تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم0%

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 83

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: صأئب عبد الحميد
تصنيف: الصفحات: 83
المشاهدات: 30240
تحميل: 4672

توضيحات:

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 83 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30240 / تحميل: 4672
الحجم الحجم الحجم
تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولا حفظها عنها سوى الشعبي، رغم ما فيها من الوصف الخطير والتهويل، إذ تقول: إنّ منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نادى: الصلاة جامعة، فهُرع الناس إلى المسجد، وكانت هي في من حضر، فقام النبيّ على المنبر خطيباً وهو مستبشر، يزفّ إليهم بشرىً، فيقول: «ليلزم كلّ إنسان مصلاّه - ثمّ قال: - أتدرون لم جمعتكم؟ جمعتكم لأنّ تميماً الداريّ كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم، وحدّثني حديثاً وافق الذي حدّثتكم عن مسيح الدجّال»!

ثمّ ينقل لهم بنفسه ما حدّث به تميم الداري من أنّه قذفت به السفينة إلى جزيرة لا يدري ما هي! فرأى فيها دابّة لا يعرف قُبلها من دبرها من كثرة شعرها! وهذه الدابّة تتكلّم، فكلّمته بلسان طليق! وأمرته أن يتوجّه إلى رجل في دير في تلك الجزيرة، فتوجّه إليه فوجده مكبّلاً بأصفاد الحديد! فحدّثه هذا الرجل بأشياء من الغيب! ثمّ عرّفه بنفسه، إنّه المسيح الدجّال!!

هذا الخبر، على هذه الصورة، ينبغي أن يرويه غير واحد، فالنبيّ يجمع له الناس ويأمرهم أن يلزموا أماكنهم حتّى يحدّثهم بحديث مصدّق لحديثه!

ومنذ ذلك الحين والبحر يُمخَر كلّ يوم مرّات، تجوبه السفن المدنية والعسكرية، وتحلّق فوقه الأقمار الصناعية، ولم يزل أمر هذه الجزيرة مجهولاً! وما بلغ داروِن وأصحابه نبأ هذه الدابّة الناطقة باللسان العربي!!

لكنّ البسطاء وذوي القلوب الغافلة طفقوا يستلهمون من هذه القصّة العبر، فوجدوا فيها درساً متقدّماً في الدراية، فهي مثال رائع لرواية الفاضل عن المفضول، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدّث عن نصرانيّ أسلم لتوّه!

وأيضاً فقد كشفت عنهم كرباً وحلّت لغزاً كان يحيّرهم وهم يقرأون:

٦١

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) (1) حتّى أتاهم تميم بنبأ «الجسّاسة» هذه! وقالوا: إنّما سمّيت الجسّاسة لأنّها تجسّ الأخبار للمسيح الدجّال!!(2) .

* فلمّا أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله مُظهرك على الأرض كلّها، فهب لي قريتي من بيت لحم!

فقال له النبيّ: هي لك.. وكتب له بها، فلمّا فُتحت فلسطين جاء تميم بالكتاب إلى عمر، فقال عمر: أنا شاهد ذلك.. فأمضاه! وذكروا أنّ النبيّ قال له: «ليس لك أن تبيع» فهي في أيدي أهله إلى اليوم(3) .

ولم تُجعل هذه الأرض في بيت المال، ولا صُرف ريعها في الكراع والسلاح.. فلا الأرض كانت فدكاً، ولا تميم كان فاطمة الزهراء!!

لكن هل احتاج النبيّ إلى بشرى تميم هذه ليهب له تلك القرية؟! أم أنّ تميماً قد أحرز لغده ثمن إسلامه كما فعل النبيّ مع المؤلّفة قلوبهم؟!

لا غرابة، فإنّ تميماً لم يزل في المدينة حتّى قُتل عثمان، فلمّا قُتل عثمان فرّ تميم إلى الشام!!(4) .

ذلك لأنّه حسن إسلامه جدّاً! فهو لا يطيق أن يرى عليّاً في الخلافة! ولا يسعه إلاّ جوار معاوية!

ولأجل تأكيد حسن إسلامه وعظمة إيمانه، قالوا: إنّه كان يختم القرآن

____________________

(1) سورة النمل 27: 82.

(2) انظر هذا كلّه في صحيح مسلم بشرح النووي مج 9 ج 18: 78 - 84 قصّة الجسّاسة.. ومن المعاصرين الّذين اطمأنّوا إلى هذا التفسير: د. محمّد السيّد حسين الذهبي، في كتابه/ الإسرائيليات في التفسير والحديث: 93!!

