التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي0%

التقية في الفكر الاسلامي مؤلف:
المحقق: مركز الرسالة
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 169

التقية في الفكر الاسلامي

مؤلف: السيد ثامر هاشم العميدي
المحقق: مركز الرسالة
تصنيف:

الصفحات: 169
المشاهدات: 31453
تحميل: 8160

توضيحات:

التقية في الفكر الاسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 169 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31453 / تحميل: 8160
الحجم الحجم الحجم
التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي

مؤلف:
العربية

الفقهية المعبرة عن يسر هذا الدين العظيم وروحه السمحة ، ومن بين تلك القواعد الفقهية المتفق عليها ، قاعدة الضرر يُزال ، وقاعدةالضرورات تبيح المحظورات ، وغيرهما من القواعد الفقهية المتفرعة عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار )(1) وقد استمدوا هاتين القاعدتين من أُصول التشريع الإسلامي : قرآناً وسُنّة.

والسؤال المهم هنا ، هو : هل أنّ الشريعة الإسلامية أباحت للمُكْرَهِ أو المضطر كل محرم مهما كان بسبب ذلك الإكراه أو الاضطرار.

وبعبارة أُخرى : هل أن حديث الرفع المشهور عند جميع المذاهب الإسلامية(2) يجري على كل اكراه ، أو أنّ له حدوداً ثابتة لا يمكن تجاوزها بحال؟

والواقع ، إن الإجابة المفصلة على هذا التساؤل المهم جداً في بيان حكم ما يُكرَه عليه ، لا يمكن أن تتم ما لم يُعرَف قبل ذلك نوع الضرر المهدد به المكرَه ، مع معرفة الآثار السلبية الناجمة عن تنفيذ المكرَه للنطق أو الفعل الذي أُكْرِه عليه.

بمعنى ، ان تكون هناك معرفة بحجم الضرر المهدد به المُكْرَه ، مع معرفة المحرّم الذي يراد تنفيذه كرهاً؛ لكي تجري عملية موازنة بين الضررين ، حتى يرتكب أخفهما حرمة في الشريعة.

وفي المسألة صور كثيرة جداً ، إذ قد يكون الإكراه ، على قتل مسلم ، أو

__________________

(1) اُنظر : الأشباه والنظائر / السيوطي : 173 القاعدة الرابعة ، طبعة دار الكتاب العربي.

واُنظر قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني 1 : 158.

(2) سيأتي ذكر الحديث في أدّلة التقيّة من السُنّة النبوية.

٢١

زنا ، أو قطع بعض الأطراف ، أو شرب خمر ، أو قذف مؤمن ، أو شهادة زور ، أو سرقة مال ، ونحوها.

وقد يكون التهديد والوعيد ، بالقتل ، أو التعذيب ، أو السجن ، أو النفي ، أو الإهانة ، أو التشهير ، أو الغرامة المالية ، أو هتك العرض ، أو تهديم الدار ، أو الفصل من الوظيفة ، وغيرها.

وهذه الصور الكثيرة يمكن جمعها في ثلاث صور لا رابع لها وهي :الصورة الاُولى : ان يكون الضرر المهدد به المُكْرَه تافهاً وحقيراً ، بينما يكون المحرّم المراد ارتكابه عظيماً وجسيماً.

الصورة الثانية : عكس الاُولى.

الصورة الثالثة : يتساوى فيها الضرران.

وهذا مع قربه من الإجابة على التساؤل السابق إلاّ إنّه لا يكفي في ذلك؛ لوجود جوانب أُخر ذات صلة وثقى بتحديد الجواب ، ويأتي في مقدمتها ، اختلاف الناس وتفاوت رتبهم ودرجاتهم ، فالإمام ليس كالمأموم ، والرئيس يختلف عن المرؤوس ، والعالم ليس كالجاهل ، والفقيه ليس كالمقلد ، والنابه الذكي ليس كالخامل الغبي.

ولاشك ان هذا الاختلاف في رتب الناس ودرجاتهم يؤثر سلباً أو إيجاباً في تقدير موقف المكرَه نفسه أولاً ، مع تأثيره المباشر أيضاً في تقدير الأفعال أو الأقوال المطلوبة منه ثانياً ، وفي تقدير الاُمور المخوف بها ثالثاً.

