تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم0%

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 83

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: صأئب عبد الحميد
تصنيف: الصفحات: 83
المشاهدات: 30216
تحميل: 4672

توضيحات:

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 83 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30216 / تحميل: 4672
الحجم الحجم الحجم
تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أمّا دعوى أنّ عثمان وعليّاً لم يعطيا أحداً من هذا الصنف، فقد أُجيب عنها، بأنّها «لا تدلّ على ما ذهبوا إليه من سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم، فقد يكون ذلك لعدم وجود الحاجة إلى أحد يتألّفوه آنذاك، وهذا لا ينافي ثبوته لمن احتاج إليه من الأئمّة، على أنّ العمدة في الاستدلال هو الكتاب والسُنّة، فهما المرجع الذي لا يجوز العدول عنه بحال»(1) .

وفسّر بعضهم رأي عمر بأنّه اجتهاد منه، إذ رأى أنّه ليس من المصلحة إعطاء هؤلاء بعد أن ثبت الإسلام في أقوامهم، وأنّه لا ضرر يخشى من ارتدادهم عن الإسلام.

وعلى هذا فلا يعدّ سهم المؤلّفة قلوبهم ساقطاً ليقال بمعارضة الكتاب والسُنّة، وإنّما توقّف العمل به لانتفاء موضوعه، وإذا ما وجدت الحاجة إليه عاد للظهور في أيّ زمان ومكان.

وبهذا قال بعض فقهاء الجمهور(2) ، وهو جيّد حين يكون تقدير الموضوع دقيقاً وحكيماً، فيكون حكمه حكم سهم (الرقاب) المخصّص لتحرير الرقيق، حين يمرّ على المسلمين عهد ليس فيهم رقيق يُطلب عتقهم، فسوف يتوقّف العمل بهذا السهم ولكن من غير أن يكون ذلك ناسخاً للحكم.

لكنّ السؤال ما زال قائماً: هل كانت علّة هذا الحكم هي ضعف الإسلام وحاجته إلى قوّة هؤلاء، لا غير، لينتفي عند انتفاء علّته؟!

قال بعض فقهاء الجمهور: إنّ المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في

____________________

(1) سيّد سابق/ فقه السُنّة 1/343.

(2) الدكتور وهبة الزحيلي/ الفقه الإسلامي وأدلّته 2/872، محمّد رشيد رضا/ المنار 10/496 و 497.

٤١

الإسلام لأجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتّى يسقط بفُشُوّ الإسلام(1) .

وقال محمّد رشيد رضا: «إنّنا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردّهم عن دينهم، يخصّصون من أموال دولهم سهماً للمؤلّفة قلوبهم من المسلمين؛ فمنهم من يؤلّفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حضيرة الإسلام، ومنهم من يؤلّفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقّة الدول الإسلامية والوحدة الإسلامية، ككثير من أُمراء جزيرة العرب وسلاطينها!!(2) أفليس المسلمون أَوْلى بهذا منهم؟!»(3) .

فليس الأمر إذن منوط بعلّة واحدة استطاع عمر استنباطها بدقّة، فوقف الحكم عليها.

ولقد قسّم فقهاءُ الإسلام المؤلّفة قلوبهم إلى أصناف عديدة، لا يكاد يخلو زمان من بعضها، ولا تشترك صفاتهم بالصفة التي اعتمدها عمر في اجتهاده، بل لكلّ صنفٍ صفته الخاصّة، ولقد كان تصنيفهم قائماً أساساً على اختلاف صفاتهم، حتّى جعلوهم ستّة أصناف على هذا الأساس(4) .

وأخيراً، حتّى عند الرضا بما قيل في تصحيح اجتهاد عمر، فإنّ مثله لا يصلح جواباً عن اجتهاده وأبي بكر السابق في إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس وصرفه إلى أيّ جهة أُخرى، فإنّ الله تعالى الذي أنزل هذا

____________________

(1) راجع: الدكتور وهبة الزحيلي/ الفقه الإسلامي وأدلّته 2/872.

(2) علامتا التعجّب منه.

(3) المنار 10/495.

(4) انظر الأصناف الستّة في: تفسير المنار 10/494 - 495، الفقه الإسلامي وأدلّته 2/871 - 872.