(3) سير أعلام النبلاء 2/443.

(4) سير أعلام النبلاء 2/443، الطبقات الكبرى 7/409.

٦٢

كلّه في ركعة!!(1) هكذا، كلّه في ركعة واحدة!!

وأساطير مضحكة نسجوها حول تميم، صاحب القصص والأساطير.

قالوا: كان عمر يسمّيه «خير المؤمنين»! لقد جاءه رجل كان قد أذنب ذنباً، فلبث في المسجد ثلاثاً لا يأكل، ثمّ جاء عمرَ فقال: تائب من قبل أن تقدر عليه. فقال له عمر: إذهب إلى خير المؤمنين فانزل عليه. فذهب الرجل طوعاً إلى تميم الداري، فهو خير المؤمنين لا يشكّ هذا الرجل!!(2) ).

وذات ليلة خرجت نار بالحرّة، ناحية المدينة، فجاء عمر إلى تميم، فقال: قم إلى هذه النار!

قال: يا أمير المؤمنين، ومَن أنا؟! ومَن أنا؟! فلم يزل عمر به حتّى قام معه، فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها بيده حتّى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها، فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم يرَ! قالها ثلاثاً!

هاتان أُسطورتان يرويهما معاوية بن عجلان، قال الذهبي: رجل قالوا إنّه لا يُعرَف(3) .

لكن ابن حجر العسقلاني سمّاه «معاوية بن حرمل» وعدّه في الصحابة، وقال: هو صهر مسيلمة الكذّاب! وكان مع مسيلمة في الردّة، ثمّ قدم على عمر تائباً!

ثمّ يقول ابن حجر عن هذه القصّة: «له قصّة مع عمر فيها كرامة

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 2/445.

(2) سير أعلام النبلاء 2/446.

(3) سير أعلام النبلاء 2/447.

٦٣

واضحة لتميم، وتعظيم كثير من عمرَ له»!!(1) .

ومن هنا يستدلّون على وثاقة تميم وعلوّ منزلته(2) .. من شهادة صهر مسيلمة الكذّاب الذي كان معه في الردّة!!

وأمّا قصّته هو عن «الجسّاسة» ومسيح الدجّال، فلولا ما حظي به صحيح مسلم من قداسة لَما ارتاب فيها عاقل!

وهذه القداسة هي التي حالت دون السؤال: كيف صحّح مسلم هذه الرواية؟!

إنّ مسلماً رجلٌ نشأ في وسط يوثّق رجالاً ويأخذ عنهم الحديث، فوثّقهم مسلم.. لقد وثّقهم ذلك التاريخ الذي عرفناه، وعرفنا كيف وثّقهم!

وحين تُغفل هذه الحقيقة فقط تنفذ مثل هذه الأساطير...

وأغرب ما في الدفاع عن هذه القصّة، دفاع الناقد الدكتور الذهبي الذي عاد إلى فقرات من القصّة نفسها، وأكثر فقراتها محل للتهمة والريبة، ليجعلها دليلاً على صحّتها، إذ يقول.. «وهل يُتصوّر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المؤيدّ بوحي السماء أن يتقبّل من رجل يلوّث الإسلام بمسيحيّاته حديثاً كحديث الجسّاسة، ثمّ هو لا يكتفي بذلك بل يجمع أصحابه ويحدّثهم به ويقرّر من فوق منبره صدق حديثه؟!»!!(3) .

____________________

(1) انظر: الإصابة/ ترجمة تميم الداري 1/184، وترجمة معاوية بن حرمل 3/ 497.

(2) انظر: د. محمّد سيّد حسين الذهبي/ الإسرائيليات في التفسير والحديث: 91 - 94 وهو يكافح لأجل توثيق تميم! وانظره في ص 95 - 96 وهو يوثّق كعب الأحبار، ويجعل واحداً من أهمّ أدلّته: أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يعظّمه!!

(3) الإسرائيليّات في التفسير والحديث: 93.

٦٤

فانظر كيف أخذ أهمّ علامات كذب الرواية ليجعله الشاهد على صدقها!!

فمن قال لك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قام مصدّقاً لهذه الرواية؟! هل سمعته من أحد غير هذه الرواية نفسها؟!

إنّ مثل هذه القصّة ليست ممّا يرتاب العقل في تكذيبها بعد المسح العلمي الدقيق، إنّها تماماً من قبيل روايات تقول: إنّ الأرض تقف على قرن ثور، والثور على ظهر حوت، وهو النون التي في قوله تعالى:( ن وَالْقَلَمِ ) !!