إذ قد (يكون الشيء اكراهاً في شيء دون غيره ، وفي حق شخص دون

٢٢

آخر)(1) .

فقد يرى بعضهم في نوع الضرر المهدد به ما يبرر له ارتكاب المحرم؛ لأجل التخلص من ذلك الضرر بأية وسيلة.

ويرى الآخر في ارتكاب المحرم البسيط عند الالجاء القهري إليه خطراً جسيماً على العقيدة الإسلامية برمتها ، بناء على موقعه الديني الرفيع مثلاً ، فتراه يقدم على التضحية بكل غالٍ ونفيس ولا يتقي من أحد.

هذا زيادة على أن الاختلاف المذكور له تأثيره المباشر في مسألة التخلص من التقيّة باستخدام التورية ، فيخدع بها المُكرِه ويخلّص نفسه بها من شرّه.

دور القواعد الفقهية في بيان حكم ما يُكرَه عليه :

حاول الفقهاء ان يجدوا الإجابة العامّة الشافية للتساؤل السابق من خلال قواعدهم الفقهية المسلّمة الصحة الخاصة بالضرر وكيفية التعامل معه وازالته ، وسوف نشير إلى أهم تلك القواعد على النحو الآتي :

أوّلاً ـ قاعدة يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما :

صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة :

تصب هذه القاعدة في رافد الإجابة على التساؤل السابق حول حديث الرفع؛ لأنّها تفيدنا في معرفة حكم ما يكره عليه الإنسان ، وقد مرّ ورود لفظ (الإكراه) في الحديث صراحة.

__________________

(1) الأشباه والنظائر / السيوطي : 370.

٢٣

ويتوقف هذا على بيان صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة ، إذ قد يقع الإنسان بين ضررين وهو مضطر إلى أحدهما ، فيرتكب أخفهما لدفع أعظمهما بموجب القاعدة وحينئذ لا إكراه في المقام ولا تقية من أحد!!

ولكن القاعدة لم توضع لأجل هذا فحسب ، بل هي عامة تنطبق على موارد الضرر كافة ومن بينها الضرر الناتج بفعل الإكراه الذي لا خلاص منه إلاّ بالتقيّة شأنها بذلك شأن القواعد الفقهية الاُخرى الآتية الخاصة بالضرر.

وتوضيح ذلك يتم من خلال معرفة أقسام الضرر ، كالآتي :

أقسام الضرر تبعا لأسبابه :

يقسم الضرر تبعا للأسباب المؤدّية إلى حصوله إلى ثلاثة أقسام ، وهي :

1 ـ الضرر الناتج من نفس المتضرر ، وهو ما يعبر عنه بالضرر الحاصل من سوء الاختيار كموارد تعجيز الإنسان نفسه مثلاً.

2 ـ الضرر الناتج بفعل العامل الطبيعي كالزلازل ونحوها.

3 ـ الضرر الناتج من شخص آخر ، ويعبر عن الضررين الأخيرين بالضرر الحاصل من غير سوء الاختيار.

ومن الواضح ان الإكراه لا يكون إلاّ من الغير كما تقدم في أركانه ، وهذا يعني صلة الضرر الأخير بالإكراه إذا كان من ظالم؛ لأنّ الضرر الحاصل من الغير قد يكون بإكراه وقد لا يكون. على أن بعض فقهائنا الأعلام أدخل موارد التقيّة حتى في الضرر الناتج عن سوء الاختيار ، كما نجده صريحاً في تقريرات بحث السيد الخوئي الأصولية(1) ، إذ ورد فيها القول بصحة تعجيز الإنسان نفسه في موارد التقيّة. وبما ان القاعدة لم تختص بمورد ضرري معين كما هو حال القواعد الفقهية الاُخرى ، بل ناظرة إلى مطلق الضرر

__________________

(1) محاضرات في اصول الفقه / محمد اسحاق الفياض 4 : 243 ، مبحث الأجزاء ، في مسألة حكم الأضرار بسوء الاختيار.

٢٤

فتكون صلتها بالإكراه والتقيّة واضحة جداً.

