فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 56539
تحميل: 3809

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56539 / تحميل: 3809
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

المؤمنين لسيّدها ومولاها علي بن أبي طالب(١) ، حتّى إنّها عندما وصلَ إليها خَبرُ قتلِه سجدتْ شكراً لله(٢) .

وعلى كلّ حال رحمَ الله أُمّ المؤمنين وغفرَ لهَا كرامةً لزوجها ، ونحنُ لا نضيّق رحمة الله التي وسعتْ كلّ شي ، وكان بودّنا لو لم تكن تلك الحروب والفتن والمآسي ، التي تسبّبتْ في تفريقنا وتشتيت شملنا وذهاب ريحنا ، حتى أصبحنا اليوم طعمة الآكلين ، وهدف المستعمرين ، وضحيّة الظّالمين ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

انتقاصُ أهل البيت روايات تعجب البخاري

ومع الأسف الشديد فإنّ الإمام البخاري اختار طريقه ، وسلك سبيله ضمن مدرسة الخُلفاء التي شيّدتها السلطة الحاكمة ، أو أنّ تلك المدرسة هي التي اختارت البخاري وأمثاله ، وصنعتْ منهم ركائز وأركان ورموز لتدعيم سلطانهم ، وترويح مذهبهم ، وتصريف اجتهاداتهم التي أصبحتْ في عهد الأمويين والعباسيين سوقاً رائجة ، وسلعة رابحة لكلّ العلماء الذين تسابقوا وتَباروا لتأييد الخليفة ، بكلّ أساليب الوضع والتّدْليس الذي يتماشى

____________

(١) جاء في الغدير ١ : ٦٦٦ عن الحافظ ابن سمان كما في الرياض النضرة ٣ : ١١٥ ، وذخائر العقبى : ٦٨ ، ووسيلة المآل : ١١٩ ، والمناقب للخوارزمي : ١٦٠ ح ١٩١ ، والصواعق المحرقة : ١٧٩ عن الحافظ الدارقطني عن عمر وقد جاءه أعرابيان يختصمان فقال لعليّ : اقض بينهما ، فقال أحدهما : هذا يقضي بيننا؟ فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال : ويحك ما تدري من هذا ، هذا مولاي ومولى كلّ مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٥٥ وفيه : « لما أن جاء عائشة قتل عليّ سجدت ».

٤٤١

والسّياسة القائمة ، كلّ ذلك لينالوا عند الحاكم الجاه والمال ، فباعوا أُخراهم بدنياهم ، فما ربحت تجارتهم ، ويوم القيامة يندمون ويخسرون.

فالناس ناس ، والزمان زمان ، فأنتَ ترى اليوم نفس الأساليب ونفس السّياسة ، فكم من عالم جليل هو حبيس داره لا يعرفه النّاس ، وكم من جاهل تربّع على منبر الخطابة ، وإمامة الجماعة ، والتحكّم بمصير المسلمين; لأنّه من المقرّبين الذين نالوا رضَى النظام وتأييده ، وإلاّ قل لي بربّك كيف يفسّر عزوف البخاري عن أهل بيت النبي الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً؟

كيف يفسّر عداء البخاري لهدي الأئمة الذين عاصر وعايش البعض منهم زمن البخاري ، ولم يروِ عنهم إلاّ ما هو مكذوب عليهم; للحطّ من قدرهم السّامي ، والطعن في عصمتهم الثابتة بالقرآن والسنّة ، وسنوافيك ببعض الأمثلة على ذلك.

ثمّ إنّ البخاري ولّى وجهه شطر النّواصب والخوارج الذين حاربوا أهل البيت وقتلوهم ، فتراه يروي عن معاوية ، وعن عمرو بن العاص ، وعن أبي هريرة ، وعن مروان بن الحكم ، وعن مقاتل بن سليمان الذي عُرف بالدّجال(١) ، وعن عمران بن حطّان عدوّ أمير المؤمنين وعدوّ أهل البيت ،

____________

(١) قال ابن حبان في كتاب المجروحين ٣ : ١٤ « كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان شبيهاً يشبّه الرب بالمخلوقين » وعن أبي حنيفة قال : « أتانا من المشرق رأيان خبيثان : جهم معطل ، ومقاتل مشبه » سير أعلام النبلاء ٧ : ٢٠٢ ، ومقاتل هذا وقع في سند رواية رواها البخاري في تاريخه

٤٤٢

____________

الكبير ٤ : ٢٩٢ ح ٢٨٦٦. وقال الذهبي في كتاب ميزان الاعتدال ١ : ١٦٠ رقم ٥٩٦٠ ترجمة علي بن هاشم : « ترك البخاري إخراج حديثه فإنّه يتجنّب الرافضة كثيراً ولا نراه يتجنّب القدريّة ولا الخوارج ولا الجهميّة ».

وقد ذكر صاحب كتاب كشف الجاني : ١٣٩ أنّ معاوية وعمرو بن العاص وأبا هريرة صحابة ، والصحبة كافية للحكم بالعدالة كما هو مبنى السنّة ، وقد قدّمنا فيما سبق بعض أحوال معاوية ، وبعض تصرّفات أبي هريرة وتدليساته؟.

وذكر صاحب كشف الجاني أنّ مروان بن الحكم غير متّهم في حديثه.

