تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم0%

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 83

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: صأئب عبد الحميد
تصنيف: الصفحات: 83
المشاهدات: 30226
تحميل: 4672

توضيحات:

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 83 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30226 / تحميل: 4672
الحجم الحجم الحجم
تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

تقديم

السنة النبوية ثاني مصادر التشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم، وحجيتها من أكبر ضروريات الدين بلا أدني نزاع في ذلك بين المسلمين.

ينطلق المولف من هذه البديهية فيبحث في هذا الكتاب ما آلت إليه السنة النبوية الشريفة بعد ثلاثين عاماً على وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فيثبت أن تدوينها في عهده (صلى الله عليه وآله) كان أمراً مألوفاً يزاوله من قدر عليه من الصحابة، ثم يتتبع مسارها في الحقبة موضوع البحث فيري أنه عرف مرحلتين، ومتّلت ثانيهما مدة تولّي الإمام علي (عليه‌السلام ) الخلافة والقيادة السياسية والاجتماعية والدينية في الأمة (35 هـ - 40 هـ)، ويتبيّن من خلال التتبع التاريخي أن هاتين المرحلتين مختلفتين كلّياً في منهج التعامل مه السنة، ففي أولاهما تمّ، من نحو أول، منع رواية السنة الشريفة وتدوينها بحجة اختلاطها بالقرآن الكريم، ومن نحو ثان كان يجتهد في قبالها في أمور كثيرة.

وفي ثانيتهما كان للإمام علي علاقة أخرى بالسنة يميّزها بعدان، أولها: أولهما: علمه بها علماً شمولياً وتفصيلياً وثانيهما: منهجه

٥

في التعامل معها رواية وتدويناً ما يحلّها في الموقع الذي وصفها الله ورسوله فيه. تودي دورها حاكمة للمصلحة لا محكومة لها.

ويسر مركز الغدير للدراسات الإسلامية أن يقدم هذه الدراسة لقرائة من منطلق الإسهام في خدمة السنة النبوية الشريفة لتأخذ موقعها الصحيح في حياتنا.

ومن الله نستمد العون وبه وحده التوفيق

مركز الغدير للدراسات الإسلامية

بيروت

٦

مدخل في حجّيّة السُنّة

السُنّة النبوية الشريفة - قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفعله، وتقريره - ثاني مصادر التشريع في الإسلام، بعد القرآن الكريم.

والسُنّة النبويّة بعد ثبوت صدورها عنه صلى الله عليه وآله وسلم، حجّة، وحجّيّتها ضرورية، من ضروريّات الدين، من جحدها فقد كذّب بالدين، وأنكر القرآن الكريم، إذ إنّا لم نعرف أنّ القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى، إلاّ من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا لم يكن قوله حجّة، فلا أثر للقرآن إذن!!

وإنْ لم تكن السُنّة النبويّة حجّة، فلا معنىً لجميع العبادات والأحكام التي جاء تفصيلها من طريق السُنّة فقط؛ كصورة الصلاة، وأحكام الزكاة والصوم وحدودهما، ومناسك الحجّ، وغيرها من الأحكام التي أمر بها القرآن الكريم، ثمّ جاءت السُنّة بتفصيلها ووضع حدودها وشرائطها!!

فحجّيّة السُنّة النبوية إذن من أكبر ضروريّات الدين، بلا أدنى نزاع في ذلك بين المسلمين(1) ، بل هي بديهيّة لا تخفى على غير المسلمين أيضاً.

____________________

(1) راجع: د. عبد الغني عبد الخالق/ حجّيّة السُنّة: 245 - 382.

٧

القرآن الكريم يثبت حجّيّة السُنّة، ويُلزِم حفظها واتّباعها:

* قال تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ‌ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ ) (آل عمران 3/31).

* وقال تعالى:( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ‌سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ‌ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُ‌دُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّ‌سُولِ ) (النساء 4/59).

* وقال تعالى:( مَّن يُطِعِ الرَّ‌سُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ ) (النساء 4/80).