فإذا كان يصدّقها بالأمس ناس عمدتهم وثاقة الرواة، فليس لهذه الوثاقة اليوم محلٌّ أمام الكشف العلمي الدقيق والمباشر.. ولا يعاب في ذلك المتقدّمون! ولكن يعاب الّذين قرضوا القرن التاسع عشر والقرن العشرين وما زالوا يلتمسون ذلك وراء وثاقة الراوي وأهمّيّة المصدر، بدلاً من أن يضع ذلك كلّه موضع الاختبار بناءً على هذه الحقائق الملموسة.

وتميم هذا هو الذي ابتدأ فاستأذن عمر أن يقصّ، فأذِن له بعد أن ردّه أوّلاً، فهو أوّل قاصٍّ مأذون في الإسلام(1) ، فكان يقوم في المسجد كلّ جمعة يعظ أصحاب رسول الله! قبل أن يخرج عمر إلى الجمعة.. فلمّا جاء عثمان طلب منه تميم أن يزيده، لأنّ موقفاً واحداً في الأُسبوع لا يكفيه، فزاده عثمان يوماً آخر يُتحف فيه أصحاب رسول الله بمزيد من مواعظه!

لكن في تلك السنين كان التحدّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(1) انظر ترجمة تميم بن أوس الداري في: الاستيعاب، أُسد الغابة، الإصابة، سير أعلام النبلاء.

٦٥

ممنوعاً! وكان خيار الصحابة من أُولي السابقة والجهاد يُحبَسون في المدينة إذا ما حدّثوا خارجاً عنها بشيء من سنن النبيّ ومواعظه!!

إنّ لتميم سرّاً هو من صنف سرّ كعب الأحبار، لكنّ تميماً تقدّم على كعب حين أدرك النبيّ فسُمّي صحابياً!

ولمّا قُتل عثمان لم يعد أمر تميم بتلك الدرجة من الخفاء؛ إنّه لم يأت عليّاً يستأذنه في المضيّ على شأنه، أو يستزيده، كلاّ، بل ترك المدينة كلّها، ضاقت عليه بما رحبت أرضٌ يحكمها عليّ، فليس أمامه إلاّ الشام في أجواء تنتظر تميماً ونظراءه، فخرج إلى الشام دون أن يضيع مزيداً من الوقت!

لقد كان عمر يمنع من القصص، ويكذّب محترفيها، حتى أقنعه تميم في نفسه خاصّة، لكنّ عليّاً لم يأذن بشيء من ذلك، ولم يكن تميم بالرجل الساذج أو الغبيّ الذي يلتمس مثل ذلك من علي! ولا هو بتارك مهنته، فترك بلاداً تدين لعلي، قافلاً إلى حيث تنفق سلعته، وله في كنف معاوية أوسع جوار!

* والذي لا نزاع فيه أنّ القصص قد انتشرت في أواخر عهد عثمان، وبرز قصّاصون يقصّون في المساجد، حتّى طردهم عليّعليه‌السلام ، كما أثبته المروزي وغيره(1) .

والشيخ الغزالي يثبّت ذلك أيضاً، ويقول: إنّ عليّاًعليه‌السلام منع القصّ في المساجد، ولم يأذن إلاّ للحسن البصري(2) .

____________________

(1) انظر: كنز العمّال 10 ح 29449، وبعده.

(2) كيف نتعامل مع القرآن:

٦٦

والشيخ أبو زهرة يثبّت ذلك بشكل أكثر وضوحاً، فيقول: ظهر القصص في عهد عثمان رضي الله عنه، وكرهه الإمام عليّ رضي الله عنه حتّى أخرج القصّاصين من المساجد، لِما كانوا يضعونه في أذهان الناس من خرافات وأساطير، بعضها مأخوذ من الديانات السابقة بعد أن دخلها التحريف وعراها التغيير!

قال: وقد كثر القُصّاص في العصر الأُموي، وكان بعضه صالحاً وكثير منه غير صالح، وربّما كان هذه القصص هو السبب في دخول كثير من الإسرائيليات في كتب التفسير وكتب التاريخ الإسلامي..

وإنّ القصص في كلّ صوره التي ظهرت في ذلك العصر كان أفكاراً غير ناضجة تلقى في المجالس المختلفة، وإنّ من الطبيعي أن يكون بسببها خلاف، وخصوصاً إذا شايعَ القاصُّ صاحب مذهب أو زعيم فكرة أو سلطان، وشايع الآخر غيره، فإنّ ذلك الخلاف يسري إلى العامّة، وتسوء العُقبى، وكثيراً ما كان يحدث ذلك في العصور الإسلامية المختلفة(1) .