وهذه القاعدة الفقهية لا خلاف في صحتها عند جميع الفقهاء ، وهي منسجمة تماماً مع روح التشريع الإسلامي ومرونته ، وجارية على وفق مقتضيات العقل السليم ، فهي على ما يقول السيد الخوئيقدس‌سره : (من القضايا التي قياساتها معها ، فلا تحتاج إلى برهان أو مؤنة الاستدلال)(1) .

وفيها يقول الندوي : (إذا اجتمع للمضطر محرّمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة ، وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضرراً ، لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح)(2) .

وقال الزيلعي : (الأصل في جنس هذه المسائل : إنّ من ابتُلِيَ ببليّتين ، وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء ، وإن اختلفتا يختار أهونهما؛ لأنَّ مباشرة الحرام لا تجوز إلاّ للضرورة ، ولا ضرورة في حق الزيادة)(3) .

وفي هذا الصدد ، يقول الغزالي : (وارتكاب أهون الضررين يصير واجباً بالإضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجباً في حق من غص بلقمة أي : ولم يجد ماءً ، وتناول طعام الغير واجباً على المضطر في المخمصة ، وإفساد مال الغير ليس حراماً لعينه ، ولذلك لو اُكْرِه عليه بالقتل وجب أو جاز)(4) .

وقد صيغت هذه القاعدة بألفاظ أُخرى في كتب القواعد الفقهية وغيرها ، ومن تلك الصياغات ما تجده في شرح القواعد الفقهية إذ وردت

__________________

(1) اُنظر : مصباح الاُصول2 : 562 في التنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر ، المسألة الاُولى.

(2) القواعد الفقهية / علي أحمد الندوي : 225 ، دار القلم ، دمشق / 1412 هـ ، وأشار في هامشه إلى قواعد ابن رجب الحنبلي : 246 القاعدة رقم 112.

(3) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : 89.

(4) المستصفى / الغزالي 1 : 89 دار الكتب العلمية / 1403 هـ.

٢٥

بهذه الصيغة : (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما)(1) وهي نفسها عند ابن نجيم الحنفي(2) ونظيرها عند آخرين(3) .

هذا ، وقد فرّع فقهاء العامّة على هذه القاعدة جملة من الفروع ، نذكر منها ما ذكره الشيخ الزرقا من فروع هذه القاعدة وهي :

أ ـ تجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على انكاره ضرر أعظم.

ب ـ تجوز طاعة الأمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شرّ أعظم(4) .

ثانيا ـ قاعدة الضرورات تقدّر بقدرها :

صلة القاعدة بالاكراه والتقيّة :

إنّ من أوجه الاتفاق بين الضرورة والاكراه ـ كما سيأتي ـ هو ان مفهوم الضرورة العام يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور ، وعليه سيكون الاكراه داخلاً بهذا المفهوم العام.

واذا اتضحت صلة الضرورة بالاكراه اتضحت صلتها بالتقيّة أيضاً على أن في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ما يؤكد هذه الصلة أيضاً.

ففي حديث الإمام الباقرعليه‌السلام : «التقيّة في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به »(5) .

__________________

(1) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : 201 القاعدة رقم 28 ، ط2 ، دار القلم ، دمشق / 1409 هـ.

(2) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : 89.

(3) كالغزالي في إحياء علوم الدين 3 : 138 ، والقرافي المالكي في الفروق 4 : 236 (الفرق الرابع والستون والمائتان). والفرغاني الحنفي في فتاوى قاضيخان 3 : 485 ، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.

(4) شرح القواعد الفقهية : 201 في شرح القاعدة رقم 28.

(5) اُصول الكافي 2 : 219 / 13 باب التقيّة ، من كتاب الإيمان والكفر.

٢٦

وما تعنيه هذه القاعدة ، هو أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات إنّما يرخّص منه القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب ، فإذا اضطر الإنسان لمحظور لأي سبب مسوّغ كالاكراه ، أو المخمصة ونحوهما ، فليس له أن يتوسع في المحظور ، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط.

ومن ثمرات هذه القاعدة كما صرّح به الشيخ الزرقا : «إنّه من أُكْرِهَ على اليمين الكاذبة فإنّه يُباح له الإقدام على التلفظ مع وجوب التورية والتعريض فيها إنْ خطرت على باله التورية والتعريض»(1) .