فاتّباع الرسول وإطاعته تشمل اتّباع سُنّته قطعاً، مع اتّباع ما جاء به من القرآن المنزَل عليه من ربّه، واتّباع سُنّته متوقّف على حفظها بداهةً، والردّ إلى الرسول ردٌّ إلى سُنّته، وهو متوقّف بالكامل على حفظها بداهةً.

* وقال تعالى:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّ‌سُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (الحشر 59/7)

* وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَ‌سُولُهُ أَمْرً‌ا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَ‌ةُ مِنْ أَمْرِ‌هِمْ ) (الأحزاب: 33/36).

٨

* وقال تعالى:( فَلَا وَرَ‌بِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ‌ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَ‌جًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (النساء 4/65)

وإنّما يكون حكم الله تعالى بيننا من خلال كتابه الكريم وما أنزله فيه من أحكام، وما يحكم به الكتاب فهو قضاء الله تعالى بيننا، وإلى هذا الأمر الواضح يرجع قبول الإمام عليّعليه‌السلام بتحكيم كتاب الله بينه وبين البغاة..

والأمر هكذا مع السُنّة النبويّة، وقد أُمرنا أن نردّ إليها نزاعاتنا وخلافاتنا، فما حكمت به فهو قضاء رسول الله، وإلى هذا الفهم يرجع أمر الإمام عليّعليه‌السلام لعبد الله بن عبّاس حين بعثه للاحتجاج على الخوارج، حيث أمره أن يحاكمهم إلى سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..، وكلّ ذلك، صغيره وكبيره، ماضيه وحاضره، رهن بحفظ السُنّة النبويّة المطهّرة الشريفة.

أمر النبيّ بحفظ السُنّة:

* قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نضّر اللهُ امرَأً سمع منّا حديثاً فحفظه حتّى يبلّغه غيره، فرُبّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه»(2)

* وكان صلى الله عليه وآله وسلم في بعض خطبه التي شحنها بالأحكام، من أمر ونهي وبيان، يكرّر مراراً قوله: «ألا فليبلّغ الشاهدُ الغائبَ» كما هو ظاهرٌ في خطبته في حجّة الوداع، وفي خطبته بغدير خُمّ.

____________________

(1) سورة النساء 4: 65.

(2) جامع بيان العلم: ح 160 - 175.

٩

وغير هذا كثير في منزلة السُنّة ولزوم حفظها، وهو بديهيّ أيضاً في شأن ثاني مصادر التشريع، المصدر الذي كانت مهمّته الأُولى التبيين عن المصدر الأوّل - القرآن - وتفصيله، وترجمة أحكامه وتعاليمه في الواقع المُعاش، الأمر الذي لا يمكن إيكاله إلى مصدر آخر غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسُنّته، فحفظ السُنّة شرط حفظ الدين كلّه إذن.

ثمّ عزّز النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بلزوم صيانتها من أيّ دخيل في قول أو عمل، فقال:

* «إنّ كذباً علَيَّ ليس ككذبٍ على غيري، مَن يكذب علَيَّ بُني له بيتٌ في النار»(1) .

* «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار»(2) .

* «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ»(3) .

* «كلُّ محدَث بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار»(4) .

حصيلة واحدة:

من قراءة لتلك المقدّمات، أيِّ قراءة، وبأيِّ اتّجاه، سوف نتوقّع حصيلة واحدة، وهي أنّ تدوين السُنّة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان أمراً مألوفاً، يزاوله بعض من قدر عليه من الصحابة، وليس أمراً محتملاً وحسب.

____________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1/3.

(2) متّفق عليه.

(3) سنن ابن ماجة 1/ ح 14.

(4) متّفق عليه.

١٠

فهل لهذه الحصيلة ما يؤيّدها من الواقع في ذلك العهد، فتكون حقيقةً ثابتة، تستوي عندها قراءتنا لتلك المقدّمات الصحيحة على قوائمها؟!

أم الواقع خلاف ذلك؟! فتبقى تلك المقدّمات الصحيحة نظريّات عائمة ليس لها قرار!