وهذا رميٌ للكلام بدون تثبت; إذ ذكره الذهبي في كتابه المغني في الضعفاء ٢ : ٣٩٧ ترجمة ٦١٦٦ ، وقد ذكر في مقدّمة كتابه أنّه خصّصه في : ( ذكر الكذابين الوضاعين ، ثمّ على ذكر المتروكين الهالكين ثمّ على الضعفاء من المحدّثين الناقلين ، ثمّ على الكثير الوهم من الصادقين ، ثمّ على الثقات الذين فيهم شيء من اللين ثمّ على خلق كثير من المجهولين «.

وفي صحيح ابن حبّان ٣ : ٣٩٦ : « قال أبو حاتم رضي الله عنه : عائذ بالله أن نحتجّ بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا ».

وقال عنه الشيخ الألباني في مختصر صحيح البخاري ١ : ١٩٠ : « فيه كلام معروف عند المحدّثين ».

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ١٠ : ٩٢ : « وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه وعدّ من موبقاته أنّه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل ».

وقال ابن حزم : « مروان بن الحكم أوّل من شقّ عصى المسلمين بلا شبهة ولا تأويل ، وإنه قتل النعمان بن بشير أوّل مولود في الإسلام للأنصار » المغني في معرفة رجال الصحيحين : ٢٣٥. هذا من جهة منزلة مروان بن الحكم عند المحدّثين.

وأمّا سيرته وأفعاله فهي كالنار على المنار ، مليئة بالخيانة والحقد على المسملين ، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال ٤ : ٨٩ : « له أعمال موبقة ، نسأل

٤٤٣

____________

الله السلامة ، رمى طلحة بسهم» .

وفي سير أعلام النبلاء ١ : ٣٥ : « عن قيس قال : رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في ركبته فما زال ينسح حتى مات ، رواه جماعة عنه.

ولفظ عبد الحميد بن صالح : هذا أعان على عثمان ولا أطلب بثأري بعد اليوم.

قلت : قاتل طلحة في الوزر بمنزلة قاتل علياً ».

وقال عنه الذهبي في تاريخ الإسلام ١ : ٢٣٤ : « كان يوم الحرّة مع مسلم بن عقبة ، وحرّضه على أهل المدينة » ، وارجع إلى حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحيح مسلم ٤ : ١٢١ « من أراد أهلها بسوء ( يريد المدينة ) أذابه الله كما يذوب الملح في الماء » فهو ممّن شمله دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من أصحاب النار.

وفي سير أعلام النبلاء ٣ : ٤٧٧ : « كان مروان أميراً علينا ، فكان يسبّ رجلا كلّ جمعة ، ثمّ عزل بسعيد بن العاص ، وكان سعيد لا يسبه ، ثمّ أُعيد مروان فكان يسبّ ، فقيل للحسن : ألا تسمع ما يقول؟ فجعل لا يردّ شيئاً » وقد ذكر في تاريخ الإسلام ١ : ٢٣٥ اسم ذلك الرجل الذي كان يسبه مروان وهو علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

وذكر في كشف الجاني أيضاً بأنّ المؤلّف كذب حينما قال : بأنّ البخاري يروي عن المجسّمة والمجاهيل!

وهذا ـ أيضاً ـ من جهل صاحب كتاب كشف الجاني إذ بمراجعة بسيطة لمقدّمة فتح الباري وغيرها يجد أنّ هنالك العديد من المجاهيل بل والمتهمين بالكذب ممّن روى البخاري عنهم ، نورد بعض الأسماء ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى مقدّمة فتح الباري :

فمن الرواة المجاهيل الذين روى عنهم البخاري :

(١) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة : قال القطان الفاسي : لا يعرف حاله. هدي الساري إلى فتح الباري ، ابن حجر ٥٤٨.

(٢) أسباط أبو اليسع : قال أبو حاتم : مجهول. المصدر السابق ٥٤٩.

٤٤٤

____________

(٣) الحسين بن الحسن بن يسار : قال أبو حاتم : مجهول. المصدر السابق ص٥٦٠.

(٤) أُسامة بن حفص أو ابن جعفر المدني : قال اللالكائي : مجهول ، وقال الأزدي ضعيف. ميزان الاعتدال ١ : ١٧٤ ، رقم ٧٠٤ ، هدي الساري : ٣٨٦ ، المغني في معرفة الرجال الصحيحين : ٢٨ رقم ١٣١.

(٥) ثور بن زيد الديلي : قال اليبهقي : مجهول. ميزان الاعتدال ١ : ٣٧٣.

(٦) الحسن بن إسحاق بن زياد أبو علي الليثي المروزي : قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : هو مجهول ، وقال الذهبي : مجهول الجرح والتعديل ٣ : ٢ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٢٢٧ ، المغني في الضعفاء ١ : ٢٤٤.

(٧) حصين بن محمّد الأنصاري السالمي : قال الذهبي : فيحتجّ به في الصحيحين ، ومع هذا فلا يكاد يعرف. ميزان الاعتدال ١ : ٥٥٤.

(٨) عبد الواحد بن عبد الله بن كعب النصري : قال ابن حزم : مجهول. تهذيب التهذيب ٦ : ٤٣٦ ، الضعفاء لابن الجوزي ٢ : ١٥٦.

(٩) محمّد بن يزيد الكوفي الحزامي : قال أبو حاتم : مجهول. هدي الساري : ٤٤٣.