وهناك قواعد أُخرى تصب في هذا الاتجاه أيضاً ، سنكتفي بذكرها دون شرحها لأجل الاختصار ، وهي :

ثالثا ـ قاعدة الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف :

وقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى أبعد من هذه القاعدة في حال التقيّة ، إذ جوّز التقيّة للمكره في صورة إزالة الضرر عن نفسه حتى مع كون الضرر على الغير أشد ما لم يصل إلى حد القتل ، فقال في حديثه عن قاعدة لاضرر الآتية : (اتفقوا على أنه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون القتل ، لأجل دفع الضرر عن نفسه ، ولو كان أقل من ضرر الغير)(2) .

وهذا مالم يوافقه عليه جملة من كبار الفقهاء المعاصرين آخذين بهذه القاعدة(3) .

رابعا ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار :

وفي هذه القاعدة قسّم السيد الخوئيقدس‌سره ، والسيد السيستاني الضرر إلى

__________________

(1) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : 188 في شرح القاعدة رقم 21.

(2) رسائل الشيخ الأنصاري : 298 ، في آخر البحث عن أصل الاشتغال.

(3) القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي 1 : 89 في قاعدة التقيّة. واُنظر : مصباح الاُصول (تقريراً لبحث السيد الخوئي) 2 : 562 ، والتنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر.

٢٧

أنواعه المتقدمة مع بيانهما وأسبابه التي ذكرناها سابقاً ، ومن مراجعتها تعلم صلة هذه القاعدة بالتقيّة فضلاً عن اتفاقهم على ادخال الضرر الناتج عن اكراه في موجب هذه القاعدة.

خامسا ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات :

وهذه القاعدة متفرعة عن قاعدة لا ضرر المتقدمة كما نجده في قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني وغيره ، ومن أوضح تطبيقاتها عندهم جواز التلفظ بكلمة الكفر في حال الاكراه عليها(1) .

ولا يخفى بان ما جوّزوه لا يكون إلاّ في حال التقيّة ، وهذا هو معنى صلة القاعدة بموضوع البحث ، وهو التقيّة ، على أن الشيخ الانصاري صرّح في بحث التقيّة بما يفيد المقام جداً وسوف نذكر نص كلامه في الحديث عن صلة حديث الرفع بالتقيّة ، فلاحظ.

وبما أنّ صلة هذه القواعد بالتقيّة صلة وثيقة جداً ، بل هي صلة الضرورة بالاكراه ، ومن هنا لا بدّ من التعرض للعلاقة القائمة بين الضرورة والاكراه ، تحت عنوان :

الفرق والاتفاق بين الضرورة والاكراه :

أولاً ـ الفرق بين الضرورة والاكراه :

ونكتفي هنا بفارقين مهمّين وهما :

الفرق الأوّل ـ اختلافهما في المسبب :

وذلك أن في الاكراه يُدفع المُكرَه إلى إتيان المحظور من قبل شخص آخر بقوة الاكراه.

وأما في الضرورة فلا يدفع المرء إلى ارتكاب المحظور أحد ، وإنما

__________________

(1) قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني 1 : 158. والأشباه والنظائر / السيوطي : 92 93.

٢٨

يكون المرء المضطر في ظرف خاص صعب يقتضي الخروج منه ارتكاب المحظور؛ لكي ينقذ نفسه أو عائلته من الهلاك المحتم ، كالاضطرار إلى أكل لحم الميتة في حالة الجوع الشديد مع عدم وجود ما يؤكل غيره.

الفرق الثاني ـ اختلافهما في الحكم :

ويتّضح هذا الفرق من خلال معرفتنا بأنّ امتناع المكرَه عن تنفيذ ما أُكرِه عليه قد يكون في بعض صور الإكراه واجباً عليه كما في الإكراه على القتل مثلاً.

وأما في حالة الاضطرار إلى ارتكاب المحرم لسد الرمق بعد الوقوع في مخمصة فالامتناع عنه حرام يعاقب عليه.

