تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم0%

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 83

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: صأئب عبد الحميد
تصنيف: الصفحات: 83
المشاهدات: 30239
تحميل: 4672

توضيحات:

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 83 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30239 / تحميل: 4672
الحجم الحجم الحجم
تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعبدالله بن حذيفة، وعقبة بن عامر؛ فكلّ هؤلاء لم يلتزموا أمر عمر في ترك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1) .

لنعرف من ذلك أنّ قرار المنع لم يكن إجماعاً، وإنما كان رأياً يراهُ الخليفة فيحمل الصحابة عليه، ثمّ لم يكن جميعهم ممّن استجاب لهذا الأمر وتقيّد به، فكان تمرّدهم هذا سبباً في حفظ الكثير من السنن التي قد يطالها النسيان حين تأتي عليها السنون وهي في طيّ الكتمان.

د - حديث المنع والنبوءة الصادقة:

* وآخر المشكلات، وربّما أخطرها دلالةً، أنّنا نجد في هذا النصّ المنقول عن أبي بكر، أوّل ظهور لتلك النبوءة الصادقة التي أخبر بها النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في تحذيره الخطير وقوله الشهير: «يوشَك الرجل متّكئاً على أريكته، يُحَدَّثُ بحديثٍ من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله»(2) .

انظر ثانية في نصّ حديث أبي بكر: «... فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه»!

إنّه ظهور مبكّر جدّاً لتلك النبوءة، ولقد كان حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(1) ابن حبّان/ المجروحين 1/35، المستدرك 1/193 ح 374 و 375، وفيه: أبو ذرّ وأبو الدرداء وأبو مسعود.

(2) سنن ابن ماجة 1 ح 12 - والنصّ عنه - وح 13 و 21، سنن الترمذي 5 ح 2663 و2664، سنن أبي داود 3 ح 3050 و4 ح 4604 و 4605، مسند أحمد 4/130 و132 و 6/8، المستدرك 1/108 و 109.

٢١

يُشعِر بقرب ظهورها، إذ استهلّ الحديث بقوله: «يوشَك» ولم يقل: (يأتي على الناس زمان) كما في إخباره عن الغيب البعيد(1) .

الفارقة الثالثة: منع تدوين الحديث.

قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً، فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها! فقلتُ: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد نقلتُ ذاك!(2) .

لكنّ هذه الحيطة وهذه الدقّة ينبغي أن لا تتجاوز أحاديث سمعها من بعض الصحابة يحدّثون بها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو صريح في قوله: «فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني».

أمّا الأحاديث التي سمعها هو مباشرةً من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فهي في منجاة من ذلك، إلاّ أن يقال إنّه لم يميّز بين ما سمعه هو مباشرةً، وما نُقل له! وهذا غير وارد، وحتّى لو حصل مع بعضها فلا يمكن حصوله مع جميعها حتّى لم يعد يعرف حديثاً واحداً سمعه من فمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم !

فلماذا أوقع الإحراق على الجميع؟!

____________________

(1) في لسان العرب - وشك -: الوشيك: السريع.. أمر وشيك: سريع.. وأوشك: أسرع، ومنه قولهم: يوشك أن يكون كذا.

(2) تذكرة الحفّاظ 1/5.

٢٢

لعلّ هذا الاضطراب هو الذي حمل الذهبي على تكذيب الخبر، فقال: فهذا لا يصحّ، والله أعلم(1) .

فإذا لم يصحّ هذا، فلم يثبت عن أبي بكر غيره في شأن تدوين الحديث النبوي الشريف، إلاّ ما ورد في كتابته بعض كتب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والتي ضمّنها جملة من السنن، ككتاب فرائض الصدقة - الزكاة - الذي كتبه أبو بكر إلى عمّاله، فجعل أوّله: «إنّ هذه فرائض الصدقة التي فرضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، التي أمر الله عزّ وجلّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن سُئل من المسلمين على وجهها فليُعْطِها...» الكتاب(2)

فهذا يعني أنّ تدوين الحديث على أصل الإباحة، وهي مستفادة حتّى من الحديث الأولّ على فرض صحّته، فمبادرة أبي بكر بجمع الحديث وتدوينه في كتاب دليل على أنّه لم يعرف فيه إلاّ الإباحة، ثمّ لمّا أحرقه لم يكن ‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎ إحرقه لورود النهي عن كتابة الحديث، وإنّما لخشية تطرّق الوهم إليه!