ومن الرواة المتهمين بالكذب الذين روى عنهم البخاري :

(١) أسيد بن زيد الجمّال : قال النسائي : متروك ، وقال ابن معين : حدّث بأحاديث كذب ، وقال ابن خلفون : وذكر ابن الاعراتي عن عباس بن محمّد الدورقي عن يحيى بن معين قال : أسيد بن زيد الجمال : كذاب ، ذهب إليه في الكرخ ونزل دار الحذائين فأردت أن أقول : ياكذاب ، ففرقت من شفار الحذائين. المصدر السابق ٥٥٢ ، المعلم بشيوخ البخاري ومسلم : ١١٤ رقم ٨٨.

(٢) شجاع بن الوليد بن قيس السكوني : اتهمه يحيى بن معين بالكذب. المصدر السابق ص٥٧٥.

(٣) عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس : متّهم بالكذب. المصدر السابق

٤٤٥

____________

ص٥٩٦.

(٤) أحمد بن صالح أبو جعفر المصري : قال النسائي : ليس بثقة ولا مأمون. وقال أيضاً : تركه محمّد بن يحيى ورماه يحيى بن معين بالكذب ، هدي الساري : ٣٨٣ وقال معاوية بن صالح عن ابن معين : أحمد بن صالح كذاب يتفلسف ، الضعفاء والمتروكين ٥٦ ، تهذيب التهذيب ١ : ٣٩.

(٥) إسماعيل بن عبد الله بن أبي أُويس بن مالك بن أبي عامر المدني : قال يحيى ابن معين ، مخلط يكذب ليس بشيء.

وقال الدولابي : سمعت النظر بن سلمة المروزي يقول : كذّاب كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب. ميزان الاعتدال ١ : ٢٢٢ رقم ٨٥٤ تهذيب التهذيب ١ : ٣١٠ ، الضعفاء والمتروكين : ٥١ ، المغني في معرفة رجال الصحيحين : ٣٥ ، ١٩٢.

(٦) الحسن بن مدرك بن بشير أبو علي البصري الطحان : قال أبو داوود : الحسن ابن مدرك كذّاب ، كان يأخذ أحاديث فهد بن عوف فيقلبها على يحيى بن حمّاد. ميزان الاعتدال ١ : ٥٢٢ رقم ١٩٤٩.

(٧) كعب بن مانع المعروف بكعب الأحبار : كان يهودياً فأسلم ، وقد شكّك في إخلاصه للإسلام وتركه اليهودية ، كذّبه ابن عباس وابن مسعود وحذيفة في قولهم : كذب كعب ( البداية والنهاية ٣ : ٣١٦ ) ، وما ترك يهوديته ، أو ما تنكت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه ( تفسير القرطبي ١٤ : ٢٢٧ ، تفسير ابن كثير ٣ : ٥٦٢ ).

وذكر السيّد رشيد رضا في كتابه بما جاء عنه في صحيح البخاري على لسان معاوية : كان كعب الأحبار من أصدق المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب. قال السيّد رشيد رضا : أدخل على المسلمين شيئاً كثيراً من الاسرائيليات الباطلة والمخترعة ، وخفي على كثير من المحدثين كذبه ودجله لتعبده. تفسير المنار ٨ : ٤٤٩.

الرواة المغموز فيهم وهم كثير نذكر بعضهم :

٤٤٦

شاعر الخوارج وخطيبهم الذي كان يتغنّى بمدحه لابن ملجم المرادي على قتله علي بن أبي طالب.

كما كان البخاري يحتجّ بحديث الخوارج والمرجئة والمجسمة ، وبعض المجاهيل الذين لا يعرف الدّهرُ لهم وجوداً(١) .

____________

(١) أيوب بن عائذ الطائي الكوفي :

ممّن أخرج له البخاري وأورد اسمه في كتاب الضعفاء ( الضعفاء الصغير للبخاري : ٢٤ ) قال الذهبي : والعجب من البخاري يغمزه وقد احتجّ به. ميزان الاعتدال ١ : ٢٨٩.

(٢) ثابت بن محمّد الكوفي الشيباني : ذكره في الضعفاء وقال أبو زرعة العراقي : والعجب من البخاري من ذكره في الضعفاء مع احتجاجه به في الصحيح. الجرح والتعديل ٢ : ٤٥٧ ، المغني في معرفة رجال الصحيحين : ٤٨ ، ٣٠٤ ، ديوان الضعفاء والمتروكين ١ : ١٣٦.

إلى غير ذلك ، وهناك الكثير من الرواة المصرّح بضعفهم روى عنهم البخاري ، من شاء يرجع إلى مقدّمة ابن حجر لكتابه فتح الباري.

وأمّا المجسّمة الذين روى عنهم البخاري ، فقد قدّمنا ذكر مقاتل بن سليمان الذي روى عنه البخاري في التاريخ الكبير ، وكان مجسّماً كما ذكر ابن حبّان.

ونقول بعد هذا : إنّ صاحب كتاب كشف الجاني وغيره ممّن يحذو حذوه من المتعصّبين يسارعون في الطعن على غيرهم ، مع جهلهم الشديد بما هو مسطور ومدوّن في أُمهات مصادرهم ، فكان الأحرى بهم إصلاح عيوبهم قبل التفتيش عن عيوب الآخرين.