فلماذا لا يكون كِلا الأمرين قد أرادهما تميم الداري: دخول الإسرائيليات والأساطير في التفسير والتاريخ، وظهور الخلافات والنزاعات بين المسلمين؟!

لماذا إذن فرّ من علي إلى معاوية؟!

والأمران اللذان أرادهما تميم، ونشط فيهما كعب الأحبار أيضاً في عهد عثمان، وساهم فيهما آخرون، كلاهما قد أراد عليٌّعليه‌السلام أن يقطع دابرهما، ويخيّب آمال هؤلاء الّذين يكيدون للإسلام وأهله كلّ شرّ،

____________________

(1) محمّد أبو زهرة/ المذاهب الإسلامية: 20.

٦٧

ويظهرون بمظاهر النسك التي ألفوها في اليهودية والنصرانية.

المبحث الثالث: إحياء السُنّة:

في غير الرواية والتدوين، تُحدّثنا الأخبار الدقيقة عن مشكلات أُخرى قد تعرّضت لها السُنّة، فتداركها عليٌّ:

1 - قال أبو موسى الأشعري: «لقد ذكّرنا عليّ بن أبي طالب صلاةً كنّا نصلّيها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إمّا نسيناها، أو تركناها عمداً»!!(1) .

إذن هذه الصلاة أيضاً قد أُصيبت في صورتها، وطريقة أدائها؟!

ثمّة شهادة أُخرى على ذلك، شاهدها الصحابي الجليل أبو الدرداء، الذي توفّي في خلافة عثمان!(2) .

* قالت أُمّ الدرداء: دخل علَيَّ أبو الدرداء مغضباً، فقلتُ: مَن أغضبك؟!

قال: «والله لا أعرف فيهم من أمر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً»!(3) .

إذن كلّ شيء قد تغيّر عن أمر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولم تَعُد تُرَ تلك السنن التي ميّزت المجتمع أيّام الرسول، ولم يبق فيهم إلاّ صورة الاجتماع في الصلاة، الاجتماع وحده، لا سنن الصلاة التي تحدّث عنها أبو موسى

____________________

(1) مسند أحمد 4/392 من طريقين، وهما في الطبعة المرقّمة في ج 5 ح 19000 و 19004.

(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 2/353، والإصابة 3/46.

(3) مسند أحمد 6/443 من طريقين، وهما في الطبعة المرقّمة في ج 7 ح 26945 و 26955.

٦٨

الأشعري.

2 - وقبل قرأنا صلاة عثمان وعائشة في السفر تماماً، لا يُقصَران، وقد أبى عليٌّ ذلك، وأنكره نفر من الصحابة، وحين مرض عثمان في تلك الأثناء ودعوا عليّاً للصلاة بهم، قال: «إنْ شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ». فقال أكثرهم: لا، إلاّ صلاة أمير المؤمنين!!

وهكذا تتغيّر السنن وتختفي لتحلّ محلّها محدَثات ينصرها كثير وكثير من السلف، ثمّ تصل إلى اللاحقين فيأخذون عن سلفهم برضاً وتسليم لفرط حسن الظنّ بهم حتّى أعفاهم من النقد ومن ضوابط التحقيق والنظر!

3 - وقصّة علي مع صلاة التراويح جماعةً، أيّام خلافته، هي الأُخرى من هذا القبيل، فحين أمرعليه‌السلام بتفريقهم ليعيدهم على ما كان أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: «وا سُنّة عمراه»!!(1) .

فهم يعلمون أنّها سُنّة عمر، وأنّ الذي يدعوهم إليه عليٌّعليه‌السلام هي سُنّة النبيّ!!

تقرأ ذلك صريحاً في صحيح البخاري، وغيره، أنّها سُنّة عمر(2) .

وفي صحيح البخاري أنّ عمر لمّا جمع الناس عليها قال: «نِعْمَ البدعة هذه!»(3) .

قال القسطلاني في شرحها: سمّاها بدعة لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنَّ لهم، ولا كانت في زمن الصدّيق، ولا أوّل الليل، ولا هذا

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 12/283.

(2) صحيح البخاري - كتاب صلاة التراويح.

(3) صحيح البخاري - كتاب صلاة التراويح - 2 ح 1906.

