كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٢٠

كتاب شرح نهج البلاغة11%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 351

  • البداية
  • السابق
  • 351 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41248 / تحميل: 7642
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فسكت ابن الزبير.قدم عبد الله بن الزبير على معاوية وافدا فرحب به و أدناه حتى أجلسه على سريره ثم قال حاجتك أبا خبيب فسأله أشياء ثم قال له سل غير ما سألت قال نعم المهاجرون و الأنصار ترد عليهم فيئهم و تحفظ وصية نبي الله فيهم تقبل من محسنهم و تتجاوز عن مسيئهم.فقال معاوية هيهات هيهات لا و الله ما تأمن النعجة الذئب و قد أكل أليتها.فقال ابن الزبير مهلا يا معاوية فإن الشاة لتدر للحالب و إن المدية في يده و إن الرجل الأريب ليصانع ولده الذي خرج من صلبه و ما تدور الرحى إلا بقطبها و لا تصلح القوس إلا بمعجسها.فقال يا أبا خبيب لقد أجررت الطروقة قبل هباب الفحل هيهات و هي لا تصطك لحبائها اصطكاك القروم السوامي فقال ابن الزبير العطن بعد العل و العل بعد النهل و لا بد للرحاء من الثفال ثم نهض ابن الزبير.فلما كان العشاء أخذت قريش مجالسها و خرج معاوية على بني أمية فوجد عمرو

١٤١

بن العاص فيهم فقال ويحكم يا بني أمية أ فيكم من يكفيني ابن الزبير فقال عمرو أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين قال ما أظنك تفعل قال بلى و الله لأربدن وجهه و لأخرسن لسانه و لأردنه ألين من خميلة.فقال دونك فاعرض له إذا دخل فدخل ابن الزبير و كان قد بلغه كلام معاوية و عمرو فجلس نصب عيني عمرو فتحدثوا ساعة ثم قال عمرو:

و إني لنار ما يطاق اصطلاؤها

لدي كلام معضل متفاقم

فأطرق ابن الزبير ساعة ينكت في الأرض ثم رفع رأسه و قال:

و إني لبحر ما يسامى عبابه

متى يلق بحري حر نارك يخمد

فقال عمرو و الله يا ابن الزبير إنك ما علمت لمتجلبب جلابيب الفتنة متأزر بوصائل التيه تتعاطى الذرى الشاهقة و المعالي الباسقة و ما أنت من قريش في لباب جوهرها و لا مؤنق حسبها.فقال ابن الزبير أما ما ذكرت من تعاطي الذرى فإنه طال بي إليها وسما ما لا يطول بك مثله أنف حمي و قلب ذكي و صارم مشرفي في تليد فارع و طريف مانع إذ قعد بك انتفاخ سحرك و وجيب قلبك و أما ما ذكرت من أني لست من قريش في لباب جوهرها و مؤنق حسبها فقد حضرتني و إياك الأكفاء العالمون بي و بك فاجعلهم بيني و بينك.

١٤٢

فقال القوم قد أنصفك يا عمرو قال قد فعلت.فقال ابن الزبير أما إذ أمكنني الله منك فلأربدن وجهك و لأخرسن لسانك و لترجعن في هذه الليلة و كان الذي بين منكبيك مشدود إلى عروق أخدعيك ثم قال أقسمت عليكم يا معاشر قريش أنا أفضل في دين الإسلام أم عمرو فقالوا اللهم أنت قال فأبي أفضل أم أبوه قالوا أبوك حواري رسول الله ص و ابن عمته قال فأمي أفضل أم أمه قالوا أمك أسماء بنت أبي بكر الصديق و ذات النطاقين قال فعمتي أفضل أم عمته قالوا عمتك سلمى ابنة العوام صاحبة رسول الله ص أفضل من عمته قال فخالتي أفضل أم خالته قالوا خالتك عائشة أم المؤمنين قال فجدتي أفضل أم جدته فقال جدتك صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ص قال فجدي أفضل أم جده قالوا جدك أبو بكر الخليفة بعد رسول الله ص فقال:

قضت الغطارف من قريش بيننا

فاصبر لفصل خصامها و قضائها

و إذا جريت فلا تجار مبرزا

بذ الجياد على احتفال جرائها

أما و الله يا ابن العاص لو أن الذي أمرك بهذا واجهني بمثله لقصرت إليه من سامي بصره و لتركته يتلجلج لسانه و تضطرم النار في جوفه و لقد استعان منك بغير واف و لجأ إلى غير كاف ثم قام فخرج.و ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الحجاج لما حاصر ابن الزبير لم يزل يزحف حتى ملك الجبل المعروف بأبي قبيس و قد كان بيد ابن الزبير فكتب

١٤٣

بذلك إلى عبد الملك فلما قرأ كتابه كبر و كبر من كان في داره حتى اتصل التكبير بأهل السوق فكبروا و سأل الناس ما الخبر فقيل لهم إن الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة و ظفر بأبي قبيس فقال الناس لا نرضى حتى يحمل أبو خبيب إلينا مكبلا على رأسه برنس راكب جمل يطاف به في الأسواق تراه العيون.و ذكر المسعودي أن عمة عبد الملك كانت تحت عروة بن الزبير و أن عبد الملك كتب إلى الحجاج يأمره بالكف عن عروة و ذلك قبل أن يقتل عبد الله و ألا يسوءه إذا ظفر بأخيه في ماله و لا في نفسه قال فلما اشتد الحصار على عبد الله خرج عروة إلى الحجاج فأخذ لعبد الله أمانا و رجع إليه فقال هذا عمرو بن عثمان و خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد و هما فتيا بني أمية يعطيانك أمان عبد الملك ابن عمهما على ما أحدثت أنت و من معك و أن تنزل أي البلاد شئت و لك بذلك عهد الله و ميثاقه فأبى عبد الله قبول ذلك و نهته أمه و قالت لا تموتن إلا كريما فقال لها إني أخاف إن قتلت أن أصلب أو يمثل بي فقالت إن الشاة بعد الذبح لا تحس بالسلخ.و روى المسعودي أن عبد الله بن الزبير بعد موت يزيد بن معاوية طلب من يؤمره على الكوفة و قد كان أهلها أحبوا أن يليهم غير بني أمية فقال له المختار بن أبي عبيد اطلب رجلا له رفق و علم بما يأتي و تدبر قوله إياها يستخرج لك منها جندا تغلب به أهل الشام فقال أنت لها فبعثه إلى الكوفة فأتاها و أخرج ابن مطيع منها و ابتنى لنفسه دارا و أنفق عليها مالا جليلا و سأل عبد الله بن الزبير أن يحتسب له به من مال العراق فلم يفعل فخلعه و جحد بيعته و دعا إلى الطالبيين.

