، في مذهبه غلو(٤) .

وقال العلاّمة: كان كوفياً ضعيفاً، وفي مذهبه غلو وارتفاع. قال محمد بن مسعود: سألت علي بن الحسين عن المنخل بن جميل، فقال: هو لا شيء، متَّهم(٥) .

وقال المامقاني: كأن الكل متفقون على ضعفه(٦) .

وأما باقي أحاديث الباب فكلها تدل على أن الأئمة عليهم السلام عندهم علم الكتاب كله.

ومنها : رواية سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن مِن علْم ما أُوتينا تفسير القرآن وأحكامه، وعلم تغيير الزمان وحدثانه... ثم قال: ولو وجدنا أوعية أو مستراحاً لقلنا(٧) ، والله المستعان.

____________________

(١) رجال العلامة، ص١٢٠، ٢٤١.

(٢) راجع تنقيح المقال ٢/٣٢٤.

(٣) رجال النجاشي ٢/٣٧٢.

(٤) راجع تنقيح المقال ٣/٢٤٧.

(٥) رجال العلامة، ص٢٦١.

(٦) تنقيح المقال ٣/٢٤٧.

(٧) قال المجلسي في مرآة العقول ٣/٣٢ - ٣٣: « الأوعية » جمع وعاء... أي قلوباً كاتمة للأسرار حافظة لها، =

٤٦

ومنها: رواية عبد الأعلى مولى آل سام، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: والله إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره كأنه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عز وجل( فيه تبيان كل شيء ) .

ومنها : رواية عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وعندنا والله علم الكتاب كله.

ومنها: حسنة أو صحيحة بريد بن معاوية، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) (١) قال: إيانا عنى، وعليٌّ أوَّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله.

ومعرفة الأئمة عليهم السلام بعلم الكتاب لا كلام لنا فيه الآن، فإن الجزائري لم يذكره، فلنكتفِ بمناقشته فيما عَنْوَن به حقيقته، ومناقشته في دلالة الحديثين الأولين اللذين استخلص منهما حقيقته هذه، فنقول:

مناقشة الجزائري في دلالة الحديثين

قال: إن اعتقاداً كهذا - وهو عدم وجود مَن جمع القرآن وحفظه من المسلمين إلا الأئمة من آل البيت - اعتقاد فاسد وباطل، القصد منه عند واضعه هو تكفير المسلمين من غير آل البيت وشيعتهم، وكفى بذلك فساداً وباطلاً [ كذا ] وشراً.

أقول:

ليس المراد بجمع القرآن وحفظه من الحديثين هو جمع سوره وآياته في مصحف كما ظن الجزائري، بل المراد بجمعه أحد معنيين:

المعنى الاول : هو العلم بتفسيره ومعرفة ما فيه من أحكام ومعارف.

ويدل على ذلك قوله عليه السلام في الحديث الثاني: « ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء »، فإنه ظاهر فيما قلناه، وإلا لو كان

____________________

= « أو مستراحاً » أي من لم يكن قابلاً لفهم الأسرار وحفظها كما ينبغي، لكن لا يفشيها ولا يذيعها، ولا يترتب ضرر على اطلاعه عليها فتستريح النفس بذلك.

(١) سورة الرعد: ٤٣.

٤٧

المراد بجمع القرآن في الحديث جمع ألفاظه في مصحف لكان أكثر هذه الأمّة يدّعون أن عندهم جميع القرآن كلّه. أما ادّعاء العلم بالقرآن وفهم آياته ومعانيه الظاهرة والباطنة كما أنزلها الله سبحانه فهذا لم يقع من أحد من هذه الأمة إلا من أهل بيت النبوة عليهم السلام.

وقوله: « ظاهره وباطنه » يرشد إلى ذلك، فإن ظاهر القرآن وباطنه مرتبطان بمعانيه لا بألفاظه(١) ، وجمع الظاهر والباطن يعني الإحاطة بمعاني آيات الكتاب العزيز كلها، أو أن الظاهر هو لفظه، والباطن معناه، فيكون المعنى أنه لا يستطيع أحد أن يدَّعي أن عنده علماً بألفاظ القرآن ومعانيه كاملة إلا الأوصياء عليهم السلام.

