كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٢٠

كتاب شرح نهج البلاغة11%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 351

  • البداية
  • السابق
  • 351 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40106 / تحميل: 7095
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة و ندامة على ما فرط منه فيمحو ذنوبه و يبقى له فضل يدخل به الجنة

نكت في مدح العقل و ما قيل فيه

و قد تقدم من قولنا في العقل و ما ذكر فيه ما فيه كفاية و نحن نذكر هاهنا شيئا آخر كان يقال العاقل يروي ثم يروي و يخبر ثم يخبر.و قال عبد الله بن المعتز ما أبين وجوه الخير و الشر في مرآة العقل.

لقمان يا بني شاور من جرب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء و تأخذه أنت بالمجان.أردشير بن بابك أربعة تحتاج إلى أربعة الحسب إلى الأدب و السرور إلى الأمن و القرابة إلى المودة و العقل إلى التجربة.الإسكندر لا تحتقر الرأي الجزيل من الحقير فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها.مسلمة بن عبد الملك ما ابتدأت أمرا قط بحزم فرجعت على نفسي بلائمة و إن كانت العاقبة علي و لا أضعت الحزم فسررت و إن كانت العاقبة لي.وصف رجل عضد الدولة بن بويه فقال لو رأيته لرأيت رجلا له وجه فيه ألف عين و فم فيه ألف لسان و صدر فيه ألف قلب.أثنى قوم من الصحابة على رجل عند رسول الله ص بالصلاة و العبادة و خصال الخير حتى بالغوا

فقال ص كيف عقله قالوا يا رسول الله

٤١

نخبرك باجتهاده في العبادة و ضروب الخير و تسأل عن عقله فقال إن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم مما يصيبه الفاجر بفجوره و إنما ترتفع العباد غدا في درجاتهم و ينالون من الزلفى من ربهم على قدر عقولهم.الريحاني العقل ملك و الخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها و سمع هذا الكلام أعرابي فقال هذا كلام يقطر عسله.قال معن بن زائدة ما رأيت قفا رجل إلا عرفت عقله قيل فإن رأيت وجهه قال ذا كتاب يقرأ.بعض الفلاسفة عقل الغريزة مسلم إلى عقل التجربة.بعضهم كل شي‏ء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا.قالوا في قوله تعالى( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا ) أي من كان عاقلا.و من كلامهم العاقل بخشونة العيش مع العقلاء آنس منه بلين العيش مع السفهاء.أعرابي لو صور العقل أظلمت معه الشمس و لو صور الحمق لأضاء معه الليل.قيل لحكيم متى عقلت قال حين ولدت فأنكروا ذلك فقال أما أنا فقد بكيت حين جعت و طلبت الثدي حين احتجت و سكت حين أعطيت يريد أن من عرف مقادير حاجته فهو عاقل.المأمون إذا أنكرت من عقلك شيئا فاقدحه بعاقل.بزرجمهر العاقل الحازم إذا أشكل عليه الرأي بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها من التراب ثم التمسها حتى وجدها و كذلك العاقل يجمع وجوه

٤٢

الرأي في الأمر المشكل ثم يضرب بعضها في بعض حتى يستخلص الرأي الأصوب.كان يقال هجين عاقل خير من هجان جاهل.كان بعضهم إذا استشير قال لمشاوره أنظرني حتى أصقل عقلي بنومة.إذا نزلت المقادير نزلت التدابير من نظر في المغاب ظفر بالمحاب من استدت عزائمه اشتدت دعائمه الرأي السديد أجدى من الأيد الشديد.بعضهم:

و ما ألف مطرور السنان مشدد

يعارض يوم الروع رأيا مسددا

أبو الطيب:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهى المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة

بلغت من العلياء كل مكان

و لربما طعن الفتى أقرانه

بالرأي قبل تطاعن الأقران

لو لا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان

و لما تفاضلت النفوس و دبرت

أيدي الكماة عوالي المران

ذكر المأمون ولد علي ع فقال خصوا بتدبير الآخرة و حرموا تدبير الدنيا.كان يقال إذا كان الهوى مقهورا تحت يد العقل و العقل مسلط عليه صرفت مساوئ صاحبه إلى المحاسن فعدت بلادته حلما و حدته ذكاء و حذره بلاغة و عية صمتا و جبنه حذرا و إسرافه جودا.

٤٣

و ذكر هذا الكلام عند بعضهم فقال هذه خصيصة الحظ نقلها مرتب هذا الكلام إلى العقل.سمع محمد بن يزداد كاتب المأمون قول الشاعر:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا

فأضاف إليه:

و إن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا

فإن فساد العزم أن يتفندا

٤٤

٤١٦

وَ قَالَ ع : مَنْ صَارَعَ اَلْحَقَّ صَرَعَهُ هذا مثل قوله في موضع آخر من أبدى صفحته للحق هلك و نحو هذا قول الطائي:

و من قامر الأيام عن ثمراتها

فأحج بها أن تنجلي و لها القمر

٤٥

٤١٧

وَ قَالَ ع : اَلْقَلْبُ مُصْحَفُ اَلْبَصَرِ هذا مثل قول الشاعر:

تخبرني العينان ما القلب كاتم

و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر

يقول ع كما أن الإنسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه كذلك إذا أبصر الإنسان صاحبه فإنه يرى قلبه بوساطة رؤية وجهه ثم يعلم ما في قلبه من حب و بغض و غيرهما كما يعلم برؤية الخط الذي في المصحف ما يدل الخط عليه.و قال الشاعر:

إن العيون لتبدي في تقلبها

ما في الضمائر من ود و من حنق

٤٦

٤١٨

وَ قَالَ ع : اَلتُّقَى رَئِيسُ اَلْأَخْلاَقِ يعني رئيس الأخلاق الدينية لأن الأخلاق الحميدة كالجود و الشجاعة و الحلم و العفة و غير ذلك لو قدرنا انتفاء التكاليف العقلية و الشرعية لم يكن التقى رئيسا لها و إنما رئاسة التقى لها مع ثبوت التكليف لا سيما الشرعي و التقى في الشرع هو الورع و الخوف من الله و إذا حصل حصلت الطاعات كلها و انتفت القبائح كلها فصار الإنسان معصوما و تلك طبقة عالية و هي أشرف من جميع الطبقات التي يمدح بها الإنسان نحو قولنا جواد أو شجاع أو نحوهما لأنها طبقة ينتقل الإنسان منها إلى الجنة و دار الثواب الدائم و هذه مزية عظيمة يفضل بها على سائر طبقات الأخلاق

٤٧

٤١٩

وَ قَالَ ع : لاَ تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِكَ عَلَى مَنْ أَنْطَقَكَ وَ بَلاَغَةَ قَوْلِكَ عَلَى مَنْ سَدَّدَكَ يقول لا شبهة أن الله تعالى هو الذي أنطقك و سدد لفظك و علمك البيان كما قال سبحانه( خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ ) فقبيح أن يجعل الإنسان ذرب لسانه و فصاحة منطقه على من أنطقه و أقدره على العبادة و قبيح أن يجعل الإنسان بلاغة قوله على من سدد قوله و جعله بليغا حسن التعبير على المعاني التي في نفسه و هذا كمن ينعم على إنسان بسيف فإنه يقبح منه أن يقتله بذلك السيف ظلما قبحا زائدا على ما لو قتله بغير ذلك السيف و ما أحسن قول المتنبي في سيف الدولة:

و لما كسا كعبا ثيابا طغوا بها

رمى كل ثوب من سنان بخارق

و ما يوجع الحرمان من كف حازم

كما يوجع الحرمان من كف رازق

٤٨

٤٢٠

وَ قَالَ ع : كَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ اِجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَ قد قال ع هذا اللفظ أو نحوه مرارا و قد تكلمنا نحن عليه و ذكرنا نظائر له كثيرة نثرا و نظما.و كتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك في حال اقتضت ذلك:

ما على ذا افترقنا بشبذان إذ كنا

و لا هكذا عهدنا الإخاء

تضرب الناس بالمهندة البيض

على غدرهم و تنسى الوفاء

٤٩

٤٢١

وَ قَالَ ع يُعَزِّي قَوْماً مَنْ صَبَرَ صَبْرَ اَلْأَحْرَارِ وَ إِلاَّ سَلاَ سُلُوَّ اَلْأَغْمَارِ وَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ ع قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مُعَزِّياً عَنِ اِبْنٍ لَهُ إِنْ صَبَرْتَ صَبْرَ اَلْأَكَارِمِ وَ إِلاَّ سَلَوْتَ سُلُوَّ اَلْبَهَائِمِ أخذ هذا المعنى أبو تمام بل حكاه فقال:

و قال علي في التعازي لأشعث

و خاف عليه بعض تلك المآثم

أتصبر للبلوى عزاء و حسبة

فتؤجر أم تسلو سلو البهائم

٥٠

٤٢٢

وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ اَلدُّنْيَا اَلدُّنْيَا تَغُرُّ وَ تَضُرُّ وَ تَمُرُّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لَمْ يَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِيَائِهِ وَ لاَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ قد تقدم لنا كلام طويل في ذم الدنيا و من الكلام المستحسن قوله تغر و تضر و تمر و الكلمة الثانية أحسن و أجمل.و قرأت في بعض الآثار أن عيسى ع مر بقرية و إذا أهلها موتى في الطرق و الأفنية فقال للتلامذة إن هؤلاء ماتوا عن سخطة و لو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا سيدنا وددنا أنا علمنا خبرهم فسأل الله تعالى فقال له إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على نشز ثم ناداهم فأجابه مجيب فقال ما حالكم و ما قصتكم فقال بتنا في عافية و أصبحنا في الهاوية قال و كيف ذلك قال لحبنا الدنيا قال كيف كان حبكم لها قال حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرح بها و إذا أدبرت حزن عليها و بكى قال فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال فكيف أجبتني أنت من بينهم قال لأني كنت فيهم و لم أكن منهم فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أكبكب فيها فقال المسيح لتلامذته لأكل خبز الشعير بالملح الجريش و لبس المسوح و النوم على المزابل و سباخ الأرض في حر الصيف كثير مع العافية من عذاب الآخرة

٥١

٤٢٣

وَ إِنَّ أَهْلَ اَلدُّنْيَا كَرَكْبٍ بَيْنَا هُمْ حَلُّوا إِذْ صَاحَ بِهِمْ سَائِقُهُمْ فَارْتَحَلُوا روي بيناهم حلول و بينا هي بين نفسها و وزنها فعلى أشبعت فتحة النون فصارت ألفا ثم قالوا بينما فزادوا ما و المعنى واحد تقول بينا نحن نفعل كذا جاء زيد أي بين أوقات فعلنا كذا جاء زيد و الجمل قد يضاف إليها أسماء الزمان نحو قولهم أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفوا المضاف الذي هو أوقات و ولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المحذوف.و كان الأصمعي يخفض بعد بينا إذا صلح في موضعه بين و ينشد قول أبي ذؤيب بالكسر:

بينا تعنقه الكماة و روغه

يوما أتيح له جري سلفع

و غيره يرفع ما بعد بينا و بينما على الابتداء و الخبر فأما إذ و إذا فإن أكثر أهل العربية يمنعون من مجيئهما بعد بينا و بينما و منهم من يجيزه و عليه جاء كلام أمير المؤمنين و أنشدوا:

بينما الناس على عليائها

إذ هووا في هوة منها فغاروا

٥٢

و قالت الحرقة بنت النعمان بن المنذر:

و بينا نسوس الناس و الأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

و قال الشاعر:

أستقدر الله خيرا و أرضين به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

و بينما المرء في الأحياء مغتبط

إذ صار في اللحد تعفوه الأعاصير

و مما جاء في وصف الدنيا مما يناسب كلام أمير المؤمنين قول أبي العتاهية:

إن دارا نحن فيها لدار

ليس فيها لمقيم قرار

كم و كم قد حلها من أناس

ذهب الليل بهم و النهار

فهم الركب قد أصابوا مناخا

فاسترحوا ساعة ثم ساروا

و كذا الدنيا على ما رأينا

يذهب الناس و تخلو الديار

٥٣

٤٢٤

وَ قَالَ ع لاِبْنِهِ اَلْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ لاَ تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اَللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ اَلرَّضِيُّ وَ يُرْوَى هَذَا اَلْكَلاَمُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَ هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلَّذِي فِي يَدَيْكَ يَدِكَ مِنَ اَلدُّنْيَا قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَى أَهْلٍ بَعْدَكَ وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اَللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ فَشَقِيَ فَشَقِيتَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَهْلاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ أَوْ وَ لاَ أَنْ تَحْمِلَ لَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَارْجُ لِمَنْ مَضَى رَحْمَةَ اَللَّهِ وَ لِمَنْ بَقِيَ رِزْقَ اَللَّهِ تَعَالَى روي فإنك لا تخلفه إلا لأحد رجلين و هذا الفصل نهي عن الادخار و قد سبق لنا فيه كلام مقنع.و خلاصة هذا الفصل أنك إن خلفت مالا فإما أن تخلفه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو لمن يعمل فيه بمعصيته فالأول يسعد بما شقيت به أنت و الثاني يكون معانا

٥٤

منك على المعصية بما تركته له من المال و كلا الأمرين مذموم و إنما قال له فارج لمن مضى رحمة الله و لمن بقي رزق الله لأنه قال في أول الكلام قد كان لهذا المال أهل قبلك و هو صائر إلى أهل بعدك.و الكلام في ذم الادخار و الجمع كثير و للشعراء فيه مذاهب واسعة و معان حسنة و قال بعضهم:

يا جامعا مانعا و الدهر يرمقه

مدبرا أي باب عنه يغلقه

و ناسيا كيف تأتيه منيته

أ غاديا أم بها يسري فتطرقه

جمعت مالا فقل لي هل جمعت له

يا جامع المال أياما تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه

ما المال مالك إلا يوم تنفقه

أرفه ببال فتى يغدو على ثقة

أن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه

و الوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتها

لم يلق في ظلها هما يؤرقه

٥٥

٤٢٥

وَ قَالَ ع لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَ تَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ إِنَّ لِلاِسْتِغْفَارِ دَرَجَةَ اَلْعِلِّيِّينَ اَلاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ وَ هُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ أَوَّلُهَا اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَ اَلثَّانِي اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً وَ اَلثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ عزوجل أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ وَ اَلرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا وَ اَلْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ وَ اَلسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ

قد روي أن الاستغفار درجة العليين.فيكون على تقدير حذف مضاف أي أن درجة الاستغفار درجة العليين و على الرواية الأولى يكون على تقدير حذف مضاف أي أن لصاحب الاستغفار درجة العليين و هو هاهنا جمع على فعيل كضليل و خمير تقول هذا رجل علي أي كثير العلو و منه العلية للغرفة على إحدى اللغتين و لا يجوز أن يفسر بما فسر به الراوندي من قوله إنه اسم السماء السابعة و نحو قوله هو سدرة المنتهى و نحو قوله هو موضع تحت قائمة العرش اليمنى لأنه لو كان كذلك لكان

٥٦

علما فلم تدخله اللام كما لا يقال الجهنم و كذلك أيضا لا يجوز تفسيره بما فسره الراوندي أيضا قال العليين جمع علي الأمكنة في السماء لأنه لو كان كذلك لم يجمع بالنون لأنها تختص بمن يعقل و تصلح أن تكون الوجوه الأولى تفسيرا لقوله تعالى( كَلاَّ إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) .قوله نبت على السحت أي على الحرام يقال سحت بالتسكين و سحت بالضم و أسحت الرجل في تجارته أي اكتسب السحت