ثانياً : الاتفاق بين الضرورة والإكراه :

يمكن القول بأنّ الفرق الأخير يُعدُّ من حيثية أُخرى اتفاقاً بين الضرورة والإكراه ، لأنَّ كلاً منهما يهدف إلى صيانة النفوس من التلف.

وهذا لا يعني انعدام الصلة بينهما إلاّ في هذه الحيثية ، بل هناك جوانب اتفاق بين الضرورة والإكراه ، وهي :

1 ـ اتّفاقهما في جهة الفاعل :

لأنّ الفاعل فيهما لا يجد سبيلاً للخلاص من الشر المحدق به غير ارتكاب المحظور.

2 ـ اتّفاقهما في من تترتّب عليه الآثار :

وهو هاهنا واحد ، وهو الفاعل سواءً كانت الآثار سلبا عليه كما في حال امتناعه عن ارتكاب المحظور عن ضرورة أو إكراه ، أو إيجابا له كما لو ارتكبه بسبب أيٍّ منهما كما هو واضح.

٢٩

3 ـ اتّفاقهما في إباحة بعض المحظورات الشرعية :

ومن نقاط الاتفاق الواضحة بينهما هو أن الضرورة تجعل المحظور مباحاً كما مرَّ في قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) ، وكذلك الحال مع الاكراه ، إذ يبيح ارتكاب بعض المحرمات ، ومنها المساس بحقوق الآخرين.

وعلى هذا الوجه يدخل الاكراه في مفهوم الضرورة العام الذي يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور(1) .

ومن هنا يتبين عدم الفرق بينهما من جهة الملاك ، لأنّ ملاكهما واحد ، وهو رفع الضرر الأهم بارتكاب ترك المهم(2) .

ولهذا علّل بعض فقهاء القانون الوضعي انتفاء المسؤولية في حالة الضرورة بفكرة الاكراه؛ لأنَّ من يكون في حالة ضرورة هو مكره على الفعل الذي يخلصه منها ، وكثير منهم قرن أحدهما بالآخر(3) .

وبهذا العرض الموجز عن الاكراه وصلته بالضرورة والتقيّة ، نعود إلى الحديث عن التقيّة لنتعرف أولاً على أصولها ومصادرها التشريعية عبر بيان أدلتها من القرآن الكريم والسُنّة المطهّرة ، ودليل العقل والإجماع.

__________________

(1) راجع : الضرورة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي / الدكتور محمد محمود عبدالعزيز الزيني : 59 ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الاسكندرية / 1993 م.

(2) راجع القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي 2 : 19.

(3) راجع الإحكام العامة في قانون العقوبات / الدكتور السعيد مصطفى السعيد : 417 ، وشرح قانون العقوبات القسم العام / الدكتورمحمود المصطفى : 326 نقلاً عن الضرورة للدكتور محمد محمود الزيني : 223.

٣٠

الفصل الثاني

أدلة التقيّة وأصولها التشريعية

المبحث الأول

أدلة التقيّة من القرآن الكريم

لا شكّ أنَّ من قال بالقرآن الكريم صدَق ، ومن حكم به عَدَل ، ومن عمل به أُجِر ، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم.

وكيف لا ، وهو يهدي للتي هي أقوم ، مع كونه بياناً للناس وهدىً وموعظة للمتقين؟

ومع هذه الحقيقة الناصعة التي طفحت بها آيات الكتاب ، وأكدتها السُنّة النبوية بأعظم التأكيد ، إلاّ إنّك قد تجد من يسيء إلى المفاهيم القرآنية الواضحة فيه أبلغ الإساءة كمفهوم التقيّة ، فيدّعي أنها من النفاق! وهذا يكشف عن كون اتخاذ القرار في التخطيط لأية مسألة فكرية تتصل بعقيدة المسلمين ، أو الأحكام الشرعية وفهمها فهماً دقيقاً لا يناط أبداً بغير المخلص الكفوء ، خشيةً من الوقوع في الانحراف الفكري عن قصد أو بدون قصد.

٣١

والعجب إنّك ترى تلك الإساءة ممن يدّعي العلم والفهم وتلاوة القرآن الكريم ، وكأنه لم يمر في تلاوته أبداً على ما سنتلوه عليك من آيات بينات وما قاله المفسرون بشأنها.