ولو كان المراد بجمع القرآن جمع ألفاظه كاملة في مصحف لما صحَّ لنا أن نقول: « إن غير علي عليه السلام من أئمة أهل البيت عليهم السلام قد جَمَعه »، لأنه إذا كان علي علي السلام قد جمعه قبلهم، فكيف يتأتى لهم أن يجمعوا ما كان مجموعاً؟!

هذا مضافاً إلى أن الظاهر من أحاديث الباب أنها جاءت تؤكد حقيقة واحدة، هي أن أئمة أهل البيت عليهم السلام علموا تفسير القرآن وفهموا معانيه كلها، وعرفوا أحكامه كما أرادها الله سبحانه، وأن أحداً من هذه الأمة لا يستطيع أن يدّعي أنه يعلم ذلك إلا هُم. وأما مسألة جمع القرآن بالمعنى الذي ذكره الجزائري فلم يكن مراداً بالحديثين الأولين، ولم تحـمْ حوله باقي الأحـاديث الأُخـر المذكورة في هذا الباب.

المعنى الثاني: أن المراد بجمع القرآن كما أُنزل هو جمعه في مصحف رُتِّب فيه المنسوخ قبل الناسخ، والمكّي قبل المدني، والسابق نزولاً قبل اللاحق، وهكذا.

وجمع القرآن بهذا النحو لم يتأتَّ لأحد من هذه الأمّة إلا لعليٍّ بن أبي طالب علي السلام.

فقد أخرج ابن سعد وابن أبي داود وغيرهما عن محمد بن سيرين، قال: لمَّا توفي النبي صلى الله عليه وآله أبطأ عـلي عن بيعة أبي بكر، فلقيه أبو بكر فقال: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا، ولكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن. فزعموا أنه كتبه على تنزيله. فقال محمد: لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه العلم(٢) .

____________________

(١) الظاهر: ما ظهر معناه، والباطن: ما خفي تأويله.

(٢) الطبقات الكبرى ٢/٢٣٨، المصاحف ص١٦، وراجع تاريخ الخلفاء، ص١٧٣، الإتقان في علوم القرآن ١/١٢٧، كنز العمال ٢/٥٥٨، حلية الأولياء ١/٦٧، الفهرست لابن النديم، ص٤١.

٤٨

وقال السيوطي: وأخرجه ابن أشته في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين، وفيه أنه - يعني عليًّا عليه السلام - كتَب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وأن ابن سيرين قال: تطلَّبتُ ذلك الكتاب، وكتبتُ فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه(١) .

* * *

وقول الجزائري: « والقصد منه عند واضعه هو تكفير المسلمين من غير آل البيت وشيعتهم ».

يردّه أن القول بأن أهل البيت عليهم السلام جمعوا القرآن كله ظاهره وباطنه - أي علموا تفسيره وفهموا معانيه وأحكامه كما أرادها الله سبحانه، وأن غيرهم ليس كذلك - لا يلزم منه تكفير أحد من أهل القبلة، بل إن ذلك من تمام نعم الله على هذه الأمة أن جعل فيهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون.

بل حتى لو قلنا: إن المراد بجمع القرآن هنا هو جمع ألفاظه كما ظن الجزائري، فإن ذلك لا يستلزم تكفير أحد من المسلمين الذين تلقَّوا القرآن من غيرهم ناقصاً قد سقطت بعض آياته أو كلماته، لأنه يحتمل أن يكون الناقص مما لا يجب الاعتقاد به، ولا يضر جهله بجاهله، إذ ليس كل ما في القرآن يجب على كافة المسلمين أن يعرفوه ويعتقدوا به، وإلا كان واجباً على كل مسلم أن يكون جامعاً لعلوم القرآن وأحكامه، وعارفاً بمعانيه، ومعتقداً بمضامينه، وهذا لا يقول به أحد.

* * *

ثم إن الجزائري قد ذكر ما يستلزمه اعتقاد أن أهل البيت عليهم السلام هم الذين جمعوا ألفاظ القرآن كله دون غيرهم، وحيث إنَّا قد أوضحنا أن ما فهمه من معنى جمع القرآن غير صحيح، فإن اللوازم التي ذكرها لا نحتاج إلى تكلّف ردّها، إلا أنا سنذكرها مع ذلك لبيان فسادها في نفسها، فنقول:

قال: [ يلزم من ذلك ] تكذيب كل من ادّعى حفظ كتاب الله وجمعه في صدره أو

____________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١/١٢٧.

٤٩

في مصحفه كعثمان وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وغيرهم من مئات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.