٤٢

النصّ أنزله على علم بمصالح عباده، وحكمة في وضع الأشياء في مواضعها، علم وحكمة غنيّان عن استدراكات البشر، سواء كانوا حكّاماً أو لم يكونوا، بل كلّ استدراك من هذا القبيل فهو ردٌّ على الله تعالى، وليس تقديماً بين يديه وحسب!!

5 - متعة النساء ومتعة الحجّ:

قال عمر بن الخطّاب في خطبة له: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحجّ»(1) …؟.

أمّا متعة النساء: فقد نزل بها القرآن:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَ‌هُنَّ ) (2) .

وأخرج الطبري أنّ في قراءة أُبَيّ بن كعب وابن عبّاس:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ - إلى أجلٍ مسمّىً -فَآتُوهُنَّ أُجُورَ‌هُنَّ ) (3) .

وأذِن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بها، قال عبدالله بن مسعود: كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس لنا نساء، فقلنا، ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخَّص لنا أن ننكِح المرأةَ بالثوب إلى أجل. ثمّ قرأ عبدالله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ

____________________

(1) البيهقي/ السنن الكبرى 7/206، الجصّاص/ أحكام القرآن 1/342 و 345، ابن القيّم/ زاد المعاد 1/444، 2/205، الرازي/ التفسير (مفاتيح الغيب) 10/50، القرطبي/ التفسير (الجامع لأحكام القرآن) 2/261.

(2) سورة النساء 4: 24.

(3) تفسير الطبري 5/12 - 13.

٤٣

اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (1) .

وجاء عنه من وجه آخر أنّه قال: «كنّا ونحن شباب، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصي؟...» الحديث؛ ولم يقل: كنّا نغزو!(2) .

وقال جابر بن عبدالله الأنصاري: «استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر»(3) .

وقال: «كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الأيّامَ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو ابن حريث»(4) .

وذكر البيهقي: أنّ ربيعة بن أُميّة استمتع بامرأة فحملت منه، فخرج عمر يجرّ رداءه فزعاً، فقال: هذه المتعة! ولو كنتُ تقدّمتُ فيها لرجمتُ!(5) .

فهذه الأخبار الصحيحة كلّها هي الموافقة لقول عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليها» وشاهدة على أنّ ما ورد في تحريمها مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يصحّ عنه.

وأمّا متعة الحجّ: فهي الأُخرى نزل بها القرآن:( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَ‌ةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ‌ مِنَ الْهَدْيِ ) (6) وأمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حجّته الوحيدة بالمسلمين، المعروفة بحجّة الوداع(7) .

____________________

(1) صحيح مسلم/ 3 - كتاب النكاح - باب 3 ح 11.

(2) صحيح مسلم/ 3 - كتاب النكاح - باب 3 ح 12.

(3 و 4) صحيح مسلم/ 3 - كتاب النكاح - باب 3 ح 15 و 16، ونحوهما ح 17.

(5) السنن الكبرى7/206.

(6) سورة البقرة 2: 196.

(7) انظر: صحيح البخاري/2- كتاب الحجّ - باب 33 ح1486- 1494، وباب35 ح 1496

٤٤

* قيل لعبدالله بن عمر في متعة الحجّ: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟!

فقال: ويلكم! ألا تتّقون الله؟! إنْ كان عمر نهى عن ذلك فيُبتغى فيه الخير؟! فلِمَ تُحرّمون ذلك وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أفرسول الله أحقّ أن تتّبعوا سُنّته، أم سُنّة عمر؟!(1) .

* قال عروة بن الزبير لابن عبّاس: ألا تتّقي الله! تُرخّص في المتعة؟!

قال ابن عبّاس: سَلْ أُمّك يا عُرَيَّة!

فقال عروة: أمّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا.

قال ابن عبّاس: والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله، نحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتُحدّثون عن أبي بكر وعمر!! أو قال: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله، ويقولون: قال أبو بكر وعمر!!(2) .

وقد أخرج مسلم نحو هذا النزاع بين ابن عبّاس وابن الزبير، فيدعو ابن عبّاس الحضورَ أن يسألوا أُمّ ابن الزبير، فيسألونها فتصُدِّق قوله.. ثمّ ذكر للحديث وجهين آخرين، في أحدهما ذكر «المتعة» ولم يقل متعة الحجّ، وفي الآخر يقول راويه: لا أدري متعة الحجّ أو متعة النساء؟(3) .