فصل في الاستغفار و التوبة

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضوع كلاما مختصرا مما يقوله أصحابنا في التوبة فإن كلام أمير المؤمنين هو الأصل الذي أخذ منه أصحابنا مقالتهم و الذي يقولونه في التوبة فقد أتى على جوامعه ع في هذا الفصل على اختصاره.قال أصحابنا الكلام في التوبة يقع من وجوه منها الكلام في ماهية التوبة و الكلام في إسقاطها الذم و العقاب و الكلام في أنه يجب علينا فعلها و الكلام في شرطها أما ماهية التوبة فهي الندم و العزم لأن التوبة هي الإنابة و الرجوع و ليس يمكن أن يرجع الإنسان عما فعله إلا بالندم عليه و العزم على ترك معاودته و ما يتوب الإنسان منه إما أن يكون فعلا قبيحا و إما أن يكون إخلالا بواجب فالتوبة من الفعل القبيح هي أن يندم عليه و يعزم ألا يعود إلى مثله و عزمه على ذلك هو كراهيته لفعله و التوبة من الإخلال بالواجب هي أن يندم على إخلاله بالواجب

٥٧

و يعزم على أداء الواجب فيما بعد فأما القول في أن التوبة تسقط العذاب فعندنا أن العقل يقتضي قبح العقاب بعد التوبة و خالف أكثر المرجئة في ذلك من الإمامية و غيرهم و احتج أصحابنا بقبح عقوبة المسي‏ء إلينا بعد ندمه و اعتذاره و تنصله و العلم بصدقه و العلم بأنه عازم على ألا يعود.فأما القول في وجوب التوبة على العصاة فلا ريب أن الشرع يوجب ذلك فأما العقل فالقول فيه أنه لا يخلو المكلف إما أن يعلم أن معصيته كبيرة أو يعلم أنها صغيرة أو يجوز فيها كلا الأمرين فإن علم كونها كبيرة وجب عليه في العقول التوبة منها لأن التوبة مزيلة لضرر الكبيرة و إزالة المضار واجبة في العقول و إن جوز كونها كبيرة و جوز كونها صغيرة لزمه أيضا في العقل التوبة منها لأنه يأمن بالتوبة من مضرة مخوفة و فعل ما يؤمن من المضار المخوفة واجب و إن علم أن معصيته صغيرة و ذلك كمعاصي الأنبياء و كمن عصى ثم علم بإخبار نبي أن معصيته صغيرة محبطة فقد قال الشيخ أبو علي إن التوبة منها واجبة في العقول لأنه إن لم يتب كان مصرا و الإصرار قبيح.و قال الشيخ أبو هاشم لا تجب التوبة منها في العقل بالشرع لأن فيها مصلحة يعلمها الله تعالى قال إنه يجوز أن يخلو الإنسان من التوبة عن الذنب و من الإصرار عليه لأن الإصرار عليه هو العزم على معاودة مثله و التوبة منه أن يكره معاودة مثله مع الندم على ما مضى و يجوز أن يخلو الإنسان من العزم على الشي‏ء و من كراهته.و مال شيخنا أبو الحسينرحمه‌الله إلى وجوب التوبة هاهنا عقلا لدليل غير دليل أبي عليرحمه‌الله .

٥٨

فأما القول في صفات التوبة و شروطها فإنها على ضربين أحدهما يعم كل توبة و الآخر يختلف بحسب اختلاف ما يتاب منه فالأول هو الندم و العزم على ترك المعاودة.و أما الضرب الثاني فهو أن ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فعلا أو إخلالا بواجب فإن كان فعلا قبيحا وجب عند الشيخ أبي هاشمرحمه‌الله أن يندم عليه لأنه فعل قبيح و أن يكره معاودة مثله لأنه قبيح و إن كان إخلالا بواجب وجب عليه عنده أن يندم عليه لأنه إخلال بواجب و أن يعزم على فعل مثل ما أخل به لأنه واجب فإن ندم خوف النار فقط أو شوقا إلى الجنة فقط أو لأن القبيح الذي فعله يضر ببدنه كانت توبته صحيحة و إن ندم على القبيح لقبحه و لخوف النار و كان لو انفرد قبحه ندم عليه فإن توبته تكون صحيحة و إن كان لو انفرد القبح لم يندم عليه فإنه لا تكون توبته صحيحة عنده و الخلاف فيه مع الشيخ أبي علي و غيره من الشيوخ رحمهم الله و إنما اختار أبو هاشم هذا القول لأن التوبة تجري مجرى الاعتذار بيننا و معلوم أن الواحد منا لو أساء إلى غيره ثم ندم على إساءته إليه و اعتذر منها خوفا من معاقبته له عليها أو من معاقبة السلطان حتى لو أمن العقوبة لما اعتذر و لا ندم بل كان يواصل الإساءة فإنه لا يسقط ذمه فكذلك التوبة خوف النار لا لقبح الفعل.و قد نقل قاضي القضاة هذا المذهب عن أمير المؤمنين ع و الحسن البصري و علي بن موسى الرضا و القاسم بن إبراهيم الزينبي.قال أصحابنا و للتوبة شروط أخر تختلف بحسب اختلاف المعاصي و ذلك أن