هذا ما نقرأه في بحثنا الأساس الآتي، حيث تداخُلُ الأرقام، وتعانق الأدلّة، ورجوع إلى العهد النبويّ، الأصل، بين فقرة وأُخرى.

تقسيم البحث:

في لحاظ العناصر المشتركة وعوامل التمايز التي تفصل بين الأدوار التاريخية، فقد مرّت السُنّة النبوية في هذه الحقبة المنتخبة في مرحلتين تختلفان كلّياً في منهج التعامل مع السُنّة، وعلى أساس هذا الاختلاف والتمايز المنهجي وقع تقسيم البحث على مرحلتين: مثّلت المرحلة الأُولى خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فامتدّت ربع قرن بعد الرسول مباشرةً، فيما انحصرت المرحلة الثانية في خمس سنين هي مدّة تولّي الإمام عليّعليه‌السلام الخلافة والزعامة السياسية والاجتماعية والدينية في الأُمّة.

ودراسة كلّ مرحلة تقع في مباحث تؤلّف مجتمعة الصورة الكاملة لتاريخ السُنّة في تلك المرحلة.

١١

المرحلة الأُولى

السُنّة في ربع قرن

نتابعها في مبحثين رئيسين، الأوّل: في التدوين والرواية، والثاني: في الموقع التشريعي.

المبحث الأوّل: التدوين والرواية.

هنا ثلاث علامات فارقة، أجملَها الذهبي، ونفصّلها في نقاط مع مزيد من التوثيق:

الفارقة الأولى: الاحتياط في قبول الأخبار.

قال الذهبي: كان - أبو بكر - أوّل من احتاط في قبول الأخبار.. إنّ (الجدّة) جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لكِ في كتاب الله شيئاً، وما علمتُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر لكِ شيئاً! ثمّ سأل الناس، فقام المغيرة فقال: حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها - أي الجدّة - السدس.

فقال له أبو بكر: هل معك أحد؟

فشهد محمّد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر(1) .

هذا الخبر تضمّن فوائد جليلة، كان (الاحتياط في قبول الأخبار)

____________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1/2.

١٢

أوّلها، وثَمَّ فائدتان لم يذكرهما الذهبي، هما:

أ - في عدالة الصحابي:

إنّ هذا الاحتياط كان إزاء رواية الصحابي عن رسول الله مباشرةً، فالمغيرة، الصحابي، كان يروي عن مشاهدة قد يصحبها سماع أيضاً، يقول: «حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها السدس» ومع ذلك كان أبو بكر يحتاط في قبول روايته، حتّى وجد لها شاهداً حضر ذلك أو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وهذا مبدأ متين، منسجم مع ما قرّره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ السُنّة وصيانتها، وهو مخالف تماماً لمبدأ (عدالة الصحابي) وقبول روايته مطلقاً، وإعفائه من قواعد الجرح والتعديل.

وسوف نجد أنّ موقف أبي بكر هذا قد سلكه عمر، وسلكه عثمان وسلكه عليّعليه‌السلام ، سلكوه جميعاً إزاء رواية الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً، ليتّضح من هذا كلّه بما لا شكّ فيه: أنّ مبدأ (عدالة الصحابي) قد وُلد متأخّراً، ولم يكن له أثر حتّى نهاية خلافة عليّعليه‌السلام ، بل وبعدها أيضاً بزمن غير قليل!

قال الخطيب البغدادي في الردّ على من زعم أنّ العدالة هي إظهار الإسلام وعدم الفسق الظاهر: يدلّ على صحّة ما ذكرناه أنّ عمر بن الخطّاب ردّ خبر فاطمة بنت قيس، وقال: «ما كنّا لندع كتاب ربّنا وسُنّة نبيّنا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم لا!».

قال: وهكذا اشتهر الحديث عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال: «ما

١٣

حدّثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ استحلفته» ومعلوم أنّه كان يحدّثه المسلمون(1) . ويستحلفهم مع ظهور إسلامهم، وأنّه لم يكن يستحلف فاسقاً ويقبل خبره، بل لعلّه ما كان يقبل خبر كثير ممّن يستحلفهم مع ظهور إسلامهم وبذلهم له اليمين.