____________________

(1) مسند أحمد 2/95، سنن الترمذي 3 ح 824، البداية والنهاية 5/59، تفسير القرطبي 2/258، جامع بيان العلم: 435 ح 2100 و 2101.

(2) مسند أحمد 1/337، جامع بيان العلم: ح 2095 و 2097 و 2099، رفع الملام - لابن تيميّة -: 27 - 28.

(3)صحيح مسلم/ 3 - كتاب الحجّ - باب 30 في متعة الحجّ ح 194 - 195 (1238).

٤٥

* وجمع الأمر كلّه عمران بن حصين فقال: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحجّ - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحجّ، ولم ينهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات، قال رجلٌ برأيه بعدُ ما شاء!(1) .

وعلى قرار المنع منها - خلافاً للكتاب والسُنّة - سار عثمان أيضاً(2) ، وتابعه معاوية في أيّامه(3) ، حتّى ظنّ الناس - وفيهم صحابة - أنّها السُنّة! كالضحّاك بن قيس، وهو صاحب معاوية ويزيد ثمّ صاحب ابن الزبير بعدهما(4) ، فقد ذكر متعة الحجّ فقال: لا يصنع ذلك إلاّ مَن جهل أمر الله!

فقال له سعد بن أبي وقّاص: بئس ما قلت يا ابن أخي! قال: فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك!

قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصنعناها معه(5) .

هكذا تصبح السنن في نظر هؤلاء حين يعتريها التغيير، وتتوالى عليها العهود!

* أمّا أصل هذا الموقف من متعة الحجّ فهو أقدم من عهد عمر، وإنّ له سرّاً خطيراً وقد كشف عنه البخاري ومسلم عن ابن عبّاس، قال: كانوا

____________________

(1) صحيح البخاري/ 2 - كتاب الحجّ - باب 35 ح 1496، تفسير القرطبي 2/258 والنصّ منه.

(2) صحيح البخاري/ 2 ح 1488 و 1494.

(3) سنن الترمذي 3 ح 822.

(4) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 3/242 و 243.

(5) سنن الترمذي 3 ح 823، تفسير القرطبي 2/258.

٤٦

يرون - أي في الجاهلية - أنّ العُمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض. ويجعلون المحرّم صَفَراً(1) ، ويقولون: إذا برأ الدَبَر، وعفا الأثر(2) ، وانسلخ صفر، حلّت العُمرة لمن اعتمر.

فقدِم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم! فقالوا: يا رسول الله! أيّ الحِلّ؟! قال: «الحِلُّ كلّه»(3) .

وفي حديث البراء، قالوا: كيف نجعلها عمرة(4) وقد أحرمنا بالحجّ؟! فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «انظروا الذي آمركم به فافعلوه» فردّوا عليه القول، فغضب، ثمّ انطلق حتّى دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: مَن أغضبك؟! أغضبه الله!

قال: «وما لي لا أغضب وأنا آمُر بالأمر فلا أُتّبع؟!»(5) .

فهل يصحّ أن يقال: كان هذا الخلاف والردّ على الرسول اجتهاداً، ولأجل المصلحة التي رآها هؤلاء الصحابة؟!

____________________

(1) وهذا هو النسيء الذي كانوا يفعلونه، يؤخرّون المحرّم ويقدّمون مكانه صَفَراً ليحلّونه.

(2) يريدون: إذا شفيت ظهور الإبل من «الدبر» الذي يصيبها من أثر الحمل ومشقّة السفر، وذلك بعد الانصراف من الحجّ، وعنذئذٍ يكون أثر سيرها قد ذهب وامّحى من الطرق لطول المدّة.

(3) صحيح البخاري /2 - كتاب الحجّ - باب 33 ح 1489، صحيح مسلم/ 3 - كتاب الحجّ - باب 31 ح 198 (1240).

(4) وفي لفظ البخاري عن جابر «متعة» بدل «عمرة». صحيح البخاري ح 1493.

(5) مسند أحمد 4/286، سنن ابن ماجة ح 2982، سير أعلام النبلاء 8/498 وقال الذهبي: هذا حديث صحيح من العوالي.

٤٧

6 - صلاة المسافر:

صلّى عثمان وعائشة في السفر تماماً، ولم يُقصرا، فيما كان القرآن والسُنّة بالقَصر.

أتمّها عثمان بمنى، وفعلها معه طوائف، وكان ابن عمر إذا صلّى معه أربع ركعات، انصرف إلى منزله فأعادها ركعتين!