٦٩

العدد»!(1)

4 - وتقرأ في أوّليّات عمر: «هو أوّل من حرّم المُتعة» وتقدّم حديثها(2) ، وأمّا قول عليٌّعليه‌السلام فيها فهو المشهور:«لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شفىً» أو: «إلاّ شقيّ».

5 - وفي أوّليّات عمر أيضاً: «وأوّل من جمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز»(3) .

أخرج أحمد من حديث حذيفة بن اليمان، أنّه صلّى على جنازة فكبّر خمساً، ثمّ التفت إلى الناس، فقال: «ما نسيتُ ولا وهمتُ، ولكن كبّرت كما كبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »!(4) ، يريد أن يذكّرهم بأمر نسوه واستبدلوه بأمر محدَث مضوا عليه حتّى نسوا الأمر الأوّل، وكم توجّع حذيفة لهذا النسيان أو التناسي!

ومثله ثبت عن زيد بن أرقم، كبّر على الجنازة خمساً، فاستنكروا عليه، فقال: «سُنّة نبيّكم».. «ولن أدعها لأحد بعده».. «ولن أدعها أبداً»(5) . والتكبيرات الخمس هي التي مضى عليها عليٌّعليه‌السلام (6) ، ومثله صنع

____________________

(1) إرشاد الساري 4/656.

(2) هذا كلّه تقدّم في ص 160 - 164، وانظر أيضاً: الأوائل - لأبي هلال العسكري -: 112، تاريخ الخلفاء - للسيوطي -: 128.

(3) العسكري/ الأوائل: 113، ابن الأثير/ الكامل في التاريخ 3/59 السيوطي/ تاريخ الخلفاء: 128.

(4) مسند أحمد 5/406.

(5) مسند أحمد 4/370 - 371، سنن الدارقطني 2/75.

(6) مصنّف عبد الرزّاق 3/481، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 1/221 - 222.

٧٠

الإمام الحسنعليه‌السلام (1) ، وعليها فقه أهل البيتعليهم‌السلام

6 - ومع عثمان، في أمر الزكاة، بعث إليه عليعليه‌السلام بكتاب فيه حكم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الزكاة، بعثه بيد ولده محمّد بن الحنفيّة، فقال له عثمان: أغنها عنّا!!

فرجع بها إلى أبيهعليه‌السلام ، فقال له: ضع الصحيفة حيث وجدتها(2) .

هذه سنن طرأ عليها هذا النحو من التبديل والتغيير، فكان تداركها لإحياء السُنّة النبوية الثابتة هو من أهمّ ما وضعه عليّعليه‌السلام نصب عينيه وهو يتولّى الحكم: «لنردّ المعالم من دينك».

وهكذا استعادت السُنّة روحها ودورها في أيّامه، ليكون ذلك طريقاً إلى حفظها من الضياع وحفظ مكانتها في التشريع.

مقولات فيها مصادرة:

* الأُستاذ الدكتور نور الدين عتر/ في كتابه «منهج النقد في علوم الحديث».

* محمود أبو ريّة/ في كتابه «أضواء على السُنّة المحمّدية».

* الدكتور محمّد سلام مدكور/ في كتابه «مناهج الاجتهاد في الإسلام».

____________________

(1) الأحبار الطوال: 216، شرح نهج البلاغة 6/122.

(2) ابن حزم/ الأحكام 1/253.

٧١

الأُولى: قال بها الدكتور نور الدين عتر حين نسب منع تدوين السُنّة إلى إجماع الصحابة!

فبعد أن نقل رغبة عمر في التدوين أوّلاً، واستشارته الصحابة وإشارتهم عليه بالتدوين، ثمّ تبدّل رأي عمر، قال: وقد أعلن عمر هذا على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم وأقرّوه، ممّا يدلّ على استقرار أمر هذه العلّة في نفوسهم!(1) .

وهذا القول ناشىَ عن رؤية مثالية أوّلاً، وفيه مصادرة لآراء الصحابة ثانياً:

فالرؤية التي تصوّر سكوت الصحابة أمام أيّ قرار تصدره الخلافة، على أنّه إجماع إقراري، رؤية مثالية، وهذا الخبر هو واحد من أهمّ الأدلّة على ذلك، فقبل شهر واحد فقط من صدور هذا القرار كانوا قد أعطوا رأيهم المؤيّد لتدوين السُنّة بالإجماع، ولم يظهر في ذلك أدنى خلاف حتّى صدر قرار الخليفة بعكسه، فبعد أن أعطوه الرأي ثمّ عزم على خلافه فلا محلّ إذن للمعارضة.

