بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110241 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

و من العجب أنّ كلاّ منها بناها ملك عظيم في جلال سلطانه و علوّ شأنه ،

و سمّاها المنصورة تفاؤلا بالنصر ، و لا دوام ، فخربت جميعها و اندرست و تعفّت رسومها و اندحضت ١ .

و في ( المعجم ) : قال علقمة بن مرثد في قصر شرحبيل ملك اليمن العجيب في جميع أموره المسمّى بالقشيب :

أقفر من أهله القشيب

و بان عن أهله الحبيب

٢ و قال شاعر في قصر أبي الخصيب مولى المنصور أحد المنتزهات المشرف على النجف ، ذي خمسين درجة ، عجيب الصفة :

يا دار غيّر رسمها

مرّ الشمال مع الجنوب

بين الخورنق و السّدير

فبطن قصر أبي الخصيب

فالدير فالنجف الأشمّ

جبال أرباب الصليب

٣ و فيه : و من القصور قصر بهر المجور قرب همدان كلّه حجر واحد ،

منقورة بيوته و خزائنه و مجالسه و غرفه و شرفه و سائر حيطانه ، فإن كان مبنيا بحجارة مهندمة قد لوحك بينها حتّى صارت كأنّها حجر واحد لا يبين منها مجمع حجرين ، فإنّه لعجب ، و إن كان حجرا واحدا فكيف نقرت بيوته ،

و خزائنه و حجراته و دهاليزه و شرفاته ؟ فهذا أعجب ، لأنّه عظيم جدّا كثير المجالس و الخزائن و الغرف ، و في مواضع منه كتابه بالفارسية تتضمّن شيئا من أخبار ملوكهم ، و في كلّ ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة ٤ .

و فيه : و منها قصر شيرين قصر كسرى أبرويز الّذي قالوا : كان له

ـــــــــــــــــ

( ١ ) القاموس المحيط ٢ : ١٤٣ مادة ( نصر ) .

( ٢ ) معجم البلدان للحموي ٤ : ٣٥٢ ، بتصرف يسير .

( ٣ ) معجم البلدان للحموي ٤ : ٣٥٤ ، ٣٥٦ ، ٣٥٨ ، بتصرف يسير .

( ٤ ) المصدر نفسه .

١٢١

أشياء لم تكن لملك قبله و لا بعده ، فرسه شبديز ، و مغنيه و عوّاده و جاريته شيرين ، و قصر شيرين الّذي أحد عجائب الدّنيا ، و كان سبب بنائه أنّه أمر أن يبنى له ( باغ ) يكون فرسخين في فرسخين ، و أن يحصل فيه من كلّ صيد حتّى يتناسل جميعه ، و وكلّ بذلك ألف رجل ، فأقاموا في عمله و تحصيل صيوده سبع سنين حتّى فرغوا ، فلمّا تمّ صاروا إلى البلهبد المغنّي ، و سألوه أن يخبر الملك بذلك ، فعمل صوتا و غنّاه به و سمّاه « باغ نخجيران » أي : بستان الصيد .

فطرب الملك عليه و أمر للصنّاع بمال ، فلمّا سكر قال لشيرين : سليني حاجة .

فقالت : صيّر هذا البستان نهرين من حجارة تجري فيهما الخمور ، و تبني لي بينهما قصرا لم يبن في مملكتك مثله . فأجابها إلى ذلك ١ .

و في ( المروج ) : كتب ملك الصين إلى أنو شيروان : من فغفور ملك الصين صاحب قصر الدّر و الجوهر الّذي يجري في قصره نهران يسقيان العود ، و الكافور الّذي توجد رائحته على فرسخين ، و الّذي تخدمه بنات ألف ملك ، و الّذي في مربطه ألف فيل أبيض ، إلى أخيه كسرى أنو شيروان ، و أهدى إليه فرسا من درّ منضّدا ، عينا الفارس و الفرس من ياقوت أحمر ، و قائم سيفه من زمرّد منضد بالجوهر ، و ثوب حرير صيني عسجدي فيه صورة الملك جالسا في أيوانه ، و عليه حليته و تاجه ، و على رأسه الخدم و بأبديهم المذابّ ،

و الصورة منسوجة بالذهب ، و أرض الثوب لا زورد في سفط من ذهب ، تحمله جارية تغيب في شعرها ، تتلألأ جمالا ٢ .

و فيه : و كتب إليه ملك الهند : من ملك الهند و عظيم أراكنة المشرق و صاحب قصر الذهب و أبواب الياقوت و الدر ، إلى أخيه ملك فارس صاحب

ـــــــــــــــــ

( ١ ) معجم البلدان للحموي ٤ : ٣٥٤ ، ٣٥٦ ، ٣٥٨ بتصرّف يسير .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ١ : ٢٩٢ .

١٢٢

التاج و الراية كسرى أنو شروان . و أهدى إليه ألف منّ من عود هندي يذوب في النار كالشمع ، و يختم عليه كما على الشمع فتبين فيه الكتابة ، و جاما من الياقوت الأحمر فتحته شبر مملوءأ درّا ، و عشرة أمنان كافور كالفستق و أكبر من ذلك ، و جارية طولها سبعة أذرع تضرب أشفار عينيها خدّها ، و كأنّ بين أجفانها لمعان البرق من بياض مقلتيها مع صفاء لونها ، و دقّة تخطيطها و إتقان تشكيلها ، مقرونة الحاجبين ، لها ضفائر تجرّها ، و فرش من جلود الحيّات ألين من الحرير و أحسن من الوشي ، و كان كتابه في لحاء الشجر المعروف بالكاذي مكتوب بالذهب الأحمر ١ .