وكذلك غيره من الصحابة، روي عنهم أنّهم ردّوا أخباراً رويت لهم ورواتها ظاهرهم الإسلام، فلم يطعن عليهم في ذلك الفعل، ولا خولفوا فيه، فدلّ على أنّه مذهب لجميعهم، إذ لو كان فيهم من يذهب إلى خلافه لوجب بمستقرّ العادة نقل قوله إلينا(2) .

إذن فمبدأ (عدالة الصحابة) ليس له عين ولا أثر في عهد الصحابة، وسوف يأتي في الفقرات اللاحقة مزيد من الشواهد الحيّة على ذلك.

ب - في علم الصحابي:

تحدّث المغيرة هنا عن قضاء النبيّ في سهم الجدّة، وكان قد شهده بنفسه، وتحدّث محمّد بن مسلمة عن شهوده ذلك القضاء أيضاً، في حين ما زال ذلك غائباً عن أبي بكر، ونحو هذا قد حصل مع عمر أيضاً، فربّما غابت عنه سُنّة مشهورة، كما في قصّته مع أبي موسى الأشعري حين حدّثه بحديث: «إذا سلّم أحدكم ثلاثاً فلم يُجَب فَلْيَرجِع» فقال له عمر: لتأتينّي على ذلك ببيّنة أو لأفعلنّ بك!!

فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلاّ أصاغرنا! فقام

____________________

(1) أي من الصحابة، فالذي يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن تكون له صحبة.

(2) الكفاية في علم الرواية: 81، 83 مختصراً.

١٤

أبو سعيد الخدري فشهد له عند عمر، فقال عمر: خَفِيَ علَيَّ هذا من أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق!(1) .

فهذه سُنّة مشهورة كان يتعلّمها أصاغر القوم، وقد خفيت عليه..

وكذا غاب عنه حكم السَقط، حتّى أخبره المغيرة ومحمّد بن مسلمة بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2) ، وغير ذلك أيضاً.

فهذه نافذة مطلّة على حقيقة واقعة، وهي أنّ الصحابي ليس بوسعه أن يحيط بجميع السُنّة، أقوال النبيّ وأفعاله وتقريراته، فمنها ما يغيب عنه، فلا يشهده، ولا يسمع به بعد ذلك إلاّ في نازلة كهذه.

وأيضاً فهُم في ما يشهدونه على تفاوت كبير في الحفظ والوعي:

قال البراء بن عازب: ما كلّ الحديث سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يحدّثنا أصحابنا، وكنّا مشتغلين في رعاية الإبل(3) .

وقال مسروق - التابعي -: جالستُ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا كالإخاذ(4) ، الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وإنّ عبدالله - يعني ابن مسعود - من تلك الإخاذ(5) …..

ومسروق أيضاً قال: شاممتُ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فوجدتُ

____________________

(1) صحيح البخاري - الاعتصام بالكتاب والسُنّة - باب 22 ح 6920، تذكرة الحفّاظ 1/6.

(2) صحيح البخاري - الاعتصام بالكتاب والسُنّة - باب 13 ح 6887، تذكرة الحفّاظ 1/7 - 8.

(3) المستدرك، وتلخيصه 1/326.

(4) الإخاذ: واحدها إخاذة، وهي الغدير.

(5) الطبقات الكبرى 2/343.

١٥

علمهم انتهى إلى ستّة: عليّ، وعمر، وعبدالله، وزيد، وأبي الدرداء، وأُبَيّ.. ثمّ شاممتُ الستّة فوجدت علمهم انتهى إلى عليٍ وعبدالله!(1) .

وأنهى غيره علم الصحابة إلى ستّة أيضاً، هم المتقدّمون بأعيانهم إلاّ أبا الدرداء فقد أبدله بأبي موسى الأشعري، ثمّ أنهى علم الستّة إلى عليٍ وعمر(2) .