ومضى الأمر على هذه الحال حتّى جاء عمر، فأراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، ثمّ بدا له أن لا يكتبها.. ثمّ بعث إلى الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه!(3) .

وحدّث مالك بن أنس: أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب هذه الأحاديث، أو كتبها، ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله!(4) .

____________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1/5.

(2) مسند أحمد 1/11، صحيح البخاري - كتاب الزكاة - زكاة الغنم، سنن أبي داود - كتاب الزكاة - ح 1567 - 1570، سنن النسائي ح 2235.

(3) جامع بيان العلم 1/78 ح 313 و 315.

(4) جامع بيان العلم 1/78 ح 312.

٢٣

هذه أيضاً أدلّة كافية على عدم ورود شيء في النهي عن تدوين السُنّة، وإلاّ لَما همّ عمر بكتابتها، واستشار الصحابة فأجمعوا على كتابتها.

فما كان المنع إذن إلاّ برأي رآه عمر، ولم ينسبه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

وراح الصحابة من وراء الخليفة يكتبون الحديث والسنن، ما سمعوه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما حدّثهم به إخوانهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى كثرت عندهم الكتب، فبلغ خبرها عمر، فقام فيهم خطيباً، فقال: «إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبّها إلى الله أَعْدَلُها وأَقْوَمُها، فلا يُبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي».

فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بها، فأحرقها بالنار!(1) .

كتابة السُنّة تصدّ عن القرآن!!

تلك هي أهمّ الحجج التي تمسّك بها المانعون من تدوين السُنّة، ومن رواية الحديث أيضاً، خشية أن يشغلهم ذلك عن القرآن، كما انشغل أهل الكتاب بكتب أحبارهم عن كتاب ربّهم!(2) .

لكن هل يصحّ ذلك؟! وما السُنّة - بالدرجة الأُولى - إلاّ تبياناً للقرآن وتفصيلاً لأحكامه!!

نترك الجواب للصحابي الفقيه الذي بعثه عمر بن الخطّاب إلى البصرة

____________________

(1) الطبقات الكبرى 5/188، تقييد العلم: 52.

(2) انظر: سنن الدارمي 1 ح 475، تقييد العلم: 53 و 56، جامع بيان العلم: 79 ح 318 و 319، أُصول الحديث: 154 و 156 و 158، علوم الحديث ومصطلحه: 30 - 31.

٢٤

يفقّه أهلها: عمران بن حصين(1) ..

* كان عمران بن حصين جالساً ومعه أصحابه، فقال له رجل: لا تحدّثونا إلاّ بالقرآن.

فقال عمران: أُدْنُهْ! فدنا منه(2) ، فقال له: أرأيت لو وكِلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟!

أرأيت لو وُكِلْتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟!

ثمّ قال: أيْ قوم! خذوا عنّا، فإنّكم والله إنْ لا تفعلوا لتضلّنَّ!(3) .

* والتابعي أيّوب السختياني كان يقول: «إذا حدّثتَ الرجل بالسُنّة، فقال: دعنا من هذا وحدّثنا بالقرآن. فاعلم أنّه ضالّ مضلّ»!(4) .

* وقال مكحول والأوزاعي: «الكتاب أحوج إلى السُنّة، من السُنّة إلى الكتاب»(5) .

ولعلّ هذا من الواضحات التي ينبغي ألاّ يُنازَع فيها.

وبعد ذلك فإنّ السُنّة إنّما تدعو إلى القرآن: تلاوته، والتدبّر فيه، وفهمه، والائتمام به باتّباع أمره وإرشاده، وتحذّر من تركه ومخالفته ومجافاته.

____________________

(1) انظر ترجمته في أُسد الغابة والإصابة.

(2) في رواية ابن عبد البرّ، قال له: إنّك امرؤ أحمق...

(3) الكفاية في علم الرواية: 15، جامع بيان العلم: 429 واختصرها.

(4) الكفاية في علم الرواية: 16.

(5) جامع بيان العلم: 429.

٢٥

فليست إذن بشاغلةٍ عن القرآن، ولا لقارئ القرآن عنها غنىً.

إذن ثمّة فرق كبير بين موقع السُنّة من القرآن، وموقع كتب الأحبار والرهبان من التوراة والإنجيل!