و كان لأنو شروان مائدة من الذهب عظيمة عليها أنواع من الجواهر ٢ .

و عن عليّ بن يقطين : كنّا مع المهدي بما سبذان فقال لي يوما : أصبحت جائعا فأتني بأرغفة و لحم بارد . ففعلت ، فأكل ثمّ دخل البهو و نام ، و كنّا نحن في الرواق فانتبهنا لبكائه ، فبادرنا إليه مسرعين فقال : أما رأيتم ما رأيت ؟ قلنا :

ما رأينا شيئا . قال : وقف عليّ رجل ، لو كان في ألف رجل ما خفي عليّ صوته و لا صورته فقال :

كأنّي بهذا القصر قد باد أهله

و أوحش منه ربعه و منازله

و صار عميد القوم من بعد بهجة

و ملك إلى قبر عليه جنادله

فلم يبق إلاّ ذكره و حديثه

تنادي عليه معولات حلائله

قال علي : فما أتت على المهدي بعد رؤياه إلاّ عشرة أيّام حتّى توفّي ٣ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ١ : ٢٩٣ .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ١ : ٢٩٤ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٢٣ .

١٢٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

الفصل السادس في النبوّة الخاصّة

١٢٤

١٢٥

١

من الخطبة ( ١ ) عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ اَلْقُرُونُ وَ مَضَتِ اَلدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ اَلْآبَاءُ وَ خَلَفَتِ اَلْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ ؟ مُحَمَّداً رَسُولَ اَللَّهِ ص لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلاَدُهُ وَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَوَائِفُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اِسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَةِ .

ثُمَّ اِخْتَارَ سُبْحَانَهُ ؟ لِمُحَمَّدٍ ص ؟ لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ اَلدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مُقَارَنَةِ اَلْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً ص . « على ذلك نسلت » من باب نصر ، أي : أتت بولد كثير .

« القرون » جمع القرن . و في الصحاح : القرن ثمانون سنة ، و يقال : ثلاثون سنة ، و القرن من الناس أهل زمان واحد . قال الشاعر :

١٢٦

إذا ذهب القرن الّذي أنت فيهم

و خلّفت في قرن فأنت غريب

١ « و مضت الدهور » أي : الأزمنة .

« و سلفت الآباء » أي : مضوا .

« و خلفت الأبناء » أي : صاروا خلفهم .

« إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم » هكذا في ( المصرية ) ،

و الصواب : ( صلى اللّه عليه و آله ) . كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٢ .

« لإنجاز » أي : قضاء .

« عدته » أي : وعده الّذي وقع على لسان أنبيائه ، كما حكى تعالى عن عيسى عليه السّلام . . . و مبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . . . ٣ ، و عن كتابه و كتاب موسى عليه السّلام الّذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأميّ الّذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل . . . ٤ .

و قال أبو طالب عمّه صلى اللّه عليه و آله :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا

رسولا كموسى خطّ في أوّل الكتب

« و تمام نبوّته » قال تعالى : . . . و لكن رسول اللّه و خاتم النّبيين . . . ٥ ،

و المراد تمام نبوّة اللّه تعالى باعتبار الجاعلية ، لا نبوّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله كما قال ابن أبي الحديد ٦ ، فالضمير في ( نبوّته ) راجع إليه تعالى مثل ( عدته ) .

« مأخوذا على النبيّين ميثاقه » قال تعالى و إذ أخذ اللّه ميثاق النبيّين لما

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٦ : ٢١٨٠ مادة ( قرن ) .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٨ ، و شرح ابن ميثم ١ : ١٩٩ .

( ٣ ) الصف : ٦ .

( ٤ ) الأعراف : ١٥٧ .

( ٥ ) الأحزاب : ٤٠ .

( ٦ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٨ .

١٢٧

آتيتكم من كتاب و حكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به و لتنصرنّه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين ١ .

و المراد من أخذ الميثاق على النبيّين الايجاب عليهم بيانهم لأممهم أنّ نبيّنا صلى اللّه عليه و آله خاتم الأنبياء ، و أنّ شريعته ناسخة لشرائعهم ، فيجب عليهم رفض شرائعهم و اتّباع شريعته .

« مشهورة سماته » أي : علاماته ، قال تعالى : الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم . . . ٢ و قال عزّ و جل : الّذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأمّيُّ الّذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحلّ لهم الطيّبات و يحرّم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم . . . ٣ .

و الآية من معجزاته القطعية الّتي يثبت بها نبوّته ، فإنّه لو لم يكن يعرفونه ، و لم يكن مكتوبا في كتبهم لأتوا بكتبهم إليه و إلى أصحابه ، و قالوا له :

أين كنت مذكورا و مكتوبا ؟ و لو كان ذلك لصار أمره باطلا ، و تفرّق الناس عنه و لا سيّما كان في أصحابه منافقون منتظرون لمثله .