والجواب:

لقد نص الحديث على كذب كل من ادَّعى العلم بأحكام القرآن وفهم معانيه الظاهرة والباطنة كما أرادها الله تعالى من غير أئمة أهل البيت عليهم السلام.

أما تكذيب من ادّعى حفظه عن ظهر قلب أو في مصحف فغير مراد بالحديث كما أوضحنا، بل إن حفظه بهذا المعنى لا يتَّجه إنكاره البتة، بسبب وقوعه من كثير من الناس حتى الصِّبْية الذين لم يبلغوا الحلم.

اللهم إلا إذا قلنا: إن مَن جمعه في مصحف أو حفظه لم يجمعه كما أُنـزل، أي مـرتباً على حسب النزول، بأنْ جَمَع المنسوخ منه قبل الناسخ، والمكي قبل المدني، والسابق نزولاً قبل اللاحق، فحينئذ يصح لنا أن نكذّب كل مَن ادّعى جمعه أو حفظه بهذا النحو.

ومن الواضح أن معرفة تفسير القرآن وفهم معانيه كما أرادها الله سبحانه لم تُدّعَ لأحد من علماء الصحابة وغيرهم إلا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

فقد أخرج أبو نعيم الأصفهاني وابن عساكر وغيرهما عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا له ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن(١) .

وكان أمير المؤمنين عليه السلام يخبر بذلك مراراً، كما أخرج ابن سعد وأبو نعيم وغيرهما عن علي عليه السلام أنه قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً صادقاً ناطقاً(٢) .

وأخرج ابن سعد وغيره عن علي عليه السلام، قال: سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل(٣) .

____________________

(١) حلية الأولياء ١/٦٥، ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق ٣/٣٢.

(٢) حلية الأولياء ١/٦٨، الطبقات الكبرى ٢/٣٣٨.

(٣) الطبقات الكبرى ٢/٣٣٨.

٥٠

قال الجزائري: [ ويلزم ] ضلال عامة المسلمين ما عدا شيعة آل البيت، وذلك أن من عمل ببعض القرآن دون البعض لا شك في كفره وضلاله، إذ من المحتمل أن يكون بعض القرآن الذي لم يحصل عليه المسلمون مشتملاً على العقائد والعبادات والآداب والأحكام.

وأقول:

لقد أوضحنا المراد بالحديث، ومعنى الحديث لا يستلزم ما ذكره من ضلال أو كفر عامة المسلمين، بل حتى لو كان معنى الحديث ما زعمه هو فلا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة تلقّى القرآن ناقصاً كما مرَّ آنفاً.

وقوله: « إن من عمل ببعض القرآن دون البعض لا شك في كفره وضلاله » غير صحيح، لأن مَن تلقى القرآن ناقصاً وعمل بما عنده من كتاب الله لا يجوز تكفيره ما لم ينكر شيئاً عُلِم بالضرورة أنه من الدين.

وقوله: « لأنه لم يعبد الله تعالى بكل ما شرع » غير صحيح، لأن ما يُفترض أنه سقط من القرآن يُحتمل أن لا يكون من الواجبات العبادية، وعلى فرض كونه منها فقد يكون موضَّحاً في السنّة النبوية الشريفة، ثم إن مَن لم يأتِ ببعض التكاليف لعذر كالجهل ونحوه لا يوصف بالكفر أو الضلال.

وقال: إذ من المحتمل أن يكون بعض القرآن الذي لم يحصل عليه المسلمون مشتملاً على العقائد والعبادات والآداب والأحكام.

وجوابه: أن احتمال ذلك لا يرفع احتمال عدمه، فلعل ما يُفترض أنه ساقط من القرآن هو من الآداب والسُنن، لا من الأصول التي يجب اعتقادها.