٥٩

ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فيه لآدمي حق أو لا حق فيه لآدمي فما ليس للآدمي فيه حق فنحو ترك الصلاة فإنه لا يجب فيه إلا الندم و العزم على ما قدمنا و ما لآدمي فيه حق على ضربين أحدهما أن يكون جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله أو دينه و الآخر ألا يكون جناية عليه في شي‏ء من ذلك فما كان جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله فالواجب فيه الندم و العزم و أن يشرع في تسليم بدل ما أتلف فإن لم يتمكن من ذلك لفقر أو غيره عزم على ذلك إذا تمكن منه فإن مات قبل التمكن لم يكن من أهل العقاب و إن جنى عليه في دينه بأن يكون قد أضله بشبهة استزله بها فالواجب عليه مع الندم العزم و الاجتهاد في حل شبهته من نفسه فإن لم يتمكن من الاجتماع به عزم على ذلك إذا تمكن فإن مات قبل التمكن أو تمكن منه و اجتهد في حل الشبهة فلم تنحل من نفس ذلك الضال فلا عقاب عليه لأنه قد استفرغ جهده فإن كانت المعصية غير جناية نحو أن يغتابه أو يسمع غيبته فإنه يلزمه الندم و العزم و لا يلزمه أن يستحله أو يعتذر إليه لأنه ليس يلزمه أرش لمن اغتابه فيستحله ليسقط عنه الأرش و لا غمه فيزيل غمه بالاعتذار و في ذكر الغيبة له ليستحله فيزيل غمه منها إدخال غم عليه فلم يجز ذلك فإن كان قد أسمع المغتاب غيبته فذلك جناية عليه لأنه قد أوصل إليه مضرة الغم فيلزمه إزالة ذلك بالاعتذار

٦٠

426

وَ قَالَ ع اَلْحِلْمُ عَشِيرَةٌ كان يقال الحلم جنود مجندة لا أرزاق لها.و قال ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال.و قال الشاعر:

و للكف عن شتم اللئيم تكرما

أضر له من شتمه حين يشتم

و كان يقال من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم.و قد تقدم من القول في الحلم ما فيه كفاية

٦١

427

وَ قَالَ ع : مِسْكِينٌ اِبْنُ آدَمَ مَكْتُومُ اَلْأَجَلِ مَكْنُونُ اَلْعِلَلِ مَحْفُوظُ اَلْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ اَلشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ قد تقدم هاهنا خبر المبتدإ عليه و التقدير ابن آدم مسكين ثم بين مسكنته من أين هي فقال إنها من ستة أوجه أجله مكتوم لا يدري متى يخترم و علله باطنة لا يدري بها حتى تهيج عليه و عمله محفوظ( ما لِهذَا اَلْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها ) و قرص البقة يؤلمه و الشرقة بالماء تقتله و إذا عرق أنتنته العرقة الواحدة و غيرت ريحه فمن هو على هذه الصفات فهو مسكين لا محالة لا ينبغي أن يأمن و لا أن يفخر

٦٢

428

وَ يُرْوَى رُوِيَ أَنَّهُ ع كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِهِ إِذْ مَرَّتْ فَمَرَّتْ بِهِمُ اِمْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا اَلْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ ع إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ اَلْفُحُولِ طَوَامِحُ وَ إِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى اِمْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلاَمِسْ أَهْلَهُ فَإِنَّمَا هِيَ اِمْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اَلْخَوَارِجِ قَاتَلَهُ اَللَّهُ كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ قَالَ فَوَثَبَ اَلْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ ع رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ تقول هب الفحل و التيس يهب بالكسر هبيبا أو هبابا إذا هاج للضراب أو للفساد و الهباب أيضا صوت و التيس إذا هب فهو مهباب و قد هبهبته أي دعوته لينزو فتهبهب أي تزعزع.و سألني صديقنا علي بن البطريق عن هذه القصة فقال ما باله عفا عن الخارجي و قد طعن فيه بالكفر و أنكر على الأشعث قوله هذه عليك لا لك فقال

٦٣

ما يدريك عليك لعنة الله ما علي مما لي حائك ابن حائك منافق ابن كافر و ما واجهه به الخارجي أفظع مما واجهه الأشعث فقلت لا أدري.قال لأن كل صاحب فضيلة يعظم عليه أن يطعن في فضيلته تلك و يدعى عليه أنه فيها ناقص و كان علي ع بيت العلم فلما طعن فيه الأشعث طعن بأنك لا تدري ما عليك مما لك فشق ذلك عليه و امتعض منه و جبهه و لعنه و أما الخارجي فلم يطعن في علمه بل أثبته له و اعترف به و تعجب منه فقال قاتله الله كافرا ما أفقهه فاغتفر له لفظة كافر بما اعترف له به من علو طبقته في الفقه و لم يخشن عليه خشونته على الأشعث و كان قد مرن على سماع قول الخوارج أنت كافر و قد كفرت يعنون التحكيم فلم يحفل بتلك اللفظة و نهى أصحابه عن قتله محافظة و رعاية له على ما مدحه به

٦٤

429

وَ قَالَ ع : كَفَاكَ مِنْ عَقْلِكَ مَا أَوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيِّكَ مِنْ رُشْدِكَ يقول ع كفى الإنسان من عقله ما يفرق به بين الغي و الرشاد و بين الحق من العقائد و الباطل فإنه بذلك يتم تكليفه و لا حاجة في التكليف و الفرق بين الغي و الرشد إلى زيادة على ذلك نحو التجارب التي تفيده الحزم التام و معرفة أحوال الدنيا و أهلها و أيضا لا حاجة له إلى أن يكون عنده من الفطنة الثاقبة و الذكاء التام ما يستنبط به دقائق الكلام في الحكمة و الهندسة و العلوم الغامضة فإن ذلك كله فضل مستغنى عنه فإن حصل للإنسان فقد كمل و إن لم يحصل للإنسان فقد كفاه في تكليفه و نجاته من معاطب العصيان ما يفرق به بين الغي و الرشاد و هو حصول العلوم البديهية في القلب و ما جرى مجراها من علوم العادات و ما يذكره أصحابنا في باب التكليف