وسئل عروة بن الزبير: لِمَ كانت عائشة تتمّ في السفر وقد علمتْ أنّ الله تعالى فرضها ركعتين؟!

فقال: تأوّلتْ من ذلك ما تأوّل عثمان من إتمام الصلاة بمنى!

واعتلّ عثمان بمنى فأتى عليٌّ، فقيل له: صلّ بالناس. فقال: إنْ شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني ركعتين.

قالوا: لا، إلاّ صلاة أمير المؤمنين! يعنون عثمان، فأبى(1) .

فيما كان ابن عمر يقول: «صلاة السفر ركعتان، من ترك السُنّة فقد كفر» رفعه مرّة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروي مرّةً موقوفاً عليه(2) .

7 - وفي الطلاق:

الذي نزل به القرآن:( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ) بينهما رجعة، فإنْ تراجعا بعد الطلاق الثاني ثمّ طلّقها ثالثاً( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا

____________________

(1) انظر ذلك كلّه في المحلّى 4/269 - 270. وفي المطبوع بعد كلمة «أبى» زادوا «عثمان» وليست من الأصل! انظر هامش الصفحة المذكورة من «المحلّى».

(2) المحلّى 4/266 و 270.

٤٨

غَيْرَهُ ) (1) . أمّا أن يكرّر لفظ الطلاق ثلاث مرّات، فهذا طلاق واحد، والتكرار هذا «لعب بكتاب الله» كما وصفه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم !(2) .

ولقد كان هذا النوع الأخير من الطلاق، والمعروف بالطلاق الثلاث في مجلس واحد، معدوداً طلاقاً واحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، حتّى قال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم»! فأمضاه عليهم(3) .

فهذا الذي أمضاه عمر، ومضى عليه أصحاب المذاهب الأربعة، ولم يخالف فيه إلاّ نفر من فقهائهم (شذّوا في ذلك)! منهم ابن تيميّة وابن القيّم، ووافقهم بعض المتأخّرين، هذا الحكم سوف يترتّب عليه حكم آخر هو في غاية الخطورة والشناعة:

فالطلاق الثالث لا رجعة بعده حتّى تتزوّج المرأة رجلاً آخر، ويقع بينهما طلاق بائن، بخلاف الطلاق الأوّل إذ لهما أن يتراجعا ما لم تنقضِ العدّة، فبحسب اجتهاد عمر أُعطي الطلاق - الذي كان أوّلاً بحكم القرآن والسُنّة - حكم الطلاق الثالث، فمنع رجوع الزوجين، وأوجب نكاحاً جديداً!

وأغرب ما قاله المتأخّرون في تبرير هذا الاجتهاد، قول ابن القيّم بأنّ هذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان!!

____________________

(1) سورة البقرة 2: 230.

(2) سنن النسائي - كتاب الطلاق - 3 باب 7 ح 5594، إرشاد الساري 8/128 ولفظه: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!»، تفسير ابن كثير 1/278.

(3) صحيح مسلم - كتاب الطلاق - باب طلاق الثلاث ح 1472، مسند أحمد 1/ 314، سنن البيهقي 7/336، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين في المستدرك 2/196.

٤٩

هذا القول الذي جعل فتوى الصحابي تشريعاً مقابِلاً للكتاب والسُنّة!! كذا قال ابن القيّم صراحةً، قال: «فهذا كتاب الله، وهذه سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه لغة العرب، وهذا عُرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة كلّهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدّهم العادّ بأسمائهم واحداً واحداً لوجد أنّهم كانوا يرون الثلاث واحدة إمّا بفتوىً وإمّا بإقرار... ولهذا ادّعى بعض أهل العلم أنّ هذا إجماع قديم، ولم تُجمع الأُمّة على خلافه، بل لم يزل فيهم من يُفتي به، قرناً بعد قرن، وإلى يومنا هذا» فذكر جماعة من الصحابة أفتوا بهذا بعد فتوى عمر، مخالفين رأيه، ماضين على ما كان على العهد الأوّل، منهم: عليٌّ، وابن عبّاس، والزبير، وعبد الرحمن، وابن مسعود، ثمّ ذكر بعض التابعين وتابعيهم، ثمّ قال:

«والمقصود أنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسُنّة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعد إجماع يُبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، كثر منهم إيقاعه جملةً واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم.. فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعهد الصدّيق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم...

* فهذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان!

* وعلم الصحابة - رضي الله عنهم - حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيّته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به..

* فليتدبّر العالِم الذي قَصْدُه معرفة الحقّ واتّباعه من الشرع والقَدَر: في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

٥٠

وتقواهم ربّهم تبارك وتعالى في التطليق، فجرت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعاً وقدراً.

فلمّا ركبت الناس الأُحموقة وتركوا تقوى الله..أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه، شرعاً وقدراً، إلزامهم بذلك وإنفاذَه عليهم... وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تُناسب عقول أبناء الزمن »!(1) .

فهذا مصدر جديد من مصادر التشريع لم يعرّفنا به القرآن، ولا عرّفنا به النبيّ، بل الذي عرّفنا به القرآن والسُنّة هو خلاف ذلك تماماً!

فهل عرّفنا القرآن أو السُنّة أنّ الله تعالى سوف ينسخ أحكاماً منزلة بعد موت النبيّ، بوحيٍ جديد من نوع آخر، فيُجري على لسان الخليفة الراشد أحكامه الجديدة الناسخة لأحكام القرآن والسُنّة؟!

أليس هذا من جنس عقائد غلاة الباطنية بأئمّتهم؟!

* * *

____________________

(1) انظر: أعلام الموقّعين 3/34 - 37.

٥١

المرحلة الثانية

السُنّة في عهد الإمام عليّعليه‌السلام

عليٌّعليه‌السلام له مع السُنّة علاقة أُخرى، يميّزها بُعدان:

البعد الأوّل: عِلمه بها.. علماً شمولياً وتفصيلياً، مستوعباً لأفرادها، عارفاً بحدودها ومواقعها، وليس هذا محض ادّعاء، بل حقيقة ثابتة لم يكن يخفيها، فلطالما أفصح عنها في خطب بليغة يلقيها على الملأ العظيم وفيهم كثير من الصحابة الّذين عاشوا معه ومع الرسول، وعرفوه وعرفوا غيره من الصحابة، فمن ذلك قوله في كلام يصنّف فيه رواة الحديث إلى أربع طبقات، ثمّ يقول في مقارنة بينه وبين غيره من الصحابة: «وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتّى إنْ كانوا ليُحبّون أن يجيء الأعرابي والطارىَ فيسألهعليه‌السلام حتّى يسمعوا، وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلاّ سألتُه عنه، وحفظتُه»(1) .

وفوق هذا قد كانت هناك عناية ربّانية خاصّة ترعاه، فإذا أنزل الله تعالى قوله:( وتعيَها أُذُنٌ واعية ) (2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سألتُ الله أن يجعلها أُذنك يا عليّ» فكان عليٌّ يقول: «ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً فنسيتُه»(3) .

____________________

(1) نهج البلاغة: خ/210.

(2) سورة الحاقّة 69: 12.

(3) الشوكاني/ فتح القدير 5/882، تفسير الطبري 29/55، تفسير الماوردي 6/ 80، تفسير القرطبي 18/171.

٥٢

ويبرهن للناس على علمه التفصيلي الدقيق بالسُنّة، كما هو في الكتاب، في خطاب يأخذ بمجامع القلوب، ما سمع الناس نظيراً له من صحابيّ غيره قطّ، فيقول: «وخلّف - نبيّكم - فيكم ما خلّفت الأنبياءُ في أُممها إذ لم يتركوهم هَمَلاً بغير طريق واضح ولا عَلَمٍ قائم: كتابَ الله(1) ، مبيّناً: حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله(2) ، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، وعِبَرَه وأمثاله، ومرسَلَه ومحدوده(3) ، ومحكَمه ومتشابهه.. مفسّراً مجمله، ومبيّناً غوامضه..

بين مأخوذٍ ميثاق علمه، وموسّعٍ على العباد في جهله.. وبين مثبَتٍ في الكتاب فرضه، ومعلومٍ في السُنّة نسخه.. وواجبٍ في السُنّة أخذه، ومرخَّصٍ في الكتاب تركه.. وبين واجبٍ بوقته وزائلٍ في مستقبله..

ومباين بين محارمه: من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه.. وبين مقبولٍ في أدناه موسَّعٍ في أقصاه»(4) .

هذه أبواب من السنن فتحت على علوم جمّة توفّر عليها، مع بصيرة لا يُخشى عليها لبس ولا توهّم.