١٤٤

قال المسعودي و أظهر عبد الله بن الزبير الزهد في الدنيا و ملازمة العبادة مع الحرص على الخلافة و شبر بطنه فقال إنما بطني شبر فما عسى أن يسع ذلك الشبر و ظهر عنه شح عظيم على سائر الناس ففي ذلك يقول أبو حمزة مولى آل الزبير:

إن الموالي أمست و هي عاتبة

على الخليفة تشكوا الجوع و الحربا

ما ذا علينا و ما ذا كان يرزؤنا

أي الملوك على ما حولنا غلبا

و قال فيه أيضا:

لو كان بطنك شبرا قد شبعت و قد

أفضلت فضلا كثيرا للمساكين

ما زلت في سورة الأعراف تدرسها

حتى فؤادي مثل الخز في اللين

و قال فيه شاعر أيضا لما كانت الحرب بينه و بين الحصين بن نمير قبل أن يموت يزيد بن معاوية:

فيا راكبا إما عرضت فبلغن

كبير بني العوام إن قيل من تعني

تخبر من لاقيت أنك عائذ

و تكثر قتلى بين زمزم و الركن

و قال الضحاك بن فيروز الديلمي:

تخبرنا أن سوف تكفيك قبضة

و بطنك شبر أو أقل من الشبر

و أنت إذا ما نلت شيئا قضمته

كما قضمت نار الغضا حطب السدر

فلو كنت تجزي أو تثيب بنعمة

قريبا لردتك العطوف على عمرو

قال هو عمرو بن الزبير أخوه ضربه عبد الله حتى مات و كان مباينا له.

١٤٥

كان يزيد بن معاوية قد ولى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان المدينة فسرح الوليد منها جيشا إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير عليه عمرو بن الزبير فلما تصاف القوم انهزم رجال عمرو و أسلموه فظفر به عبد الله فأقامه للناس بباب المسجد مجردا و لم يزل يضربه بالسياط حتى مات.و قد رأيت في غير كتاب المسعودي أن عبد الله وجد عمرا عند بعض زوجاته و له في ذلك خبر لا أحب أن أذكره.قال المسعودي ثم إن عبد الله بن الزبير حبس الحسن بن محمد بن الحنفية في حبس مظلم و أراد قتله فأعمل الحيلة حتى تخلص من السجن و تعسف الطريق على الجبال حتى أتى منى و بها أبوه محمد بن الحنفية.ثم إن عبد الله جمع بني هاشم كلهم في سجن عارم و أراد أن يحرقهم بالنار و جعل في فم الشعب حطبا كثيرا فأرسل المختار أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف فقال أبو عبد الله لأصحابه ويحكم إن بلغ ابن الزبير الخبر عجل على بني هاشم فأتى عليهم فانتدب هو نفسه في ثمانمائة فارس جريدة فما شعر بهم ابن الزبير إلا و الرايات تخفق بمكة فقصد قصد الشعب فأخرج الهاشميين منه و نادى بشعار محمد بن الحنفية و سماه المهدي و هرب ابن الزبير فلاذ بأستار الكعبة فنهاهم محمد بن الحنفية عن طلبه

١٤٦

و عن الحرب و قال لا أريد الخلافة إلا إن طلبني الناس كلهم و اتفقوا علي كلهم و لا حاجة لي في الحرب.قال المسعودي و كان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصر بني هاشم في الشعب و جمعه الحطب ليحرقهم و يقول إنما أراد بذلك ألا تنتشر الكلمة و لا يختلف المسلمون و أن يدخلوا في الطاعة فتكون الكلمة واحدة كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار.قال المسعودي و خطب ابن الزبير يوم قدم أبو عبد الله الجدلي قبل قدومه بساعتين فقال إن هذا الغلام محمد بن الحنفية قد أبى بيعتي و الموعد بيني و بينه أن تغرب الشمس ثم أضرم عليه مكانه نارا فجاء إنسان إلى محمد فأخبره بذلك فقال سيمنعه مني حجاب قوي فجعل ذلك الرجل ينظر إلى الشمس و يرقب غيبوبتها لينظر ما يصنع ابن الزبير فلما كادت تغرب حاست خيل أبي عبد الله الجدلي ديار مكة و جعلت تمعج بين الصفا و المروة و جاء أبو عبد الله الجدلي بنفسه فوقف على فم الشعب و استخرج محمدا و نادى بشعاره و استأذنه في قتل ابن الزبير فكره ذلك و لم يأذن فيه و خرج من مكة فأقام بشعب رضوى حتى مات.

١٤٧

و روى المسعودي عن سعيد بن جبير أن ابن عباس دخل على ابن الزبير فقال له ابن الزبير إلام تؤنبني و تعنفني

قال ابن عباس إني سمعت رسول الله ص يقول بئس المرء المسلم يشبع و يجوع جاره و أنت ذلك الرجل فقال ابن الزبير و الله إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة و تشاجرا فخرج ابن عباس من مكة خوفا على نفسه فأقام بالطائف حتى مات.و روى أبو الفرج الأصفهاني قال أتى فضالة بن شريك الوالبي ثم الأسدي من بني أسد بن خزيمة عبد الله بن الزبير فقال نفدت نفقتي و نقبت ناقتي فقال أحضرنيها فأحضرها فقال أقبل بها أدبر بها ففعل فقال ارقعها بسبت و اخصفها بهلب و أنجد بها يبرد خفها و سر البردين تصح فقال فضالة إني أتيتك مستحملا و لم آتك مستوصفا فلعن الله ناقة حملتني إليك فقال إن و راكبها فقال فضالة:

أقول لغلمة شدوا ركابي

أجاوز بطن مكة في سواد

فما لي حين أقطع ذات عرق

إلى ابن الكاهلية من معاد

سيبعد بيننا نص المطايا

و تعليق الأداوي و المزاد

و كل معبد قد أعلمته

مناسمهن طلاع النجاد

١٤٨

أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن و لا أمية بالبلاد

من الأعياص أو من آل حرب

أغر كغرة الفرس الجواد

قال ابن الكاهلية هو عبد الله بن الزبير و الكاهلية هذه هي أم خويلد بن أسد بن عبد العزى و اسمها زهرة بنت عمرو بن خنثر بن روينة بن هلال من بني كاهل بن أسد بن خزيمة قال فقال عبد الله بن الزبير لما بلغه الشعر علم أنها شر أمهاتي فعيرني بها و هي خير عماته.و روى أبو الفرج قال كانت صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فمشى ابن الزبير إليها فذكر لها أن خروجه كان غضبا لله عزوجل و لرسوله ص و للمهاجرين و الأنصار من أثرة معاوية و ابنه بالفي‏ء و سألها مسألة زوجها عبد الله بن عمر أن يبايعه فلما قدمت له عشاءه ذكرت له أمر ابن الزبير و عبادته و اجتهاده و أثنت عليه و قالت إنه ليدعو إلى طاعة الله عزوجل و أكثرت القول في ذلك فقال لها ويحك أ ما رأيت البغلات الشهب التي كان يحج معاوية عليها و تقدم إلينا من الشام قالت بلى قال و الله ما يريد ابن الزبير بعبادته غيرهن

