تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم40%

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 83

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
  • البداية
  • السابق
  • 83 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32569 / تحميل: 5570
الحجم الحجم الحجم
تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أمّا دعوى أنّ عثمان وعليّاً لم يعطيا أحداً من هذا الصنف، فقد أُجيب عنها، بأنّها «لا تدلّ على ما ذهبوا إليه من سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم، فقد يكون ذلك لعدم وجود الحاجة إلى أحد يتألّفوه آنذاك، وهذا لا ينافي ثبوته لمن احتاج إليه من الأئمّة، على أنّ العمدة في الاستدلال هو الكتاب والسُنّة، فهما المرجع الذي لا يجوز العدول عنه بحال»(١) .

وفسّر بعضهم رأي عمر بأنّه اجتهاد منه، إذ رأى أنّه ليس من المصلحة إعطاء هؤلاء بعد أن ثبت الإسلام في أقوامهم، وأنّه لا ضرر يخشى من ارتدادهم عن الإسلام.

وعلى هذا فلا يعدّ سهم المؤلّفة قلوبهم ساقطاً ليقال بمعارضة الكتاب والسُنّة، وإنّما توقّف العمل به لانتفاء موضوعه، وإذا ما وجدت الحاجة إليه عاد للظهور في أيّ زمان ومكان.

وبهذا قال بعض فقهاء الجمهور(٢) ، وهو جيّد حين يكون تقدير الموضوع دقيقاً وحكيماً، فيكون حكمه حكم سهم (الرقاب) المخصّص لتحرير الرقيق، حين يمرّ على المسلمين عهد ليس فيهم رقيق يُطلب عتقهم، فسوف يتوقّف العمل بهذا السهم ولكن من غير أن يكون ذلك ناسخاً للحكم.

لكنّ السؤال ما زال قائماً: هل كانت علّة هذا الحكم هي ضعف الإسلام وحاجته إلى قوّة هؤلاء، لا غير، لينتفي عند انتفاء علّته؟!

قال بعض فقهاء الجمهور: إنّ المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في

____________________

(١) سيّد سابق/ فقه السُنّة ١/٣٤٣.

(٢) الدكتور وهبة الزحيلي/ الفقه الإسلامي وأدلّته ٢/٨٧٢، محمّد رشيد رضا/ المنار ١٠/٤٩٦ و ٤٩٧.

٤١

الإسلام لأجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتّى يسقط بفُشُوّ الإسلام(١) .

وقال محمّد رشيد رضا: «إنّنا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردّهم عن دينهم، يخصّصون من أموال دولهم سهماً للمؤلّفة قلوبهم من المسلمين؛ فمنهم من يؤلّفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حضيرة الإسلام، ومنهم من يؤلّفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقّة الدول الإسلامية والوحدة الإسلامية، ككثير من أُمراء جزيرة العرب وسلاطينها!!(٢) أفليس المسلمون أَوْلى بهذا منهم؟!»(٣) .

فليس الأمر إذن منوط بعلّة واحدة استطاع عمر استنباطها بدقّة، فوقف الحكم عليها.

ولقد قسّم فقهاءُ الإسلام المؤلّفة قلوبهم إلى أصناف عديدة، لا يكاد يخلو زمان من بعضها، ولا تشترك صفاتهم بالصفة التي اعتمدها عمر في اجتهاده، بل لكلّ صنفٍ صفته الخاصّة، ولقد كان تصنيفهم قائماً أساساً على اختلاف صفاتهم، حتّى جعلوهم ستّة أصناف على هذا الأساس(٤) .

وأخيراً، حتّى عند الرضا بما قيل في تصحيح اجتهاد عمر، فإنّ مثله لا يصلح جواباً عن اجتهاده وأبي بكر السابق في إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس وصرفه إلى أيّ جهة أُخرى، فإنّ الله تعالى الذي أنزل هذا

____________________

(١) راجع: الدكتور وهبة الزحيلي/ الفقه الإسلامي وأدلّته ٢/٨٧٢.

(٢) علامتا التعجّب منه.

(٣) المنار ١٠/٤٩٥.

(٤) انظر الأصناف الستّة في: تفسير المنار ١٠/٤٩٤ - ٤٩٥، الفقه الإسلامي وأدلّته ٢/٨٧١ - ٨٧٢.

٤٢

النصّ أنزله على علم بمصالح عباده، وحكمة في وضع الأشياء في مواضعها، علم وحكمة غنيّان عن استدراكات البشر، سواء كانوا حكّاماً أو لم يكونوا، بل كلّ استدراك من هذا القبيل فهو ردٌّ على الله تعالى، وليس تقديماً بين يديه وحسب!!

٥ - متعة النساء ومتعة الحجّ:

قال عمر بن الخطّاب في خطبة له: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحجّ»(١) …؟.

أمّا متعة النساء: فقد نزل بها القرآن:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَ‌هُنَّ ) (٢) .

وأخرج الطبري أنّ في قراءة أُبَيّ بن كعب وابن عبّاس:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ - إلى أجلٍ مسمّىً -فَآتُوهُنَّ أُجُورَ‌هُنَّ ) (٣) .

وأذِن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بها، قال عبدالله بن مسعود: كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس لنا نساء، فقلنا، ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخَّص لنا أن ننكِح المرأةَ بالثوب إلى أجل. ثمّ قرأ عبدالله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ

____________________

(١) البيهقي/ السنن الكبرى ٧/٢٠٦، الجصّاص/ أحكام القرآن ١/٣٤٢ و ٣٤٥، ابن القيّم/ زاد المعاد ١/٤٤٤، ٢/٢٠٥، الرازي/ التفسير (مفاتيح الغيب) ١٠/٥٠، القرطبي/ التفسير (الجامع لأحكام القرآن) ٢/٢٦١.

(٢) سورة النساء ٤: ٢٤.

(٣) تفسير الطبري ٥/١٢ - ١٣.

٤٣

اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (١) .

وجاء عنه من وجه آخر أنّه قال: «كنّا ونحن شباب، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصي؟...» الحديث؛ ولم يقل: كنّا نغزو!(٢) .

وقال جابر بن عبدالله الأنصاري: «استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر»(٣) .

وقال: «كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الأيّامَ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو ابن حريث»(٤) .

وذكر البيهقي: أنّ ربيعة بن أُميّة استمتع بامرأة فحملت منه، فخرج عمر يجرّ رداءه فزعاً، فقال: هذه المتعة! ولو كنتُ تقدّمتُ فيها لرجمتُ!(٥) .

فهذه الأخبار الصحيحة كلّها هي الموافقة لقول عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليها» وشاهدة على أنّ ما ورد في تحريمها مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يصحّ عنه.

وأمّا متعة الحجّ: فهي الأُخرى نزل بها القرآن:( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَ‌ةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ‌ مِنَ الْهَدْيِ ) (٦) وأمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حجّته الوحيدة بالمسلمين، المعروفة بحجّة الوداع(٧) .

____________________

(١) صحيح مسلم/ ٣ - كتاب النكاح - باب ٣ ح ١١.

(٢) صحيح مسلم/ ٣ - كتاب النكاح - باب ٣ ح ١٢.

(٣ و ٤) صحيح مسلم/ ٣ - كتاب النكاح - باب ٣ ح ١٥ و ١٦، ونحوهما ح ١٧.

(٥) السنن الكبرى٧/٢٠٦.

(٦) سورة البقرة ٢: ١٩٦.

(٧) انظر: صحيح البخاري/٢- كتاب الحجّ - باب ٣٣ ح١٤٨٦- ١٤٩٤، وباب٣٥ ح ١٤٩٦

٤٤

* قيل لعبدالله بن عمر في متعة الحجّ: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟!

فقال: ويلكم! ألا تتّقون الله؟! إنْ كان عمر نهى عن ذلك فيُبتغى فيه الخير؟! فلِمَ تُحرّمون ذلك وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أفرسول الله أحقّ أن تتّبعوا سُنّته، أم سُنّة عمر؟!(١) .

* قال عروة بن الزبير لابن عبّاس: ألا تتّقي الله! تُرخّص في المتعة؟!

قال ابن عبّاس: سَلْ أُمّك يا عُرَيَّة!

فقال عروة: أمّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا.

قال ابن عبّاس: والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله، نحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتُحدّثون عن أبي بكر وعمر!! أو قال: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله، ويقولون: قال أبو بكر وعمر!!(٢) .

وقد أخرج مسلم نحو هذا النزاع بين ابن عبّاس وابن الزبير، فيدعو ابن عبّاس الحضورَ أن يسألوا أُمّ ابن الزبير، فيسألونها فتصُدِّق قوله.. ثمّ ذكر للحديث وجهين آخرين، في أحدهما ذكر «المتعة» ولم يقل متعة الحجّ، وفي الآخر يقول راويه: لا أدري متعة الحجّ أو متعة النساء؟(٣) .