و ممّن عرفه بسماته ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة ، و رغّبها في التزوّج به لذلك ، و زادها في رغبتها فيه صلى اللّه عليه و آله أخبار ميسرة غلامها بما سمع من أحبار الشام فيه صلى اللّه عليه و آله ٤ .

و ممّن عرفه بسماته زيد بن عمرو بن نفيل ، قال الجزري في ( كامله ) :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ٨١ .

( ٢ ) البقرة : ١٤٦ .

( ٣ ) الأعراف : ١٥٧ .

( ٤ ) سيرة ابن هشام ١ : ١٧٥ ، و غيره .

١٢٨

قال عامر بن ربيعة : سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول : إنّا لننتظر نبيّا من ولد إسماعيل ثمّ من بني عبد المطّلب ، و لا أراني أدركه ، و أنا أؤمن به و اصدّقه و أشهد أنّه نبيّ ، فان طالت بك حياة و رأيته فاقرئه منّي السلام ، و سأخبرك ما نعته حتّى لا يخفى عليك . قلت : هلمّ قال : هو رجل ليس بالطويل و لا بالقصير ، و لا بكثير الشعر و لا بقليله ، و لا تفارق عينيه حمرة ، و خاتم النبوّة بين كتفيه ، و اسمه أحمد ، و هذا البلد مولده و مبعثه ، ثمّ يخرجه قومه ، و يكرهون ما جاء به ، و يهاجر إلى يثرب ، فيظهر بها أمره . فإيّاك أن تنخدع عنه ، فانّي طفت البلاد كلّها أطلب دين إبراهيم عليه السّلام ، فكلّ من أسأله من اليهود و النصارى و المجوس يقول : هذا الدين و راك ، و ينعتونه مثل ما نعتّه لك ، و يقولون : لم يبق نبيّ غيره .

قال عامر : فلمّا أسلمت أخبرت النبيّ صلى اللّه عليه و آله قول زيد و أقرأته السلام ، فردّ عليه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ترحّم عليه ١ .

و منهم : أمّية بن أبي الصّلت ، قال ابن قتيبة في ( معارفه ) : كان أميّة قد قرأ الكتب ، و رغب عن عبادة الأوثان ، و كان يخبر بأنّ نبيّا يبعث قد أظلّ زمانه ، فلمّا سمع بخروج النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قصّته كفر حسدا له ، و لمّا أنشد النبيّ صلى اللّه عليه و آله شعره قال : آمن لسانه و كفر قلبه ٢ .

و فيه أيضا : كان أسعد بن كرب الحميري آمن بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله قبل أن يبعث بسبعمائة سنة ، و قال :

شهدت على أحمد أنّه

رسول من اللّه باري النّسم

فلو مدّ عمري إلى عصره

لكنت و زيرا له و ابن عم

و ألزم طاعته كلّ من

على الأرض من عرب أو عجم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٢ : ٤٦ .

( ٢ ) المعارف لابن قتيبة : ٦٠ .

١٢٩

و قال أبو طالب :

أمين حبيب في العباد مسوّم

بخاتم ربّ قاهر في الخواتم

يرى الناس برهانا عليه و هيبة

و ما جاهل في قومه مثل عالم

و لابن ظفر النحوي اللغوي كتاب مترجم ب ( خير البشر لخير البشر ) ،

ذكر فيه الارهاصات الّتي كانت بين يدي ظهور النبيّ صلى اللّه عليه و آله ١ .

و في ( كنز الكراجكي ) في التّوراة مكتوب : « إذا جاءت الأمّة الأخيرة تتّبع راكب البعير يسبّحون الربّ تسبيحا جديدا » و راكب البعير هو نبيّنا ، و الامّة الأخيرة أمّته ٢ .

و فيه : في السفر الخامس من التّوراة : « الربّ ظهر فتجلّى على سينين ،

و أشرف على جبل ساعير ، و أشرف من جبل فاران » و جبل فاران جبل مكّة ،

و ظهور الربّ ظهور أمره ٣ .

و فيه و في الإنجيل : « ابن البشير ذاهب ، و الفارقليطا آت من بعده » ٤ و من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المعارف لابن قتيبة : ٦٠ .

( ٢ ) كنز الفوائد للكراجكي : ٩١ ، و عيون الأخبار للصدوق ١ : ١٣١ بفرق يسير باللفظ ، و الاحتجاج للطبرسي : ٤١٩ عن الرضا عليه السّلام عن التّوراة .

( ٣ ) كنز الفوائد للكراجكي : ٩١ ، و جاء في التّوراة الموجودة في سفر التثنية ، و هو السفر الخامس ، الإصحاح ٣٣ الآية ٢ و لفظه : « فقال جاء الرب من سيناء و أشرق لهم من سعير و تلألأ من جبل فاران » .