إنَّ الآيات القرآنية الدالة على اليسر ونفي الحرج وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة ، أو المشيرة إلى أنّ المُكرَه أو المضطر إلى المحرم لا جرم عليه ، غير خافية على أحد ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل المتعسف أو المعاند الصلف ، وكلامنا ليس مع هذا الصنف ، بل مع من يعي أن نبينا الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بالحنيفية السمحة ثم يشتبه عليه أمر التقيّة.

ونحن إذ نتعرض هنا للأدلة القرآنية الدالة على مشروعية التقيّة ، نود التذكير بأن الدليل الواحد المعتبر الدال على صحة قضية يكفي لإثباتها ، فكيف لو توفّرت مع إثباتها أدلة قرآنية كثيرة ، لم يُختَلَف في تفسيرها؛ لأنّها محكمة يُنبئ ظاهرها عن حقيقتها ولا مجال لمتأوّلٍ فيها؟

ومع هذا سوف لا نكتفي بدليل قرآني واحد ، بل سنذكر أربع آيات مباركة ، من بين الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على مشروعية التقيّة.

والسبب في هذا الحصر والانتقاء ، إنّا وجدنا القرآن الكريم قد تعرض إلى بيان تقية المؤمنين في الاُمم السالفة بآيتين صريحتين ، كما وجدناه قد أمضى تلك التقيّة بتشريعاته الخالدة في أكثر من آية ، انتقينا منها آيتين فقط ، لما فيهما من وضوح تام حول امتداد ظل ذلك التشريع العظيم إلى وقت مبكر من عمر الرسالة الخاتمة.

ومن هنا قسّمنا الأدلة المذكورة على قسمين : أحدهما ، ما اتصل بالتقيّة قبل الإسلام ، والآخر : ما اتصل بها عند انطلاق دعوة الحق من البيت

٣٢

العتيق ، واليك التفصيل :

أولاً : الأدلة القرآنية الدالة على التقيّة قبل الإسلام.

الآية الاُولى : حول تقية أصحاب الكهف.

قال تعالى : «وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبثْنَا يَوماً أو بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزكى طَعَاماً فلْيأتِكُمْ بِرِزقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً * إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يِرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ في مَلَّتِهم وَلَن تُفلِحُوا إذاً أبداً »(1) .

في هاتين الآيتين المباركتين أصدق تعبير على أنّ التقيّة كانت معروفة وجائزة في شرع ما قبلنا (نحن المسلمين) وهي صريحة في تقية أصحاب الكهف رضي اللّه تعالى عنهم ، وقد أفاض المفسرون في بيان قصتهم وكيف أنّهم كانوا في ملّة كافرة وأنهم كانوا يكتمون إيمانهم قبل أن يدعوهم ملكهم إلى عبادة الأصنام ، فلجأوا إلى الكهف بدينهم(2) .

ما يشكل به من القرآن الكريم على عدم تقيّتهم :

قد يقال بأنَّ اللّه عزَّ وجلَّ أورد من نبأهم ما يدل على عدم تقيتهم ، كقوله تعالى : «وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِم إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ

__________________

(1) سورة الكهف : 18 / 19 ـ 20.

(2) راجع : تفصيل قصتهم في مجمع البيان / الطبرسي5 : 697 ـ 698. وزاد المسير / ابن الجوزي 5 : 109 ـ 110. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي10 : 357 ـ 359. وتفسير الطبري 15 : 50. والدر المنثور / السيوطي5 : 373. والتفسير الكبير / الفخر الرازي21 : 97. وتفسير أبي السعود6 : 209. وقد وردت قصتهم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة وغيرهم.

٣٣

لَنْ نَدْعُوا مِن دُونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا إذاً شَطَطاً »(1) وهذا القول دالٌ على عدم تقيتهم.

وقولهم : «رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأرضِ لَنْ نَدْعُوا مِنْ دُونِهِ إلهاً » ، هو قول من لا يرى التقيّة أصلاً ، فأين تقية أصحاب الكهف إذن؟!