* وممّا يثير الدهشة والاستفهام، أنّه في الوقت الذي كان يُشدّد فيه على المنع من رواية الحديث بحجّة شَغْل القلوب بالقرآن وحده، كانت تصدر في الوقت ذاته وصايا بتعلّم الشعر والاهتمام به!

فقد كتب عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعري - عامله على البصرة -: «أنْ مُرْ مَنْ قِبَلَك بتعلّم العربية، فإنّها تدلُّ على صواب الكلام، ومُرْهم برواية الشعر، فإنّه يدلّ على معالي الأخلاق»(1) .

تُرى والحديث النبويّ؛ ألا يدلّ على صواب فهم القرآن، ومعرفة الأحكام والسنن، ومعالي الأخلاق؟!

وأيّما أشغلُ للناس عن القرآن ومعرفته: رواية الحديث، أم رواية الشعر؟!

ألا يثير هذا استفهاماً لا تحمل له كلّ أخبار المنع من التدوين وما قيل في تبريرها جواباً؟!

أهو مجرّد تناقض بين قولين؟! أم الأمر كما ذهب إليه السيّد الجلالي، حين رأى أنّ السبب الحقيقي لمنع رواية الحديث هو صدّ الناس عن أحاديث تُذكِّر بحقوق أهل البيتعليهم‌السلام ومنزلتهم، لِما في تذاكرها وتداولها من آثار غير خافية على الخليفة!(2) .

____________________

(1) كنز العمال 10/300 ح 29510.

(2) محمّد رضا الحسيني الجلالي/ تدوين السُنّة الشريفة: 409 - 421.

٢٦

فلنقل إذن: إنّ (مصلحة أمن الدولة) هي التي اقتضت منع رواية أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وليس شيئاً آخر تعود فيه التهمة إلى الحديث النبوي نفسه، كما في هذا العذر الذي رأى الحديث يصدّ عن القرآن!!

أو تعود فيه التُهم والطعون على القرآن الكريم نفسه! كما في العذر الآخر، الآتي:

اختلاط السُنّة بالقرآن:

هو ثاني أهمّ الحجج التي فُسّر بها المنع عن تدوين السُنّة(1) .

فإذا كان في الصحابة من يقع في مثل هذا الوهم، كالذي حصل في دعاء الخَلع، ودعاء الحفد، وسُنّة الرجم، وعدد الرضعات، وغيرها(2) .

فإنّ هذا كلّه قد حسمه جمع القرآن في المصحف المرتّب، وقد حصل هذا مبكّراً جدّاً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يبق بعد ذلك أدنى قيمة لوهم يحصل من هذا النوع، فهذه الأوهام المنقولة في الصحاح والسنن عن بعض الصحابة، لم تؤثّر شيئاً، ولا زادت في القرآن ولا نقصت منه.

أمّا إذا حصل الوهم والخلط بعد جيل الصحابة، فهو أَوْلى أن يهمل ولا يُعتنى به.

إنّ التمسّك بمثل هذه الشبهة يوقع أصحابه بأكثر من تناقض:

____________________

(1) انظر: تقييد العلم: 56، أُصول الحديث: 159.

(2) انظر: الإتقان في علوم القرآن 1/184 - 185، صحيح البخاري/ كتاب المحاربين - باب رجم الحبلى من الزنى ح 6442.

٢٧

* فمرّة يناقضون ما سلّموا به من انتهاء جمع القرآن في مصحف على أتمّ صورة، وعلى شرط التواتر..!

* ومرّة يناقضون ما سلّموا به من إعجاز القرآن، وأنّ الحديث النبوي ليس معجزاً، بل ولا الحديث القدسي معجز!

* ومّرة يناقضون ما احتجّوا به لسلامة القرآن من أدنى تغيير أو تحريف، من قوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) فكيف يخشون اختلاط الحديث بالقرآن؟! وقد نزلت هذه الآية قبل هذا العهد تقول لهم: اكتبوا أحاديث نبيّكم، واكتبوا العلم ولا تخشوا اختلاط ذلك بالقرآن، لأنّا( نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .

ومهما كان فلا تنجو هذه الحجّة من أن تمسّ سلامة القرآن الكريم، وهذا ما لا يريده أصحابها بحال، ولكن أوقعهم به من حيث لا يشعرون دفاعهم عن هذه السيرة وما رأوه من لزوم تبريرها، والحقّ أنّه ليس شيء من ذلك بلازم، فما كلّ رأي يتّخذه صحابيّ يلزمنا تبريره والدفاع عنه، ولا كلّ قرار يتّخذه الخليفة كذلك!