وخلاصة القول عند ابن خلدون: إنّ الصحابة كلّهم لم يكونوا أهل فُتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنّما كان ذلك مختصّاً بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالاته، بما تلقّوه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو ممّن سمعه منهم وعن عليتهم، وكانوا يسمّون لذلك: (القرّاء) لأنّ العرب كانوا أُمّة أُمّيّة(3) .

الفارقة الثانية: المنع من التحديث:

قال الذهبي: إنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه!(4) .

فهنا أكثر من مشكلة ظاهرة، منها:

____________________

(1) الطبقات الكبرى 2/351، سير أعلام النبلاء 1/493 - 494، تدريب الراوي 2/193.

(2) الطبقات الكبرى 2/351.

(3) مقدّمة ابن خلدون: 563 - الفصل السابع من الباب الرابع.

(4) تذكرة الحفّاظ 1/2 - 3.

١٦

أ - ما يعود إلى (عدالة الصحابي) فيعزّز ما ذكرناه آنفاً.

ب - ظهور الاختلاف بين الصحابة في نقل السُنّة، إلى القدر الذي دعا أبا بكر إلى منعهم من ذِكر شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

لكن هناك من الاختلاف ما لا ضير فيه، كاختلاف اللفظ مع حفظ المعنى تامّاً، كحديث «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار» ويُروى «من قال علَيّ ما لم أقل فقد تبوّأ مقعده من النار» فهما شيء واحد وإن اختلف اللفظ، وليس في هذا محذور بلا خلاف، والحديث كلّه قد يكون عرضة لهذا، إذ الغالب أنّ الصحابي إنّما يسمع الحديث من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّةً، فإذا نقله من حفظه بعد زمن غير يسير، فهو عرضة لاختلاف اللفظ.

وليس هذا مطّرداً في كلّ الأحوال، فرُبّ لفظ إذا تبدّل بآخَر فقدَ بعضَ دلالاته، أو جاء اللفظ بدلالة زائدة لم تكن من الحديث!

وهناك اختلافات أُخرى خطيرة، مصدرها وهمُ الصحابي أو نسيانه، أو سماعه طرفاً من الحديث فقط، ونحو ذلك، ولقد ردّ كثير من الصحابة اختلافات ظهرت من هذا النوع، فمن ذلك:

* حديث عمر وابن عمر: «إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه» فردّته عائشة، فقالت: إنّكم تحدّثون عن النبيّ غير كاذبين، ولكنّ السمع يخطىَ، والله ما حدّث رسول الله أنّ الله يعذِّب المؤمن ببكاء أهله عليه! حسبكم القرآن( وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَی ) إنّما قال: «إنّه ليعذّب، بخطيئته وذنبه، وإنّ أهله ليبكون عليه».

وقد استدركت عائشة كثيراً على أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأنس ابن مالك وغيرهم، جمعها الزركشي في كتاب أسماه «الإجابة لإيراد ما

١٧

استدركته عائشة على الصحابة».

* وردّ الزبير رجلاً كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: أنت سمعتَ هذا من رسول الله؟! قال الرجل: نعم.

قال الزبير: هذا وأشباهه ممّا يمنعاني أن أتحدّث عن النبيّ! قد لعمري سمعتَ هذا من رسول الله، وأنا يومئذٍ حاضر، ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب، فجئتَ أنتَ بعد انقضاء صدر الحديث، فظننتَ أنّه حديث رسول الله!(1) .

* ومن هذا الصنف ما ذُكر في اختلاط أحاديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأحاديثه عن كعب الأحبار!(2) .

* ومنه قول عمران بن حصين: «والله إنْ كنت لأرى أنّي لو شئت لحدّثتُ عن رسول الله يومين متتابعين، ولكن بطّأني عن ذلك أنّ رجالاً من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدّثون أحاديث ما هي كما يقولون! وأخاف أن يُشَبَّه لي كما شُبِّه لهم، فأُعلمك أنّهم كانوا يغلطون - وفي رواية: يُخطِئون - لا أنّهم كانوا يتعمّدون»(3) .