فهذه صورة عن علمه الشمولي والتفصيلي بالسُنّة، تلك المرتبة التي لا يشاركه فيها أحد من الصحابة، ومن هنا اشتهر عن تلميذه ابن عبّاس قوله: أُعطي عليٌّ تسعة أعشار العلم، وإنّه لأعلمهم بالعُشر الباقي!(5) .

البُعد الثاني: منهجه في التعامل مع السُنّة.. والمنهج هو الذي

____________________

(1) أي خلّف فيكم كتاب الله.

(2) الفضائل: المستحبّات والنوافل.

(3) المرسَل: المطلق.. والمحدود: المقيّد.

(4) نهج البلاغة: خ/1، وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/295 - 297.

(5) طبقات الفقهاء: 42.

٥٣

سيحدّد عنده موقع السُنّة، وطريقته في التعامل معها روايةً وتدويناً.. لقد كانت السُنّة عنده في المكان الذي وضعها الله ورسوله به، حاكمةً غير محكوم عليها، لا تنسخها (مصلحة) فالمصلحة كلّ المصلحة في تحكيمها واتّباعها، ولقد ضحّى بالخلافة مرّةً بعد مرّة حفاظاً على السُنّة أن تنتهك أو يُساء الفهم في حقيقة مكانتها.

رفض أن يبايعوا له بالخلافة على عقدٍ يَقرن بسُنّة النبيّ سنناً أُخرى، إذ عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايع له على «كتاب الله وسُنّة رسوله وسيره الشيخين أبي بكر وعمر» فرفض أن يَقرن إلى كتاب الله وسُنّة رسوله شيئاً آخر، فضحّى بالخلافة حفظاً لمكانة السُنّة في درس بليغ لم تقف هذه الأُمّة على جوهره حتّى اليوم!

ورفض أن يشتري استقرار الحكم أيّام خلافته بمداهنة أهل البدع والانحراف الّذين انتهكوا السنن وعطّلوا الحدود، في درس عبقري يظنّه القشريّون حتّى اليوم إخفاقاً سياسيّاً!!

ورفض أن يعزّز جيشه بكتيبة جاءت تبايع له على خلاف السُنّة يوم خرج عليه المارقون، قالوا: نبايعك على كتاب الله وسُنّة رسوله وسيرة الشيخين! فرفض أن يقرن بكتاب الله وسنّة رسوله شرطاً ولو أدّى رفضه إلى تمرّد هؤلاء والتحاقهم بالمارقين.

ورفض أن يعامل أعداءه ولو مرّةً بخلاف السُنّة، وهم يمكرون وينكثون ويغدرون.

إنّه الرجل الذي كان منهاجه منهاج القرآن والسُنّة، لقد كان التجسيد الحيّ لكتاب الله وسُنّة رسوله.

ووفق هذا المنهج سوف نرى له - وباختصار شديد - مواقف وسياسة

٥٤

أُخرى مع السُنّة غير التي رأيناها قبله، فلقد دخلت السُنّة في عهده بحقّ في مرحلة أُخرى من تاريخها.

وسوف نتناول هذه المرحلة في ثلاثة مباحث بإيجاز تغني فيه الشواهد الحيّة عن السرد الطويل:

المبحث الأوّل: تدوين السُنّة:

إنّه قبل كلّ شيء كان كاتباً للحديث بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان قد اشتهر عنه أمر الصحيفة (صحيفة عليّ) التي كتبها من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يحملها معه في قائم سيفه، وذكرها البخاري ومسلم وأصحاب السنن بطرق شتّى، فلم تكن هي كلّ ما كتبه عليٌّ من حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان له صحف أُخرى غير هذه، وكان له كتاب كبير ليس فيه إلاّ أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عُرف بـ (كتاب عليّ) وهو غير تلك الصحيفة التي اختلفوا في حجمها.

* قالت أُمّ سَلَمة: «دعا النبيّ بأديم، وعليّ بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُملي وعليٌّ يكتب، حتّى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه»(1) .

الصحيفة:

مشهورة جدّاً أنباء الصحيفة، لا يكاد يخلو منها واحد من كتب الحديث والسنن، البخاري وغيره(2) ، نقلوا منها نصوصاً متفرّقة، بعضها

____________________

(1) الرامهرمزي/ المحدّث الفاصل: 601 ح 868.