خلاصة ونتائج:

من هذه القراءة السريعة لتاريخ السُنّة في ربع قرن تحصّل أنّ السُنّة في هذا العهد كانت تواجه معركة حقيقة متّصلة الحلقات:

* فالرجوع إليها في الفُتيا قد صدر فيه المنع مبكّراً.

* والتحدّث بها ونشرها لمن لم يسمعها صدر فيه أكثر من قرار بالمنع.

٢٨

* ومَن عُني بالحديث ونشره صدر بحقّه قرار الحبس في المدينة مع الإنذار والتهديد.

* وما كُتب منها تعرّض للإحراق والإتلاف، دون تمييز بين الأحكام والفرائض، وبين الآداب والمفاهيم والعقائد، فكان الإحراق والإتلاف يقعان على الكتاب بمجرّد العثور عليه، دون أدنى نظر فيه، كما مرّ عن عمر في ما جمعه من كتب الحديث التي كتبها بعض الصحابة.

وروي شيء من ذلك عن عبدالله بن مسعود، في حديث عبد الرحمن الأسود عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت، بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأذنّا على عبدالله فدخلنا عليه فدفعنا إليه الصحيفة، فدعا الجارية ثمّ دعا بطست فيه ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن، انظر، فإنّ فيها أحاديث حساناً.. فجعل يُميثُها فيها ويقول:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ ) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه!!(1) .

لكن قد ثبت عن ابن مسعود أيضاً خلاف ذلك، إذ أخرج ابنه عبد الرحمن كتاباً وحلف أنّه خطّ أبيه بيده(2) .

فهذان موقفان متناقضان لابن مسعود من التدوين، على فرض صحّة الروايتين معاً، ويمكن تفسير هذا التناقض بوجوه، منها:

أ - أنّه قد عدل عن رأيه، فأجاز الكتابة، وكتب بنفسه بعد أن كان يمنع منها.

____________________

(1) تقييد العلم: 54، وانظر: أُصول الحديث 155 - 156.

(2) جامع بيان العلم: 87 ح 363.

٢٩

ب - أن يكون قد كتب لنفسه خاصّة لأجل أن يحفظ فلا ينسى، كما كان يفعل بعضهم إذ يكتب ليحفظ ثمّ يمحو ما كتب.

ج - أن يكون واثقاً بحفظه وصحّة ما يكتبه، شاكّاً بضبط غيره إلى حدٍّ جعله كالمتيقّن من تسرّب الوهم والغلط إليهم، لشدّة اعتداده بضبطه، كما هو شأنه المعروف في القرآن الكريم إذ كان قد غضب غضباً شديداً على عثمان حين أسند مهمّة جمع المصحف إلى زيد بن ثابت ولم يسندها إليه، فكان يقول: لقد قرأتُ من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورةً وزيدٌ له ذؤابة يلعب مع الغلمان!(1) .

د - أن يكون موقفه من تلك الصحيفة التي أماثها عائداً إلى موضوعها، فهي صحيفة جمعت أحاديث في موضوع واحد، وهو موضوع منازل وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، فأماثها لأجل اختصاصها بهذا الموضوع، وليس لكونها صحيفة جمعت شيئاً من الحديث النبوي.

ولعلّ هذا هو أضعف الوجوه، خصوصاً حين يُنسَب إلى عبدالله بن مسعود الذي ورد عنه حديث كثير في فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أثبت في مصحفه( يَا أَيُّهَا الرَّ‌سُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّ‌بِّكَ - أنّ عليّاً مولى المؤمنين -وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِ‌سَالَتَهُ ) (2) .

هـ - أن يكون معتقداً جواز التدوين فكتب بناءً على اعتقاده هذا، وهو في الوقت ذاته متحفّظ من نشر كتب الحديث لعلّةٍ كان يراها، وقد كشف هنا عنها بقوله: «القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما

____________________

(1) مسند أحمد 1/389 و 405 و 414، سير أعلام النبلاء 1/472.

(2) الشوكاني/ فتح القدير 2/60.

٣٠

سواه».