جواب الإشكال :

أوّلاً ـ من القرآن الكريم :

وبيان ذلك أنَّ ما صدر عنهم من أقوال معبِّرة عن عدم تقيتهم إنّما صدر بعد انكشاف أمرهم ، إذ كانوا قبل ذلك يكتمون إيمانهم عن ملكهم كما في لسان قصتهم ، على أن في القصة ذاتها ما يعبر بوضوح عن إيصائهم لمن بعثوه بعد انتهاء رقدتهم بالتقيّة ، كما يفهم من عبارة «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً ».

ثانيا ـ من حديث الإمام الصادقعليه‌السلام الصريح بشدّة تقيّتهم :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إنْ كانوا ليشهدون الأعياد ، ويشدّون الزنانير ، فأعطاهم اللّه أجرهم مرتين »(2) .

إذن ، تقية أصحاب الكهف لا مجال لانكارها في جميع الأحوال سواء قبل تصميمهم على ترك المداراة مع القوم واللجوء إلى الكهف ، أو بعد انتهاء رقدتهم ، ولكن الحق ، أن تقيتهم الاُولى كانت قاسية على نفوسهم

__________________

(1) سورة الكهف : 18 / 14.

(2) اُصول الكافي 2 : 174 ـ 175 / 14 و 19 كتاب الإيمان والكفر باب التقيّة ، المكتبة الإسلامية ، طهران / 1388 هـ.

٣٤

لما فيها من مجاهدة نفسية عظيمة؛ لا سيّما إذا علمنا أنهم من أعيان القوم ومن المقربين إلى الملك الكافر دقيانوس قبل أن ينكشف أمرهم.

ولا ريب بان تقية المسلم من المسلم لا تكون مثل تقية المسلم من الكافر ، بل وما يُكرَه عليه المسلم من كافر مرة واحدة أو مرات لا يُقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم ، لأنهم قضوا شطراً من حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الأصنام والأوثان.

وبهذا يتّضح الوجه في شدّة تقيّتهم كما مرّ عن الإمام الصادقعليه‌السلام ؛ إذ كيف لا يشدّون الزنّار على وسطهم وهم عاشوا في أوساطهم؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم وهم من أعيانهم؟

ثالثا ـ من تصريح علماء العامّة بتقيّتهم :

وهو ما ذهب إليه عمدة المفسّرين من العامّة كما يظهر من :

1 ـ تصريح الرازي بتقيّتهم :

قال الفخر الرازي : (وقوله : «وَلْيَتَلَطَّفْ » أي : يكون ذلك في سر وكتمان ، يعني دخوله المدينة وشراء الطعام)(1) .

2 ـ تصريح القرطبي بتقيّتهم :

وأوضح من هذا ما صرّح به القرطبي المالكي بشأن توكيل أصحاب الكهف لأحدهم بشراء الطعام مع إيصائه بالتقيّة من القوم الكافرين باخفاء الحقيقة عنهم بالتكتم عليها ، فقال ما هذا نصه :

(في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنّما كانت مع التقيّة خوف ان يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل

__________________

(1) التفسير الكبير / الفخر الرازي 21 : 103.

٣٥

ذوي العذر متفق عليه)(1) .

الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون.

قال تعالى : «وقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصبكُمْ بَعْضُ الّذي يَعِدُكُمْ إنَّ اللهَ لا يَهدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ »(2) .

هذه الآية المباركة هي الاُخرى تحكي مشروعية التقيّة قبل بزوغ شمس الإسلام بقرون.

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقيّة سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها؛ ليُعلم اتفاقهم على مشروعية التقيّة قبل الإسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة ، كالآتي :

1 ـ ما قاله الماوردي بشأن تقيّة مؤمن آل فرعون :

نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أنّ هذا الرجل كان مؤمناً قبل مجيء موسىعليه‌السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه.

وأورد عن الضحاك ، بأنّه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه(3) .

ولا شكّ أنَّ ما يعنيه كتمان الإيمان هو التقيّة لا غير؛ لأنه إخفاء أمر ما خشية من ضرر إفشائه ، والتقيّة كذلك.

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10 : 376 ـ 377.

(2) سورة غافر : 40 / 28.

(3) النكت والعيون / الماوردي 5 : 153 ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

٣٦

2 ـ ما قاله ابن الجوزي :

أورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : (إنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة)(1) .