ولو سلّمنا بأن ما يفترض سقوطه من كتاب الله هو من العقائد التي يجب اعتقادها، فلا يلزم من ذلك الحكم بكفر أحد، إذ يُحتمَل أن تلك المعتقدات كانت موضّحة أيضاً في سنة النبي صلى الله عليه وآله المتواترة التي أخذ بها المسلمون وحفظوها.

* * *

قال: هذا الاعتقاد لازمه تكذيب الله في قوله( إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له

٥١

لحافظون ) وتكذيب الله تعالى كفر، وأي كفر.

وأقول:

إن الاعتقاد بأن الله سبحانه قد اختص أهل البيت عليهم السلام بفهم معاني القرآن الظاهرة والباطنة، ومعرفة أحكامه كلها، لا يستلزم تكذيباً لله تعالى ولا لنبيه صلى الله عليه وآله كما هو واضح.

بل حتى لو قلنا: إن القرآن الكريم لم يجمعه أحد من هذه الأمة كما أُنزل إلا أئمة أهل البيت عليهم السلام، فإن هذا القول لا ينافي الآية المباركة، لأن المحصَّل حينئذ أن الله سبحانه حفظ الذِّكْر بأئمة الحق عليهم السلام.

وإذا كان هذا الحديث الضعيف المروي في كتاب « الكافي » الدال على أن أهل البيت عليهم السلام جمعوا القرآن بالمعنى الذي بيَّنَّاه، يستلزم تكذيب قول الله تعالى( إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون ) ، فما بالك بالأحاديث الكثيرة التي رواها أهل السنة وصحَّحوها، التي تدل على سقوط كلمات بل آيات بل سوَر من القرآن الكريم؟!

ألا يدل ذلك على تكذيب الله عز وجل في حفظ كتابه العزيز، ولا سيّما أن أهل السنة لا يرون أن أحداً من هذه الأمة عنده قرآن غير هذا القرآن الذي هو في أيدي الناس.

وإذا أردت قارئي العزيز أن تطّلع على بعض تلك الأحاديث فإنّا نسوق لك شيئاً منها، ونقسِّم ما نورده لك إلى طوائف:

الطائفة الأولى: تدل على ذهاب سُوَر من كتاب الله.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم وغيره عن أبي الأسود، قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرَّاء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقرَّاؤهم، فاتلوه ولا يطولَنَّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنّا كنا نقرأ سورة، كنا نشبِّهها في الطول والشدة ببراءة، فأُنسيتها غير أني حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة كنا نشبّهها بإحدى المسبِّحات(١)

____________________

(١) هي السور التي افتتحت بسبحان وسبَّح ويسبِّح وسبِّح.

٥٢

فأُنسيتها، غير أني حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لمَ تقـولون مـا لا تفعلون، فتُكتب شهادةً في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة(١) .

الطائفة الثانية: تدل على نقصان سورة براءة والأحزاب.

ومن ذلك ما أخرجه الحاكم والهيثمي وغيرهما عن حذيفة رضي الله عنه، قال: ما تقرأون ربعها، وإنكم تسمُّونها سورة التوبة، وهي سورة العذاب(٢) .

وأخرج الحاكم وصحَّحه وأحمد - واللفظ له - والسيوطي والبيهقي والطيالسي وغيرهم، عن زر بن حبيش قال: قال لي أُبَي بن كعب: كائن تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كائن تعدُّها؟ قال: قلت: ثلاثاً وسبعين آية. فقال: قط؟ لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عليم حكيم(٣) .

وفي لفظ آخر له: قال: كم تقرأون سورة الأحزاب؟ قال: بضعاً وسبعين آية. قال: لقد قرأتُها مع رسول الله صلى الله عليه وآله مثل البقرة أو أكثر، وإن فيها آية الرجم(٤) .

الطائفة الثالث: تدل على ذهاب آيات من القرآن، منها:

١ - آية الرجْم: أخرج البخاري ومسلم - واللفظ له - والترمذي وأبو داود وابن ماجة ومالك وأحمد والحاكم والبيهقي والهيثمي وغيرهم، عن عبد الله بن عباس، قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجْم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجَم رسول الله ورجَمْنا بعـده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: « ما نجد الرجم في كتاب الله » فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله...(٥)

____________________

(١) صحيح مسلم ٢/٧٢٦ كتاب الزكوة، باب (٣٩) لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً.