____________________

(١) مسند أحمد ٢/٩٥، سنن الترمذي ٣ ح ٨٢٤، البداية والنهاية ٥/٥٩، تفسير القرطبي ٢/٢٥٨، جامع بيان العلم: ٤٣٥ ح ٢١٠٠ و ٢١٠١.

(٢) مسند أحمد ١/٣٣٧، جامع بيان العلم: ح ٢٠٩٥ و ٢٠٩٧ و ٢٠٩٩، رفع الملام - لابن تيميّة -: ٢٧ - ٢٨.

(٣)صحيح مسلم/ ٣ - كتاب الحجّ - باب ٣٠ في متعة الحجّ ح ١٩٤ - ١٩٥ (١٢٣٨).

٤٥

* وجمع الأمر كلّه عمران بن حصين فقال: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحجّ - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحجّ، ولم ينهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات، قال رجلٌ برأيه بعدُ ما شاء!(١) .

وعلى قرار المنع منها - خلافاً للكتاب والسُنّة - سار عثمان أيضاً(٢) ، وتابعه معاوية في أيّامه(٣) ، حتّى ظنّ الناس - وفيهم صحابة - أنّها السُنّة! كالضحّاك بن قيس، وهو صاحب معاوية ويزيد ثمّ صاحب ابن الزبير بعدهما(٤) ، فقد ذكر متعة الحجّ فقال: لا يصنع ذلك إلاّ مَن جهل أمر الله!

فقال له سعد بن أبي وقّاص: بئس ما قلت يا ابن أخي! قال: فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك!

قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصنعناها معه(٥) .

هكذا تصبح السنن في نظر هؤلاء حين يعتريها التغيير، وتتوالى عليها العهود!

* أمّا أصل هذا الموقف من متعة الحجّ فهو أقدم من عهد عمر، وإنّ له سرّاً خطيراً وقد كشف عنه البخاري ومسلم عن ابن عبّاس، قال: كانوا

____________________

(١) صحيح البخاري/ ٢ - كتاب الحجّ - باب ٣٥ ح ١٤٩٦، تفسير القرطبي ٢/٢٥٨ والنصّ منه.

(٢) صحيح البخاري/ ٢ ح ١٤٨٨ و ١٤٩٤.

(٣) سنن الترمذي ٣ ح ٨٢٢.

(٤) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء ٣/٢٤٢ و ٢٤٣.

(٥) سنن الترمذي ٣ ح ٨٢٣، تفسير القرطبي ٢/٢٥٨.

٤٦

يرون - أي في الجاهلية - أنّ العُمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض. ويجعلون المحرّم صَفَراً(١) ، ويقولون: إذا برأ الدَبَر، وعفا الأثر(٢) ، وانسلخ صفر، حلّت العُمرة لمن اعتمر.

فقدِم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم! فقالوا: يا رسول الله! أيّ الحِلّ؟! قال: «الحِلُّ كلّه»(٣) .

وفي حديث البراء، قالوا: كيف نجعلها عمرة(٤) وقد أحرمنا بالحجّ؟! فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «انظروا الذي آمركم به فافعلوه» فردّوا عليه القول، فغضب، ثمّ انطلق حتّى دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: مَن أغضبك؟! أغضبه الله!

قال: «وما لي لا أغضب وأنا آمُر بالأمر فلا أُتّبع؟!»(٥) .

فهل يصحّ أن يقال: كان هذا الخلاف والردّ على الرسول اجتهاداً، ولأجل المصلحة التي رآها هؤلاء الصحابة؟!

____________________

(١) وهذا هو النسيء الذي كانوا يفعلونه، يؤخرّون المحرّم ويقدّمون مكانه صَفَراً ليحلّونه.

(٢) يريدون: إذا شفيت ظهور الإبل من «الدبر» الذي يصيبها من أثر الحمل ومشقّة السفر، وذلك بعد الانصراف من الحجّ، وعنذئذٍ يكون أثر سيرها قد ذهب وامّحى من الطرق لطول المدّة.

(٣) صحيح البخاري /٢ - كتاب الحجّ - باب ٣٣ ح ١٤٨٩، صحيح مسلم/ ٣ - كتاب الحجّ - باب ٣١ ح ١٩٨ (١٢٤٠).

(٤) وفي لفظ البخاري عن جابر «متعة» بدل «عمرة». صحيح البخاري ح ١٤٩٣.

(٥) مسند أحمد ٤/٢٨٦، سنن ابن ماجة ح ٢٩٨٢، سير أعلام النبلاء ٨/٤٩٨ وقال الذهبي: هذا حديث صحيح من العوالي.

٤٧

٦ - صلاة المسافر:

صلّى عثمان وعائشة في السفر تماماً، ولم يُقصرا، فيما كان القرآن والسُنّة بالقَصر.

أتمّها عثمان بمنى، وفعلها معه طوائف، وكان ابن عمر إذا صلّى معه أربع ركعات، انصرف إلى منزله فأعادها ركعتين!

وسئل عروة بن الزبير: لِمَ كانت عائشة تتمّ في السفر وقد علمتْ أنّ الله تعالى فرضها ركعتين؟!

فقال: تأوّلتْ من ذلك ما تأوّل عثمان من إتمام الصلاة بمنى!

واعتلّ عثمان بمنى فأتى عليٌّ، فقيل له: صلّ بالناس. فقال: إنْ شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني ركعتين.

قالوا: لا، إلاّ صلاة أمير المؤمنين! يعنون عثمان، فأبى(١) .

فيما كان ابن عمر يقول: «صلاة السفر ركعتان، من ترك السُنّة فقد كفر» رفعه مرّة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروي مرّةً موقوفاً عليه(٢) .

٧ - وفي الطلاق:

الذي نزل به القرآن:( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ) بينهما رجعة، فإنْ تراجعا بعد الطلاق الثاني ثمّ طلّقها ثالثاً( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا

____________________

(١) انظر ذلك كلّه في المحلّى ٤/٢٦٩ - ٢٧٠. وفي المطبوع بعد كلمة «أبى» زادوا «عثمان» وليست من الأصل! انظر هامش الصفحة المذكورة من «المحلّى».

(٢) المحلّى ٤/٢٦٦ و ٢٧٠.

٤٨

غَيْرَهُ ) (١) . أمّا أن يكرّر لفظ الطلاق ثلاث مرّات، فهذا طلاق واحد، والتكرار هذا «لعب بكتاب الله» كما وصفه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم !(٢) .

ولقد كان هذا النوع الأخير من الطلاق، والمعروف بالطلاق الثلاث في مجلس واحد، معدوداً طلاقاً واحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، حتّى قال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم»! فأمضاه عليهم(٣) .

فهذا الذي أمضاه عمر، ومضى عليه أصحاب المذاهب الأربعة، ولم يخالف فيه إلاّ نفر من فقهائهم (شذّوا في ذلك)! منهم ابن تيميّة وابن القيّم، ووافقهم بعض المتأخّرين، هذا الحكم سوف يترتّب عليه حكم آخر هو في غاية الخطورة والشناعة:

فالطلاق الثالث لا رجعة بعده حتّى تتزوّج المرأة رجلاً آخر، ويقع بينهما طلاق بائن، بخلاف الطلاق الأوّل إذ لهما أن يتراجعا ما لم تنقضِ العدّة، فبحسب اجتهاد عمر أُعطي الطلاق - الذي كان أوّلاً بحكم القرآن والسُنّة - حكم الطلاق الثالث، فمنع رجوع الزوجين، وأوجب نكاحاً جديداً!

وأغرب ما قاله المتأخّرون في تبرير هذا الاجتهاد، قول ابن القيّم بأنّ هذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان!!

____________________

(١) سورة البقرة ٢: ٢٣٠.

(٢) سنن النسائي - كتاب الطلاق - ٣ باب ٧ ح ٥٥٩٤، إرشاد الساري ٨/١٢٨ ولفظه: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!»، تفسير ابن كثير ١/٢٧٨.

(٣) صحيح مسلم - كتاب الطلاق - باب طلاق الثلاث ح ١٤٧٢، مسند أحمد ١/ ٣١٤، سنن البيهقي ٧/٣٣٦، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين في المستدرك ٢/١٩٦.

٤٩

هذا القول الذي جعل فتوى الصحابي تشريعاً مقابِلاً للكتاب والسُنّة!! كذا قال ابن القيّم صراحةً، قال: «فهذا كتاب الله، وهذه سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه لغة العرب، وهذا عُرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة كلّهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدّهم العادّ بأسمائهم واحداً واحداً لوجد أنّهم كانوا يرون الثلاث واحدة إمّا بفتوىً وإمّا بإقرار... ولهذا ادّعى بعض أهل العلم أنّ هذا إجماع قديم، ولم تُجمع الأُمّة على خلافه، بل لم يزل فيهم من يُفتي به، قرناً بعد قرن، وإلى يومنا هذا» فذكر جماعة من الصحابة أفتوا بهذا بعد فتوى عمر، مخالفين رأيه، ماضين على ما كان على العهد الأوّل، منهم: عليٌّ، وابن عبّاس، والزبير، وعبد الرحمن، وابن مسعود، ثمّ ذكر بعض التابعين وتابعيهم، ثمّ قال:

«والمقصود أنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسُنّة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعد إجماع يُبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، كثر منهم إيقاعه جملةً واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم.. فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعهد الصدّيق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم...

* فهذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان!

* وعلم الصحابة - رضي الله عنهم - حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيّته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به..

* فليتدبّر العالِم الذي قَصْدُه معرفة الحقّ واتّباعه من الشرع والقَدَر: في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

٥٠

وتقواهم ربّهم تبارك وتعالى في التطليق، فجرت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعاً وقدراً.

فلمّا ركبت الناس الأُحموقة وتركوا تقوى الله..أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه، شرعاً وقدراً، إلزامهم بذلك وإنفاذَه عليهم... وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تُناسب عقول أبناء الزمن »!(١) .

فهذا مصدر جديد من مصادر التشريع لم يعرّفنا به القرآن، ولا عرّفنا به النبيّ، بل الذي عرّفنا به القرآن والسُنّة هو خلاف ذلك تماماً!

فهل عرّفنا القرآن أو السُنّة أنّ الله تعالى سوف ينسخ أحكاماً منزلة بعد موت النبيّ، بوحيٍ جديد من نوع آخر، فيُجري على لسان الخليفة الراشد أحكامه الجديدة الناسخة لأحكام القرآن والسُنّة؟!

أليس هذا من جنس عقائد غلاة الباطنية بأئمّتهم؟!

* * *

____________________

(١) انظر: أعلام الموقّعين ٣/٣٤ - ٣٧.

٥١

المرحلة الثانية

السُنّة في عهد الإمام عليّعليه‌السلام

عليٌّعليه‌السلام له مع السُنّة علاقة أُخرى، يميّزها بُعدان:

البعد الأوّل: عِلمه بها.. علماً شمولياً وتفصيلياً، مستوعباً لأفرادها، عارفاً بحدودها ومواقعها، وليس هذا محض ادّعاء، بل حقيقة ثابتة لم يكن يخفيها، فلطالما أفصح عنها في خطب بليغة يلقيها على الملأ العظيم وفيهم كثير من الصحابة الّذين عاشوا معه ومع الرسول، وعرفوه وعرفوا غيره من الصحابة، فمن ذلك قوله في كلام يصنّف فيه رواة الحديث إلى أربع طبقات، ثمّ يقول في مقارنة بينه وبين غيره من الصحابة: «وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتّى إنْ كانوا ليُحبّون أن يجيء الأعرابي والطارىَ فيسألهعليه‌السلام حتّى يسمعوا، وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلاّ سألتُه عنه، وحفظتُه»(١) .

وفوق هذا قد كانت هناك عناية ربّانية خاصّة ترعاه، فإذا أنزل الله تعالى قوله:( وتعيَها أُذُنٌ واعية ) (٢) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سألتُ الله أن يجعلها أُذنك يا عليّ» فكان عليٌّ يقول: «ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً فنسيتُه»(٣) .

____________________

(١) نهج البلاغة: خ/٢١٠.

(٢) سورة الحاقّة ٦٩: ١٢.

(٣) الشوكاني/ فتح القدير ٥/٨٨٢، تفسير الطبري ٢٩/٥٥، تفسير الماوردي ٦/ ٨٠، تفسير القرطبي ١٨/١٧١.

٥٢

ويبرهن للناس على علمه التفصيلي الدقيق بالسُنّة، كما هو في الكتاب، في خطاب يأخذ بمجامع القلوب، ما سمع الناس نظيراً له من صحابيّ غيره قطّ، فيقول: «وخلّف - نبيّكم - فيكم ما خلّفت الأنبياءُ في أُممها إذ لم يتركوهم هَمَلاً بغير طريق واضح ولا عَلَمٍ قائم: كتابَ الله(١) ، مبيّناً: حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله(٢) ، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، وعِبَرَه وأمثاله، ومرسَلَه ومحدوده(٣) ، ومحكَمه ومتشابهه.. مفسّراً مجمله، ومبيّناً غوامضه..

بين مأخوذٍ ميثاق علمه، وموسّعٍ على العباد في جهله.. وبين مثبَتٍ في الكتاب فرضه، ومعلومٍ في السُنّة نسخه.. وواجبٍ في السُنّة أخذه، ومرخَّصٍ في الكتاب تركه.. وبين واجبٍ بوقته وزائلٍ في مستقبله..

ومباين بين محارمه: من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه.. وبين مقبولٍ في أدناه موسَّعٍ في أقصاه»(٤) .

هذه أبواب من السنن فتحت على علوم جمّة توفّر عليها، مع بصيرة لا يُخشى عليها لبس ولا توهّم.

فهذه صورة عن علمه الشمولي والتفصيلي بالسُنّة، تلك المرتبة التي لا يشاركه فيها أحد من الصحابة، ومن هنا اشتهر عن تلميذه ابن عبّاس قوله: أُعطي عليٌّ تسعة أعشار العلم، وإنّه لأعلمهم بالعُشر الباقي!(٥) .

البُعد الثاني: منهجه في التعامل مع السُنّة.. والمنهج هو الذي

____________________

(١) أي خلّف فيكم كتاب الله.

(٢) الفضائل: المستحبّات والنوافل.

(٣) المرسَل: المطلق.. والمحدود: المقيّد.

(٤) نهج البلاغة: خ/١، وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده ١/٢٩٥ - ٢٩٧.

(٥) طبقات الفقهاء: ٤٢.

٥٣

سيحدّد عنده موقع السُنّة، وطريقته في التعامل معها روايةً وتدويناً.. لقد كانت السُنّة عنده في المكان الذي وضعها الله ورسوله به، حاكمةً غير محكوم عليها، لا تنسخها (مصلحة) فالمصلحة كلّ المصلحة في تحكيمها واتّباعها، ولقد ضحّى بالخلافة مرّةً بعد مرّة حفاظاً على السُنّة أن تنتهك أو يُساء الفهم في حقيقة مكانتها.

رفض أن يبايعوا له بالخلافة على عقدٍ يَقرن بسُنّة النبيّ سنناً أُخرى، إذ عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايع له على «كتاب الله وسُنّة رسوله وسيره الشيخين أبي بكر وعمر» فرفض أن يَقرن إلى كتاب الله وسُنّة رسوله شيئاً آخر، فضحّى بالخلافة حفظاً لمكانة السُنّة في درس بليغ لم تقف هذه الأُمّة على جوهره حتّى اليوم!

ورفض أن يشتري استقرار الحكم أيّام خلافته بمداهنة أهل البدع والانحراف الّذين انتهكوا السنن وعطّلوا الحدود، في درس عبقري يظنّه القشريّون حتّى اليوم إخفاقاً سياسيّاً!!

ورفض أن يعزّز جيشه بكتيبة جاءت تبايع له على خلاف السُنّة يوم خرج عليه المارقون، قالوا: نبايعك على كتاب الله وسُنّة رسوله وسيرة الشيخين! فرفض أن يقرن بكتاب الله وسنّة رسوله شرطاً ولو أدّى رفضه إلى تمرّد هؤلاء والتحاقهم بالمارقين.

ورفض أن يعامل أعداءه ولو مرّةً بخلاف السُنّة، وهم يمكرون وينكثون ويغدرون.

إنّه الرجل الذي كان منهاجه منهاج القرآن والسُنّة، لقد كان التجسيد الحيّ لكتاب الله وسُنّة رسوله.

ووفق هذا المنهج سوف نرى له - وباختصار شديد - مواقف وسياسة

٥٤

أُخرى مع السُنّة غير التي رأيناها قبله، فلقد دخلت السُنّة في عهده بحقّ في مرحلة أُخرى من تاريخها.

وسوف نتناول هذه المرحلة في ثلاثة مباحث بإيجاز تغني فيه الشواهد الحيّة عن السرد الطويل:

المبحث الأوّل: تدوين السُنّة:

إنّه قبل كلّ شيء كان كاتباً للحديث بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان قد اشتهر عنه أمر الصحيفة (صحيفة عليّ) التي كتبها من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يحملها معه في قائم سيفه، وذكرها البخاري ومسلم وأصحاب السنن بطرق شتّى، فلم تكن هي كلّ ما كتبه عليٌّ من حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان له صحف أُخرى غير هذه، وكان له كتاب كبير ليس فيه إلاّ أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عُرف بـ (كتاب عليّ) وهو غير تلك الصحيفة التي اختلفوا في حجمها.

* قالت أُمّ سَلَمة: «دعا النبيّ بأديم، وعليّ بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُملي وعليٌّ يكتب، حتّى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه»(١) .

الصحيفة:

مشهورة جدّاً أنباء الصحيفة، لا يكاد يخلو منها واحد من كتب الحديث والسنن، البخاري وغيره(٢) ، نقلوا منها نصوصاً متفرّقة، بعضها

____________________

(١) الرامهرمزي/ المحدّث الفاصل: ٦٠١ ح ٨٦٨.