(2) صحيح البخاري/ كتاب العلم - باب كتابة العلم، وكتاب الديات - باب الدية على العاقلة، سنن ابن ماجة 2 ح 2658، سنن أبي داود: ح 2035.

٥٥

أشبه بعناوين لِما تحويه، وبعضها فيه تفصيل، وقد جمع ابن حجر العسقلاني كثيراً ممّا نُقل عن تلك الصحيفة، وقال: الجمع بين هذه الأحاديث أنّ الصحيفة كانت واحدة، وكان جميع ذلك مكتوباً فيها، ونَقَلَ كلّ واحد من الرواة عنه ما حفظه(1) .

وجمع الدكتور رفعت فوزي ما نُقل عن هذه الصحيفة في كتب الحديث السُنّيّة، في كتاب أسماه: «صحيفة عليّ بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دراسة توثيقية فقهية»(2) .

كتاب عليّ:

حديث أُمّ سَلَمة المتقدّم يصف كتاباً أكبر من هذه الصحيفة التي لا تفارق قائم سيفه، أو قراب سيفه! وأصبح «كتاب عليّ» عَلَماً يتكرّر في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ، كتاب كبير كانوا يحتفظون به ويتوارثونه:

* أخبر أحمد بن حنبل أنّ كتاباً كهذا كان عند الحسن بن عليّ يرجع إليه(3) .

* وأخرج الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام هذا الكتاب أمام طائفة من أهل العلم، منهم: الحكم بن عُتيبة، وسلمة، وأبو المقدام، فرأوه كتاباً مدرجاً عظيماً، فجعل ينظر فيه حتّى أخرج لهم المسألة التي اختلفوا فيها، فقال

____________________

(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/166، والقسطلاني/ إرشاد الساري 1/358 - 359.

(2) طبع سنة 1406 هـ - 1986 م.

(3) كتاب العلل ومعرفة الرجال 1/346 ح 639، الجامع في العلل ومعرفة الرجال 1/137 ح 624.

٥٦

لهم: «هذا خطّ علي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » ثمّ توجّه إلى الحكم بن عُتيبة فقال له: يا أبا محمّد! اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قومٍ كان ينزل عليهم جبريلعليه‌السلام »!(1) .

* وعرض هذا الكتاب أيضاً الإمام الصادقعليه‌السلام ، والإمام الهادي عليّ ابن محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام ، غير مرّة، يقول: «إنّه بخطّ علي، وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نتوارثها صاغراً عن كابر»(2) .

دعوته إلى تدوين السُنّة:

دعوة صريحة يعلنها على الملأ في مواضع كثيرة:

* خطب الناس مرّةً، فقال: «قيّدوا العلم، قيّدوا العلم» يكرّرها(3) .. أي اكتبوه واحفظوه لئلاّ يُدرس.

* وقال في خطبة أُخرى له: «مَن يشتري منّي علماً بدرهم؟».

قال أبو خيثمة: يعني يشتري صحيفةً بدرهم يكتب فيها العلم..

فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ثمّ جاء بها عليّاًعليه‌السلام فكتب له علماً كثيراً(4) .

____________________

(1) رجال النجاشي: 360 ت 966 ترجمة محمّد بن عُذافر الصيرفي.

(2) الشيخ الطوسي/ تهذيب الأحكام 1 ح 963 و 966، وج 5 ح 1337.. وقد أحصى السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي عشرات الموارد عن أهل البيتعليهم‌السلام في ذِكر هذا الكتاب (كتاب عليّ)، انظر: تدوين السُنّة الشريفة: 65 - 79.

(3) تقييد العلم: 89 و 90.

(4) الطبقات الكبرى 6/168، تقييد العلم: 89.

٥٧

وكانت الكتابة عند علي وبين يديه مشهورة، حدّث بها غير الحارث كثير، منهم الشعبي، وعطاء(1) ، وأبو رافع وولداه عبيدالله وعليّ وكانا كاتبين عند عليعليه‌السلام ، والأصبغ بن نباتة، وغيرهم(2) . وعبدالله بن عبّاس أيضاً(3) ، وكان يكتب الحديث ويأمر بكتابته أيضاً(4) .

* عادت الحياة إذن إلى السُنّة النبوية، وتبدّد خطر ضياعها ونسيانها.. تلك هي أمانة الرسالة ووعيها.