٦٥

430

وَ قَالَ ع : اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ وَ لاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَ قَلِيلَهُ كَثِيرٌ وَ لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ اَلْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَ اَللَّهِ كَذَلِكَ القليل من الخير خير من عدم الخير أصلا.قال ع لا يقولن أحدكم إن فلانا أولى بفعل الخير مني فيكون و الله كذلك مثاله قوم موسرون في محلة واحدة قصد واحدا منهم سائل فرده و قال له اذهب إلى فلان فهو أولى بأن يتصدق عليك مني فإن هذه الكلمة تقال دائما نهى ع عن قولها و قال فيكون و الله كذلك أي إن الله تعالى يوفق ذلك الشخص الذي أحيل ذلك السائل عليه و ييسر الصدقة عليه و يقوي دواعيه إليها فيفعلها فتكون كلمة ذلك الإنسان الأول قد صادفت قدرا و قضاء و وقع الأمر بموجبها

٦٦

431

إِنَّ لِلْخَيْرِ وَ لِلشَّرِّ أَهْلاً فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ يقول ع إن عن لك باب من أبواب الخير و تركته فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعله الله تعالى أهلا للخير و إسداء المعروف إلى الناس و إن عن لك باب من أبواب الشر فتركته فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعلتهم أنفسهم و سوء اختيارهم أهلا للشر و أذى الناس فاختر لنفسك أيما أحب إليك أن تحظى بالمحمدة و الثواب و تفعل ما إن تركته فعله غيرك و حظي بحمده و ثوابه أو أن تتركه و أيما أحب إليك أن تشقى بالذم عاجلا و العقاب آجلا و تفعل ما إن تركته كفاكه غيرك و بلغت غرضك منه على يد غيرك أو أن تفعله و لا ريب أن العاقل يختار فعل الخير و ترك الشر إذا أفكر حق الفكر فيما قد أوضحناه

٦٧

432

وَ قَالَ ع : مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اَللَّهُ عَلاَنِيَتَهُ وَ مَنْ عَمِلَ لِدِينِهِ كَفَاهُ اَللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَ مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَللَّهِ أَحْسَنَ اَللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلنَّاسِ لا ريب أن الأعمال الظاهرة تبع للأعمال الباطنة فمن صلح باطنه صلح ظاهره و بالعكس و ذلك لأن القلب أمير مسلط على الجوارح و الرعية تتبع أميرها و لا ريب أن من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه و قد شهد بذلك الكتاب العزيز في قوله سبحانه( وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .

و لهذا أيضا علة ظاهرة و ذاك أن من عمل لله سبحانه و للدين فإنه لا يخفى حاله في أكثر الأمر عن الناس و لا شبهة أن الناس إذا حسنت عقيدتهم في إنسان و علموا متانة دينه بوبوا له إلى الدنيا أبوابا لا يحتاج أن يتكلفها و لا يتعب فيها فيأتيه رزقه من غير كلفة و لا كد و لا ريب أن من أحسن فيما بينه و بين الله أحسن الله ما بينه و بين الناس و ذلك لأن القلوب بالضرورة تميل إليه و تحبه و ذلك لأنه إذا كان محسنا بينه و بين الناس عف عن أموال الناس و دمائهم و أعراضهم و ترك الدخول فيما لا يعنيه و لا شبهة أن من كان بهذه الصفة فإنه يحسن ما بينه و بين الناس

٦٨

433

وَ قَالَ ع : اَلْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ وَ اَلْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ وَ قَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ لما جعل الله الحلم غطاء و العقل حساما أمره أن يستر خلل خلقه بذلك الغطاء و أن يقاتل هواه بذلك الحسام و قد سبق القول في الحلم و العقل

٦٩

434

وَ قَالَ ع : إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمْ يَخْتَصُّهُمُ اَللَّهُ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ اَلْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ قد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم و قد قالت الشعراء فيه فأكثروا و قريب من ذلك قول الشاعر:

و بالناس عاش الناس قدما و لم يزل

من الناس مرغوب إليه و راغب

و أشد تصريحا بالمعنى قول الشاعر:

لم يعطك الله ما أعطاك من نعم

إلا لتوسع من يرجوك إحسانا

فإن منعت فأخلق أن تصادفها

تطير عنك زرافات و وحدانا

٧٠

435

وَ قَالَ ع : لاَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثِقَ بِخَصْلَتَيْنِ اَلْعَافِيَةِ وَ اَلْغِنَى بَيْنَا تَرَاهُ مُعَافًى إِذْ سَقِمَ وَ بَيْنَا تَرَاهُ غَنِيّاً إِذِ اِفْتَقَرَ قد تقدم القول في هذا المعنى.و قال الشاعر:

و بينما المرء في الأحياء مغتبط

إذ صار في اللحد تسفيه الأعاصير

و قال آخر:

لا يغرنك عشاء ساكن

قد يوافي بالمنيات السحر

و قال عبيد الله بن طاهر:

و إذا ما أعارك الدهر شيئا

فهو لا بد آخذ ما أعارا

آخر:

يغر الفتى مر الليالي سليمة

و هن به عما قليل عواثر

و قال آخر:

و رب غني عظيم الثراء

أمسى مقلا عديما فقيرا

و كم بات من مترف في القصور

فعوض في الصبح عنها القبورا

٧١

436

وَ قَالَ ع : مَنْ شَكَا اَلْحَاجَةَ إِلَى مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا فَكَأَنَّهُ شَكَاهَا إِلَى اَللَّهِ وَ مَنْ شَكَاهَا إِلَى كَافِرٍ فَكَأَنَّمَا شَكَا اَللَّهَ قد تقدم القول في شكوى الحال و كراهيتها و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه لا يكره شكوى الحال إلى المؤمن و يكرهها إلى غير المؤمن و هذا مذهب ديني غير المذهب العرفي.و أكثر مذاهبه و مقاصده ع في كلامه ينحو فيها نحو الدين و الورع و الإسلام و كأنه يجعل الشكوى إلى المؤمن كالشكوى إلى الخالق سبحانه لأنه لا يشكو إلى المؤمن إلا و قد خلت شكواه من التسخط و التأفف و لا يشكو إلى الكافر إلا و قد شاب شكواه بالاستزادة و التضجر فافترقت الحال في الموضعين.فأما المذهب المشهور في العرف و العادة فاستهجان الشكوى على الإطلاق لأنها دليل على ضعف النفس و خذلانها و قلة الصبر على حوادث الدهر و ذلك عندهم غير محمود

٧٢

437

وَ قَالَ ع فِي بَعْضِ اَلْأَعْيَادِ إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اَللَّهُ صِيَامَهُ وَ شَكَرَ قِيَامَهُ وَ كُلُّ يَوْمٍ لاَ نَعْصِي اَللَّهَ يُعْصَى اَللَّهُ فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ عِيدٌ المعنى ظاهر و قد نقله بعض المحدثين إلى الغزل فقال:

قالوا أتى العيد قلت أهلا

إن جاء بالوصل فهو عيد

من ظفرت بالمنى يداه

فكل أيامه سعود

و رأيت بعض الصوفية و قد سمع هذين البيتين من مغن حاذق فطرب و صفق و أخذهما لمعنى عنده.و قد قال بعض المحدثين في هذا المعنى أيضا:

قالوا أتى العيد و الأيام مشرقة

و أنت تبكي و كل الناس مسرور

فقلت إن واصل الأحباب كان لنا

عيدا و إلا فهذا اليوم عاشور

٧٣

438

وَ قَالَ ع : إِنَّ أَعْظَمَ اَلْحَسَرَاتِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالاً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اَللَّهِ فَوَرَّثَهُ رَجُلاً فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ بِهِ اَلْجَنَّةَ وَ دَخَلَ اَلْأَوَّلُ بِهِ اَلنَّارَ كان يقال لعمر بن عبد العزيز بن مروان السعيد ابن الشقي و ذلك أن عبد العزيز بن مروان ملك ضياعا كثيرة بمصر و الشام و العراق و المدينة من غير طاعة الله بل بسلطان أخيه عبد الملك و بولاية عبد العزيز نفسه مصر و غيرها ثم تركها لابنه عمر فكان ينفقها في طاعة الله سبحانه و في وجوه البر و القربات إلى أن أفضت الخلافة إليه فلما أفضت إليه أخرج سجلات عبد الملك بها لعبد العزيز فمزقها بمحضر من الناس و قال هذه كتبت من غير أصل شرعي و قد أعدتها إلى بيت المال

٧٤

439

وَ قَالَ ع : إِنَّ أَخْسَرَ اَلنَّاسِ صَفْقَةً وَ أَخْيَبَهُمْ سَعْياً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ آمَالِهِ مَالِهِ وَ لَمْ تُسَاعِدْهُ اَلْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ اَلدُّنْيَا بِحَسْرَتِهِ وَ قَدِمَ عَلَى اَلآْخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ هذه صورة أكثر الناس و ذلك لأن أكثرهم يكد بدنه و نفسه في بلوغ الآمال الدنيوية و القليل منهم من تساعد المقادير على إرادته و إن ساعدته على شي‏ء منها بقي في نفسه ما لا يبلغه كما قيل:

نروح و نغدو لحاجاتنا

و حاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته

و تبقى له حاجة ما بقي

فأكثرهم إذن يخرج من الدنيا بحسرته و يقدم على الآخرة بتبعته لأن تلك الآمال التي كانت الحركة و السعي فيها ليست متعلقة بأمور الدين و الآخرة لا جرم أنها تبعات و عقوبات و نسأل الله عفوه

٧٥

440

وَ قَالَ ع : اَلرِّزْقُ رِزْقَانِ طَالِبٌ وَ مَطْلُوبٌ فَمَنْ طَلَبَ اَلدُّنْيَا طَلَبَهُ اَلْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا وَ مَنْ طَلَبَ اَلآْخِرَةَ طَلَبَتْهُ اَلدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا رِزْقَهُ رِزْقَهُ مِنْهَا هذا تحريض على طلب الآخرة و وعد لمن طلبها بأنه سيكفي طلب الدنيا و إن الدنيا ستطلبه حتى يستوفي رزقه منها.و قد قيل مثل الدنيا مثل ظلك كلما طلبته بعد عنك فإن أدبرت عنه تبعك