(٢) صحيح البخاري/ كتاب العلم - باب كتابة العلم، وكتاب الديات - باب الدية على العاقلة، سنن ابن ماجة ٢ ح ٢٦٥٨، سنن أبي داود: ح ٢٠٣٥.

٥٥

أشبه بعناوين لِما تحويه، وبعضها فيه تفصيل، وقد جمع ابن حجر العسقلاني كثيراً ممّا نُقل عن تلك الصحيفة، وقال: الجمع بين هذه الأحاديث أنّ الصحيفة كانت واحدة، وكان جميع ذلك مكتوباً فيها، ونَقَلَ كلّ واحد من الرواة عنه ما حفظه(١) .

وجمع الدكتور رفعت فوزي ما نُقل عن هذه الصحيفة في كتب الحديث السُنّيّة، في كتاب أسماه: «صحيفة عليّ بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دراسة توثيقية فقهية»(٢) .

كتاب عليّ:

حديث أُمّ سَلَمة المتقدّم يصف كتاباً أكبر من هذه الصحيفة التي لا تفارق قائم سيفه، أو قراب سيفه! وأصبح «كتاب عليّ» عَلَماً يتكرّر في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ، كتاب كبير كانوا يحتفظون به ويتوارثونه:

* أخبر أحمد بن حنبل أنّ كتاباً كهذا كان عند الحسن بن عليّ يرجع إليه(٣) .

* وأخرج الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام هذا الكتاب أمام طائفة من أهل العلم، منهم: الحكم بن عُتيبة، وسلمة، وأبو المقدام، فرأوه كتاباً مدرجاً عظيماً، فجعل ينظر فيه حتّى أخرج لهم المسألة التي اختلفوا فيها، فقال

____________________

(١) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١/١٦٦، والقسطلاني/ إرشاد الساري ١/٣٥٨ - ٣٥٩.

(٢) طبع سنة ١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م.

(٣) كتاب العلل ومعرفة الرجال ١/٣٤٦ ح ٦٣٩، الجامع في العلل ومعرفة الرجال ١/١٣٧ ح ٦٢٤.

٥٦

لهم: «هذا خطّ علي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » ثمّ توجّه إلى الحكم بن عُتيبة فقال له: يا أبا محمّد! اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قومٍ كان ينزل عليهم جبريلعليه‌السلام »!(١) .

* وعرض هذا الكتاب أيضاً الإمام الصادقعليه‌السلام ، والإمام الهادي عليّ ابن محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام ، غير مرّة، يقول: «إنّه بخطّ علي، وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نتوارثها صاغراً عن كابر»(٢) .

دعوته إلى تدوين السُنّة:

دعوة صريحة يعلنها على الملأ في مواضع كثيرة:

* خطب الناس مرّةً، فقال: «قيّدوا العلم، قيّدوا العلم» يكرّرها(٣) .. أي اكتبوه واحفظوه لئلاّ يُدرس.

* وقال في خطبة أُخرى له: «مَن يشتري منّي علماً بدرهم؟».

قال أبو خيثمة: يعني يشتري صحيفةً بدرهم يكتب فيها العلم..

فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ثمّ جاء بها عليّاًعليه‌السلام فكتب له علماً كثيراً(٤) .

____________________

(١) رجال النجاشي: ٣٦٠ ت ٩٦٦ ترجمة محمّد بن عُذافر الصيرفي.

(٢) الشيخ الطوسي/ تهذيب الأحكام ١ ح ٩٦٣ و ٩٦٦، وج ٥ ح ١٣٣٧.. وقد أحصى السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي عشرات الموارد عن أهل البيتعليهم‌السلام في ذِكر هذا الكتاب (كتاب عليّ)، انظر: تدوين السُنّة الشريفة: ٦٥ - ٧٩.

(٣) تقييد العلم: ٨٩ و ٩٠.

(٤) الطبقات الكبرى ٦/١٦٨، تقييد العلم: ٨٩.

٥٧

وكانت الكتابة عند علي وبين يديه مشهورة، حدّث بها غير الحارث كثير، منهم الشعبي، وعطاء(١) ، وأبو رافع وولداه عبيدالله وعليّ وكانا كاتبين عند عليعليه‌السلام ، والأصبغ بن نباتة، وغيرهم(٢) . وعبدالله بن عبّاس أيضاً(٣) ، وكان يكتب الحديث ويأمر بكتابته أيضاً(٤) .

* عادت الحياة إذن إلى السُنّة النبوية، وتبدّد خطر ضياعها ونسيانها.. تلك هي أمانة الرسالة ووعيها.

من أدب الكتابة عند عليعليه‌السلام :

تقرأ في أحاديثه اهتماماً كبيراً ورعاية لأمر الكتابة، في أروع صورة لوعي حضاري بأمر الكتابة آنذاك:

* يقول: «الخطّ علامة، فكلّ ما كان أبْيَن كان أحسن»(٥) .

* ويقول للكاتب: «أَلْقِ دواتَك، وأَطِل شَقّ قلمِك، وأَفْرِج بين السطور، وقَرمِط بين الحروف»(٦) .

* ويقول: «أَطلِ جلفةَ قلمِك، وأَسمِنها، وأَيمِن قطّتَك، وأَسمِعني طنين النون، وحوّر الحاء، وأَسمِن الصاد، وعرّج العين، واشقق الكاف، وعظّم الفاء، ورتّل اللام، وأسلس الباء والتاء والثاء، وأقم الزاي وعَلِّ

____________________

(١) انظر: فؤاد سزگين/ تاريخ التراث العربي مج ١ ج ١/١٢٧.

(٢) الجلالي/ تدوين السُنّة الشريفة: ١٣٧ - ١٤٣.

(٣) صحيح مسلم/ المقدّمة.

(٤) سير أعلام النبلاء ٣/٣٥٤ - ٣٥٥.

(٥) كنز العمّال ١٠ ح ٢٩٥٦٢.

(٦) كنز العمّال ١٠ ح ٢٩٥٦٣.. وقرمط: أي قارِب.

٥٨

ذنبها، واجعل قلمَك خلف أُذنك يكون أذكر لك»(١) .

المبحث الثاني: رواية السُنّة:

الرواية، قبل التدوين، دخلت عهداً جديداً، رفع عنها الحظر، ودُعيَت إلى سماعها طوائف الناس:

* قال عليٌّعليه‌السلام لأصحابه: «تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يُدرَس»!(٢) .

* وخطب في الناس مرّة فقال: «خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللّهمّ ارحم خلفائي - ثلاث مرّات - قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ فقال: الّذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسُنّتي ويعلّمونها الناس»!(٣) .

* وكم قام عليٌّ في الناس فذكّرهم أحاديث قد غابت عنهم زمناً طويلاً، مُنع التحديث بها لربع قرن! كمناشدته في الرحبة بحديث الغدير، وتذكيره بحديث «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن...» وأحاديث في ذِكر أهل البيت وفضلهم، والحديث الذي أعاده على الزبير يوم الجمل، وغيرها كثير..

هكذا كان عهده مع السُنّة رواية وتدويناً، فهما السبيل إلى نشرها وحفظها، وإلاّ فمصيرها النسيان والضياع!

____________________

(١) كنز العمّال ١٠ ح ٢٩٥٦٤.

(٢) كنز العمال ١٠ ح ٢٩٥٢٢ عن الخطيب في الجامع.

(٣) شرف أصحاب الحديث: ٣١ ح ٥٨، كنز العمّال ١٠ ح ٢٩٤٨٨ عن الرامهرمزي، والقشيري، وأبي الفتح الصابوني، والديلمي، وابن النجّار، وآخرين.

٥٩

التحذير من الكذب:

في أثناء فتحه لباب الرواية والتدوين كان يكثر التحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقرع أسماعهم بين الحين والحين بحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار»(١) .

وحتّى من كذب عليه في الرؤيا فادّعى مناماً يكذب فيه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(٢) .

مع القصّة:

هذه الحرفة التي تستدرج أصحابها شيئاً فشيئاً نحو الكذب والسخرية والأساطير، كانت ممنوعة في الإسلام، وأوّل ما ظهرت في عهد عمر بن الخطّاب حين أذِن لتميم الداري بالجلوس في المسجد للقصّة! فكان تميم الداري أوّل قاصٍّ مأذون في الإسلام!

وتميم الداري هذا هو الرجل النصراني الذي قدم في عشرة من قومه من أرض فلسطين إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في العام التاسع للهجرة، بعد فتح مكّة بعام، وهو صاحب قصّة «الجسّاسة» التي يرويها عنه مسلم وأحمد(٣) هذه القصّة التي لم يحدّث بها أحدٌ من الصحابة خلا فاطمة بنت قيس!