(١) كما روى عن حمّاد بن حميد في صحيحه ٨ : ١٥٨ وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ١ : ٥٨٩ رقم : ٢٢٤٣ « محدّث لا يدرى من هو » ومنهم عطاء أبو الحسن السوائي قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧ : ١٩٥ « قرأت بخط الذهبي : لا يعرف ».

٤٤٧

وقد جاء في صحيحه إضافة إلى الكذب والتدليس من الرّواة المشهورين بذلك ، بعض الرّوايات السّخيفة والبشعة ، مثال ذلك ما رواه في صحيحه من كتاب النكاح باب ما يحلّ من النّساء وما يحرُمُ وقوله تعالى :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ ) إلى آخر الآية.

قال في آخر الباب : لقوله تعالى( وَاُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) ، وقال عكرمة عن ابن عبّاس : إذا زنى بأُخت أمرأتِهِ لم تحرم عليه أمرأتُهُ ، ويروى عن يحيى الكندي عن الشعبي وأبي جعفر فيمن يلعبُ بالصبىِّ إن أدخله فيه فلا يتزوّجنَّ أُمَّهُ.

وقد علّق على هذا الكلام شارح البخاري في الهامش بقوله : « اللاّئق بمنصب العلماء أن يجلّوا قدرهم عن كتب مثل هذا الكلام والتفوّه به ».

كما أخرج في صحيحه من كتاب تفسير القرآن ، باب « نساؤكم حرث لكم » عن نافع قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتّى يفرُغُ منه ، فأخذت عليه يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان ، قال : تدري فيما أُنزلتْ؟ قلت : لا ، قال : أُنزلت في كذا أو كذا ، ثمّ مضى.

وعن نافع عن ابن عمر « فأتوا حرثكم أنّى شِئتم » قال : يأتيها في(١) . وعلّق الشارح بقوله : قوله في بحذف المجرور وهو الظرف أي في الدّبر ، قيل : وأسقط المؤلّف ذلك لاستنكاره ، كذا في الشارح.

كنت يوماً في جامعة السربون بباريس أتحدّث عن أخلاق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخُلقه العظيم الذي تحدّث عنه القرآن ، وعُرفَ به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قبل البعثة

____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٦٠.

٤٤٨

فسمّوه الصّادق الأمين ، ودامت المحاضرة ساعة تقريباً ، أوضحت خلالها بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكنْ محارباً ولا غاصباً لحقوق الإنسان في تقرير مصيره ، وفرض دينه بالقوّة والقهر كما يدّعي بعض المستشرقين.

وخلال المناقشة التي شارك فيها نخبةٌ من الأساتذة والدكاترة المختصّين بالإسلام وتاريخ المسلمين وجلّهم مستشرقون ، وانتصرتُ نوعاً ما على المناوئين الذين أثاروا بعض الشُبهات ، ولكنّ أحدَهُم وهو عربي مسيحي طاعنٌ في السنّ ( أعتقد أنّه لبناني ) اعترض علىَّ بأُسلوب فيه خبث ودهاء ، فكاد يقلب انتصاري إلى هزيمة نكراء.

قال هذا الدكتور بلسان عربي فصيح : بأنّ ما ذكرته في المحاضرة فيه كثير من المبالغة ، وبالخصوص فيما يتعلّق بعصمة النبي ، إذ أنّ المسلمين أنفسهم لا يوافقُونك على ذلك ، وحتّى محمّد نفسه لا يوافق على ذلك ، فقد قال عديد المرّات ، بأنّه بَشَرٌ يجوز عليه الخطأ ، وقد سجّل له المسلمون أخطاءً عديدة نحن في غِنىً عن التعريف بها ، وكُتب المسلمين الصحيحة والمعتمدة عندهم تشْهَدُ على ذلك.

ثمّ قال : وأما بخصوص الحروب فما على حضرة المحاضر إلاّ مراجعة التاريخ ، ويكفي أن يقرأ فقط كتب الغزوات التي قام بها محمّد في حياته ، ثم واصلها الخلفاء الراشدون بعد وفاته حتى وصلوا إلى ( poitier ) مدينة بواتييه بغرب فرنسا ، وفي كلّها كانوا يفرضون دينهم الجديد على الشعوب بالقهر وقوّة السّيف.

وقابل الحاضرون كلامه بالتصفيق مؤيدين مقالتَهُ ، وحاولتُ بدوري

٤٤٩

إقناعهم بأنّ ما ذكرَهُ الدكتور المسيحي غير صحيح ، وإن أخرجه المسلمون في كُتُبهم ، وارتفعت ضجة من الضّحك في القاعة استهزاء وسخرية منّي.

وتدخّل الدكتور المسيحي من جديد ليقول لي بأنّ ما ذكره ليس من الكتب المطعون فيها ، وإنّما هو في صحيح البخاري ومسلم.

وقلت : بأنّ هذه الكتب صحيحة عند أهل السنّة ، أمّا عند الشيعة فلا يقيمون لها وزناً ، وأنا مع هؤلاء.