لقد بيّن لنا القرآن الكريم قبل الآية المذكورة السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسىعليه‌السلام ، قال تعالى : «وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُوني أقتُل موسى وَليَدَعُ رَبَّهُ إنِّي أخَافُ أنْ يُبدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أن يُظهِرَ في الأرضِ الفَسَادَ »(2) .

3 ـ ما قاله الرازي :

وهنا قد يقال كما في تفسير الرازي : (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟).

وقد بيّن الرازي أن في المسألة قولين :

الأول : إنّ هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : «ذَرُوني أقْتُلْ مُوسى »لم يصرح بأنه على دين موسىعليه‌السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبيّناً ان المصلحة تقتضي ترك قتله ، لأنه لم يرتكب ذنباً وإنما كان يدعو إلى اللّه عزَّ وجلَّ ، وهذا لا يوجب القتل.

الثاني : إنّه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق(3) .

__________________

(1) زاد المسير / ابن الجوزي 7 : 312.

(2) سورة غافر : 40 / 26.

(3) التفسير الكبير / الرازي 27 : 60.

٣٧

على أن تقيته واضحة جداً حتى على القول الثاني؛ لأنّهرضي‌الله‌عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقيّة بعينها.

ثناء القرآن على مؤمن آل فرعون :

وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند اللّه عزَّ وجل ، صفة الإيمان.

وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ؛ وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : «أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ »والثالث : علي ابن أبي طالب ، وهو أفضلهم »(1) .

وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : (وقد أثنى اللّه على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله اللّه تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر)(2) .

وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : (إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه

__________________

(1) كنز العمال / المتقي الهندي 11 : 601 / 32897 و 32898 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت. وفي حاشية كشف الأستار / محمد حسين الجلال : 98 ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت / 1405 هـ ، قال : (وحسّنه السيوطي).

(2) المحرر الوجيز / ابن عطية 14 : 132 ، تحقيق المجلس العلمي بفاس / 1407 هـ.

٣٨

فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقيّة والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إنما تمنعه التقيّة من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ؛ ليكف عن نفسه وماله)(1) .

وبالجملة ، فإنّ جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الاطالة لأوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقيّة قد صرّح أباضيتهم بالتقيّة في تفسيرهم لهذه الآية :

قال المفسر الاباضي محمد بن يوسف اطفيش عن الرجل المؤمن : (فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقيّة مظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله «ياقَوم » أنّه منهم إلى أن قال واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر اللّه عزَّ وجلَّ عنه بقوله : «وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ »)(2) .

ثانياً : الأدلة القرآنية الدالة على امضاء التقيّة في الإسلام :

الآية الاُولى : حول جواز الكفر باللّه تقيةً :

ويدل عليه قوله تعالى : «مَنْ كَفَرَ باللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئنٌ بالإيمانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بالكُفرِ صَدْرَاً فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مَنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(3) .

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 15 : 307.

(2) تيسير التفسير / محمد بن يوسف بن اطفيش الأباضي 1 : 343 ـ 345.

(3) سورة النحل : 16 / 106.

٣٩

نزول الآية بمكة بشأن عمار بن ياسر وأصحابه :

نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الاُولى من عصر صدر الإسلام ، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الأصابع ، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يُعلم أن التقيّة قد أُبيحت للمسلمين أيضاً في بدايات الإسلام الأولى ، وانها أُبقيت على ما كانت عليه في الأديان السابقة ولم تنسخ في الإسلام ، بل جاء الإسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً لكي يتترس بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تترس بها من قبل أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم ، وصرّح به سائر المفسرين.

فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم.

وقد علّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور ، بقوله (أي : وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقيّة في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : «إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُه مُطمئنٌ بالإيمان »(1) .

الآية أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه :

وقال الجصاص الحنفي في تفسير الآية المذكورة : (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه ، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على

__________________

(1) سنن ابن ماجة 1 : 53 ، 150 باب 11 في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ، دار إحياء الكتب العربية ، وانظر التعليق عليه في الهامش رقم (1) من الصفحة المذكورة.

٤٠