( ٤ ) كنز الفوائد للكراجكي : ٩١ ، و عيون الأخبار للصدوق ١ : ١٣٢ بفرق يسير ، و الاحتجاج للطبرسي : ٤٢٠ عن الرضا عليه السّلام عن الانجيل ، و سيرة لابن هشام ١ : ٢١٥ ، و لفظة ( فارقليط ) معربة من اليونانية . و جاء هذا اللفظ في مواضع من الأصل اليوناني من العهد الجديد ، و معنى ما ذكر في متن الكتاب جاء في إنجيل يوحنا ،

الإصحاح ١٤ الآية ١٦ و ٢٦ ، و الاصحاح ١٥ الآية ٢٦ ، و الإصحاح ١٦ الآية ٧ . أمّا هذه الكلمة فجاءت في الترجمات العربية القديمة ( الفارقليط ) ، و في الترجمات العربية الجديدة ( المعزّي ) ، و أمّا معناه في اللغة اليونانية ( المستغاث ، المغيث ، الشفيع ، وكيل الدعاوى ) ، كما قاله في : ١٠٧٢ ، و غيره من كتب اللغة . و الظاهر أنّ ترجمة هذه الكلمة في ترجمات الكتاب المقدّس بمرادفات ( المعزّي ، المسلّي ، المريح ) خطأ من المترجمين السابقين ، كما صرّح بكونه خطأ في ١٤ : ٢٢٣ ، و لا يسع المقام

١٣٠

قول شعيا : قال له إليه إسرائيل : « فإذا رأيت راكبين يسيران أضاءت لهما الأرض أحدهما على حمار ، و الآخر على جمل » فراكب الحمار عيسى عليه السّلام ،

و راكب الجمل محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم ١ .

و من قول دانيال : « جاء اللّه بالبيان من جبل فاران ، و امتلأت السّماوات و الأرض من تسبيح محمّد صلى اللّه عليه و آله و أمّته » ٢ .

« كريما ميلاده » عن الصّادق عليه السّلام : كان إبليس يخترق السّماوات السبع ،

فلمّا ولد عيسى عليه السّلام حجب عن ثلاث سماوات ، و كان يخترق أربع سماوات السبع ،

فلمّا ولد النبيّ صلى اللّه عليه و آله حجب عن السبع كلّها ، و رميت الشياطين بالنجوم . و قالت قريش : هذا قيام الساعة ، كنّا نسمع أهل الكتب يذكرونه . و قال عمرو بن أمّية و كان من أزجر أهل الجاهلية : انظروا هذه النجوم الّتي يهتدى بها ، و يعرف بها أزمان الشتاء و الصيف ، فإن كان رمي بها فهو هلاك كلّ شي‏ء ، و إن كانت ثبتت و رمي بغيرها فهو أمر حدث .

و أصبحت الأصنام كلّها صبيحة مولد النبيّ صلى اللّه عليه و آله ليس منها صنم إلاّ و هو منكبّ على وجهه ، و ارتجس في تلك الليلة أيوان كسرى ، و سقطت منه أربع عشرة شرفة ، و غاضت بحيرة ساوة ، و فاض وادي السماوة ، و خمدت نيران فارس و لم تخمد قبل ذلك بألف عام ، و رأى الموبدان في تلك الليلة في المنام إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، و قد قطعت دجلة و انسربت في بلادهم ، و انفصم طاق ملك كسرى من وسطه ، و انخرقت عليه دجلة العوراء ، و انتشر للاستقصاء .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كنز الفوائد للكراجكي : ٩١ ، و الخرائج للراوندي ١ : ٦٦ ، و عيون الأخبار للصدوق ١ : ١٣٢ ، و الاحتجاج للطبرسي : ٤٢٠ عن الرضا عليه السّلام عن كتاب شعيا .

( ٢ ) كنز الفوائد للكراجكي : ٩١ ، و الخرائج للراوندي ١ : ٦٤ بفرق يسير عن دانيال عليه السّلام ، و قريبا منه في الخرائج ١ : ٦٣ عن كتاب حيقوق عليه السّلام .

١٣١

في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ، ثمّ استطار حتّى بلغ المشرق ، فلم يبق سرير لملك من ملوك الدّنيا إلاّ أصبح منكوسا و الملك مخرسا لا يتكلّم يومه ذلك ،

و انتزع علم الكهنة ، و بطل سحر السحرة ، و لم يبق كاهنة في العرب إلاّ حجبت عن صاحبها ، و عظمت قريش في العرب ، و سمّوا آل اللّه إلى أن قال و قالت آمنة : إنّ ابني و اللّه سقط فاتّقى الأرض بيده ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ، فنظر إليها ، ثمّ خرج منّي نور أضاء له كلّ شي‏ء ، و سمعت في الوضوء قائلا يقول :

« إنّك قد ولدت سيّد الناس فسمّيه محمّدا » و أتي به عبد المطلّب لينظر إليه ، و قد بلغه ما قالت أمّه ، فوضعه في حجره ، ثمّ قال :

الحمد للّه الذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

ثمّ عوّذه بأركان الكعبة ، و قال فيه أشعارا ، قال : و صاح إبليس في أبالسته فاجتمعوا إليه ، فقالوا : ما الّذي أفزعك يا سيّدنا ؟ فقال لهم : ويلكم لقد أنكرت السماء و الأرض منذ الليلة ، لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ ولد عيسى بن مريم ، فاخرجوا فانظروا ما هذا الحدث الّذي قد حدث .

فافترقوا ثمّ اجتمعوا إليه فقالوا : ما وجدنا شيئا . فقال إبليس : أنا لهذا الأمر . ثمّ انغمس في الدّنيا فجالها حتّى انتهى الى الحرم ، فوجده ( الحرم ) محفوظا بالملائكة ، فذهب ليدخل فصاحوا به ، فرجع ثمّ صار مثل الصرّ و هو العصفور فدخل من قبل حراء ، فقال له جبرائيل : وراك لعنك اللّه . فقال له :

حرف أسألك عنه يا جبرئيل ، ما هذا الحدث الّذي حدث منذ الليلة ؟ فقال له : ولد محمّد صلى اللّه عليه و آله . فقال له : هل لي فيه نصيب ؟ قال : لا . قال : ففي أمّته ، قال : نعم . قال :

رضيت ١ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الصدوق في أماليه : ٢٣٥ ح ١ المجلس ٤٨ .