فقال : نحن لا يهمّنا رأي الشيعة الذين يكفّرهم أغلب المسلمين ، والمسلمون السنّة وهم أكثر من الشيعة عشر مرّات لا يقيمون لآراء الشيعة وزناً ، ثمّ أضاف قائلا : إذا تفاهمتم أنتم المسلمون مع بعضكم البعض ، وأقنعتم أنفسكم بعصمة نبيّكم ، عند ذلك يمكن أن تُقنعونا نحن ( قال ذلك ضاحكاً متهكماً ).

ثمّ التفت إلىَّ من جديد قائلا : وأمّا بخصوص الأخلاق الحميدة ، فأنا أسألك أن تقنع الحاضرين كيف تزوّج محمّد الذي بلغ من العمر أربعاً وخمسين بعائشة وعمرها ستّ سنين؟

وارتفعت من جديد ضجة الضّحك وأشرأبّت الأعناقُ تنتظر ردّي ، وحاولتُ جهدي إقناعهم بأنّ الزواج عند العرب يتمّ على مرحلتين ، المرحلة الأولى وهو العقد وكتب النّكاح ، والمرحلة الثانية وهو البناء والدخول ، وقد تزوّج النّبي عائشة وعمرها ستّ سنوات ، ولكن لم يدخل بها إلاّ بعد أن بلغت تسع سنوات.

واستطردت بأنّ هذا ما يقوله البخاري إن كان مُناقشي يحتجّ علىَّ بما فيه.

٤٥٠

وأنا شخصياً أشكّ في صحة الرواية; لأنّ النّاس في ذلك الزمان لم يكن لهم حالة مدنية ، ولا تسجيل تاريخ الميلاد ولا تاريخ الوفاة ، وعلى فرض صحة الرواية فإنّ عائشة بلغتْ سنّ الرشد في التاسعة من عمرها ، فكم رأينا اليوم على شاشة التلفزيون بعض الفتيات الروسيات والرومانيات لاعبات « الجمباز » اللاّتي عندما تراهنّ وترى كمال أجسامهن تستغرب عندما يُعلنُون عن عمرها ، وأنّها لم تتجاوز إحدى عشر عاماً ، فلا شكّ بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل بها إلاّ بعدما رشدت وأصبحت تحيض ، والإسلام لا يقول بالرشد لمن بلغ ثمانية عشر عاماً كما هو معروف عندكم في فرنسا ، بل الإسلام يعتبر الرشد بالحيض للنّساء وبخروج المني للرّجال ، وكلّنا يعلم حتّى اليوم بأنّ من الذكور من يمنون في سنّ العاشرة ، ومن الإناث من يحضن في سنّ مبكرة قد لا تتجاوز العاشرة.

وهنا قامت سيدةٌ وتدّخلت لتقول : نعم وعلى فرض أنّ ما أوردتَه قد يكون صحيحاً وهو صحيح علميّاً ، ولكنْ كيف نقبل بزواج شيخ كبير أوشكّ عمره على نهايته بفتاة صغيرة ما زالت في العقد الأول من عمرها؟

قلتُ : إنّ محمّداً نبىّ الله ولا يفعل شيئاً إلاّ بوحي منه ، ولا شكّ أنّ لله في كلّ شيء حكمة ، وإن كنتُ شخصيّاً أجهل الحكمة في ذلك.

قال الدكتور المسيحي : لكنّ المسلمين اتّخذوا ذلك سنّة ، فكم من فتاة صغيرة زوّجها أبوها غصْباً عنها برجل يوازيه في السنّ ، ومع الأسف فإن هذه الظاهرة بقيت حتّى اليوم موجودة.

انتهزتُ هذه الفرصة لأقول : ولذلك أنا تركتُ المذهب السنّي واتّبعتُ

٤٥١

المذهب الشيعي ، لأنّه يعطي حقّ المرأة في أن تزوّج نفسها بمن شاءتْ هي لا بما يفرضه عليها الولي.

قال : دعنا من السنّة والشيعة ولنعد إلى زواج محمّد بعائشة ، والتفت إلى الحاضرين ليقول بكلّ سخرية : إن محمّداً النبىّ والبالغ من العمر أكثر من الخمسين يتزوج بُنيّةً صغيرة لا تفهم من الزواج قليلا ولا كثيراً ، والبخاري يحدّثنا بأنّها كانت في بيت زوجها تلعبُ بالدُّمَى ، وهذا يؤكّد على براءة الطفولة ، فهل هذه هي الأخلاق العالية التي يمتاز بها النّبي؟

وحاولت من جديد إقناع الحاضرين بأنّ البخاري ليس حجّة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن بدون جدوى ، فقد لعب هذا المسيحي اللّبناني بأفكارهم كما أرَادَ ، وما كان لي إلاّ أنْ أوقفْتُ النّقاشَ متذرّعاً بأنّنا لا نتكلّم نفس اللّغة; لأنّهم يحتجّون علىّ بالبخاري في حين أنّني لا أؤمن بكلّ ما ورد فيه.

وخرجتُ ناقماً على المسلمين الذين أعطوا لهؤلاء ولأعداء الإسلام وأعداء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السّلاح النافذ الذي يحاربوننا به وعلى رأس هؤلاء البخاري ، ورجعت للبيت يومها مهموماً ، وأخذت أتصفّح صحيح البخاري وما ذكره في فضائل عائشة وأحوالها ، فإذا بي أقولُ : الحمد لله الذي فتح بصيرتي ، وإلاّ لبقيتُ متحيّراً في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وربّما داخلني الشكّ فيه والعياذ بالله.