١٤٩

٤٦٢

وَ قَالَ ع : مَا لاِبْنِ آدَمَ وَ اَلْفَخْرِ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ وَ آخِرُهُ جِيفَةٌ وَ لاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ وَ لاَ يَدْفَعُ حَتْفَهُ قد تقدم كلامنا في الفخر و ذكرنا الشعر الذي أخذ من هذا الكلام و هو قول القائل:

ما بال من أوله نطفة

و جيفة آخره يفخر

يصبح ما يملك تقديم ما

يرجو و لا تأخير ما يحذر

فصل في الفخر و ما قيل في النهي عنه

و قال بعض الحكماء الفخر هو المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان و ذلك نهاية الحمق لمن نظر بعين عقله و انحسر عنه قناع جهله فأعراض الدنيا عارية مستردة لا يؤمن في كل ساعة أن ترتجع و المباهي بها مباه بما في غير ذاته.و قد قال لبعض من فخر بثروته و وفره إن افتخرت بفرسك فالحسن و الفراهة له دونك و إن افتخرت بثيابك و آلاتك فالجمال لهما دونك و إن افتخرت بآبائك

١٥٠

و سلفك فالفضل فيهم لا فيك و لو تكلمت هذه الأشياء لقالت لك هذه محاسننا فما محاسنك.و أيضا فإن الأعراض الدنيوية كما قيل سحابة صيف عن قليل تقشع و ظل زائل عن قريب يضمحل كما قال الشاعر:

إنما الدنيا كرؤيا فرحت

من رآها ساعة ثم انقضت

بل كما قال تعالى( إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ اَلنَّاسُ وَ اَلْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .و إذا كان لا بد من الفخر فليخفر الإنسان بعلمه و بشريف خلقه و إذا أعجبك من الدنيا شي‏ء فاذكر فناءك و بقاءه أو بقاءك و فناءه أو فناءكما جميعا و إذا راقك ما هو لك فانظر إلى قرب خروجه من يدك و بعد رجوعه إليك و طول حسابك عليه و قد ذم الله الفخور فقال( وَ اَللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ )

١٥١

٤٦٣

اَلْغِنَى وَ اَلْفَقْرُ بَعْدَ اَلْعَرْضِ عَلَى اَللَّهِ تَعَالَى أي لا يعد الغني غنيا في الحقيقة إلا من حصل له ثواب الآخرة الذي لا ينقطع أبدا و لا يعد الفقير فقيرا إلا من لم يحصل له ذلك فإنه لا يزال شقيا معذبا و ذاك هو الفقر بالحقيقة.فأما غنى الدنيا و فقرها فأمران عرضيان زوالهما سريع و انقضاؤهما وشيك.و إطلاق هاتين اللفظتين على مسماهما الدنيوي على سبيل المجاز عند أرباب الطريقة أعني العارفين

١٥٢

٤٦٤

وَ سُئِلَ عَنْ أَشْعَرِ اَلشُّعَرَاءِ فَقَالَ ع إِنَّ اَلْقَوْمَ لَمْ يَجْرُوا فِي حَلْبَةٍ تُعْرَفُ اَلْغَايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِهَا فَإِنْ كَانَ وَ لاَ بُدَّ فَالْمَلِكُ اَلضِّلِّيلُ قال يريد إمرأ القيس

في مجلس علي بن أبي طالب

قرأت في أمالي ابن دريد قال أخبرنا الجرموزي عن ابن المهلبي عن ابن الكلبي عن شداد بن إبراهيم عن عبيد الله بن الحسن العنبري عن ابن عرادة قال كان علي بن أبي طالب ع يعشي الناس في شهر رمضان باللحم و لا يتعشى معهم فإذا فرغوا خطبهم و وعظهم فأفاضوا ليلة في الشعراء و هم على عشائهم فلما فرغوا خطبهم ع و قال في خطبته اعلموا أن ملاك أمركم الدين و عصمتكم التقوى و زينتكم الأدب و حصون أعراضكم الحلم ثم قال قل يا أبا الأسود فيم كنتم تفيضون فيه أي الشعراء أشعر فقال يا أمير المؤمنين الذي يقول:

و لقد أغتدي يدافع ركني

أعوجي ذو ميعة إضريج

١٥٣

مخلط مزيل معن مفن

منفح مطرح سبوح خروج

يعني أبا دواد الإيادي فقال ع ليس به قالوا فمن يا أمير المؤمنين فقال لو رفعت للقوم غاية فجروا إليها معا علمنا من السابق منهم و لكن إن يكن فالذي لم يقل عن رغبة و لا رهبة قيل من هو يا أمير المؤمنين قال هو الملك الضليل ذو القروح قيل إمرؤ القيس يا أمير المؤمنين قال هو قيل فأخبرنا عن ليلة القدر قال ما أخلو من أن أكون أعلمها فأستر علمها و لست أشك أن الله إنما يسترها عنكم نظرا لكم لأنه لو أعلمكموها عملتم فيها و تركتم غيرها و أرجو أن لا تخطئكم إن شاء الله انهضوا رحمكم الله.و قال ابن دريد لما فرغ من الخبر إضريج ينبثق في عدوه و قيل واسع الصدر و منفح يخرج الصيد من مواضعه و مطرح يطرح ببصره و خروج سابق.و الغاية بالغين المعجمة الراية قال الشاعر:

و إذا غاية مجد رفعت

نهض الصلت إليها فحواها

و يروى قول الشماخ:

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها غرابة باليمين

بالغين و الراء أكثر فأما البيت الأول فبالغين لا غير أنشده الخليل في عروضه و في حديث طويل في الصحيح فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا و الميعة أول جري الفرس و قيل الجري بعد الجري

١٥٤

اختلاف العلماء في تفضيل بعض الشعراء على بعض

و أنا أذكر في هذا الموضع ما اختلف فيه العلماء من تفضيل بعض الشعراء على بعض و أبتدئ في ذلك بما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني قال أبو الفرج الثلاثة المقدمون على الشعراء إمرؤ القيس و زهير و النابغة لا اختلاف في أنهم مقدمون على الشعراء كلهم و إنما اختلف في تقديم بعض الثلاثة على بعض.قال فأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن أبي قبيس عن عكرمة بن جرير عن أبيه قال شاعر أهل الجاهلية زهير.قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة عن هارون بن عمر عن أيوب بن سويد عن يحيى بن زياد عن عمر بن عبد الله الليثي قال قال عمر بن الخطاب ليلة في مسيره إلى الجابية أين عبد الله بن عباس فأتي به فشكا إليه تخلف علي بن أبي طالب ع عنه قال ابن عباس فقلت له أ و لم يعتذر إليك قال بلى قلت فهو ما اعتذر به قال ثم أنشأ يحدثني فقال إن أول من راثكم عن هذا الأمر أبو بكر إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوة قال أبو الفرج ثم ذكر قصة طويلة ليست من هذا الباب فكرهت ذكرها ثم قال يا ابن عباس هل تروي لشاعر الشعراء قلت و من هو قال ويحك شاعر الشعراء الذي يقول:

فلو أن حمدا يخلد الناس خلدوا

و لكن حمد الناس ليس بمخلد

١٥٥

فقلت ذاك زهير فقال ذاك شاعر الشعراء قلت و بم كان شاعر الشعراء قال إنه كان لا يعاظل الكلام و يتجنب وحشيه و لا يمدح أحدا إلا بما فيه.قال أبو الفرج و أخبرني أبو خليفة قال ابن سلام و أخبرني عمر بن موسى الجمحي عن أخيه قدامة بن موسى و كان من أهل العلم أنه كان يقدم زهيرا قال فقلت له أي شعره كان أعجب إليه فقال الذي يقول فيه:

قد جعل المبتغون الخير في هرم

و السائلون إلى أبوابه طرقا

قال ابن سلام و أخبرني أبو قيس العنبري و لم أر بدويا يفي به عن عكرمة بن جرير قال قلت لأبي يا أبت من أشعر الناس قال أ عن أهل الجاهلية تسألني أم عن أهل الإسلام قال قلت ما أردت إلا الإسلام فإذا كنت قد ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها فقال زهير أشعر أهلها قلت فالإسلام قال الفرزدق نبعة الشعر قلت فالأخطل قال يجيد مدح الملوك و يصيب وصف الخمر قلت فما تركت لنفسك قال إني نحرت الشعر نحرا.قال و أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا الحارث بن محمد عن المدائني عن عيسى بن يزيد قال سأل معاوية الأحنف عن أشعر الشعراء فقال زهير قال و كيف ذاك قال ألقى على المادحين فضول الكلام و أخذ خالصه و صفوته قال مثل ما ذا قال مثل قوله:

و ما يك من خير أتوه فإنما

توارثه آباء آبائهم قبل

و هل ينبت الخطي إلا وشيجه

و تغرس إلا في منابتها النخل

قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا

١٥٦

عبد الله بن عمرو القيسي قال حدثنا خارجة بن عبد الله بن أبي سفيان عن أبيه عن ابن عباس قال خرجت مع عمر في أول غزاة غزاها فقال لي ليلة يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء قلت من هو قال ابن أبي سلمى قلت و لم صار كذلك قال لأنه لا يتبع حوشي الكلام و لا يعاظل في منطقه و لا يقول إلا ما يعرف و لا يمدح الرجل إلا بما فيه أ ليس هو الذي يقول:

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية

إلى المجد من يسبق إليها يسود

سبقت إليها كل طلق مبرز

سبوق إلى الغايات غير مزند

قال أي لا يحتاج إلى أن يجلد الفرس بالسوط.

كفعل جواد يسبق الخيل عفوه

السراع و إن يجهد و يجهدن يبعد

فلو كان حمدا يخلد الناس لم تمت

و لكن حمد الناس ليس بمخلد

أنشدني له فأنشدته حتى برق الفجر فقال حسبك الآن اقرأ القرآن قلت ما أقرأ قال الواقعة فقرأتها و نزل فأذن و صلى.و قال محمد بن سلام في كتاب طبقات الشعراء دخل الحطيئة على سعيد بن العاص متنكرا فلما قام الناس و بقي الخواص أراد الحاجب أن يقيمه فأبى أن يقوم فقال سعيد دعه و تذاكروا أيام العرب و أشعارها فلما أسهبوا قال الحطيئة ما صنعتم شيئا فقال سعيد فهل عندك علم من ذلك قال نعم قال فمن أشعر العرب قال الذي يقول

قد جعل المبتغون الخير في هرم

و السائلون إلى أبوابه طرقا

قال ثم من قال الذي يقول

١٥٧

فإنك شمس و الملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

يعني زهيرا ثم النابغة ثم قال و حسبك بي إذا وضعت إحدى رجلي على الأخرى ثم عويت في أثر القوافي كما يعوي الفصيل في أثر أمه قال فمن أنت قال أنا الحطيئة فرحب به سعيد و أمر له بألف دينار.قال و قال من احتج لزهير كان أحسنهم شعرا و أبعدهم من سخف و أجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق و أشدهم مبالغة في المدح و أبعدهم تكلفا و عجرفية و أكثرهم حكمة و مثلا سائرا في شعره.و قد روى ابن عباس عن النبي ص أنه قال أفضل شعرائكم القائل و من من يعني زهيرا و ذلك في قصيدته التي أولها أ من أم أوفى يقول فيها:

و من يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه و يذمم

و من لم يذد عن حوضه بسلاحه

يهدم و من لا يظلم الناس يظلم

و من هاب أسباب المنايا ينلنه

و لو نال أسباب السماء بسلم

و من يجعل المعروف من دون عرضه

يفره و من لا يتق الشتم يشتم

فأما القول في النابغة الذبياني فإن أبا الفرج الأصفهاني قال في كتاب الأغاني كنية النابغة أبو أمامة و اسمه زياد بن معاوية و لقب بالنابغة لقوله

فقد نبغت لهم منا شئون

و هو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم و هو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء.

١٥٨

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري و حبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو نعيم قال شريك عن مجالد عن الشعبي عن ربعي بن حراش قال قال لنا عمر يا معشر غطفان من الذي يقول:

أتيتك عاريا خلقا ثيابي

على خوف تظن بي الظنون

قلنا النابغة قال ذاك أشعر شعرائكم.قلت قوله أشعر شعرائكم لا يدل على أنه أشعر العرب لأنه جعله أشعر شعراء غطفان فليس كقوله في زهير شاعر الشعراء و لكن أبا الفرج قد روى بعد هذا خبرا آخر صريحا في أن النابغة عند عمر أشعر العرب قال حدثني أحمد و حبيب عن عمر بن شبة قال حدثنا عبيد بن جناد قال حدثنا معن بن عبد الرحمن عن عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن جده عن الشعبي قال قال عمر يوما من أشعر الشعراء فقيل له أنت أعلم يا أمير المؤمنين قال من الذي يقول:

إلا سليمان إذ قال المليك له

قم في البرية فاحددها عن الفند

و خيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح و العمد

قالوا النابغة قال فمن الذي يقول:

أتيتك عاريا خلقا ثيابي

على خوف تظن بي الظنون

قالوا النابغة قال فمن الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

و ليس وراء الله للمرء مذهب

لئن كنت قد بلغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغش و أكذب

١٥٩

قالوا النابغة قال فهو أشعر العرب.قال و أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثني علي بن محمد المدائني قال قام رجل إلى ابن عباس فقال له أي الناس أشعر قال أخبره يا أبا الأسود فقال أبو الأسود الذي يقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