وإذا زعمنا أنّ سكوتهم كان إقراراً كاشفاً عن الإجماع، فما هي قيمة إجماعهم السابق على خلافه؟!

هل سيبقي هذا التصوّر على شيء من قيمة (إجماع الصحابة)؟ لا في هذه المسألة وحدها، بل في كلّ مسألة!

وثمّة دليل عملي على عدم إقرار الصحابة بقرار المنع:

لقد راحوا من وراء الخليفة يكتبون الحديث والسنن، حتّى كثرت

____________________

(1) منهج النقد في علوم الحديث: 44.

٧٢

عندهم الكتب، فوصل خبرها إلى عمر، فقام فيهم خطيباً، فقال: «أيّها الناس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبّها إلى الله أعدلُها وأقوَمُها، فلا يُبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي».

فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بها، فأحرقها بالنار!(1) .

فما زال الصحابة إذن عند إجماعهم الأوّل، وما زال عمر عند رأيه المخالف.

والثانية: ما خلص إليه محمود أبو ريّة في إثبات النهي عن تدوين السُنّة، وانصياع الصحابة لهذا الأمر انصياعاً تامّاً، ليقضي على السُنّة كلّها بالضياع، ولم يُبقِ منها إلاّ حديثين صحّا عنده، وبلغا التواتر، وهما: حديث النهي عن التدوين، وحديث «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار» مؤكّداً عدم ورود كلمة «متعمّداً» في هذا الحديث، ليجعل من الكذب عليه رواية الحديث بالمعنى! متمسّكاً بأدلّة حاكمة عليه، لا له(2) .

فكلّ ما ورد عن أبي بكر وعمر والصحابة في عهديهما كان صريحاً جدّاً بعدم ورود النهى عن تدوين السُنّة من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

أضف إلى ذلك ما هو ثابت من تدوينها بأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو بإذنه، ومن ذلك:

* الصحيفة التي كانت في قائم سيفه صلى الله عليه وآله وسلم فيها بعض السنن، ثمّ

____________________

(1) الطبقات الكبرى 5/188، تقييد العلم: 52.

(2) راجع كتابه «أضواء على السُنّة المحمّدية» والذي ارتضى أن يسمّيه في طبعته الثانية باسم «دفاع عن السُنّة»!!

٧٣

صارت عند عليعليه‌السلام (1) .

* وما ثبت من كتابة عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكلّم في الرضا والغضب؟! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ بإصبعه إلى فمه وقال: «أُكتبْ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقّ»(2) .

* وقول أبي هريرة: إنّ عبدالله بن عمرو كان يكتب، وكنت لا أكتب(3) .

* وحين طلب أبو شاة اليماني من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتبوا له خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكّة، وكان أبو شاة قد شهدها، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «اكتبوا لأبي شاة»(4) .

* وحديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قيّدوا العلم بالكتاب»(5) .

* وكان أنس قد كتب حديثاً كثيراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه حتّى وقت متأخّر من عهد الصحابة، فكان يملي الحديث، حتّى كثر عليه الناس يوماً يطلبون الحديث، فجاء بمجالٍّ(6) من كتب، فألقاها،

____________________

(1) ذكرها البخاري ومسلم وأصحاب السنن.

(2) مسند أحمد 2/207، سنن أبي داود 3/318 ح 3646، المستدرك 1/104 - 105 ووافقه الذهبي.

(3) صحيح البخاري - كتاب العلم 1/40 ح 113.

(4) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 39 ح 112، سنن الترمذي 5 ح 2667، سنن أبي داود - كتاب العلم 3/319 ح 3649.

(5) جامع بيان العلم 1/86 - 87.

(6) المجالّ: جمع مجلّة، وهي الصحيفة التي يُكتب فيها.

٧٤

ثمّ قال: «هذه أحاديث سمعتها وكتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرضتها عليه»(1) .

* وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كتاب في الصدقات، والديات، والفرائض، والسنن، لعمّاله(2) .

* وقال صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الأخير: «هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»(3) .

وغير هذا كثير، وقد تناولت الكتابة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم قسماً كبيراً من الحديث يبلغ في مجموعه ما يضاهي مصنّفاً كبيراً من المصنّفات الحديثة(4) .

أمّا موقف الصحابة من الكتابة فقد عرفناه، وقد ذكر ابن عبد البرّ وغيره عدداً كبيراً من كتب الصحابة، ومنهم عبدالله بن مسعود الذي عدّوه في المانعين من الكتابة، فقد أخرج ابنه عبد الرحمن كتاباً وحلف أنّه خطّ أبيه بيده(5) .