من أدب الكتابة عند عليعليه‌السلام :

تقرأ في أحاديثه اهتماماً كبيراً ورعاية لأمر الكتابة، في أروع صورة لوعي حضاري بأمر الكتابة آنذاك:

* يقول: «الخطّ علامة، فكلّ ما كان أبْيَن كان أحسن»(5) .

* ويقول للكاتب: «أَلْقِ دواتَك، وأَطِل شَقّ قلمِك، وأَفْرِج بين السطور، وقَرمِط بين الحروف»(6) .

* ويقول: «أَطلِ جلفةَ قلمِك، وأَسمِنها، وأَيمِن قطّتَك، وأَسمِعني طنين النون، وحوّر الحاء، وأَسمِن الصاد، وعرّج العين، واشقق الكاف، وعظّم الفاء، ورتّل اللام، وأسلس الباء والتاء والثاء، وأقم الزاي وعَلِّ

____________________

(1) انظر: فؤاد سزگين/ تاريخ التراث العربي مج 1 ج 1/127.

(2) الجلالي/ تدوين السُنّة الشريفة: 137 - 143.

(3) صحيح مسلم/ المقدّمة.

(4) سير أعلام النبلاء 3/354 - 355.

(5) كنز العمّال 10 ح 29562.

(6) كنز العمّال 10 ح 29563.. وقرمط: أي قارِب.

٥٨

ذنبها، واجعل قلمَك خلف أُذنك يكون أذكر لك»(1) .

المبحث الثاني: رواية السُنّة:

الرواية، قبل التدوين، دخلت عهداً جديداً، رفع عنها الحظر، ودُعيَت إلى سماعها طوائف الناس:

* قال عليٌّعليه‌السلام لأصحابه: «تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يُدرَس»!(2) .

* وخطب في الناس مرّة فقال: «خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللّهمّ ارحم خلفائي - ثلاث مرّات - قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ فقال: الّذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسُنّتي ويعلّمونها الناس»!(3) .

* وكم قام عليٌّ في الناس فذكّرهم أحاديث قد غابت عنهم زمناً طويلاً، مُنع التحديث بها لربع قرن! كمناشدته في الرحبة بحديث الغدير، وتذكيره بحديث «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن...» وأحاديث في ذِكر أهل البيت وفضلهم، والحديث الذي أعاده على الزبير يوم الجمل، وغيرها كثير..

هكذا كان عهده مع السُنّة رواية وتدويناً، فهما السبيل إلى نشرها وحفظها، وإلاّ فمصيرها النسيان والضياع!

____________________

(1) كنز العمّال 10 ح 29564.

(2) كنز العمال 10 ح 29522 عن الخطيب في الجامع.

(3) شرف أصحاب الحديث: 31 ح 58، كنز العمّال 10 ح 29488 عن الرامهرمزي، والقشيري، وأبي الفتح الصابوني، والديلمي، وابن النجّار، وآخرين.

٥٩

التحذير من الكذب:

في أثناء فتحه لباب الرواية والتدوين كان يكثر التحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقرع أسماعهم بين الحين والحين بحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار»(1) .

وحتّى من كذب عليه في الرؤيا فادّعى مناماً يكذب فيه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(2) .

مع القصّة:

هذه الحرفة التي تستدرج أصحابها شيئاً فشيئاً نحو الكذب والسخرية والأساطير، كانت ممنوعة في الإسلام، وأوّل ما ظهرت في عهد عمر بن الخطّاب حين أذِن لتميم الداري بالجلوس في المسجد للقصّة! فكان تميم الداري أوّل قاصٍّ مأذون في الإسلام!

وتميم الداري هذا هو الرجل النصراني الذي قدم في عشرة من قومه من أرض فلسطين إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في العام التاسع للهجرة، بعد فتح مكّة بعام، وهو صاحب قصّة «الجسّاسة» التي يرويها عنه مسلم وأحمد(3) هذه القصّة التي لم يحدّث بها أحدٌ من الصحابة خلا فاطمة بنت قيس!

____________________

(1) انظر: البخاري/ كتاب العلم - باب من كذب على النبيّ، فتح الباري 1/161 - 162، مسند أحمد 1/78 و 130، كنز العمّال 10 ح 29498.

(2) انظر: مسند أحمد 1/90 و 129.

(3) صحيح مسلم/ كتاب الفتن - قصّة الجسّاسة - ح 2942 و 2943، مسند أحمد 6/373 و 374.

٦٠