(٢) المستدرك ٢/٣٣١. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. مجمع الزوائد ٧/٢٨. وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. الدر المنثور ٤/١٢٠.

(٣) المستدرك ٤/٣٥٩ وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. مسند أحمد ٥/١٣٢. السنن الكبرى ٨/٢١١. كنز العمال ٢/٤٨٠. مسند أبي داود الطيالسي، ص٧٣. الدر المنثور ٦/٥٥٨ عن عبدالرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن منيع والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والدار قطني في الأفراد والحاكم وابن مردويه والضياء في المختارة.

(٤) مسند أحمد ٥/١٣٢.

(٥) صحيح البخاري ٨/٢٠٨ - ٢٠٩ كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا =

٥٣

وفي رواية أبي داود، قال: وأيم الله لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتُها(١) .

وفي رواية الموطأ، قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، يقول قـائل: « لا نجد حدَّين في كتاب الله »، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وآله ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا يقول الناس: « زاد عمر في كتاب الله » لكتبتها: « الشيخ والشيخة فارجموهما البتة » فإنا قد قرأناها(٢) .

وأخرج الحاكم عن أبي أمامة أن خالته أخبرته، قالت: لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وآله آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة(٣) .

٢ - آية ثانية: ورد ذكرها في حديث طويل أخرجه البخاري عن ابن عباس، أن عمر قال: ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: « أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم »(٤) .

٣ - آية ثالثة: تقدم ذكرها في الطائفة الأولى، وهي قوله: « لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ».

وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى عمر رحمه الله يسأله، فجعل عمر ينظر إلى رأسه مرة وإلى رجليه أخرى، هل يرى عليه من البؤس، ثم قال له عمر: كم مالك؟ قال: أربعون من الإبل. قال ابن عباس: قلت: صدق الله ورسوله: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تـاب. فقال عمر: مـا هذا؟ قلت: هكذا أقرأنيها أُبيّ. قال: فمُرْ بنا إليه. قال: فجاء إلى أُبي، فقال: ما يقول هذا؟ قال أُبي: هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: أفأثبتُها في المصحف؟ قال: نعم(٥) .

____________________

= إذا أحصنت. صحيح مسلم ٣/١٣١٧ كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنا. سنن الترمذي ٤/٣٨ - ٣٩. سنن أبي داود ٤/١٤٤ - ١٤٥. سنن ابن ماجة ٢/٣٥٩. الموطأ، ص٤٥٨ حديث ١٥٠١، المستدرك ٤/٣٥٩ وصححه ووافقه الذهبي. السنن الكبرى ٨/٢١٢ - ٢١٣. مجمع الزوائد ٦/٥ - ٦.

(١) سنن أبي داود ٤/١٤٤ - ١٤٥ وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٣/٨٣٥ وإرواء الغليل ٨/٣. قال الزركشي في « البرهان في علوم القرآن » ٢/٣٦: ظاهر قوله: « لولا أن يقول الناس... الخ » أن كتابتها جائزة لزم أن تكون ثابتة، لأن هذا شأن المكتوب.

(٢) الموطأ، ص٤٥٨.

(٣) المستدرك ٤/٣٥٩ وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة. ووافقه الذهبي.

(٤) صحيح البخاري ٨/٢١٠ كتاب المحاربين أهل من الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.

(٥) عن مجمع الزوائد ٧/١٤١ وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

٥٤

وأخرج الترمذي - واللفظ له - وأحمد والطيالسي والحاكم والسيوطي والهيثمي وغيرهم عن أُبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: إن الله أمرني أن أقرأ عليك. فقرأ عليه:( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ) ، فقرأ فيها: إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة، لا اليهودية ولا النصرانية، مَن يعمل خيراً فلن يكفره. وقرأ عليه: ولو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثـانياً، ولو كـان له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب(١) .

الطائفة الرابعة: تدل على سقوط كلمات من بعض آيات القرآن أو زيادتها.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري أن أبا الدرداء سأل علقمة (راوي الحديث)، قال: كيف كان عبد الله(٢) يقرأ( والليل إذا يغشى * والنـهار إذا تجلى ) (٣) . قلت:( والذكر والأنثى ) . قال: ما زال بي هؤلاء حتى كادوا يستزلوني عن شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله(٤) .