و إن خلت أن المنتأى عنك واسع

يعني النابغة.قال أبو الفرج و أخبرني أحمد و حبيب عن عمر عن أبي بكر العليمي عن الأصمعي قال كان يضرب للنابغة قبة أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها فأنشده مرة الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم قوم من الشعراء ثم جاءت الخنساء فأنشدته:

و إن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فقال لو لا أن أبا بصير يعني الأعشى أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الإنس و الجن فقام حسان بن ثابت فقال أنا و الله أشعر منها و من أبيك فقال له النابغة يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

و إن خلت أن المنتأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمد بها أيد إليك نوازع

قال فخنس حسان لقوله.قال و أخبرني أحمد و حبيب عن عمر عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء

١٦٠

قال حدثني رجل سماه أبو عمرو و أنسيته قال بينما نحن نسير بين أنقاء من الأرض فتذاكرنا الشعر فإذا راكب أطيلس يقول أشعر الناس زياد بن معاوية ثم تملس فلم نره.قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن الأصمعي قال سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول ما ينبغي لزهير إلا أن يكون أجيرا للنابغة.قال أبو الفرج و أخبرنا أحمد عن عمر قال قال عمرو بن المنتشر المرادي وفدنا على عبد الملك بن مروان فدخلنا عليه فقام رجل فاعتذر من أمر و حلف عليه فقال له عبد الملك ما كنت حريا أن تفعل و لا تعتذر ثم أقبل على أهل الشام فقال أيكم يروي اعتذار النابغة إلى النعمان في قوله:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

و ليس وراء الله للمرء مذهب

فلم يجد فيهم من يرويه فأقبل علي و قال أ ترويه قلت نعم فأنشدته القصيدة كلها فقال هذا أشعر العرب.قال و أخبرني أحمد و حبيب عن عمر عن معاوية بن بكر الباهلي قال قلت لحماد الراوية لم قدمت النابغة قال لاكتفائك بالبيت الواحد من شعره لا بل بنصف البيت لا بل بربع البيت مثل قوله:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

و ليس وراء الله للمرء مذهب

و لست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

ربع البيت يغنيك عن غيره فلو تمثلت به لم تحتج إلى غيره.قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن هارون بن عبد الله

١٦١

الزبيري قال حدثني شيخ يكنى أبا داود عن الشعبي قال دخلت على عبد الملك و عنده الأخطل و أنا لا أعرفه و ذلك أول يوم وفدت فيه من العراق على عبد الملك فقلت حين دخلت عامر بن شراحيل الشعبي يا أمير المؤمنين فقال على علم ما أذنا لك فقلت هذه واحدة على وافد أهل العراق يعني أنه أخطأ قال ثم إن عبد الملك سأل الأخطل من أشعر الناس فقال أنا فعجلت و قلت لعبد الملك من هذا يا أمير المؤمنين فتبسم و قال الأخطل فقلت في نفسي اثنتان على وافد أهل العراق فقلت له أشعر منك الذي يقول:

هذا غلام حسن وجهه

مستقبل الخير سريع التمام

للحارث الأكبر و الحارث

الأصغر فالأعرج خير الأنام

ثم لعمرو و لعمرو و قد

أسرع في الخيرات منه أمام

قال هي أمامة أم عمرو الأصغر بن المنذر بن إمرئ القيس بن النعمان بن الشقيقة:

خمسة آباء هم ما هم

أفضل من يشرب صوب الغمام

و الشعر للنابغة فالتفت إلي الأخطل فقال إن أمير المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه و لو سألني عن أشعر أهل الجاهلية كنت حريا أن أقول كما قلت أو شبيها به فقلت في نفسي ثلاث على وافد أهل العراق.قال أبو الفرج و قد وجدت هذا الخبر أتم من هذه الرواية ذكره أحمد بن الحارث الخراز في كتابه عن المدائني عن عبد الملك بن مسلم قال كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أنه ليس شي‏ء من لذة الدنيا إلا و قد أصبت منه و لم يبق

١٦٢

عندي شي‏ء ألذ من مناقلة الإخوان الحديث و قبلك عامر الشعبي فابعث به إلي فدعا الحجاج الشعبي فجهزه و بعث به إليه و قرظه و أطراه في كتابه فخرج الشعبي حتى إذا كان بباب عبد الملك قال للحاجب استأذن لي قال من أنت قال أنا عامر الشعبي قال يرحمك الله قال ثم نهض فأجلسني على كرسيه فلم يلبث أن خرج إلي فقال ادخل يرحمك الله فدخلت فإذا عبد الملك جالس على كرسي و بين يديه رجل أبيض الرأس و اللحية جالس على كرسي فسلمت فرد علي السلام فأومأ إلي بقضيبه فجلست عن يساره ثم أقبل على ذلك الإنسان الذي بين يديه فقال له من أشعر الناس فقال أنا يا أمير المؤمنين قال الشعبي فأظلم ما بيني و بين عبد الملك فلم أصبر أن قلت و من هذا الذي يزعم أنه أشعر الناس يا أمير المؤمنين فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي فقال هذا الأخطل فقلت يا أخطل أشعر و الله منك الذي يقول:

هذا غلام حسن وجهه

مستقبل الخير سريع التمام

الأبيات...

قال فاستحسنها عبد الملك ثم رددتها عليه حتى حفظها فقال الأخطل من هذا يا أمير المؤمنين قال هذا الشعبي فقال و الجيلون ما استعذت بالله من شر إلا من هذا أي و الإنجيل صدق و الله يا أمير المؤمنين النابغة أشعر مني قال الشعبي فأقبل عبد الملك حينئذ علي فقال كيف أنت يا شعبي قلت بخير يا أمير المؤمنين فلا زلت به ثم ذهبت لأصنع معاذير لما كان من خلافي مع ابن الأشعث على الحجاج فقال مه إنا لا نحتاج إلى هذا المنطق و لا تراه منا في قول و لا فعل حتى تفارقنا ثم أقبل علي فقال ما تقول في النابغة قلت يا أمير المؤمنين قد فضله عمر بن الخطاب

١٦٣

في غير موطن على جميع الشعراء ثم أنشدته الشعر الذي كان عمر يعجب به من شعره و قد تقدم ذكره قال فأقبل عبد الملك على الأخطل فقال له أ تحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب أم تحب أنك قلته قال لا و الله يا أمير المؤمنين إلا أني وددت أني كنت قلت أبياتا قالها رجل منا ثم أنشده قول القطامي:

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل

و إن بليت و إن طالت بك الطيل

ليس الجديد به تبقى بشاشته

إلا قليلا و لا ذو خلة يصل

و العيش لا عيش إلا ما تقر به

عين و لا حال إلا سوف تنتقل

إن ترجعي من أبي عثمان منجحة

فقد يهون على المستنجح العمل

و الناس من يلق خيرا قائلون له

ما يشتهي و لأم المخطئ الهبل

قد يدرك المتأني بعض حاجته

و قد يكون مع المستعجل الزلل

قال الشعبي فقلت قد قال القطامي أفضل من هذا قال و ما قال قلت قال:

طرقت جنوب رحالنا من مطرق

ما كنت أحسبها قريب المعنق

إلى آخرها فقال عبد الملك ثكلت القطامي أمه هذا و الله الشعر قال فالتفت إلى الأخطل فقال يا شعبي إن لك فنونا في الأحاديث و إنما لي فن واحد فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضا فقلت لا أعرض لك في شي‏ء من الشعر أبدا فأقلني هذه المرة فقال من يتكفل بك قلت

١٦٤

أمير المؤمنين فقال عبد الملك هو علي أنه لا يعرض لك أبدا ثم قال عبد الملك يا شعبي أي نساء الجاهلية أشعر قلت الخنساء قال و لم فضلتها على غيرها قلت لقولها:

و قائلة و النعش قد فات خطوها

لتدركه يا لهف نفسي على صخر

ألا هبلت أم الذين غدوا به

إلى القبر ما ذا يحملون إلى القبر

فقال عبد الملك أشعر منها و الله التي تقول:

مهفهف أهضم الكشحين منخرق

عنه القميص بسير الليل محتقر

لا يأمن الدهر ممساه و مصبحه

من كل أوب و إن يغز ينتظر

قال ثم تبسم عبد الملك و قال لا يشقن عليك يا شعبي فإنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام و يقولون إن كان غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم و الرواية و أهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق ثم ردد علي أبيات ليلى حتى حفظتها ثم لم أزل عنده أول داخل و آخر خارج فكنت كذلك سنين و جعلني في ألفين من العطاء و جعل عشرين رجلا من ولدي و أهل بيتي في ألف ألف ثم بعثني إلى أخيه عبد العزيز بمصر و كتب إليه يا أخي قد بعثت إليك بالشعبي فانظر هل رأيت قط مثله.قال أبو الفرج الأصبهاني في ترجمة أوس بن حجر إن أبا عبيدة قال كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة قال و قد ذكر الأصمعي أنه سمع أبا عمرو بن العلاء يقول كان أوس بن حجر فحل العرب فلما نشأ النابغة طأطأ منه.و قال محمد بن سلام في كتاب طبقات الشعراء و قال من احتج للنابغة كان أحسنهم

١٦٥

ديباجة شعر و أكثرهم رونق كلام و أجزلهم بيتا كأن شعره كلام ليس بتكلف و المنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر لأن الشاعر يحتاج إلى البناء و العروض و القوافي و المتكلم مطلق يتخير الكلام كيف شاء قالوا و النابغة نبغ بالشعر بعد أن احتنك و هلك قبل أن يهتر.قلت و كان أبو جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد العلوي البصري يفضل النابغة و استقرأني يوما و بيدي ديوان النابغة قصيدته التي يمدح بها النعمان بن المنذر و يذكر مرضه و يعتذر إليه مما كان اتهم به و قذفه به أعداؤه و أولها:

كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا

و همين هما مستكنا و ظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها

و ورد هموم لو يجدن مصادرا

تكلفني أن يغفل الدهر همها

و هل وجدت قبلي على الدهر ناصرا

يقول هذه النفس تكلفني ألا يحدث لها الدهر هما و لا حزنا و ذلك مما لم يستطعه أحد قبلي.

أ لم تر خير الناس أصبح نعشه

على فتية قد جاوز الحي سائرا

كان الملك منهم إذا مرض حمل على نعش و طيف به على أكتاف الرجال بين الحيرة و الخورنق و النجف ينزهونه.

و نحن لديه نسأل الله خلده

يرد لنا ملكا و للأرض عامرا

و نحن نرجي الخير إن فاز قدحنا

و نرهب قدح الدهر إن جاء قامرا

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا

و أصبح جد الناس بعدك عاثرا

و ردت مطايا الراغبين و عريت

جيادك لا يحفي لها الدهر حافرا

١٦٦

رأيتك ترعاني بعين بصيرة

و تبعث حراسا علي و ناظرا

و ذلك من قول أتاك أقوله

و من دس أعداء إليك المآبرا

فآليت لا آتيك إن كنت مجرما

و لا أبتغي جارا سواك مجاورا

أي لا آتيك حتى يثبت عندك أني غير مجرم.

فأهلي فداء لامرئ إن أتيته

تقبل معروفي و سد المفاقرا

سأربط كلبي إن يريبك نبحه

و إن كنت أرعى مسحلان و حامرا

أي سأمسك لساني عن هجائك و إن كنت بالشام في هذين الواديين البعيدين عنك.

و حلت بيوتي في يفاع ممنع

تخال به راعي الحمولة طائرا

تزل الوعول العصم عن قذفاته

و يضحي ذراه بالسحاب كوافرا

حذارا على ألا تنال مقادتي

و لا نسوتي حتى يمتن حرائرا

يقول أنا لا أهجرك و إن كنت من المنعة و العصمة على هذه الصفة.

أقول و قد شطت بي الدار عنكم

إذا ما لقيت من معد مسافرا

ألا أبلغ النعمان حيث لقيته

فأهدى له الله الغيوث البواكرا

و أصبحه فلجا و لا زال كعبه

على كل من عادى من الناس ظاهرا

و رب عليه الله أحسن صنعه

و كان على كل المعادين ناصرا

فجعل أبو جعفررحمه‌الله يهتز و يطرب ثم قال و الله لو مزجت هذه القصيدة بشعر البحتري لكادت تمتزج لسهولتها و سلامة ألفاظها و ما عليها من الديباجة و الرونق من يقول إن إمرأ القيس و زهيرا أشعر من هذا هلموا فليحاكموني.

١٦٧

فأما إمرؤ القيس بن حجر فقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء أخبرني يونس بن حبيب أن علماء البصرة كانوا يقدمونه على الشعراء كلهم و أن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى و أن أهل الحجاز و البادية يقدمون زهيرا و النابغة.قال ابن سلام فالطبقة الأولى إذن أربعة قال و أخبرني شعيب بن صخر عن هارون بن إبراهيم قال سمعت قائلا يقول للفرزدق من أشعر الناس يا أبا فراس فقال ذو القروح يعني إمرأ القيس قال حين يقول ما ذا قال حين يقول:

وقاهم جدهم ببني أبيهم

و بالأشقين ما كان العقاب

قال و أخبرني أبان بن عثمان البجلي قال مر لبيد بالكوفة في بني نهد فأتبعوه رسول يسأله من أشعر الناس فقال الملك الضليل فأعادوه إليه فقال ثم من فقال الغلام القتيل يعنى طرفة بن العبد و قال غير أبان قال ثم ابن العشرين قال ثم من قال الشيخ أبو عقيل يعني نفسه.قال ابن سلام و احتج لإمرئ القيس من يقدمه فقال إنه ليس قال ما لم يقولوه و لكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب فاتبعه فيها الشعراء منها استيقاف صحبه و البكاء في الديار و رقة النسيب و قرب المأخذ و تشبيه النساء بالظباء و بالبيض و تشبيه الخيل بالعقبان و العصي و قيد الأوابد و أجاد في النسيب و فصل بين النسيب و بين المعنى و كان أحسن الطبقة تشبيها.قال و حدثني معلم لبني داود بن علي قال بينا أنا أسير في البادية إذا أنا برجل على ظليم قد زمه و خطمة و هو يقول