____________________

(١) انظر: البخاري/ كتاب العلم - باب من كذب على النبيّ، فتح الباري ١/١٦١ - ١٦٢، مسند أحمد ١/٧٨ و ١٣٠، كنز العمّال ١٠ ح ٢٩٤٩٨.

(٢) انظر: مسند أحمد ١/٩٠ و ١٢٩.

(٣) صحيح مسلم/ كتاب الفتن - قصّة الجسّاسة - ح ٢٩٤٢ و ٢٩٤٣، مسند أحمد ٦/٣٧٣ و ٣٧٤.

٦٠

ولا حفظها عنها سوى الشعبي، رغم ما فيها من الوصف الخطير والتهويل، إذ تقول: إنّ منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نادى: الصلاة جامعة، فهُرع الناس إلى المسجد، وكانت هي في من حضر، فقام النبيّ على المنبر خطيباً وهو مستبشر، يزفّ إليهم بشرىً، فيقول: «ليلزم كلّ إنسان مصلاّه - ثمّ قال: - أتدرون لم جمعتكم؟ جمعتكم لأنّ تميماً الداريّ كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم، وحدّثني حديثاً وافق الذي حدّثتكم عن مسيح الدجّال»!

ثمّ ينقل لهم بنفسه ما حدّث به تميم الداري من أنّه قذفت به السفينة إلى جزيرة لا يدري ما هي! فرأى فيها دابّة لا يعرف قُبلها من دبرها من كثرة شعرها! وهذه الدابّة تتكلّم، فكلّمته بلسان طليق! وأمرته أن يتوجّه إلى رجل في دير في تلك الجزيرة، فتوجّه إليه فوجده مكبّلاً بأصفاد الحديد! فحدّثه هذا الرجل بأشياء من الغيب! ثمّ عرّفه بنفسه، إنّه المسيح الدجّال!!

هذا الخبر، على هذه الصورة، ينبغي أن يرويه غير واحد، فالنبيّ يجمع له الناس ويأمرهم أن يلزموا أماكنهم حتّى يحدّثهم بحديث مصدّق لحديثه!

ومنذ ذلك الحين والبحر يُمخَر كلّ يوم مرّات، تجوبه السفن المدنية والعسكرية، وتحلّق فوقه الأقمار الصناعية، ولم يزل أمر هذه الجزيرة مجهولاً! وما بلغ داروِن وأصحابه نبأ هذه الدابّة الناطقة باللسان العربي!!

لكنّ البسطاء وذوي القلوب الغافلة طفقوا يستلهمون من هذه القصّة العبر، فوجدوا فيها درساً متقدّماً في الدراية، فهي مثال رائع لرواية الفاضل عن المفضول، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدّث عن نصرانيّ أسلم لتوّه!

وأيضاً فقد كشفت عنهم كرباً وحلّت لغزاً كان يحيّرهم وهم يقرأون:

٦١

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) (1) حتّى أتاهم تميم بنبأ «الجسّاسة» هذه! وقالوا: إنّما سمّيت الجسّاسة لأنّها تجسّ الأخبار للمسيح الدجّال!!(2) .

* فلمّا أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله مُظهرك على الأرض كلّها، فهب لي قريتي من بيت لحم!

فقال له النبيّ: هي لك.. وكتب له بها، فلمّا فُتحت فلسطين جاء تميم بالكتاب إلى عمر، فقال عمر: أنا شاهد ذلك.. فأمضاه! وذكروا أنّ النبيّ قال له: «ليس لك أن تبيع» فهي في أيدي أهله إلى اليوم(3) .

ولم تُجعل هذه الأرض في بيت المال، ولا صُرف ريعها في الكراع والسلاح.. فلا الأرض كانت فدكاً، ولا تميم كان فاطمة الزهراء!!

لكن هل احتاج النبيّ إلى بشرى تميم هذه ليهب له تلك القرية؟! أم أنّ تميماً قد أحرز لغده ثمن إسلامه كما فعل النبيّ مع المؤلّفة قلوبهم؟!

لا غرابة، فإنّ تميماً لم يزل في المدينة حتّى قُتل عثمان، فلمّا قُتل عثمان فرّ تميم إلى الشام!!(4) .

ذلك لأنّه حسن إسلامه جدّاً! فهو لا يطيق أن يرى عليّاً في الخلافة! ولا يسعه إلاّ جوار معاوية!

ولأجل تأكيد حسن إسلامه وعظمة إيمانه، قالوا: إنّه كان يختم القرآن

____________________

(1) سورة النمل 27: 82.

(2) انظر هذا كلّه في صحيح مسلم بشرح النووي مج 9 ج 18: 78 - 84 قصّة الجسّاسة.. ومن المعاصرين الّذين اطمأنّوا إلى هذا التفسير: د. محمّد السيّد حسين الذهبي، في كتابه/ الإسرائيليات في التفسير والحديث: 93!!

(3) سير أعلام النبلاء 2/443.

(4) سير أعلام النبلاء 2/443، الطبقات الكبرى 7/409.

٦٢

كلّه في ركعة!!(1) هكذا، كلّه في ركعة واحدة!!

وأساطير مضحكة نسجوها حول تميم، صاحب القصص والأساطير.

قالوا: كان عمر يسمّيه «خير المؤمنين»! لقد جاءه رجل كان قد أذنب ذنباً، فلبث في المسجد ثلاثاً لا يأكل، ثمّ جاء عمرَ فقال: تائب من قبل أن تقدر عليه. فقال له عمر: إذهب إلى خير المؤمنين فانزل عليه. فذهب الرجل طوعاً إلى تميم الداري، فهو خير المؤمنين لا يشكّ هذا الرجل!!(2) ).

وذات ليلة خرجت نار بالحرّة، ناحية المدينة، فجاء عمر إلى تميم، فقال: قم إلى هذه النار!

قال: يا أمير المؤمنين، ومَن أنا؟! ومَن أنا؟! فلم يزل عمر به حتّى قام معه، فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها بيده حتّى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها، فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم يرَ! قالها ثلاثاً!

هاتان أُسطورتان يرويهما معاوية بن عجلان، قال الذهبي: رجل قالوا إنّه لا يُعرَف(3) .

لكن ابن حجر العسقلاني سمّاه «معاوية بن حرمل» وعدّه في الصحابة، وقال: هو صهر مسيلمة الكذّاب! وكان مع مسيلمة في الردّة، ثمّ قدم على عمر تائباً!

ثمّ يقول ابن حجر عن هذه القصّة: «له قصّة مع عمر فيها كرامة

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 2/445.

(2) سير أعلام النبلاء 2/446.

(3) سير أعلام النبلاء 2/447.

٦٣

واضحة لتميم، وتعظيم كثير من عمرَ له»!!(1) .

ومن هنا يستدلّون على وثاقة تميم وعلوّ منزلته(2) .. من شهادة صهر مسيلمة الكذّاب الذي كان معه في الردّة!!

وأمّا قصّته هو عن «الجسّاسة» ومسيح الدجّال، فلولا ما حظي به صحيح مسلم من قداسة لَما ارتاب فيها عاقل!

وهذه القداسة هي التي حالت دون السؤال: كيف صحّح مسلم هذه الرواية؟!

إنّ مسلماً رجلٌ نشأ في وسط يوثّق رجالاً ويأخذ عنهم الحديث، فوثّقهم مسلم.. لقد وثّقهم ذلك التاريخ الذي عرفناه، وعرفنا كيف وثّقهم!

وحين تُغفل هذه الحقيقة فقط تنفذ مثل هذه الأساطير...

وأغرب ما في الدفاع عن هذه القصّة، دفاع الناقد الدكتور الذهبي الذي عاد إلى فقرات من القصّة نفسها، وأكثر فقراتها محل للتهمة والريبة، ليجعلها دليلاً على صحّتها، إذ يقول.. «وهل يُتصوّر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المؤيدّ بوحي السماء أن يتقبّل من رجل يلوّث الإسلام بمسيحيّاته حديثاً كحديث الجسّاسة، ثمّ هو لا يكتفي بذلك بل يجمع أصحابه ويحدّثهم به ويقرّر من فوق منبره صدق حديثه؟!»!!(3) .

____________________

(1) انظر: الإصابة/ ترجمة تميم الداري 1/184، وترجمة معاوية بن حرمل 3/ 497.

(2) انظر: د. محمّد سيّد حسين الذهبي/ الإسرائيليات في التفسير والحديث: 91 - 94 وهو يكافح لأجل توثيق تميم! وانظره في ص 95 - 96 وهو يوثّق كعب الأحبار، ويجعل واحداً من أهمّ أدلّته: أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يعظّمه!!

(3) الإسرائيليّات في التفسير والحديث: 93.

٦٤

فانظر كيف أخذ أهمّ علامات كذب الرواية ليجعله الشاهد على صدقها!!

فمن قال لك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قام مصدّقاً لهذه الرواية؟! هل سمعته من أحد غير هذه الرواية نفسها؟!