١٣٢

« و أهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة » كاليهود و النصارى و المجوس .

« و أهواء منتشرة » كالثنويّة و عابدي الملائكة ، و عابدي الشمس ، قال ابن قتيبة : كان في العرب قوم يعبدون الشمس و يسمّونها الإلاهة . قال الأعشى :

فلم أذكر الرهب حتّى انفتلت

قبيل الإلاهة منها قريبا

١ و قال البلاذري : إنّ الأسبذيين قوم كانوا يعبدون الخليل بالبحرين ٢ .

و قال هشام الكلبي : هم ولد عبد اللّه بن زيد بن عبد اللّه بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، و قيل لهم الأسبذيون لأنّهم كانوا يعبدون فرسا ٣ .

قلت : يقال للفرس بالفارسية ( اسب ) .

و في ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : كان يقال لعمرو بن حبيب الفهري المحاربي جدّ جدّ ضرار بن الخطاب : آكل السقب ، لأنّه كان أغار على بني بكر ، و كان لهم سقب يعبدونه من دون اللّه ، فأخذه و أكله ٤ .

و السقب : الذكر من ولد الناقة .

و في ( حلية أبي نعيم ) قال أبو رجاء العطاردي : كنّا نجمع التراب في الجاهلية فنجعل وسطه حفرة ، فنحلب فيها ، ثمّ نسعى حولها و نقول :

لبيك لا شريك لك .

إلاّ شريكا هو لك .

تملكه و ما ملك ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لم أجده في موضعه من المعارف و لا عيون الأخبار .

( ٢ ) فتوح البلدان للبلاذري : ٨٩ .

( ٣ ) معجم البلدان للحموي ١ : ١٧١ .

( ٤ ) نسب قريش للزبيري : ٤٤٧ ، و النقل بتصرف .

( ٥ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٢ : ٣٠٦ .

١٣٣

و كنّا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثمّ نلقيه ١ .

« و طوائف » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( و طرايق ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٢ .

« متشتّتة » كالدهريّة و الوثنيّة ، كان لربيعة بيت يطوفون به يسمّى ذو الكعبات ، و كان لخثعم بيت كان يدعى كعبة اليمامة ، و كان فيه صنم يدعى الخلصة ، و لمّا هزمت بنو بغيض من غطفان صداء من مذحج قالوا : لنتخذنّ حرما مثل مكّة لا يهاج عائذه . فبنوا حرما و وليه بنو مرّة بن عوف ، فبلغ ذلك زهير بن جناب ، فقال : و اللّه لا أخلّي غطفان تتّخذ حرما . فغزاهم و ظفر بهم ،

و أخذ فارسا منهم في حرمهم ، فقتله و عطّل ذلك الحرم .

و كانت بنو حنيفة اتّخذوا في الجاهلية إلها من حيس فعبدوه دهرا طويلا ، ثمّ أصابهم مجاعة فأكلوه ، فقال رجل من بني تميم :

أكلت ربّها حنيفة من

جوع قديم بها و من إعواز

٣ و كان الحرث بن قيس السهمي و هو أحد المستهزئين بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله يأخذ حجرا يعبده ، فإذا رأى أحسن منه ترك الأوّل و عبد الثاني ، قيل : و فيه نزل أرأيت من اتّخذ إلهه هواه . . . ٤ .

و كان أهل الجاهلية ينحرون لصخرة يعبدونها ، و يلطخونها بالدم و يسمّونها سعد الصخرة ، و كان إذا أصابهم داء في إبلهم و أغنامهم جاؤوا إلى تلك الصخرة و تمسّحوا بها الإبل و الغنم ، فجاء رجل بإبل له يريد أن يتمسّح لها بالصخرة ، و يبارك عليها ، فنفرت و تفرّقت ، فقال :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٢ : ٣٠٦ .

( ٢ ) في شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٨ ، و شرح ابن ميثم ١ : ١٩٩ « طوائف » أيضا .

( ٣ ) هذه المعاني نقلها ابن هشام في السيرة ١ : ٧٨ ، و ابن قتيبة في المعارف : ٦٢١ ، و غيرهما .

( ٤ ) الكامل لابن الأثير ٢ : ٧١ ، و الآية ٤٣ من سورة الفرقان .

١٣٤

أتيت إلى سعد ليجمع شملنا

فشتّتنا سعد فما نحن من سعد

و هل سعد إلاّ صخرة بتنوفة

من الأرض لا تدعو لغيّ و لا رشد

١ و مرّ بسعد ذاك رجل و ثعلب يبول عليه ، فقال :

أ ربّ يبول الثعلبان برأسه

لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

٢ و في ( تاريخ اليعقوبي ) : كان أوّل شأن الأصنام أنّ الناس كانوا إذا مات لأحدهم الميّت الّذي يعزّ عليهم من أب أو أخ أو ولد صنعوا صنما على صورته ، و سمّوه باسمه ، فلمّا أدرك الخلف الّذي بعدهم ظنّوا ، و حدّثهم الشيطان : أنّه إنّما صنعت هذه لتعبد ، فعبدوها ، ثمّ فرّق اللّه دينهم ، فمنهم من عبد الأصنام ، و منهم من عبد الشّمس ، و منهم من عبد القمر ، و منهم من عبد الطير ، و منهم من عبد الحجارة ، و منهم من عبد الشجر ، و منهم من عبد الماء ،

و منهم من عبد الريح ، و فتنهم الشيطان و أضلّهم و أطغاهم ٣ .