١٦٨

هل يبلغنيهم إلى الصباح

هقل كأن رأسه جماح

قال فما زال يذهب به ظليمه و يجي‏ء حتى أنست به و علمت أنه ليس بإنسي فقلت يا هذا من أشعر العرب فقال الذي يقول:

أ غرك مني أن حبك قاتلي

و أنك مهما تأمري القلب يفعل

يعني إمرأ القيس قلت ثم من قال الذي يقول:

و يبرد برد رداء العروس

بالصيف رقرقت فيه العبيرا

و يسخن ليلة لا يستطيع

نباحا بها الكلب إلا هريرا

ثم ذهب به ظليمه فلم أره.قال و حدث عوانة عن الحسن أن رسول الله ص قال لحسان بن ثابت من أشعر العرب قال الزرق العيون من بني قيس قال لست أسألك عن القبيلة إنما أسألك عن رجل واحد فقال حسان يا رسول الله إن مثل الشعراء و الشعر كمثل ناقة نحرت فجاء إمرؤ القيس بن حجر فأخذ سنامها و أطائبها ثم جاء المتجاوران من الأوس و الخزرج فأخذا ما والى ذلك منها ثم جعلت العرب تمزعها حتى إذا بقي الفرث و الدم جاء عمرو بن تميم و النمر بن قاسط فأخذاه

فقال رسول الله ص ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها خامل يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار.فأما الأعشى فقد احتج أصحابه لتفضيله بأنه كان أكثرهم عروضا و أذهبهم في فنون الشعر و أكثرهم قصيدة طويلة جيدة و أكثرهم مدحا و هجاء و كان أول من سأل

١٦٩

بشعره و إن لم يكن له بيت نادر على أفواه الناس كأبيات أصحابه الثلاثة.و قد سئل خلف الأحمر من أشعر الناس فقال ما ينتهى إلى واحد يجمع عليه كما لا ينتهى إلى واحد هو أشجع الناس و لا أخطب الناس و لا أجمل الناس فقيل له يا أبا محرز فأيهم أعجب إليك فقال الأعشى كان أجمعهم.قال ابن سلام و كان أبو الخطاب الأخفش مستهترا به يقدمه و كان أبو عمرو بن العلاء يقول مثله مثل البازي يضرب كبير الطير و صغيره و يقول نظيره في الإسلام جرير و نظير النابغة الأخطل و نظير زهير الفرزدق.فأما قول أمير المؤمنين ع الملك الضليل فإنما سمي إمرؤ القيس ضليلا لما يعلن به في شعره من الفسق و الضليل الكثير الضلال كالشريب و الخمير و السكير و الفسيق للكثير الشرب و إدمان الخمر و السكر و الفسق فمن ذلك قوله:

فمثلك حبلى قد طرقت و مرضعا

فألهيتها عن ذي تمائم محول

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشق و تحتي شقها لم يحول

و قوله:

سموت إليها بعد ما نام أهلها

سمو حباب الماء حالا على حال

فقالت لحاك الله إنك فاضحي

أ لست ترى السمار و الناس أحوالي

فقلت لها تالله أبرح قاعدا

و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي

١٧٠

فلما تنازعنا الحديث و أسمحت

هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا

و رضت فذلت صعبة أي إذلال

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث و لا صالي

فأصبحت معشوقا و أصبح بعلها

عليه القتام كاسف الوجه و البال

و قوله في اللامية الأولى:

و بيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

تخطيت أبوابا إليها و معشرا

علي حراصا لو يسرون مقتلي

فجئت و قد نضت لنوم ثيابها

لدى الستر إلا لبسة المتفضل

فقالت يمين الله ما لك حيلة

و ما إن أرى عنك الغواية تنجلي

فقمت بها أمشي نجر وراءنا

على إثرنا أذيال مرط مرجل

فلما أجزنا ساحة الحي و انتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

هصرت بفودي رأسها فتمايلت

علي هضيم الكشح ريا المخلخل

و قوله:

فبت أكابد ليل التمام

و القلب من خشية مقشعر

فلما دنوت تسديتها

فثوبا نسيت و ثوابا أجر

و لم يرنا كالئ كاشح

و لم يبد منا لدى البيت سر

و قد رابني قولها يا هناه

ويحك ألحقت شرا بشر

١٧١

و قوله:

تقول و قد جردتها من ثيابها

كما رعت مكحول المدامع أتلعا

لعمرك لو شي‏ء أتانا رسوله

سواك و لكن لم نجد لك مدفعا

فبتنا نصد الوحش عنا كأننا

قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا

تجافى عن المأثور بيني و بينها

و تدني علي السابري المضلعا

و في شعر إمرئ القيس من هذا الفن كثير فمن أراده فليطلبه من مجموع شعره

١٧٢

465

وَ قَالَ ع : أَلاَ حُرٌّ يَدَعُ هَذِهِ اَللُّمَاظَةَ لِأَهْلِهَا إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلاَّ اَلْجَنَّةَ فَلاَ تَبِيعُوهَا إِلاَّ بِهَا اللماظة بفتح اللام ما تبقى في الفم من الطعام قال يصف الدنيا

لماظة أيام كأحلام نائم

و لمظ الرجل يلمظ بالضم لمظا إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه و أخرج لسانه فمسح به شفتيه و كذلك التلمظ يقال تلمظت الحية إذا أخرجت لسانها كما يتلمظ الآكل.و قال ألا حر مبتدأ و خبره محذوف أي في الوجود و ألا حرف قال:

ألا رجل جزاه الله خيرا

يدل على محصلة تبيت

ثم قال إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها من الناس من يبيع نفسه بالدراهم و الدنانير و من الناس من يبيع نفسه بأحقر الأشياء و أهونها و يتبع هواه فيهلك و هؤلاء في الحقيقة أحمق الناس إلا أنه قد رين على القلوب فغطتها الذنوب و أظلمت الأنفس بالجهل و سوء العادة و طال الأمد أيضا على القلوب فقست و لو أفكر الإنسان حق الفكر لما باع نفسه إلا بالجنة لا غير

١٧٣

466

وَ قَالَ ع : مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَ طَالِبُ دُنْيَا تقول نهم فلان بكذا فهو منهوم أي مولع به و هذه الكلمة