إنّ مثل هذه القصّة ليست ممّا يرتاب العقل في تكذيبها بعد المسح العلمي الدقيق، إنّها تماماً من قبيل روايات تقول: إنّ الأرض تقف على قرن ثور، والثور على ظهر حوت، وهو النون التي في قوله تعالى:( ن وَالْقَلَمِ ) !!

فإذا كان يصدّقها بالأمس ناس عمدتهم وثاقة الرواة، فليس لهذه الوثاقة اليوم محلٌّ أمام الكشف العلمي الدقيق والمباشر.. ولا يعاب في ذلك المتقدّمون! ولكن يعاب الّذين قرضوا القرن التاسع عشر والقرن العشرين وما زالوا يلتمسون ذلك وراء وثاقة الراوي وأهمّيّة المصدر، بدلاً من أن يضع ذلك كلّه موضع الاختبار بناءً على هذه الحقائق الملموسة.

وتميم هذا هو الذي ابتدأ فاستأذن عمر أن يقصّ، فأذِن له بعد أن ردّه أوّلاً، فهو أوّل قاصٍّ مأذون في الإسلام(1) ، فكان يقوم في المسجد كلّ جمعة يعظ أصحاب رسول الله! قبل أن يخرج عمر إلى الجمعة.. فلمّا جاء عثمان طلب منه تميم أن يزيده، لأنّ موقفاً واحداً في الأُسبوع لا يكفيه، فزاده عثمان يوماً آخر يُتحف فيه أصحاب رسول الله بمزيد من مواعظه!

لكن في تلك السنين كان التحدّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(1) انظر ترجمة تميم بن أوس الداري في: الاستيعاب، أُسد الغابة، الإصابة، سير أعلام النبلاء.

٦٥

ممنوعاً! وكان خيار الصحابة من أُولي السابقة والجهاد يُحبَسون في المدينة إذا ما حدّثوا خارجاً عنها بشيء من سنن النبيّ ومواعظه!!

إنّ لتميم سرّاً هو من صنف سرّ كعب الأحبار، لكنّ تميماً تقدّم على كعب حين أدرك النبيّ فسُمّي صحابياً!

ولمّا قُتل عثمان لم يعد أمر تميم بتلك الدرجة من الخفاء؛ إنّه لم يأت عليّاً يستأذنه في المضيّ على شأنه، أو يستزيده، كلاّ، بل ترك المدينة كلّها، ضاقت عليه بما رحبت أرضٌ يحكمها عليّ، فليس أمامه إلاّ الشام في أجواء تنتظر تميماً ونظراءه، فخرج إلى الشام دون أن يضيع مزيداً من الوقت!

لقد كان عمر يمنع من القصص، ويكذّب محترفيها، حتى أقنعه تميم في نفسه خاصّة، لكنّ عليّاً لم يأذن بشيء من ذلك، ولم يكن تميم بالرجل الساذج أو الغبيّ الذي يلتمس مثل ذلك من علي! ولا هو بتارك مهنته، فترك بلاداً تدين لعلي، قافلاً إلى حيث تنفق سلعته، وله في كنف معاوية أوسع جوار!

* والذي لا نزاع فيه أنّ القصص قد انتشرت في أواخر عهد عثمان، وبرز قصّاصون يقصّون في المساجد، حتّى طردهم عليّعليه‌السلام ، كما أثبته المروزي وغيره(1) .

والشيخ الغزالي يثبّت ذلك أيضاً، ويقول: إنّ عليّاًعليه‌السلام منع القصّ في المساجد، ولم يأذن إلاّ للحسن البصري(2) .

____________________

(1) انظر: كنز العمّال 10 ح 29449، وبعده.

(2) كيف نتعامل مع القرآن:

٦٦

والشيخ أبو زهرة يثبّت ذلك بشكل أكثر وضوحاً، فيقول: ظهر القصص في عهد عثمان رضي الله عنه، وكرهه الإمام عليّ رضي الله عنه حتّى أخرج القصّاصين من المساجد، لِما كانوا يضعونه في أذهان الناس من خرافات وأساطير، بعضها مأخوذ من الديانات السابقة بعد أن دخلها التحريف وعراها التغيير!

قال: وقد كثر القُصّاص في العصر الأُموي، وكان بعضه صالحاً وكثير منه غير صالح، وربّما كان هذه القصص هو السبب في دخول كثير من الإسرائيليات في كتب التفسير وكتب التاريخ الإسلامي..

وإنّ القصص في كلّ صوره التي ظهرت في ذلك العصر كان أفكاراً غير ناضجة تلقى في المجالس المختلفة، وإنّ من الطبيعي أن يكون بسببها خلاف، وخصوصاً إذا شايعَ القاصُّ صاحب مذهب أو زعيم فكرة أو سلطان، وشايع الآخر غيره، فإنّ ذلك الخلاف يسري إلى العامّة، وتسوء العُقبى، وكثيراً ما كان يحدث ذلك في العصور الإسلامية المختلفة(1) .

فلماذا لا يكون كِلا الأمرين قد أرادهما تميم الداري: دخول الإسرائيليات والأساطير في التفسير والتاريخ، وظهور الخلافات والنزاعات بين المسلمين؟!

لماذا إذن فرّ من علي إلى معاوية؟!

والأمران اللذان أرادهما تميم، ونشط فيهما كعب الأحبار أيضاً في عهد عثمان، وساهم فيهما آخرون، كلاهما قد أراد عليٌّعليه‌السلام أن يقطع دابرهما، ويخيّب آمال هؤلاء الّذين يكيدون للإسلام وأهله كلّ شرّ،

____________________

(1) محمّد أبو زهرة/ المذاهب الإسلامية: 20.

٦٧

ويظهرون بمظاهر النسك التي ألفوها في اليهودية والنصرانية.

المبحث الثالث: إحياء السُنّة:

في غير الرواية والتدوين، تُحدّثنا الأخبار الدقيقة عن مشكلات أُخرى قد تعرّضت لها السُنّة، فتداركها عليٌّ:

1 - قال أبو موسى الأشعري: «لقد ذكّرنا عليّ بن أبي طالب صلاةً كنّا نصلّيها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إمّا نسيناها، أو تركناها عمداً»!!(1) .

إذن هذه الصلاة أيضاً قد أُصيبت في صورتها، وطريقة أدائها؟!

ثمّة شهادة أُخرى على ذلك، شاهدها الصحابي الجليل أبو الدرداء، الذي توفّي في خلافة عثمان!(2) .

* قالت أُمّ الدرداء: دخل علَيَّ أبو الدرداء مغضباً، فقلتُ: مَن أغضبك؟!

قال: «والله لا أعرف فيهم من أمر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً»!(3) .

إذن كلّ شيء قد تغيّر عن أمر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولم تَعُد تُرَ تلك السنن التي ميّزت المجتمع أيّام الرسول، ولم يبق فيهم إلاّ صورة الاجتماع في الصلاة، الاجتماع وحده، لا سنن الصلاة التي تحدّث عنها أبو موسى

____________________

(1) مسند أحمد 4/392 من طريقين، وهما في الطبعة المرقّمة في ج 5 ح 19000 و 19004.

(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 2/353، والإصابة 3/46.

(3) مسند أحمد 6/443 من طريقين، وهما في الطبعة المرقّمة في ج 7 ح 26945 و 26955.

٦٨

الأشعري.

2 - وقبل قرأنا صلاة عثمان وعائشة في السفر تماماً، لا يُقصَران، وقد أبى عليٌّ ذلك، وأنكره نفر من الصحابة، وحين مرض عثمان في تلك الأثناء ودعوا عليّاً للصلاة بهم، قال: «إنْ شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ». فقال أكثرهم: لا، إلاّ صلاة أمير المؤمنين!!

وهكذا تتغيّر السنن وتختفي لتحلّ محلّها محدَثات ينصرها كثير وكثير من السلف، ثمّ تصل إلى اللاحقين فيأخذون عن سلفهم برضاً وتسليم لفرط حسن الظنّ بهم حتّى أعفاهم من النقد ومن ضوابط التحقيق والنظر!

3 - وقصّة علي مع صلاة التراويح جماعةً، أيّام خلافته، هي الأُخرى من هذا القبيل، فحين أمرعليه‌السلام بتفريقهم ليعيدهم على ما كان أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: «وا سُنّة عمراه»!!(1) .

فهم يعلمون أنّها سُنّة عمر، وأنّ الذي يدعوهم إليه عليٌّعليه‌السلام هي سُنّة النبيّ!!

تقرأ ذلك صريحاً في صحيح البخاري، وغيره، أنّها سُنّة عمر(2) .

وفي صحيح البخاري أنّ عمر لمّا جمع الناس عليها قال: «نِعْمَ البدعة هذه!»(3) .

قال القسطلاني في شرحها: سمّاها بدعة لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنَّ لهم، ولا كانت في زمن الصدّيق، ولا أوّل الليل، ولا هذا

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 12/283.

(2) صحيح البخاري - كتاب صلاة التراويح.

(3) صحيح البخاري - كتاب صلاة التراويح - 2 ح 1906.