« بين مشبّه للّه بخلقه » كاليهود حيث أثبتوا له ابنا و هو عزيز ،

و كالنصارى حيث أثبتوا له ابنا و هو عيسى ، و كصنف من العرب حيث أثبتوا له بنات ، أي : الملائكة ، فكانوا يعبدونها لتشفع لهم إلى اللّه تعالى ، و هم الّذين أخبر تعالى عنهم في قوله : و يجعلون للّه البنات سبحانه و لهم ما يشتهون ٤ ، و في قوله : و جعلوا له من عباده جزءا . . . ٥ .

« أو مشير إلى غيره » حيث جعلوا الصانع الدهر و النور و الظلمة ، و لمّا قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لقومه : أدعوكم إلى شهادة ألاّ إله إلاّ اللّه ، و خلع الأنداد . قالوا : ندع

ـــــــــــــــــ

( ١ ) السيرة لابن هشام ١ : ٧٦ .

( ٢ ) نقله أبو نعيم في الدلائل ، و ابن أبي حاتم عنهما شرح شواهد المغني ١ : ٣١٧ ٣١٨ عن راشد ابن عبد ربه .

( ٣ ) تاريخ اليعقوبي ١ : ٢١ .

( ٤ ) النحل : ٥٧ .

( ٥ ) الزخرف : ١٥ و أسقط الشارح شرح فقرة « أو ملحد في اسمه » .

١٣٥

ثلاثمائة و ستّين إلها ، و نعبد إلها واحدا ١ .

و قال ابن أبي الحديد : كان بعض العرب يقول : . . . ما هي إلاّ حياتنا الدّنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلاّ الدّهر . . . ٢ و بعضهم أقرّ بالخالق و أنكر البعث ،

و من قولهم في قتلى بدر :

أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحيى

و كيف حياة أصداء و هام

إذا ما الرأس زال بمنكبيه

فقد شبع الأنيس من الطعام

أ يقتلني إذا ما كنت حيّا

و يحييني إذا رمّت عظامي

و بعضهم أقرّ بالخالق و نوع من الإعادة ، و أنكر الرّسل ، و عبدوا الأصنام و زعموا أنّهم شفعاء في الآخرة ، و حجّوا لها و نحروا لها الهدي و قرّبوا القربان لها ، و حلّلوا و حرّموا ، و هم جمهور العرب الّذين قال تعالى عنهم : و قالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق . . . ٣ .

و منهم من يجعل الأصنام مشاركة للباري تعالى ، كقولهم في تلبيتهم : « لا شريك لك إلاّ شريكا هو لك تملكه و ما ملك » . و منهم من يجعلها و سائل ، و هم الّذين قالوا : . . . ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى اللّه زلفى . . . ٤ . و بعضهم يعتقد التناسخ ، و منهم أرباب الهامة الّتي قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله عنهم : « لا عدوى و لا هامة و لا صفر » ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٥٤ .

( ٢ ) الجاثية : ٢٤ .

( ٣ ) الفرقان : ٧ .

( ٤ ) الزمر : ٣ .

( ٥ ) هذا الحديث كثير الطرق مضطرب اللفظ أخرجه أصحاب الصحاح و غيرهم ، و أقرب الألفاظ ما أخرجه مسلم في صحيحه ٤ : ١٧٤٢ ح ١٠١ و ١٠٣ ، جمع طرق أصحاب الصحاح الستة إلى أنس و ابن عمر و جابر و أبي هريرة و سعد بن مالك و ابن عطية و استقصى اختلاف ألفاظهم ابن الأثير في جامع الأصول ٨ : ٣٩٥ ح ٥٧٩٤ ، ٥٧٩٥ ، ٥٧٩٩ ، ٥٨٠٠ ، ٥٨٠٢ ، ٥٨٠٥ .

١٣٦

و قال ذو الإصبع :

يا عمر إن لا تدع شتمي و منقصتي

أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

و بعضهم مشبّهة و مجسّمة ، و منهم أميّة بن أبي الصلت ، فقال :

فوق العرش جالس قد

حطّ رجليه إلى كرسيه المنصوب

و كان فيهم متألّهة أصحاب الورع ، كعبد اللّه و عبد المطلب و أبي طالب و زيد بن عمرو بن نفيل و قسّ بن ساعدة و عامر بن الظرب ، و كان فيهم من يميل الى اليهودية ، كجماعة من التبابعة و ملوك اليمن ، و منهم نصارى كبني تغلب و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران ، و منهم من يميل الى الصابئة و يقول بالنجوم و الأنواء . . . ١ .