وأمّا حديث أبي سعيد الخدري الذي يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن، فمن كتب غير القرآن فليمحه» والذي عدّوه أصحّ ما ورد في النهي عن كتابة الحديث(6) ، وهو أصحّ حديث عند

____________________

(1) تقييد العلم: 95 - 96.

(2) نور الدين عتر/ منهج النقد: 47 - 48.

(3) متّفق عليه.

(4) نور الدين عتر/ منهج النقد: 45، وانظر: د. محمّد عجاج الخطيب/ أُصول الحديث: 187 - 190.

(5) جامع بيان العلم: 87، أُصول الحديث: 160 - 165، و 191 - 205.

(6) محمود أبو ريّة/ أضواء على السُنّة المحمّدية: 48.

٧٥

أبي ريّة، فقد رآه كثير من المحقّقين موقوفاً على أبي سعيد، وليس حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا قول البخاري وآخرين(1) .

بل ثبت عن أبي سعيد نفسه خلافه، حين شهد أنّه كان يكتب التشهّد - تشهّد الصلاة - عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(2) .

والثالثة: مقولة الدكتور محمّد سلام مدكور.

إذ مثّل لاختلاف الصحابة في فهم النصّ بما وقع بالنسبة لتدوين السُنّة، لمّا قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: «لا تكتبوا عنّي غير القرآن، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حَرَج، ومن كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار».

قال: فقد اتّجه فقهاء الصحابة في ذلك إلى وجهتين متعارضتين:

* فريق منهم، وكانت له الغَلَبة: فهموا أنّ ذلك نهي عامّ وليس قاصراً على كُتّاب الوحي! فامتنعوا عن تدوين السُنّة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب... وقالوا: إنّ ما دوّنه بعض الصحابة منها إنّما كان تدويناً مؤقّتاً حتّى يحفظه ثمّ يُمحى المكتوب بعد ذلك.

* بينما ذهب الفريق الآخر إلى أنّ ذلك كان خاصّاً بكُتّاب الوحي دون سواهم، خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، بدليل أنّه أباح الكتابة عند أمن الاختلاط، كما ثبت في حديث عبدالله بن عمرو(3) ..

وهذا التفصيل كلّه لا يقوم على حجّة صحيحة، بل الحجّة الصحيحة تنقضه بكامله، كما سنتابعه في الفقرات الآتية:

____________________

(1) انظر: فتح الباري: 1/168، تدريب الراوي 2/63.

(2) تقييد العلم: 93.

(3) مناهج الاجتهاد في الإسلام: 85.

٧٦

أ - الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، تقدّم أنّه موقوف عليه وليس من حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما قال البخاري وغيره.

ب - إنّ الفريق الأوّل، والذي كانت له الغلبة، لم يحتجّ يوماً ما بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن كتابة السُنّة، فهذا لم يحدث منهم ألبتّة.

ج - إنّ هذا الفريق نفسه قد باشر تدوين السُنّة أحياناً ابتداءً، كما صنع أبو بكر، أو أمر بتدوينها وشاور الصحابة على ذلك فأجمعوا على كتابتها دون تردّد. وفي ذلك كلّه لم يظهر لهذا الحديث المرويّ عن أبي سعيد ذِكر ولا أثر.. بل فعلهم هذا، وهم الفريق المانع، لهو أوضح دليل على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنع من تدوين السُنّة قطّ، لا منعاً خاصّاً ولا عامّاً.

د - الحديث المذكور عن أبي سعيد الخدري يقول فيه أيضاً: «وحدّثوا عنّي ولا حرج» وهذا الفريق الغالب قد منع عن التحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم بنفس القوّة التي منع فيها عن التدوين! فكيف يُدّعى أنّهم امتنعوا عن التدوين تمسّكاً بنهي النبيّ عنه؟! فماذا عن رواية حديثه وسُنّته التي أمر بها على أيّ حال إلاّ أن يقعوا بالكذب؟!

هـ - إنّ الاعتذار بخوف اختلاط القرآن بالسُنّة اعتذار واهٍ ومتهافت، وقد مرّ نقده مفصّلاً.

و - إنّ هذا التمييز بين كُتّاب الوحي وغيرهم في شأن كتابة السُنّة تمييز لم يُعرف في عهد الصحابة قطعاً، ولا يستطيع أحد نسبته إليهم بصدق، وإنّما هو من تبرير المتأخّرين دفعاً لِما يلزمهم من تخطئة المانعين من كتابة السُنّة، ليس أكثر من ذلك.