ولابدّ من إظهار بعض الروايات التي أُثيرتْ خلال المناقشة ، حتى يتبين للقارئ بأنّ هؤلاء المنتقدين لم يفتروا علينا ، وإنّما وجدوا بغيتهم في صحاحنا فاستعانوا بها علينا.

٤٥٢

فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق ، باب تزويج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة وقدومه المدينة وبنائه بها :

عن عائشة رضي الله عنها قالت : تزوجني النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا بنتُ ستّ سنين ، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحرث بن خزرج ، فوعكت فتمرّقَ شعري فوفى جميمةٌ ، فأتتني أمّي أمّ رومان وإنّي لفي أرجوحة ومعي صواحبُ لي ، فصرختْ بي فأتيتها لا أدري ما تريدُ بي ، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدّار ، وإنّي لأنهجُ حتّى سكنَ بعض نفسي ، ثمّ أخذت شيئاً من مَاء فمسحت به وجهي ورأسي ، ثمّ أدخلتني الدار فإذا نسوةٌ من الأنصار في البيت ، فقلن : على الخير والبركة وعلى خير طائر ، فأسلمتني إليهنّ فأصلحن من شأني ، فلم يرعني إلاّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضُحىً فأسلمتني إليه ، وأنا يومئذ بنتُ تِسْعِ سنينَ.

وأترك لك أيها القارئ لتعلّق بنفسك على أمثال هذه الرّوايات!!

كما أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الأدب ، باب الانبساط إلى النّاس :

عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنتُ ألْعبُ بالبناتِ عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان لي صواحِبُ يلعبْنَ معي ، فكان رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل يتَقمَّعْنَ منه فيسرَّ بهنَّ إلىَّ فيلْعَبْنَ مَعِي.

يقول الشارح : ألعب بالبنات ، يعني التماثيل المسمّاة بلعب البنات ، ويسربهنّ إلىَّ : أي يبعثهن ويرسلهن إلىَّ.

وأنت تقرأ مثل هذه الروايات في صحيح البخاري ، أيبقى عندك

٤٥٣

اعتراض بعدها على نقد بعض المستشرقين إن كنت منصفاً؟!

قل لي بربّك! عندما تقرأ قول عائشة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ما أرى ربّك إلاّ يُسَارِعُ في هواكَ »(١) .

ماذا يبقى في نفسك من احترام وتقدير لامرأة كهذه التي تشكّك في نزاهتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! وهل لا يبعثُ ذلك في نفسك أنّها تصرّفات مراهقة لم يكتمل عقلها؟!

وهل يلامُ بعد ذلك أعداء الإسلام الذين كثيراً ما يثيرون حبّ محمّد للنّساء وأنّه كان شهوانيّاً ، فإذا قرأوا في البخاري بأنّ الله يسارع في هواه ، ويقرأون في البخاري بأنّه كان يجامع إحدى عشرة زوجة في ساعة واحدة وقد أُعطِيَ قوّة ثلاثين ، فاللّوم على المسلمين الذين أقرّوا مثل هذه الأباطيل واعترفوا بصحّتها ، بل واعتبروها كالقرآن الذي لا يتطرّق إليه الشكّ ، ولكنّ هؤلاء مسيّرون في كلّ شيء حتّى في عقيدتهم ، وليس لهم خيارٌ في شيء ، لقد فرضتْ عليهم هذه الكتب من الحكّام الأوّلين ، وهلّم بنا الآن إلى الرّوايات التي أخرجها البخاري للطّعن على أهل البيت :

فقد أخرج في صحيحه من كتاب المغازي ، باب شهود الملائكة بدراً ٥ : ١٦ :

عن علي بن حسين ، أنّ حسين بن علي أخبره أنّ عليّاً قال : كانتْ لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاني ممّا أفاء الله

____________

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٤ ، كتاب تفسير القرآن ، باب قوله تعالى :( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) .

٤٥٤

من الخمس يومئذ ، فلّما أردتُ أن أبتني بفاطمةعليها‌السلام بنت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعدتُ رجلا صوّاغاً في بني قينقاع أن ترتحل معي فنأتي بإذخر ، فأردت أن أبيعه من الصوّاغين فنستعين به في وليمة عُرسي.

فبينما أنا أجمعُ لشارفَىَّ من الأقتاب والغَرائرِ والحبالِ ، وشارفايَ مُناخانِ إلى جنبِ حجرة رجل من الأنصار حتى جمعتُ ما جمعته ، فإذا أنا بشارِفىَّ قد أُجبَّتْ أسنمتهُما ، وبُقرتْ خواصِرُهُما ، وأُخِذَ من أكبادهما ، فلم أملك عينىَّ حين رأيت المنظرَ ، قلتُ : من فعل هذا؟ قالوا : فعله حمزة بن عبد المطّلب ، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار عنده قينةٌ وأصحابُه ، فقالت في غنائها : ( ألا يا حمزُ للشّرفِ النّواءِ ) ، فوثب حمزةٌ إلى السّيف فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما.