« فهداهم به من الضلالة ، و أنقذهم بمكانه من الجهالة » قال الشاعر :

رأيت الصّدع من كعب و كانوا

من الشنآن قد صاروا كعابا

و في ( الاحتجاج ) اجتمع عند النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوما خمسة أديان : ( اليهود ،

و النصارى ، و الدهرية ، و الثنوية ، و مشركو العرب ) فقالت اليهود : نحن نقول :

عزيز ابن اللّه و قد جئناك يا محمّد لننظر ما تقول ، فان تبعتنا فنحن أسبق إلى الصوب منك ، و إن خالفتنا خصمناك . و قالت النصارى : نحن نقول : إنّ المسيح ابن اللّه اتّحد به ، و قد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق منك إلى الصواب ، و إن خالفتنا خصمناك . و قالت الدهرية : نحن نقول : لا بدء لها و هي دائمة ، و قد جئناك لننظر في ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق منك إلى الصواب ، و إن خالفتنا خاصمناك . و قال الثنوية : نحن نقول : النور و الظلمة هما المدبّران ، و قد جئناك لننظر في ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك ، و إن خالفتنا خصمناك . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : آمنت باللّه وحده لا شريك له ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٩ ، و النقل بتصرف و تلخيص .

١٣٧

و كفرت بكلّ معبود سواه . ثم قال لهم : إنّ اللّه قد بعثني كافة للناس بشيرا و نذيرا و حجّة على العالمين ، سيردّ كيد من يكيد دينه في نحره . ثم قال لليهود :

أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجّة ؟ قالوا : لا . قال : فما الّذي دعاكم إلى القول بأنّ عزيزا ابن اللّه ؟ قالوا : لأنّه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعدما ذهبت ، و لم يفعل بها هذا إلاّ لأنّه ابنه . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : فكيف صار عزيز ابن اللّه دون موسى ، و هو الّذي جاء إليهم بالتوراة و رئي منه المعجزات ؟ و لئن كان عزيز ابن اللّه لما أظهر من الكرامة باحياء التوراة ، فلقد كان موسى بالنبوّة أولى ،

و لئن كان هذا المقدار من الكرامة لعزير توجب كونه ابنه ، فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجلّ من النبوّة ، ثمّ إن كنتم تريدون النبوّة الولادة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم هذه ، من ولادة الامهات الأولاد بوطء آبائهم لهنّ فقد كفرتم باللّه ، و شبّهتموه بخلقه ، و أوجبتم فيه صفات المحدثين ، و وجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا ، و أنّ له خالقا صنعه و ابتدعه . قالوا : لسنا نعني هذا ، فإنّ هذا كفر كما قلت ، لكن نعني أنّه ابنه على معنى الكرامة و إن لم يكن هناك و لادة ، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه و إبانته بالمنزلة من غيره : « يا بنيّ » و « إنّه ابني » لا على إثبات ولادة منه ، لأنّه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي منه لا نسب بينه و بينه ، و كذلك لمّا فعل اللّه بعزير ما فعل ، كان قد اتّخذه ابنا على الكرامة لا الولادة . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم :

فهذا ما قلته لكم ، إنّه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ، فإنّ هذه المنزلة لموسى أولى و إنّ اللّه يفضح كلّ مبطل بإقراره ، و يغلب على حجّته ، إنّ ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر ممّا ذكرته لكم ، لأنّكم قلتم : إنّ عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه و بينه : « يا بنيّ » لا على طريق الولادة، فقد تجدون هذا العظيم يقول لأجنبي آخر : « هذا أخي » و لآخر « هذا شيخي

١٣٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و أبي » و لآخر هذا « سيّدي » و « يا سيّدي » على سبيل الإكرام ، و إنّ من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، فإذن يجوز عندكم أن يكون موسى أخا له و شيخا له أو أبا أو سيّدا لأنّه قد زاده في الإكرام ممّا لعزير . فبهت القوم و تحيّروا و قالوا : يا محمّد أجّلنا نتفكّر في ما قلته لنا . فقال : انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم اللّه .

ثمّ أقبل على النصارى ، فقال لهم : و أنتم قلتم : إنّ القديم عزّ و جلّ اتّحد بالمسيح ابنه . ما الّذي أردتم بهذا القول ؟ أردتم بأنّ القديم صار محدثا بوجود هذا المحدث ، أم المحدث الّذي هو عيسى صار قديما بوجود القديم الّذي هو اللّه ، أو معنى قولكم اتّحد به أنّه اختصّه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه ؟ فإن أردتم أنّ القديم صار محدثا فقد أبطلتم ، لأنّ القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا ، و إن أردتم أنّ المحدث صار قديما فقد احلتم ، لان المحدث أيضا محال أن ينقلب فيصير قديما ، و إن أردتم في قولكم : « اتّحد به » أنّه اختصّه و اصطفاه على سائر عباده ، فقد أقررتم بحدوث عيسى و بحدوث المعنى الّذي اتّحد به من أجله ، لأنّه إذا كان عيسى محدثا و كان اللّه اتّحد به ، بأن أحدث فيه معنى صار أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسى و ذاك المعنى محدثين ، و هذا خلاف ما بدأتم به تقولونه .