وفي رواية أخرى: فقرأت( والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * والذكر والأنثى ) . قال: أقرأنيها النبي صلى الله عليه وآله فاه إلى فيَّ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يَردُّوني(٥) .

ومنه ما أخرجه الحاكم وغيره عن علي رضي الله عنه، أنه قرأ: والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر(٦) .

وأخرج مسلم وغيره عن أبي يونس مولى عائشة، أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغتَ هذه الآية فآذنِّي:( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) (٧) . فلما بلغتُها آذنتُها، فأملَتْ عليَّ: حافظوا على الصلوات

____________________

(١) سنن الترمذي ٥/٦٦٥، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. مسند أحمد ٥/١٣٢. مسند أبي داود الطيالسي، ص٧٣. المستدرك ٢/٢٢٤، ٥٣١، وقال الحاكم في الموضعين: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. مجمع الزوائد ٧/١٤٠. الدر المنثور ٨/٥٨٦ - ٥٨٨. تفسير القرآن العظيم ٤/٥٣٦.

(٢) يعني ابن مسعود.

(٣) سورة الليل: ١، ٢.

(٤) صحيح البخاري ٥/٣١ كتاب فضائل أصحاب النبي (ص)، باب مناقب عمار وحذيفة رضي الله عنهما.

(٥) المصدر السابق ٥/٣٥ كتاب فضائل أصحاب النبي (ص)، باب مناقب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

(٦) المستدرك ٢/٥٣٤ وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. الدر المنثور ٨/٦٢١. تفسير الطبري ٣٠/١٨٧ وزاد: وإنه فيه: إلى آخر الدهر.

(٧) سورة البقرة: ٢٣٨.

٥٥

والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله(١) .

الطائفة الخامسة : تدل على أن المعوذتين ليستا من القرآن.

ومن ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، عن عبد الرحمن بن يزيد، قـال: كان عبد الله - يعني ابن مسعود - يَحُكّ المعوذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله(٢) .

قال السيوطي: أخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طُرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود أنه كان يَحُك المعوذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه، إنهما ليستا من كتاب الله، إنما أُمر النبي صلى الله عليه وآله أن يتعوذ بهما، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما(٣) .

هذا مع أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: مَن أحبّ أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد(٤) - يعني ابن مسعود.

ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام كل عام مرة، فلما العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكان آخر القراءة قراءة عبد الله(٥) .

ورووا عن مسروق أنه قال: ذُكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذلك رجل لا أزال أُحبه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود - فبدأ به - وسالم مولى أبي حذيفة ومعاد بن جبل وأُبي بن كعب(٦) .

____________________

(١) صحيح مسلم ١/٤٣٧ كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب رقم ٣٦. سنن الترمذي ٥/٢١٧. سنن النسائي ١/٢٣٦. سنن أبي داود ١/١١٢.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٥/ ١٢٩ - ١٣٠. وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧/١٤٩ وقال: رواه عبدالله بن أحمد والطبراني، ورجال عبدالله رجال صحيح، ورجال الطبراني ثقات.

(٣) الدر المنثور ٨/٦٨٣. وراجع مجمع الزوائد ٧/١٤٩. قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات.

(٤) سنن ابن ماجة ١/٤٩. مسند أحمد ١/٧، ٢٦، ٣٨، ٤٤٥، ٤٥٤. المستدرك ٣/٢٢٧، ٣١٨ وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. مجمع الزوائد ٩/٢٨٧ أخرجه بطرق رجاله بعضها ثقات. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١/٢٩ وسلسلة الأحاديث الصحيحة ٥/٣٧٩.

(٥) مجمع الزوائد ٩/٢٨٨ قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح.

(٦) صحيح البخاري ٥/٤٥ باب مناقب أبي بن كعب، ص٣٤ باب مناقب بن مسعود. صحيح مسلم ٤/١٩١٣ كتاب فضائل الصحابة، باب ٢٢. سنن الترمذي ٥/٦٧٤. المستدرك ٣/٢٢٥، ٥٢٧.