هذه نبذة عن اختلاف الصحابة في الحديث، الذي سيكون سبباً في اختلافات أكبر حين ينتقل إلى المواضيع المستفادة من الحديث، في العقيدة والفقه والتفسير، وغيرها من نواحي المعرفة، وهذه كلّها سوف تكون بلا شكّ محاور نزاع الأجيال اللاحقة، وهذا ما رآه أبو بكر، فلجأ إلى

____________________

(1) محمود أبو ريّة/ أضواء على السُنّة المحمّدية: 116 - 117 عن ابن الجوزي.

(2) سير أعلام النبلاء 2/606، البداية والنهاية 8/117، إرشاد الساري 2/690.

(3) ابن قتيبة/ تأويل مختلف الحديث: 49 - 50.

١٨

قراره الأخير في المنع من الحديث والاكتفاء بالقرآن.

لكن هل كان المنع من رواية الحديث النبوي والرجوع إليه في الفتيا هو الحلّ الأمثل لهذه المشكلة؟!

هذا على فرض كونه من صلاحيّات الخليفة، وأنّ الخليفة مخوّل أن يوقف السُنّة النبوية متى شاء، روايةً وفتيا، وتدويناً أيضاً كما سيأتي!

أمّا إذا كان هذا كلّه فوق الخليفة وصلاحيّاته، فثمّة ما ينبغي التوقّف عنده طويلاً إذن!

ج - والمشكلة الثالثة التي يثيرها حديث أبي بكر، هي: ما سيعقب قرار المنع من ضياع لبعض السنن، كثيراً كان أو قليلاً! خصوصاً حين يمضي الأمر هكذا لعدّة سنين.

* في عهد عمر:

استمرّ هذا المنع من الحديث زمن عمر كلّه، ولم يقتصر حكمه على أبي هريرة وكعب الأحبار اللذين اتّهمهما في الحديث، وتوعّدهما بالطرد إلى ديارهما الأُولى إنْ هما لم يكفّا عن الحديث..

بل سرى إلى رجال من كبار الصحابة، منهم: عبدالله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو مسعود الأنصاري، فقال لهم: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله! فحبسهم في المدينة(1) .

وسرى أيضاً إلى أُمرائه، فقد كان يأخذ عليهم العهد باجتناب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وربّما بالغ في هذا فمشى مع عمّاله بعض الطريق

____________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1/7.

١٩

يودّعهم، ثمّ يذكر لهم أنّه إنّما خرج معهم لأجل هذه الوصيّة: «إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله، وأنا شريككم»!

فلمّا قدم بعضهم العراق، قالوا له: حدّثنا. قال: نهانا عمر(1) .

حتّى توفّي عمر على هذه السيرة سنة 24 هـ.

وهذه السيرة أيضاً جاءت على خلاف الحديث الذي رواه أبو موسى الغافقي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «عليكم بكتاب الله، وسترجعون إلى قومٍ يحبّون الحديث عنّي - أو كلمة تشبهها - فمن حفظ شيئاً فليُحدّث به، ومن قال علَيَّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار» وقال أبو موسى: هذا آخر ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !(2) .

* وفي عهد عثمان:

خطب الناس، فقال: «لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر، فإنّه لم يمنعني أن أُحدّث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابه، إلاّ أنّي سمعته يقول: من قال علَيَّ ما لم أقل فقد تبوّأ مقعده من النار»(3) .

لكنّ عثمان لم يتّبع شدّة عمر وسيرته في هذا الأمر، فأطلق الصحابة الّذين حبسهم عمر في المدينة، وقد ذكر فيهم مع ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري، ثلاثة آخرون، هم: صادق اللهجة أبو ذرّ،

____________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1/7، المستدرك 1 ح 347 وصحّحه الحاكم والذهبي.

(2) المستدرك وتلخيصه 1/196 ح 385.

(3) منتخب كنز العمّال 4/172.

٢٠