ولأجل ذلك أتلف الكتاب الذي رآه. وهذا هو الراجح في تفسير موقفه، يدلّ عليه نفس حديث ولده عبد الرحمن، فهو حين أخرج لهم الكتاب كان يحلف لهم أنّه بخطّ أبيه، فهذا كاشف عن أنّ الظاهر من حال أبيه والمعروف عنه هو المنع من تدوين الحديث، وهذا هو الذي ألجأه إلى القَسَم.

ومع أيّ واحد من هذه الوجوه الخمسة فإنّ الثابت في قناعة ابن مسعود هو أنّ الأصلّ في السُنّة جواز التدوين، وأنّ المنع منه كان لرأي رآه وليس هو بأمر من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا بعينه هو المستفاد من موقف أبي بكر وعمر.

* ولو رضينا بكلّ ما قيل في تبرير هذه السياسة والاعتذار عنها، فهل ستجيب تلك التبريرات على بضعة أسئلة تطرحها هذه الحالة؟!

ومن هذه الأسئلة:

1 - لماذا السُنّة؟: هل ترك النبيّ سُنّته للإحراق والإتلاف؟! أم تركها نوراً وتبياناً وهدىً ودستوراً؟!

2 - منزلة السُنّة: هل يحقّ للصحابة مجتمعين تطويق السُنّة النبويّة ومحاصرتها بهذه الطريقة أو بما هو أدنى منها؟!

3 - الأمانة على السُنّة: هل وجد الصحابة الّذين واجهوا السُنّة بهذه الطريقة، أو الّذين تحفّظوا عن روايتها خشية الوهم، هل وجدوا أنفسهم مستأمنين على السُنّة النبويّة وحفظها وصيانتها ونشرها وتعليمها لمن لم يعلم، وتبيلغها لمن لم يبلغه منها إلاّ القليل في عصرهم، ولمن لم

٣١

يبلغه منها شيء من الأجيال اللاحقة؟!

4 - السُنّة لمن؟: هل الأجيال اللاحقة ملزمة بهذه السُنّة النبوية بكاملها؟! أم كانت السُنّة خاصّة بجيل الصحابة ليحتفظوا بها لأنفسهم عن طريق التورّع عن الحديث! أو سدّاً لباب الاختلاف في الرواية! أو خشية الانشغال عن القرآن! أو خشية الهلاك كما هلك أهل الكتاب؟!

المبحث الثاني: الموقع التشريعي.

والبحث هنا لا بُدّ أن يقع في قسمين، يتناول الأوّل مدى تتبّع السُنّة لأجل العمل بها والالتزام بحدودها وضوابطها، ويتناول الثاني ما كان على خلاف ذلك، ليس على مستوى التجميد والتعطيل إذ هما داخلان في الأوّل، بل على مستوى الخرق والاستبدال بأحكام جديدة في المسائل ذاتها التي أجابت عنها السُنّة عملاً وقولاً، ممّا يمكن إدرجه تحت عنوان «الاجتهاد في قبال النصّ».

القسم الأوّل:

له شواهد كثيرة إيجاباً وسلباً، وقد تقدّم في المبحث الأوّل الشيء الكافي منها، إذ هناك بلا شكّ تطبيق لكثير من السنن،والتمسك بها، والتزام بها، ورجوع إليها، وتتبّع لها، فكثيراً ما تعرض المسألة على الخلفاء فيستدعون نفراً من علماء الصحابة يسألونهم إن كانوا قد سمعوا فيها شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقضون به. وقد حفظت كتب السنن من أمثلة هذا الشيء الكثير، وربّما كان ما أهملته أكثر، لأنّه إنّما يجري وفق العادة المتوخّاة والمجرى الطبيعي

٣٢

لنظم الحياة وفق المنهج الديني، ومن طبيعة التاريخ أنّه لا يُعنى كثيراً بالأمر المألوف والمعتاد وما يجري وفق السير الطبيعي للحياة.

وفي الجانب السلبي من هذا القسم تقدّمت أيضاً شواهد مهمة، كان أبرزها قرار أبي بكر بمنع الفتيا بالسُنّة والاكتفاء بالقرآن، وقرار عمر بمنع رواية السُنّة وحَبس الرواة لها.

من هنا رأينا أنّ الحديث في هذا القسم قد استوفي ضمناً في المبحث الأوّل، لنبسط القول بالقدر المناسب في القسم الثاني.