قال علي : فانطلقت حتى أدخلَ على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعنده زيدُ بن حارثة ، وعرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لقيتُ ، فقال : ما لك؟ قلتُ : يا رسول الله ما رأيتُ كاليوم ، عَدَا حمزةُ على ناقتىَّ فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما ، وها هو ذا في بيت معه شرب ، فدعا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردائه ، فارتدى ثمّ انطلق يمشي واتبعتُه أنا وزيد بن حارثة حتّى جاء البيتَ الذي فيه حمزةُ ، فاستأذن عليه فأُذِنَ له ، فطفق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلُومُ حمزةَ فيما فعل ، فإذا حمزةُ ثَمِلٌ محمرّةٌ عيناهُ ، فنظرَ حمزةُ إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم صعَّدَ النّظرَ فنظر إلى رُكبتيهِ ، ثمّ صعّد النظر فنظر إلى وجهه ، ثمّ قال حمزةُ : وهل أنتم إلاّ عبيد لأبي ، فعرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ثمِلٌ ، فنكصَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عقبيه القهقرى ، فخرج وخرجنا معه.

٤٥٥

تأمّل أيها القارئ في هذه الرّواية التي طفحت بالكذب والزور لشتم سيّد الشهداء; لأنّه مفخرة أهل البيت!! فكم كان الإمام علىّ سلام الله عليه يفتخر به في أشعاره بقوله : « وحمزةُ سيّد الشهداء عمّي »؟! وكم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفتخر به ، حتّى إذا قُتِلَ حزنَ عليه حزناً كبيراً ، وبكى عليه بكاءً كثيراً ، وسمّاه سيّد الشهداء.

وحمزة عمّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أعزّ الله به الإسلام ، عندما كان المستضعفون من المسلمين يعبدون الله خفيةً ، وقف وقفته المشهورة في وجه قريش ، وانتصر لابن أخيه معلناً إسلامه على الملأ من قريش وما خاف أحداً.

حمزة الذي سبق هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومهّد لدخول ابن أخيه في يوم مشهود ، حمزة الذي كان مع ابن أخيه علي أبطال بدر وأُحد.

أخرج البخاري في نفسه في صحيحه كتاب تفسير القرآن ، باب قوله( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ٥ : ٢٤٢ :

عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قالَ : أنا أوّل من يجثوا بين يدي الرحمن للخصومةِ يوم القيامة ، قال قيس : وفيهم نزلتْ « هذان خْصمان اختصموا في ربّهم » قال : هم الذين بارزوا يوم بدر ، علىٌّ ، وحمزة ، وعبيدةُ ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عُتبة.

نعم ، إنّ البخاري يعجبُه أن يروي مثل هذه المثالب في مفخرة أهل البيت ، وسلسلة الوضّاعين الذين وضعوا مثل هذه الرواية طويلة ، فقد قال البخاري :

حدثنا عبدانُ ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونسُ ، وحدّثنا أحمد بن صالح ،

٤٥٦

حدّثنا عَنْبَسَةُ ، حدّثنا يونس ، عن الزُّهْري ، أخبرنا علىّ بن حسين.

فهؤلاء سبعة أشخاص يروي عنهم البخاري ، قبل أن يصل السند إلى علي بن الحسين وهو زينُ العابدين وسيّد الساجدين ، فهل يليق بزين العابدين أن يروي أكاذيب مثل هذه ، فيكون سيّد الشهداء يشرب الخمر بعد إسلامه وبعد هجرته وقبل استشهاده بأيام قلائل ، إذ تقول الرواية بأنّ علي ابن أبي طالب كان يعدّ وليمة عرسه على فاطمةعليها‌السلام التي بنى بها في السنة الثانية للهجرة النبوية ، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاه نصيبه من المغنم يوم بدر ، وهل يليق بسيّد الشهداء أن تكون له قينةٌ عاهرةٌ تُغنِّيهِ ، وتطلب منه أن يبقر النّاقتين ، فيفعل بدون مبالاة؟

وهل يليق بسيّد الشهداء أن يأكل لحم حرام بدون ذبح ، ويبقر الخواصر ، ويأخذ الأكباد؟

وهل يليق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذهب ويستأذن على حمزة في ذلك المجلس الذي فيه الخمر والدّعارة؟ ويدخل في ذلك المكان؟

وهل يليق بسيّد الشهداء أن يكون ثملا محمرةٌ عيناه ، فيشتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : وهل أنتم إلاّ عبيد لأبي؟

وهل يليق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينكّص على عقبيه القهقرى ، فيخرج دون تأنيب أو توبيخ ، فالمعروف عنه أنّه كان يغضب لله؟!

وأنا متيقّنٌ أنّ هذه الرواية لو كانت ( على سبيل الافتراض طبعاً ) تذكر أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية مكان حمزة ، لما أخرجها البخاري لفظاعتها ، ولو أخرجها لهذّبها على طريقته وابترها ، ولكن ما الحيلة والبُخاري لا يحبّ هؤلاء الذين رفضوا مدرسة الخلفاء ، حتى بعد وقعة

٤٥٧

كربلاء وقتلهم عن بكرة أبيهم ، فلم يبق إلاّ علي بن الحسين الذي وضعوا الرواية على لسانه.