٧٦

441

وَ قَالَ ع : إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ هُمُ اَلَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ اَلدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا وَ اِشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اِشْتَغَلَ اَلنَّاسُ بِعَاجِلِهَا فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَهُمْ وَ تَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَتْرُكُهُمْ وَ رَأَوُا اِسْتِكْثَارَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا اِسْتِقْلاَلاً وَ دَرْكَهُمْ دَرَكَهُمْ لَهَا فَوَاتاً فَوْتاً أَعْدَاءٌ لِمَا أَعْدَاءُ مَا سَالَمَ اَلنَّاسُ وَ سَلْمٌ لِمَنْ سَلْمُ مَا عَادَى اَلنَّاسُ بِهِمْ عُلِمَ اَلْكِتَابُ وَ بِهِ عُلِمُوا عَلِمُوا وَ بِهِمْ قَامَ كِتَابُ اَللَّهِ تَعَالَى اَلْكِتَابُ وَ بِهِ قَامُوا لاَ يَرَوْنَ مَرْجُوّاً فَوْقَ مَا يَرْجُونَ وَ لاَ مَخُوفاً فَوْقَ مَا يَخَافُونَ هذا يصلح أن تجعله الإمامية شرح حال الأئمة المعصومين على مذاهبهم لقوله فوق ما يرجون بهم علم الكتاب و به علموا و أما نحن فنجعله شرح حال العلماء العارفين و هم أولياء الله الذين ذكرهم ع لما نظر الناس إلى ظاهر الدنيا و زخرفها من المناكح و الملابس و الشهوات الحسية نظروا هم إلى باطن الدنيا فاشتغلوا بالعلوم و المعارف و العبادة و الزهد في الملاذ الجسمانية فأماتوا من شهواتهم و قواهم المذمومة كقوة الغضب و قوة الحسد ما خافوا أن يميتهم و تركوا من الدنيا اقتناء الأموال لعلمهم أنها ستتركهم و أنه لا يمكن دوام الصحبة معها فكان استكثار الناس من تلك الصفات استقلالا عندهم و بلوغ الناس لها فوتا أيضا عندهم فهم خصم لما سالمه الناس

٧٧

من الشهوات و سلم لما عاداه الناس من العلوم و العبادات و بهم علم الكتاب لأنه لولاهم لما عرف تأويل الآيات المتشابهات و لأخذها الناس على ظواهرها فضلوا و بالكتاب علموا لأن الكتاب دل عليهم و نبه الناس على مواضعهم نحو قوله( إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ ) .و قوله( هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .و قوله( وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) .و نحو ذلك من الآيات التي تنادي عليهم و تخطب بفضلهم و بهم قام الكتاب لأنهم قرروا البراهين على صدقه و صحة وروده من الله تعالى على لسان جبريل ع و لولاهم لم يقم على ذلك دلالة للعوام و بالكتاب قاموا أي باتباع أوامر الكتاب و آدابه قاموا لأنه لو لا تأدبهم بآداب القرآن و امتثالهم أوامره لما أغنى عنهم علمهم شيئا بل كان وباله عليهم ثم قال إنهم لا يرون مرجوا فوق ما يرجون و لا مخوفا فوق ما يخافون و كيف لا يكونون كذلك و مرجوهم مجاورة الله تعالى في حظائر قدسه و هل فوق هذا مرجو لراج و مخوفهم سخط الله عليهم و إبعادهم عن جنابه و هل فوق هذا مخوف لخائف

٧٨

442

وَ قَالَ ع : اُذْكُرُوا اِنْقِطَاعَ اَللَّذَّاتِ وَ بَقَاءَ اَلتَّبِعَاتِ قد تقدم القول في نحو هذا مرارا و قال الشاعر:

تفنى اللذاذة ممن نال بغيته

من الحرام و يبقى الإثم و العار

تبقى عواقب سوء في مغبتها

لا خير في لذة من بعدها النار

و راود رجل امرأة عن نفسها فقالت له إن امرأ يبيع جنة عرضها السموات و الأرض بمقدار إصبعين لجاهل بالمساحة فاستحيا و رجع

٧٩

443

وَ قَالَ ع : اُخْبُرْ تَقْلِهِ قال الرضيرحمه‌الله تعالى و من الناس من يروي هذا لرسول الله ص و مما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين ما حكاه ثعلب قال حدثنا ابن الأعرابي قال قال المأمون لو لا أن عليا ع قال اخبر تقله لقلت أنا اقله تخبر المعنى اختبر الناس و جربهم تبغضهم فإن التجربة تكشف لك مساويهم و سوء أخلاقهم فضرب مثلا لمن يظن به الخير و ليس هناك فأما قول المأمون لو لا أن عليا قاله لقلت اقله تخبر فليس المراد حقيقة القلى و هو البغض بل المراد الهجر و القطيعة يقول قاطع أخاك مجربا له هل يبقى على عهدك أم ينقضه و يحوله عنك.و من كلام عتبة بن أبي سفيان طيروا الدم في وجوه الشباب فإن حلموا و أحسنوا الجواب فهم هم و إلا فلا تطمعوا فيهم يقول أغضبوهم لأن الغضبان يحمر وجهه فإن ثبتوا لذلك الكلام المغضب و حلموا و أجابوا جواب الحليم العاقل فهم ممن يعقد عليه الخنصر و يرجى فلاحه و إن سفهوا و شتموا و لم يثبتوا لذلك الكلام فلا رجاء لفلاحهم و من المعنى الأول قول أبي العلاء

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351