٦٩

العدد»!(1)

4 - وتقرأ في أوّليّات عمر: «هو أوّل من حرّم المُتعة» وتقدّم حديثها(2) ، وأمّا قول عليٌّعليه‌السلام فيها فهو المشهور:«لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شفىً» أو: «إلاّ شقيّ».

5 - وفي أوّليّات عمر أيضاً: «وأوّل من جمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز»(3) .

أخرج أحمد من حديث حذيفة بن اليمان، أنّه صلّى على جنازة فكبّر خمساً، ثمّ التفت إلى الناس، فقال: «ما نسيتُ ولا وهمتُ، ولكن كبّرت كما كبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »!(4) ، يريد أن يذكّرهم بأمر نسوه واستبدلوه بأمر محدَث مضوا عليه حتّى نسوا الأمر الأوّل، وكم توجّع حذيفة لهذا النسيان أو التناسي!

ومثله ثبت عن زيد بن أرقم، كبّر على الجنازة خمساً، فاستنكروا عليه، فقال: «سُنّة نبيّكم».. «ولن أدعها لأحد بعده».. «ولن أدعها أبداً»(5) . والتكبيرات الخمس هي التي مضى عليها عليٌّعليه‌السلام (6) ، ومثله صنع

____________________

(1) إرشاد الساري 4/656.

(2) هذا كلّه تقدّم في ص 160 - 164، وانظر أيضاً: الأوائل - لأبي هلال العسكري -: 112، تاريخ الخلفاء - للسيوطي -: 128.

(3) العسكري/ الأوائل: 113، ابن الأثير/ الكامل في التاريخ 3/59 السيوطي/ تاريخ الخلفاء: 128.

(4) مسند أحمد 5/406.

(5) مسند أحمد 4/370 - 371، سنن الدارقطني 2/75.

(6) مصنّف عبد الرزّاق 3/481، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 1/221 - 222.

٧٠

الإمام الحسنعليه‌السلام (1) ، وعليها فقه أهل البيتعليهم‌السلام

6 - ومع عثمان، في أمر الزكاة، بعث إليه عليعليه‌السلام بكتاب فيه حكم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الزكاة، بعثه بيد ولده محمّد بن الحنفيّة، فقال له عثمان: أغنها عنّا!!

فرجع بها إلى أبيهعليه‌السلام ، فقال له: ضع الصحيفة حيث وجدتها(2) .

هذه سنن طرأ عليها هذا النحو من التبديل والتغيير، فكان تداركها لإحياء السُنّة النبوية الثابتة هو من أهمّ ما وضعه عليّعليه‌السلام نصب عينيه وهو يتولّى الحكم: «لنردّ المعالم من دينك».

وهكذا استعادت السُنّة روحها ودورها في أيّامه، ليكون ذلك طريقاً إلى حفظها من الضياع وحفظ مكانتها في التشريع.

مقولات فيها مصادرة:

* الأُستاذ الدكتور نور الدين عتر/ في كتابه «منهج النقد في علوم الحديث».

* محمود أبو ريّة/ في كتابه «أضواء على السُنّة المحمّدية».

* الدكتور محمّد سلام مدكور/ في كتابه «مناهج الاجتهاد في الإسلام».

____________________

(1) الأحبار الطوال: 216، شرح نهج البلاغة 6/122.

(2) ابن حزم/ الأحكام 1/253.

٧١

الأُولى: قال بها الدكتور نور الدين عتر حين نسب منع تدوين السُنّة إلى إجماع الصحابة!

فبعد أن نقل رغبة عمر في التدوين أوّلاً، واستشارته الصحابة وإشارتهم عليه بالتدوين، ثمّ تبدّل رأي عمر، قال: وقد أعلن عمر هذا على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم وأقرّوه، ممّا يدلّ على استقرار أمر هذه العلّة في نفوسهم!(1) .

وهذا القول ناشىَ عن رؤية مثالية أوّلاً، وفيه مصادرة لآراء الصحابة ثانياً:

فالرؤية التي تصوّر سكوت الصحابة أمام أيّ قرار تصدره الخلافة، على أنّه إجماع إقراري، رؤية مثالية، وهذا الخبر هو واحد من أهمّ الأدلّة على ذلك، فقبل شهر واحد فقط من صدور هذا القرار كانوا قد أعطوا رأيهم المؤيّد لتدوين السُنّة بالإجماع، ولم يظهر في ذلك أدنى خلاف حتّى صدر قرار الخليفة بعكسه، فبعد أن أعطوه الرأي ثمّ عزم على خلافه فلا محلّ إذن للمعارضة.

وإذا زعمنا أنّ سكوتهم كان إقراراً كاشفاً عن الإجماع، فما هي قيمة إجماعهم السابق على خلافه؟!

هل سيبقي هذا التصوّر على شيء من قيمة (إجماع الصحابة)؟ لا في هذه المسألة وحدها، بل في كلّ مسألة!

وثمّة دليل عملي على عدم إقرار الصحابة بقرار المنع:

لقد راحوا من وراء الخليفة يكتبون الحديث والسنن، حتّى كثرت

____________________

(1) منهج النقد في علوم الحديث: 44.

٧٢

عندهم الكتب، فوصل خبرها إلى عمر، فقام فيهم خطيباً، فقال: «أيّها الناس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبّها إلى الله أعدلُها وأقوَمُها، فلا يُبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي».

فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بها، فأحرقها بالنار!(1) .

فما زال الصحابة إذن عند إجماعهم الأوّل، وما زال عمر عند رأيه المخالف.

والثانية: ما خلص إليه محمود أبو ريّة في إثبات النهي عن تدوين السُنّة، وانصياع الصحابة لهذا الأمر انصياعاً تامّاً، ليقضي على السُنّة كلّها بالضياع، ولم يُبقِ منها إلاّ حديثين صحّا عنده، وبلغا التواتر، وهما: حديث النهي عن التدوين، وحديث «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار» مؤكّداً عدم ورود كلمة «متعمّداً» في هذا الحديث، ليجعل من الكذب عليه رواية الحديث بالمعنى! متمسّكاً بأدلّة حاكمة عليه، لا له(2) .

فكلّ ما ورد عن أبي بكر وعمر والصحابة في عهديهما كان صريحاً جدّاً بعدم ورود النهى عن تدوين السُنّة من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

أضف إلى ذلك ما هو ثابت من تدوينها بأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو بإذنه، ومن ذلك:

* الصحيفة التي كانت في قائم سيفه صلى الله عليه وآله وسلم فيها بعض السنن، ثمّ

____________________

(1) الطبقات الكبرى 5/188، تقييد العلم: 52.

(2) راجع كتابه «أضواء على السُنّة المحمّدية» والذي ارتضى أن يسمّيه في طبعته الثانية باسم «دفاع عن السُنّة»!!

٧٣

صارت عند عليعليه‌السلام (1) .

* وما ثبت من كتابة عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكلّم في الرضا والغضب؟! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ بإصبعه إلى فمه وقال: «أُكتبْ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقّ»(2) .

* وقول أبي هريرة: إنّ عبدالله بن عمرو كان يكتب، وكنت لا أكتب(3) .

* وحين طلب أبو شاة اليماني من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتبوا له خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكّة، وكان أبو شاة قد شهدها، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «اكتبوا لأبي شاة»(4) .

* وحديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قيّدوا العلم بالكتاب»(5) .

* وكان أنس قد كتب حديثاً كثيراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه حتّى وقت متأخّر من عهد الصحابة، فكان يملي الحديث، حتّى كثر عليه الناس يوماً يطلبون الحديث، فجاء بمجالٍّ(6) من كتب، فألقاها،

____________________

(1) ذكرها البخاري ومسلم وأصحاب السنن.

(2) مسند أحمد 2/207، سنن أبي داود 3/318 ح 3646، المستدرك 1/104 - 105 ووافقه الذهبي.

(3) صحيح البخاري - كتاب العلم 1/40 ح 113.

(4) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 39 ح 112، سنن الترمذي 5 ح 2667، سنن أبي داود - كتاب العلم 3/319 ح 3649.

(5) جامع بيان العلم 1/86 - 87.

(6) المجالّ: جمع مجلّة، وهي الصحيفة التي يُكتب فيها.

٧٤

ثمّ قال: «هذه أحاديث سمعتها وكتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرضتها عليه»(1) .

* وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كتاب في الصدقات، والديات، والفرائض، والسنن، لعمّاله(2) .

* وقال صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الأخير: «هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»(3) .

وغير هذا كثير، وقد تناولت الكتابة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم قسماً كبيراً من الحديث يبلغ في مجموعه ما يضاهي مصنّفاً كبيراً من المصنّفات الحديثة(4) .

أمّا موقف الصحابة من الكتابة فقد عرفناه، وقد ذكر ابن عبد البرّ وغيره عدداً كبيراً من كتب الصحابة، ومنهم عبدالله بن مسعود الذي عدّوه في المانعين من الكتابة، فقد أخرج ابنه عبد الرحمن كتاباً وحلف أنّه خطّ أبيه بيده(5) .