مروية عن النبي ص منهومان لا يشبعان منهوم بالمال و منهوم بالعلم و النهم بالفتح إفراط الشهوة في الطعام تقول منه نهمت إلى الطعام بكسر الهاء أنهم فأنا نهم و كان في القرآن آية أنزلت ثم رفعت لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب و يتوب الله على من تاب.فأما طالب العلم العاشق له فإنه لا يشبع منه أبدا و كلما استكثر منه زاد عشقه له و تهالكه عليه مات أبو عثمان الجاحظ و الكتاب على صدره.و كان شيخنا أبو عليرحمه‌الله في النزع و هو يملي على ابنه أبي هاشم مسائل في علم الكلام و كان القاضي أحمد بن أبي دواد يأخذ الكتاب في خفه و هو راكب فإذا جلس في دار الخليفة اشتغل بالنظر فيه إلى أن يجلس الخليفة و يدخل إليه و قيل ما فارق ابن أبي دواد الكتاب قط إلا في الخلاء و أعرف أنا في زماننا من مكث نحو خمس سنين لا ينام إلا وقت السحر صيفا و شتاء مكبا على كتاب صنفه و كانت وسادته التي ينام عليها الكتاب

١٧٤

467

وَ قَالَ ع : عَلاَمَةُ اَلْإِيمَانِ اَلْإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ اَلصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى اَلْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وَ أَلاَّ يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ عَمَلِكَ وَ أَنْ تَتَّقِيَ اَللَّهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ قد أخذ المعنى الأول القائل:

عليك بالصدق و لو أنه

أحرقك الصدق بنار الوعيد

و ينبغي أن يكون هذا الحكم مقيدا لا مطلقا لأنه إذا أضر الصدق ضررا عظيما يؤدي إلى تلف النفس أو إلى قطع بعض الأعضاء لم يجز فعله صريحا و وجبت المعاريض حينئذ.فإن قلت فالمعاريض صدق أيضا فالكلام على إطلاقه قلت هي صدق في ذاتها و لكن مستعملها لم يصدق فيما سئل عنه و لا كذب أيضا لأنه لم يخبر عنه و إنما أخبر عن شي‏ء آخر و هي المعاريض و التارك للخبر لا يكون صادقا و لا كاذبا فوجب أن يقيد إطلاق الخبر بما إذا كان الضرر غير عظيم و كانت نتيجة الصدق أعظم نفعا من تلك المضرة.قال ع و ألا يكون في حديث فضل عن علمك متى زاد منطق الرجل على علمه فقد لغا و ظهر نقصه و الفاضل من كان علمه أكثر من منطقه قوله و إن تتقي الله في حديث غيرك أي في نقله و روايته فترويه كما سمعته من غير تحريف

١٧٥

468

وَ قَالَ ع : يَغْلِبُ اَلْمِقْدَارُ عَلَى اَلتَّقْدِيرِ حَتَّى تَكُونَ اَلآْفَةُ فِي اَلتَّدْبِيرِ قال و قد مضى هذا المعنى فيما تقدم برواية تخالف بعض هذه الألفاظ قد تقدم هذا المعنى و هو كثير جدا و من جيده قول الشاعر:

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه

و لكنه من يخذل الله يخذل

لجاهد حتى تبلغ النفس عذرها

و قلقل يبغي العز كل مقلقل

و قال أبو تمام:

و ركب كأطراف الأسنة عرسوا

على مثلها و الليل تسطو غياهبه

لأمر عليهم أن تتم صدوره

و ليس عليهم أن تتم عواقبه

و قال آخر:

فإن بين حيطانا عليه فإنما

أولئك عقالاته لا معاقله

١٧٦

469

وَ قَالَ ع : اَلْحِلْمُ وَ اَلْأَنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ اَلْهِمَّةِ قد تقدم هذا المعنى و شرحه مرارا.و قال ابن هانئ:

و كل أناة في المواطن سؤدد

و لا كأناة من تدبر محكم

و من يتبين أن للسيف موضعا

من الصفح يصفح عن كثير و يحلم

و قال أرباب المعاني علمنا الله تعالى فضيلة الأناة بما حكاه عن سليمان( سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ ) .و كان يقال الأناة حصن السلامة و العجلة مفتاح الندامة.و كان يقال التأني مع الخيبة خير من التهور مع النجاح.و قال الشاعر:

الرفق يمن و الأناة سعادة

فتأن في أمر تلاق نجاحا

١٧٧

و قال من كره الأناة و ذمها لو كانت الأناة محمودة و العجلة مذمومة لما قال موسى لربه( وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) ‏.

و أنشدوا:

عيب الأناة و إن سرت عواقبها

أن لا خلود و أن ليس الفتى حجرا

و قال آخر:

كم من مضيع فرصة قد أمكنت

لغد و ليس له غد بمواتي

حتى إذا فاتت و فات طلابها

ذهبت عليها نفسه حسرات

١٧٨

470

وَ قَالَ ع : اَلْغِيبَةُ جُهْدُ اَلْعَاجِزِ قد تقدم كلامنا في الغيبة مستقصى.و قيل للأحنف من أشرف الناس قال من إذا حضر هابوه و إذا غاب اغتابوه.و قال الشاعر:

و يغتابني من لو كفاني اغتيابه

لكنت له العين البصيرة و الأذنا

و عندي من الأشياء ما لو ذكرتها

إذا قرع المغتاب من ندم سنا

و قد نظمت أنا كلمة الأحنف فقلت:

أكل عرضي إن غبت ذما فإن أبت

فمدح و رهبة و سجود

هكذا يفعل الجبان شجاع

حين يخلو و في الوغى رعديد

لك مني حالان في عينك الجنة

حسنا و في الفؤاد وقود

١٧٩

471

وَ قَالَ ع : رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ اَلْقَوْلِ فِيهِ طالما فتن الناس بثناء الناس عليهم فيقصر العالم في اكتساب العلم اتكالا على ثناء الناس عليه و يقصر العابد في العبادة اتكالا على ثناء الناس عليه و يقول كل واحد منهما إنما أردت ما اشتهرت به للصيت و قد حصل فلما ذا أتكلف الزيادة و أعاني التعب و أيضا فإن ثناء الناس على الإنسان يقتضي اعتراء العجب له و إعجاب المرء بنفسه مهلك.و اعلم أن الرضيرحمه‌الله قطع كتاب نهج البلاغة على هذا الفصل و هكذا وجدت النسخة بخطه و قال هذا حين انتهاء الغاية بنا إلى قطع المنتزع من كلام أمير المؤمنين ع حامدين لله سبحانه على ما من به من توفيقنا لضم ما انتشر من أطرافه و تقريب ما بعد من أقطاره مقررين العزم كما شرطنا أولا على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب لتكون لاقتناص الشارد و استلحاق الوارد و ما عساه أن يظهر لنا بعد الغموض و يقع إلينا بعد الشذوذ و ما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا و هو حسبنا و نعم الوكيل نعم المولى و نعم النصير.ثم وجدنا نسخا كثيرة فيها زيادات بعد هذا الكلام قيل إنها وجدت في نسخة كتبت في حياة الرضيرحمه‌الله و قرئت عليه فأمضاها و أذن في إلحاقها بالكتاب نحن نذكرها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351