٥٦

قال الفخر الرازي: إن قلنا إن كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرهما، وإن قلنا إن كونهما من القـرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر.

قال: وهذا عقدة عصبة(١) .

هذا غيض من فيض، ولو شئنا أن نذكر كل ما وقفنا عليه من هذه الأحاديث لطال بنا المقام، وخرجنا عن موضوع الكتاب.

وهنا نسأل الجزائري: ألا تدل هذه الأحاديث الصحيحة على تكذيب قول الله تعالى( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ؟

فإن أجاب: بأن هذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن من آيات القرآن الكريم ما نُسخت تلاوته، بمعنى أن آية الرجم وغيرها كانت مما أُنزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله، إلا أنها نُسخت، فأمر النبي صلى الله عليه وآله بإزالتها من المصاحف ونهى عن التعبد بتلاوتها.

قلنا له: إن ظاهر كثير من الأحاديث يدفع هذا التخريج، فإن قول عمر: « لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها » دال - كما تقدّم عن الزركشي - على أن هذه الآية كانت ثابتة في كتاب الله، إلا أن خوف عمر من الناس منعه عن كتابتها في المصحف.

كما أن جواب أُبيّ بن كعب بـ « نعم »، لما سأله عمر عن إثبات « لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » في المصحف، دال بوضوح على أنها من القرآن، ولم تُنسخ تلاوتها، وإلا لما جاز إثباتها في المصحف.

وقول أبي الدرداء: « ما زال بي هؤلاء حتى كادوا يستزلّوني عن شيء سمعته من رسول الله » ظاهر في أن( وما خلق الذكر والأنثى ) ليست من القرآن المنزل على النبي، وإنما هو شيء أثبته القوم من عند أنفسهم.

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالة على ما قلناه.

هذا مضافاً إلى أن هناك أحاديث أُخر تصرِّح بأن التحريف وقع بعد زمان

____________________

(١) فتح الباري ٨/٦٠٤.

٥٧

النبي صلى الله عليه وآله:

منها : ما أخرجه مسلم ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وغيرهم عن عائشة، أنها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن « عَشر رضعات معلومات يُحرِّمن » ثم نُسخن بـ « خمس معلومات »، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وهن فيما يُقرأ من القرآن(١) .

ومنها : ما أخرجه ابن ماجة وأحمد والدارقطني وغيرهم عن عائشة، قالت: لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً. ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وتشاغلنا بموته دخَل داجن(٢) فأكلها(٣) .

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يُقْدَر منها إلا على ما هو الآن(٤) .

وأخرج عن حميدة بنت أبي يونس، قالت: قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة « إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصَلّون في الصفوف الأُوَل ». قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف(٥) .

وعن ابن عمر، قال: لَيقولنَّ أحدكم: « قد أخذتُ القرآن كلّه »، وما يدريه ما كلّه، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقُل: قد أخذتُ منه ما ظهر(٦) .

وثانياً: أن ما ذكروه من آية الرجم وغيرها لا يشبه أُسلوبها الأُسلوب القرآني ولا يدانيه، بل هو كلام ألفاظه ركيكة، ومعانيه ضعيفة، لا يصح نسبة مثله إلى الله جل

____________________

(١) صحيح مسلم ٢/١٠٧٥ كتاب الرضاع، باب ٦. الموطأ، ص٣٢٤ كتاب الرضاعة، باب ٣. سنن الترمذي ٣/٤٥٦. سنن أبي داود ٢/٢٢٣ - ٢٢٤. سنن النسائي ٦/١٠٠. صحيح سنن أبي داود ٢/٣٨٩. صحيح سنن النسائي ٢/٦٩٦. إرواء الغليل ٧/٢١٨. سنن الدارمي ٢/١٥٧. السنن الكبرى ٧/٤٥٤. كتاب الأم ٥/٢٦.

(٢) الداجن: هي الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، وقد يطلق على غير الشاة مما يألف البيوت كالطير وغيرها.

(٣) سنن ابن ماجة ١/٦٢٥ - ٦٢٦. مسند أحمد ٦/٢٦٩. سنن الدارقطني ٤/١٧٩. الدر المنثور ٢/٤٧١ في تفسيره الآية ٢٣ من سورة النساء. صحيح سنن ابن ماجة ١/٣٢٨.