وأمّا حديث أبي سعيد الخدري الذي يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن، فمن كتب غير القرآن فليمحه» والذي عدّوه أصحّ ما ورد في النهي عن كتابة الحديث(6) ، وهو أصحّ حديث عند

____________________

(1) تقييد العلم: 95 - 96.

(2) نور الدين عتر/ منهج النقد: 47 - 48.

(3) متّفق عليه.

(4) نور الدين عتر/ منهج النقد: 45، وانظر: د. محمّد عجاج الخطيب/ أُصول الحديث: 187 - 190.

(5) جامع بيان العلم: 87، أُصول الحديث: 160 - 165، و 191 - 205.

(6) محمود أبو ريّة/ أضواء على السُنّة المحمّدية: 48.

٧٥

أبي ريّة، فقد رآه كثير من المحقّقين موقوفاً على أبي سعيد، وليس حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا قول البخاري وآخرين(1) .

بل ثبت عن أبي سعيد نفسه خلافه، حين شهد أنّه كان يكتب التشهّد - تشهّد الصلاة - عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(2) .

والثالثة: مقولة الدكتور محمّد سلام مدكور.

إذ مثّل لاختلاف الصحابة في فهم النصّ بما وقع بالنسبة لتدوين السُنّة، لمّا قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: «لا تكتبوا عنّي غير القرآن، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حَرَج، ومن كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار».

قال: فقد اتّجه فقهاء الصحابة في ذلك إلى وجهتين متعارضتين:

* فريق منهم، وكانت له الغَلَبة: فهموا أنّ ذلك نهي عامّ وليس قاصراً على كُتّاب الوحي! فامتنعوا عن تدوين السُنّة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب... وقالوا: إنّ ما دوّنه بعض الصحابة منها إنّما كان تدويناً مؤقّتاً حتّى يحفظه ثمّ يُمحى المكتوب بعد ذلك.

* بينما ذهب الفريق الآخر إلى أنّ ذلك كان خاصّاً بكُتّاب الوحي دون سواهم، خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، بدليل أنّه أباح الكتابة عند أمن الاختلاط، كما ثبت في حديث عبدالله بن عمرو(3) ..

وهذا التفصيل كلّه لا يقوم على حجّة صحيحة، بل الحجّة الصحيحة تنقضه بكامله، كما سنتابعه في الفقرات الآتية:

____________________

(1) انظر: فتح الباري: 1/168، تدريب الراوي 2/63.

(2) تقييد العلم: 93.

(3) مناهج الاجتهاد في الإسلام: 85.

٧٦

أ - الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، تقدّم أنّه موقوف عليه وليس من حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما قال البخاري وغيره.

ب - إنّ الفريق الأوّل، والذي كانت له الغلبة، لم يحتجّ يوماً ما بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن كتابة السُنّة، فهذا لم يحدث منهم ألبتّة.

ج - إنّ هذا الفريق نفسه قد باشر تدوين السُنّة أحياناً ابتداءً، كما صنع أبو بكر، أو أمر بتدوينها وشاور الصحابة على ذلك فأجمعوا على كتابتها دون تردّد. وفي ذلك كلّه لم يظهر لهذا الحديث المرويّ عن أبي سعيد ذِكر ولا أثر.. بل فعلهم هذا، وهم الفريق المانع، لهو أوضح دليل على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنع من تدوين السُنّة قطّ، لا منعاً خاصّاً ولا عامّاً.

د - الحديث المذكور عن أبي سعيد الخدري يقول فيه أيضاً: «وحدّثوا عنّي ولا حرج» وهذا الفريق الغالب قد منع عن التحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم بنفس القوّة التي منع فيها عن التدوين! فكيف يُدّعى أنّهم امتنعوا عن التدوين تمسّكاً بنهي النبيّ عنه؟! فماذا عن رواية حديثه وسُنّته التي أمر بها على أيّ حال إلاّ أن يقعوا بالكذب؟!

هـ - إنّ الاعتذار بخوف اختلاط القرآن بالسُنّة اعتذار واهٍ ومتهافت، وقد مرّ نقده مفصّلاً.

و - إنّ هذا التمييز بين كُتّاب الوحي وغيرهم في شأن كتابة السُنّة تمييز لم يُعرف في عهد الصحابة قطعاً، ولا يستطيع أحد نسبته إليهم بصدق، وإنّما هو من تبرير المتأخّرين دفعاً لِما يلزمهم من تخطئة المانعين من كتابة السُنّة، ليس أكثر من ذلك.

وهنا ملاحظتان تجدر الإشارة إليهما:

٧٧

1 - المقولات الثلاث هذه جامعة لغيرها متضمّنة لها، لذا اكتفينا بذِكرها عن غيرها.

2 - نسبة هذه المقولات إلى الأعلام المذكورين لم تأت من كونهم أوّل مَن قالوا بها، فهي آراء قديمة تتّصل بعصر التابعين، وبعضها بعصر الصحابة، لكنّ الأعلام المذكورين انتخبوها من بين الرؤى وحاولوا تدعيمها بالدليل والبرهان، فحظيت على أيديهم بالرواج نظراً لأهمّيّة وسعة انتشار كتبهم التي تضمّنتها، وعلى هذا الأساس الأخير كان تصنيفنا.

* * *

٧٨

خلاصة في نقاط

1 - كان تدوين الحديث أمراً مألوفاً يمارسه الصحابة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، برضاً منه، وبإذنه أحياناً، وبأمره أحياناً أُخرى.

أمّا رواية الحديث ونشره فقد أمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمراً صريحاً ومكرّراً.

2 - ظهر في عهد أبي بكر أوّل أمر بالمنع من الحديث، لعلّة أو أُخرى.

3 - أحرق أبو بكر كتاباً يضمّ خمسمئة حديث كان قد كتبها بيده، وهذا أوّل كتاب حديث أُحرق.

4 - واصل عمر المنع من الحديث، مؤكّداً ذلك بعهوده على عمّاله، وبحبسه بعض الصحابة في المدينة حين لم يأمن امتثالهم أمره.

5 - أحرق عمر مزيداً من كتب الحديث، جمعها من عدد كبير من الصحابة.

6 - ابتدأ عثمان سيرته مع الحديث بقوله: «لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يُسمَع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر». لكنّه لم يدقّق في ذلك كما فعل أبو بكر وعمر، فلا أحرق شيئاً من كتب الحديث، ولا تتبّع كُتّابه ورواته، بل على العكس، فقد وجد أبو هريرة وكعب الأحبار خاصّة في عهده ما لم يحلما ببعضه في عهد عمر.

7 - وافق الخلفاء على المنع نفر قليل من الصحابة لا يتجاوزون

٧٩

الأربعة: عبدالله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت(1) .

8 - كانت السيرة المذكورة سبباً في ضياع حديث ليس بالقليل، إن اقتصر حفظه على هذه المصادر التي أُحرقت وأُتلفت، ليس على يد أبي بكر وعمر فقط، بل مارس غيرهم نحو ذلك، فقد جاء علقمة بصحيفة(2) من اليمن أو من مكّة، فيها أحاديث في أهل البيت، بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل ومعه جماعة على عبدالله بن مسعود، قالوا: فدفعنا إليه الصحيفة، فدعا بطست فيه ماء! فقلنا: يا أبا عبد الرحمن، انظر فيها، فإنّ فيها أحاديث حساناً! قالوا: فجعل يُميثها فيها!(3) .

وكتب أبو بردة، عن أبيه - أبي موسى الأشعري - كتباً كثيرة، فقال له أبوه: ائتني بكتبك، فلمّا أتاه بها غَسَلَها!(4) .

9 - وعلى خلاف ذلك فإنّ الأكثرين من الصحابة ما زالوا على الأمر الشرعي برواية الحديث والإذن بكتابته، فحدّثوا وكتبوا، منهم من عُرِّضت كتبه للإحراق أو الغسل، ومنهم من حفظها عن عيون الخليفة فبقيت بعده، كما هو مشهور عن: صحيفة عليعليه‌السلام ، وصحيفة جابر بن عبدالله الأنصاري، وكتاب أبي رافع مولى رسول الله، وكتب أنس بن مالك، وصحيفة سعد بن عبادة، وصحيفة عبدالله بن عمرو، وكتاب عبدالله بن

____________________

(1) انظر: تدوين السُنّة الشريفة: 269 عن مقدّمة ابن الصلاح: 296، وعلوم الحديث - لابن الصلاح/ تحقيق عتر -: 181.

(2) تكرّر ذِكر الصحيفة في هذه الفقرة، والمراد بالصحيفة:الكتاب

(3) تقييد العلم: 54. وقوله: «جعل يميثها فيها»: أي يفركها في طست الماء لتذوب فيه الكتابة.

(4) جامع بيان العلم: 79 ح 317 و80 ح 325.

٨٠

81

82

83