القسم الثاني: الاجتهاد في قبال النصّ.

وهذا أوّل أنواع الرأي الباطل، كما أحصاها ابن القيّم(1) ، وقال: وهذا ممّا يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحلّ الفتيا به ولا القضاء وإنْ وقع فيه مَن وقع بنوع تأويل وتقليد.

غير أنّ هذا النوع من الرأي قد ظهر في هذا العهد أيضاً، ظهر تحت عنوان النظر إلى المصلحة كما يقدّرها صاحب الرأي!

أيّ أنّ المجتهد هنا يرى أنّ المصلحة - مصلحة الدولة والأُمّة - هي الأصل، وأنّ نصوص الكتاب والسُنّة ما جاءت إلاّ لرعاية مصالح العباد، فعندما يرى أنّ النصّ القرآني أو الحديثي يضرّ بالمصلحة، وأنّ المصلحة بتعطيله واستبداله بما يوافقها، عندئذٍ يفتي بما يراه بديلاً عن النصّ!

والمشكلة هنا تقع مرّةً في تشخيص المصلحة، ومرّةً في تقدير مدى موافقة أو مناقضة الحكم لها.

____________________

(1) أعلام الموقّعين 1/67.

٣٣

ولقد كان هذا ظاهراً في فقه عمر أكثر ما يكون، وربّما ظهر منه ذلك حتّى بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ! كالذي كان يوم الخميس، قُبيل وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والنبيّ يقول: «إيتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي» فيصيح عمر بالحاضرين: «ما لَهُ؟! أَهَجَر؟! حسبنا كتاب الله!»! وما زال يمنع منها حتّى كثر التنازع فغضب النبيّ وأخرجهم من عنده.

فعل هذا عمر حين قدّر ما كان النبيّ يُضمِره، وقدّر أنّ ذلك سوف لا يحقّق المصلحة، وأنّ المصلحة في خلافه! هذا ما قاله هو في تفسير موقفه(1) .

إذن رأى لنفسه الحقّ في الوقوف أمام النبيّ وأَمْرِه! حين رأى أنّه كان أقدر من النبيّ على تشخيص المصلحة وإصدار الأحكام المناسبة!

ولو جاز ذلك التصوّر، في منطق مّا، وكان الذي قدّره عمر هو الأوفق بالمصلحة، لكانت تلك هي المصلحة العاجلة الظاهرة له، دون المصلحة الحقيقية التي كره عمر بواكيرها.

وماذا لو كره نفر من قريش ما أراده النبيّ اليوم لحفظ الدين وصونه؟!

ألم يكن ذلك النفر قد كره دعوة النبيّ في أيّامها الأُولى، ثمّ صار بعد يقاتل دونها؟!

ألم يكن منهم مَن كره النبيّ ودعوته وأفنى خيله ورَجِله في محاربتها حتّى أُسقِط في يديه يوم دخلت عليه جيوش النبيّ مكّة؟!

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 12/21 وقال: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر (ابن طيفور) صاحب كتاب «تاريخ بغداد» في كتابه، مسنداً.

٣٤

فهل كانت المصلحة في ما يحبّون؟! أم كان الخير كلّه في ما يكرهون؟!

ولئن كان الذي رآه عمر مصلحة عاجلة، هو حقّاً كما رآه، فلسريعاً ما كان مفتاحاً لمفسدةٍ وأيّ مفسدة!

إنّه الباب الذي كان مهيّئاً لكلّ ذي ضغينة على هذه الرسالة وصاحبها أن يقتحموه إلى حيث يطمحون، ألم يكن هو الباب إلى «الرزيّة، كلّ الرزيّة»؟!

هذا ما قاله حبر الأُمّة ابن عبّاس(1) ، وهو الذي نقشته الأحداث على جبين التاريخ الإسلامي، أحَبَّ ذلك أحدٌ أم كره!

* ولقد أخذ عمر على نفسه مرّةً ردّه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحسب تقديره للمصلحة، وذلك في قصّة الحكم بن كيسان، إذ جيء به أسيراً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعوه إلى الإسلام، فأطال، فقال عمر: علامَ تكلّم هذا يا رسول الله؟! والله لا يُسلِم هذا آخر الأبد، دعني أضرب عنقه ويقدم على أُمّه الهاوية!

فكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يُقبِل على عمر، حتّى أسلم الحكم!