(٤) الدر المنثور ٦/٥٦٠. الإتقان في علوم القرآن ٢/٥٢ - ٥٣.

(٥) الإتقان في علوك القرآن ٢/٥٣.

(٦) المصدر السابق ٢/٥٢.

٥٨

شأنه.

والحاصل أن دلالة هذه الأحاديث على التحريف ثابتة، لا تندفع بما قالوه من نسخ التلاوة وغيره من الوجوه التي لا يخفى ضعفها.

* * *

قال الجزائري:هل يجوز لأهل البيت أن يستأثروا بكتاب الله تعالى وحدهم دون المسلمين إلا من شاؤوا من شيعتهم؟!

أقول:

أما كتاب الله العزيز فهو بين أيدي المسلمين، لم يرفعه الله تعالى منذ أن أنزله على نبيه الكريم صلى الله عليه وآله. وأما فهم معانيه الظاهرة والباطنه ومعرفة أحكامه فهو مما اختص الله به أئمة أهل البيت عليهم السلام.

وأهل البيت عليهم السلام لم يألوا جهداً في هداية الناس وإرشادهم والنصح لهم، إلا أن كثيراً من الناس أعرضوا عنهم ورغبوا عما عندهم، وقدموا غيرهم عليهم.

وقوله: « أليس هذا احتكاراً لرحمة الله واغتصاباً لها، يُنَزَّه أهل البيت عنه » كلام ركيك المعنى، إذ كيف يتحقق احتكار الرحمة واغتصابها حتى يُنزَّه أهل البيت عليهم السلام عنها؟!

إن رحمة الله سبحانه واسعة كما قال الله في كتابه العزيز( ورحمتي وسعت كل شيء ) (١) ، إلا أنه تعالى قد يختص بعض عباده برحمة منه كما قال( والله يختص برحمته من يشـاء والله ذو الفضل العظيم ) (٢) ، وقال( نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) (٣) .

وفهْم أهل البيت عليهم السلام معاني القرآن ومعرفة أحكامه رحمة اختصهم الله سبحانه وتعالى بها فيما اختصّهم به، وهذا لا محذور فيه.

____________________

(١) سورة الاعراف، الآية ١٥٦.

(٢) سورة البقرة، الآية ١٠٥.

(٣) سورة يوسف، الآية ٥٦.

٥٩

قال: اللهم إنا لنعلم أن آل بيت رسولك بُرَآء من هذا الكذب، فالعن اللهم من كذب عليهم وافترى.

أقول:

لقد أوضحنا فيما تقدم أنا لم نقُل إن كل إمام من أئمة العترة النبوية الطاهرة جمع ألفاظ القرآن الكريم في مصحف، فإنا قد بيَّنا فساده.

بل الذي ذهب إليه مَن وقفنا على قوله من علماء الشيعة الأبرار أن القرآن كان مجموعاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله غير متفرق.

فقد ذكر أمين الإسلام الطبرسي رضوان الله عليه (ت ٥٤٨هـ) ما أفاده السيد المرتضى رحمه الله في هذه المسألة إذ قال:

وذكر [ في أجوبة المسائل الطرابلسيات ] أيضاً أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله مجموعاً مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يُدرَس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه كان يُعرَض على النبي صلى الله عليه وآله ويُتلَى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأُبَي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتَّباً غير مبتور ولا مبثوث. وذكَر أن مَن خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يُعتَد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحَّتها، لا يُرجَع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته(١) .

وقال السيد شرف الدين قدس سره: إن القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوة، مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن، وقد عرَضه الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله وتَلَوه عليه من أوله إلى آخره، وكان جبرئيل عليه السلام يعارضه صلى الله عليه وآله بالقرآن في كل عام مرة، وقد عارضه به عام وفاته مرتين، وهذا كله من الأمور الضرورية لدى المحقّقين من علماء الإمامية، ولا عبرة ببعض الجامدين منهم، كما لا عبرة بالحشوية من أهل السنة القائلين بتحريف القرآن والعياذ بالله، فإنهم لا يفقهون(٢) .

____________________

(١) مجمع البيان ١/١٥.

(٢) أجوبة مسائل جار الله، ص٣٠.

٦٠