ولماذا لم يرو البخاري شيئاً من فقه أهل البيت ، ولا من علومهم ، ولا من خصالهم ، ولا من زهدهم ، ولا من فضائلهم التي ملأت الكتب ، وطفحت بها مجاميع أهل السنّة قبل مجاميع الشيعة؟

ولنستمع إليه يروي رواية أُخرى تطعن في أهل البيت ، وفي القمّة بالذات ، إذ أنّ الرّواة بما فيهم البخاري لم يجدوا في علي بن أبي طالب نقيصة واحدة ، ولا سجّلوا عليه طيلة حياته كذبة واحدة ، ولا عرفوا له خطيئة واحدة ، ولو كانتْ لملأوا الدنيا صياحاً وعويلا ، فعمدوا لوضع رواية تتّهمه بأنّه كان يستخفّ بالصّلاة.

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الكسوف ، باب تحريض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صلاة اللّيل ، وطرق النبىُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة وعليّاًعليها‌السلام ليلةً للصّلاة ٢ : ٤٣ :

قال : حدّثنا أبو اليمان ، قال : أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : أخبرني علي بن حسينُ أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرقَهُ وفاطمة بنت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلةً فقال : ألا تُصَلِّيَان؟

فقلت : يا رسول الله أنفُسُنَا بيد الله فإذا شَاءَ أنْ يبعثنا بعثَنا ، فانصرف حين قُلنا ذلك ولم يرجع إلىَّ شيئاً ، ثمّ سمعته وهو مولّ يضربُ فخذَهُ وهو يقول :( وَكَانَ الإنسَانُ أكْثَرَ شَيْء جَدَلا ) (١) .

____________

(١) الكهف : ٥٤.

٤٥٨

لاهَا الله يا بخاري ، هذا علي بن أبي طالب الذي يحدّثنا عنه المؤرّخون أنّه كان يقوم بصلاة اللّيل في ليلة الهرير ( في حرب صفين ) ، فيفرش نطع ويصلّي بين الصفّين ، والنّبال والسّهام تسَّاقط على يمينه وشماله ، فلا يرتاع ولا يقطع صلاة اللّيل.

علي بن أبي طالب الذي أوضح للناس معالم القضاء والقدر ، وحمّل الإنسان مسؤولية أفعاله ، تصوّره أنت في هذه الرواية بأنّه جبرىٌّ يقول بالجبر ، ويجادل بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا » يعني ذلك لو شاء الله أن نصلّي لصلّينا.

علىّ بن أبي طالب الذي حبّه إيمان وبغضه نفاقٌ ، توصفه أنت بأنّه أكثر شيء جدلا؟! إنّه كذبٌ مفضوح لا يوافقك عليه حتّى ابن ملجم قاتل الإمام ، ولا مُعاوية الذي كان يأمر الناس بلعنه ، إنه كذبٌ رخيص ولكنّك جنيت من ورائه الكثير إذ أرضيتَ بذلك حكّام زمانك وأعداء أهل البيت ، فرفعوا قـدرك في هذه الدنيا الدنيئة ، ولكنّك أسـخطْتَ ربّك بهذا الموقـف من أمير المؤمنين ، وسيّد الوصيّين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، قسـيم الجنة والنار،الذي يقـف يوم القيامة على الأعـراف،فيعرف كلاّ بسيماهم(١)

____________

(١) شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ١ : ٢٦٣ ح ٢٥٦ ، في تفسير قوله تعالى :( وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ ) أخرج الحاكم عن علي قال : نقف يوم القيامة بين الجنّة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة ، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار. ( المؤلّف ).

٤٥٩

فيقول للنّار هذا لي وهذا لك(١) .

ولا أدري إن كان كتابك يوم القيامة شبيه بكتابك اليوم الذي يُزوَّق ويُجلّد ويُنمّق ، ليخرج في أبهى حلّة عرفها الكتاب.

نعم ، كَبُرتْ على البخاري أن يظهر سيّدهُ عمر بن الخطاب تاركاً للصّلاة المفروضة عندما فقد الماء ، وبقي على مذهبه ذلك حتّى في خلافته ، فقال : « أمَّا أنا فلا أُصلّي »(٢) متحدّياً بذلك القرآن والسنّة.

ففتّش عند الدجّالين الوضّاعين فوضعوا له هذا الحديث الذي يتّهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنّه تثاقل فلم يصلّ صلاة الليل ، وعلى فرض واحتمال صحة روايته ، فلا ضير ولا إثم ولا ذنب على علي لأنّها تتعلّق بصلاة النّافلة التي يثاب على فعلها ولا يعاقبُ على تركها ، ولا يمكن أن يُقاسَ فعل عمر بتركه للصّلاة المفروضة على ترك علي لصلاة النّافلة إن صحّت الرّواية ، ولكنّ أنّى لهذه الرواية أن تكون صحيحة ، ولو أخرجها صحيح البخاري!!

فالبخاري صحيح عند أهل السنّة ، وأهل السنّة هم المؤيّدون لمدرسة الخلافة التي قامتْ على سياسة بني أُمية وبني العبّاس ، والمتتبّع يعرف هذه

____________

(١) ابن حجر الشافعي في الصواعق المحرقة ٣ : ٣٦٩ في فضائل عليعليه‌السلام روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : يا علي أنت قسيم الجنة والنار ، فيوم القيامة تقول للنار : هذا لي وهذا لك. وأضاف ابن حجر أنّ أبا بكر قال لعلي رضي الله عنهما : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يجوز أحد الصراط إلاّ من كتب له علي الجواز. ( المؤلّف ).

(٢) سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب التيمم ، حديث : ٣٢٢.

٤٦٠