وهنا ملاحظتان تجدر الإشارة إليهما:

٧٧

1 - المقولات الثلاث هذه جامعة لغيرها متضمّنة لها، لذا اكتفينا بذِكرها عن غيرها.

2 - نسبة هذه المقولات إلى الأعلام المذكورين لم تأت من كونهم أوّل مَن قالوا بها، فهي آراء قديمة تتّصل بعصر التابعين، وبعضها بعصر الصحابة، لكنّ الأعلام المذكورين انتخبوها من بين الرؤى وحاولوا تدعيمها بالدليل والبرهان، فحظيت على أيديهم بالرواج نظراً لأهمّيّة وسعة انتشار كتبهم التي تضمّنتها، وعلى هذا الأساس الأخير كان تصنيفنا.

* * *

٧٨

خلاصة في نقاط

1 - كان تدوين الحديث أمراً مألوفاً يمارسه الصحابة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، برضاً منه، وبإذنه أحياناً، وبأمره أحياناً أُخرى.

أمّا رواية الحديث ونشره فقد أمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمراً صريحاً ومكرّراً.

2 - ظهر في عهد أبي بكر أوّل أمر بالمنع من الحديث، لعلّة أو أُخرى.

3 - أحرق أبو بكر كتاباً يضمّ خمسمئة حديث كان قد كتبها بيده، وهذا أوّل كتاب حديث أُحرق.

4 - واصل عمر المنع من الحديث، مؤكّداً ذلك بعهوده على عمّاله، وبحبسه بعض الصحابة في المدينة حين لم يأمن امتثالهم أمره.

5 - أحرق عمر مزيداً من كتب الحديث، جمعها من عدد كبير من الصحابة.

6 - ابتدأ عثمان سيرته مع الحديث بقوله: «لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يُسمَع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر». لكنّه لم يدقّق في ذلك كما فعل أبو بكر وعمر، فلا أحرق شيئاً من كتب الحديث، ولا تتبّع كُتّابه ورواته، بل على العكس، فقد وجد أبو هريرة وكعب الأحبار خاصّة في عهده ما لم يحلما ببعضه في عهد عمر.

7 - وافق الخلفاء على المنع نفر قليل من الصحابة لا يتجاوزون

٧٩

الأربعة: عبدالله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت(1) .

8 - كانت السيرة المذكورة سبباً في ضياع حديث ليس بالقليل، إن اقتصر حفظه على هذه المصادر التي أُحرقت وأُتلفت، ليس على يد أبي بكر وعمر فقط، بل مارس غيرهم نحو ذلك، فقد جاء علقمة بصحيفة(2) من اليمن أو من مكّة، فيها أحاديث في أهل البيت، بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل ومعه جماعة على عبدالله بن مسعود، قالوا: فدفعنا إليه الصحيفة، فدعا بطست فيه ماء! فقلنا: يا أبا عبد الرحمن، انظر فيها، فإنّ فيها أحاديث حساناً! قالوا: فجعل يُميثها فيها!(3) .

وكتب أبو بردة، عن أبيه - أبي موسى الأشعري - كتباً كثيرة، فقال له أبوه: ائتني بكتبك، فلمّا أتاه بها غَسَلَها!(4) .

9 - وعلى خلاف ذلك فإنّ الأكثرين من الصحابة ما زالوا على الأمر الشرعي برواية الحديث والإذن بكتابته، فحدّثوا وكتبوا، منهم من عُرِّضت كتبه للإحراق أو الغسل، ومنهم من حفظها عن عيون الخليفة فبقيت بعده، كما هو مشهور عن: صحيفة عليعليه‌السلام ، وصحيفة جابر بن عبدالله الأنصاري، وكتاب أبي رافع مولى رسول الله، وكتب أنس بن مالك، وصحيفة سعد بن عبادة، وصحيفة عبدالله بن عمرو، وكتاب عبدالله بن

____________________

(1) انظر: تدوين السُنّة الشريفة: 269 عن مقدّمة ابن الصلاح: 296، وعلوم الحديث - لابن الصلاح/ تحقيق عتر -: 181.

(2) تكرّر ذِكر الصحيفة في هذه الفقرة، والمراد بالصحيفة:الكتاب

(3) تقييد العلم: 54. وقوله: «جعل يميثها فيها»: أي يفركها في طست الماء لتذوب فيه الكتابة.

(4) جامع بيان العلم: 79 ح 317 و80 ح 325.

٨٠