قال عمر: فما هو إلاّ أن رأيته أسلم حتّى أخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلتُ: كيف أردّ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمراً هو أعلم به منّي، ثمّ أقول إنّما أردتُ بذلك النصيحة لله ولرسوله؟!

قال عمر: فأسلم والله، فحسن إسلامه، وجاهد في الله حتّى قُتل

____________________

(1) صحيح البخاري/ كتاب المرضى - باب 17 ح 5345، صحيح مسلم 3 ح 1637، مسند أحمد 1/222.

٣٥

شهيداً ببئر معونة ورسول الله راضٍ عنه، ودخل الجِنان!(1) .

هذا ما قاله عمر بإخلاص عن نفسه: «كيف أردّ على النبيّ أمراً هو أعلم به منّي، ثمّ أقول إنّما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله؟!».

فكيف يحقّ لمن جاء بعده أن يتمسّك بهذه المقولة ذاتها التي أنكرها عمر على نفسه، كلّما وقف على مسألة لعمر ردّ فيها على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو ردّ فيها نصّاً من نصوص القرآن الكريم؟!

* وأُخرى:

الله تعالى في كتابه الكريم قد عنّف عمرَ، وأبا بكر معه، لتقديمهما الرأي بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذن منه، وبحسب تقديرهما للمصلحة! عنّفهما بآيات شِداد:

قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

«يقول: لا تعجلوا بقضاء أمرٍ في حروبكم أو في دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله»، «نُهوا أن يتكلّموا بين يدي كلامه»(2) .

قال تعالى في الآية اللاحقة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْ‌فَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُ‌وا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ‌ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُ‌ونَ ) (3) .. وقصّتها أنّه قدِم وفد تميم،

____________________

(1) الطبقات الكبرى 4/137 ترجمة الحكم بن كيسان.

(2) تفسير الطبري 13/116.

(3) الآيتان من سورة الحجرات 49: 1 و 2.

٣٦

منهم الأقرع بن حابس، فكلّم أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعمله على قومه، فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله! فتكلّما حتّى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت الآيات(1) .

قال ابن أبي مُلَيكة: كاد الخيّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر! رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القصّة(2) .

وهذا الذي يُخشى أن تكون عاقبته حبط الأعمال، إنّما هو التقديم بالرأي بغير إذن منه، ورفع الصوت فوق صوته، فكيف مع ردّ أمره وتعطيل شيء من سننه؟!

أيحقّ مع كلّ هذا أن يقال إنّهما أرادا المصلحة والنصيحة لله ولرسوله؟!

هذا قول مختلف عن قول الله عزّ وجلّ:( لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) و( لَا تَرْ‌فَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) ..( أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُ‌ونَ ) .

فكما لا يصحّ هذا الاعتذار لِما وقع في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأيّام صحّته ونشاطه، فلا يصحّ شيء منه أيضاً مع ما وقع أيّام مرضه وبعد وفاته!

وبعد وفاته، وفي ربع قرن، ظهر شيء كثير من هذا النوع من الاجتهاد، اجتهاد مع وجود النصّ، ومن أشهره:

____________________

(1) انظر: تفسير الطبري 13/119، سنن الترمذي 5 ح 3266، سنن النسائي/ كتاب القضاة - باب 8 ح 5936، أسباب النزول - للواحدي -: 215 لباب النقول - للسيوطي -: 194، الدرّ المنثور 7/546 و 547.

(2) صحيح البخاري/ كتاب التفسير - تفسير سورة الحجرات - باب 329 ح 4564.

٣٧

1 - المنع من رواية الحديث:

وقد حثّ عليها النبيّ كثيراً، وأوصى بها، وأمر بها:

«نضّر اللهُ امرءاً سمع مقالتي فبلّغها، فرُبّ حامل فقه غير فقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(1) .

«الناسُ لكم تَبَع، وسيأتيكم أقوام من أقطار الأرض يتفقّهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً، وعلّموهم ممّا علّمكم الله»(2) .

«يوشَك الرجل متّكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه!! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله»(3) .

2 - المنع من تدوين الحديث:

وقد أباحه النبيّ لأصحابه:

حين كان عبدالله بن عمرو بن العاص يكتب حديث النبيّ، فقالت له قريش: أتكتب عن رسول الله كلّ ما تسمع؟! وإنّما هو بشر! يغضب

____________________

(1) سنن ابن ماجة 1 ح 230 - 236، سنن الترمذي 5 ح 2657 و 2658، سلسلة الاحاديث الصحيحة: ح 1721، وقد أحصى له بسيوني زغلول في موسوعة أطراف الحديث 47 طريقاً.

(2) انظر: كنز العمّال 10 ح 29533 - 29535.

(3) سنن ابن ماجة 1 ح 12 و 13 و 21، وقد تقدّم مع مزيد من التوثيق ص 138.

٣٨

كما يغضب البشر!! فذكر ذلك للنبيّ، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشير إلى شفتيه الشريفتين: «أُكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج ممّا بينهما إلاّ حقّ»(1) .

وشكا إليه صحابي كان يسمع الحديث فلا يحفظه، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «استعن بيمينك» وأشار بيده إلى الخطّ(2) .

وكما في كتبه الكثيرة في المدينة وإلى عمّاله، وهي مشحونة بالسنن.

* ولقد أمر بكتابة الحديث أيضاً، فقال: «قيّدوا العِلم بالكتاب»(3) .

وقال: «اكتبوا لأبي شاة» وقد طلب أبو شاة أن يكتب له خطبته صلى الله عليه وآله وسلم بمنى(4) .

وقال: «إيتوني بكتاب، أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»(5) .

وكثير غير هذا، وقد تقدّم بحثه آنفاً، فهل يصحّ أن يقال إنّ المنع من رواية الحديث وتدوينه إنّما كان لمصلحة الدين والأُمّة؟!

3 - سهم ذوي القربى من الخمس:

وقد نزل به القرآن، وأعطاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لبني هاشم وبني المطّلب، فمنعه أبو بكر وعمر! ونقلاه عن موضعه إلى موضع آخر في بيت المال باجتهاد رأياه، وربّما منح عثمان بعضه لبعض قرباه من بني أُميّة، مع أنّ عثمان هو الذي كان قد سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لِمَ لَمْ يعطهم - أي بني أُميّة -

____________________

(1) مسند أحمد 2/207، وصحّحه الحاكم والذهبي/ المستدرك 1/104 - 105.

(2) سنن الترمذي 5 ح 2666، تقييد العلم: 66 - 68.

(3) المستدرك 1/106، تقييد العلم: 69 و 70، المحدّث الفاصل: 365 ح 318.

(4) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 39 ح 112، سنن الترمذي 5 ح 2667.

(5) هذا نصّ البخاري في كتاب العلم ح 114.

٣٩

شيئاً مع قرابتهم، فيما أعطى بني المطّلب مع بني هاشم؟!

فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّما بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد»(1) .

ثمّ استقرّ رأي أبي بكر وعمر عند فقهاء المذاهب: أبي حنيفة ومالك وأحمد، وخالفهم الشافعي والطبري فأثبتا حقّ قربى الرسول فيه(2) .

4 - سهم المؤلّفة قلوبهم:

نزل به القرآن، وعمل به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فمنع منه عمر في مطلع خلافة أبي بكر، فوافقه أبو بكر! فتُرِك هذا الباب لا يُنظَر إليه!

وأغرب ما في هذا الباب دعوى الإجماع، لسكوت الصحابة وعدم مخالفة أحدهم! ناسين أنّ هذا الأمر لم يُرفع إلى الصحابة ليُنظَر ما يقولون، ولا خرج مخرجاً يوحي بوجود مطمع في تعديله أو مناقشته، وإنّما صدر أمراً سلطانياً لا ترديد فيه: جاء نفر من مؤلَّفة المسلمين إلى أبي بكر يطلبون سهمهم، فكتب لهم به، فذهبوا إلى عمر ليعطيهم وأروه كتاب أبي بكر، فأبى ومزّق الكتاب، فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟! فقال: بل هو، إن شاء!!

فأيّ محلّ الآن لمراجعة صحابي ومعارضته؟! وكيف يسمّى مثل هذا إجماعاً؟!(3) .

____________________

(1) صحيح البخاري/3 كتاب الخمس - باب 17 ح 2971، سنن النسائي/3 كتاب الخمس ح 4438 و 4439.

(2) انظر: د. أحمد الحصري/ السياسة الاقتصادية والنظم المالية في الفقه الإسلامي: 195 - 203.

(3) انظر: تفسير المنار 10/496.

٤٠