فقالت : إنّ اللّه لمّا أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتّخذه ولدا على جهة الكرامة . فقال لهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الّذي ذكر تموه ثم أعاد ذلك كلّه فسكتوا إلاّ رجلا واحدا منهم ،

فقال للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : أو لستم تقولون : إنّ إبراهيم خليل اللّه ؟ قال : قد قلنا ذلك . قال الرّجل : فإذا قلتم ذلك ، فلم منعتمونا أن نقول : إنّ عيسى ابن اللّه ؟ فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّهما لا يتشابهان ، لأنّ قولنا : إبراهيم خليل اللّه ، إنّما هو مشتق من

١٣٩

الخلّة أو الخلّة ، فأمّا الخلّة فإنّما معناها الفقر و الفاقة ، فقد كان خليلا ، أي : إلى ربّه فقيرا و إليه منقطعا ، و عن غيره متعفّفا معرضا مستغنيا ، و ذلك لمّا أريد قذفه في النار ، فرمي به في المنجنيق ، فبعث اللّه إلى جبرئيل أدرك عبدي ، فجاء فلقيه في الهواء ، فقال : كلّفني ما بدالك ، قد بعثني اللّه لنصرتك . فقال : بل حسبي اللّه و نعم الوكيل ، إنّي لا أسأل غيره ، و لا حاجة لي إليك . فسمّاه خليله ، أي :

فقيره و محتاجه ، و المنقطع إليه عمّن سواه ، و إذا جعل معنى ذلك من الخلّة و هو أنّه قد تخلّل معانيه ، و وقف على أسرار لم يقف عليها غيره ، كان معناه العالم به و بأموره ، و لا يوجب ذلك تشبيه اللّه بخلقه ، ألا ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ، و إذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ، و إنّ من يلده الرّجل و إن أهانه و أقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده ، لأنّ معنى الولادة قائم ؟ ثمّ إن وجب لأنّه قال : إبراهيم خليلي ، أن تقيسوا أنتم فتقولون : إنّ عيسى ابنه ، وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى أنّه ابنه ، و أن يجوز أن تقولوا على هذا المعنى :

إنّه شيخه و سيّده و عمّه و رئيسه و أميره كما ذكرته اليهود . فقال بعضهم لبعض : و في الكتب المنزلة أنّ عيسى قال : « أذهب إلى أبي » . فقال لهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله : فان كنتم بذلك الكتاب تعملون ، فانّ فيه : « أذهب إلى أبى و أبيكم » ،

فقولوا : إنّ جميع الّذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء اللّه ، كما كان عيسى ابنه من الوجه الّذي كان عيسى ابنه ، ثمّ إنّ ما في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الّذي زعمتم أنّ عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له لأنّكم قلتم : إنّه ابنه لأنّه اختصّه بما لم يختصّ به غيره ، و أنتم تزعمون أنّ الذي خصّ به عيسى لم يخصّ به هؤلاء القوم الّذين قال لهم عيسى : « أذهب إلى أبي و أبيكم » ، فبطل أن يكون الاختصاص لعيسى ، لأنّه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى ، و أنتم إنّما حكيتم لفظة عيسى و تأوّلتموها على غير

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

مسائل حسن الطالع والحظ وعدمهما ، وما شابه ذلك ، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إلى هذه الأمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع ، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول : لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين ، ولا وراء الأوهام والخيال ، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم ، وفي نظمكم والاجتماعية ، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّا وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها ، وكانت قوية العزم والإرادة ، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك ، هذه الشعوب منتصرة حتما.

أمّا إذا حلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث ، وحلّ التراجع مكان الجرأة والنفاق والتفرقة مكان الاتحاد ، وحبّ النفس مكان الفداء ، وحل التظاهر والرياء محل الإخلاص والإيمان ، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) تبيّن أسمى قانون في حياة الإنسانية ، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإنسانية ، وأوضحها حتى لأولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإنسان ، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء : إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها ، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيدا ، فإنّ تأريخ الإسلام ، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد انتصارات باهرة في بداياته ، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة

٤٦١

بعدها.

ففي القرون الأولى كان الإسلام يتقدم في العالم بسرعة ، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة ، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم ، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معا ، وجاء بمدينة زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها ، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة ، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي ، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إلى الآخرين طلبا لوسائل الحياة الابتدائية ، ويبعثون بأبنائهم إلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم ، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة.

لكن الأمور بلغت حدا بحيث أنّهم لم يصدروا علما وصناعة ، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوما مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مائتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلّا أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة ، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهرا وسنين لإرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إلى أية نتيجة سيصلو؟

ألم يعد الله عباده بالقول :( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) أو قوله :( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

أو قوله :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3) .

__________________

(1) الروم ، 47.

(2) المنافقون ، 8.

(3) الأنبياء ، 105.

٤٦٢

فهل الله عاجز ـ والعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك ، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات ، ويدعو إلى العودة إلى أعماق الوجدان ، والنظر في ثنايا المجتمع ، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم ، وأنّ الألطاف والرحمة الإلهية تعم الجميع ، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدرا فصرتم إلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال : إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة ، وانتهى ولن يعود ، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضا ، فإنّكم إذا عدتم إلى الله وأحكمتم أسس إيمانكم ، ووعت عقولكم ، وذكرتم عهودكم ومسئولياتكم ، وتصافحت الأيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدوّية للنهضة ، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد ، فسوف تعود المياه إلى مجاريها ، وستنقضي الأيّام السود وترون أفقا مشرقا وضاء ، وستعود أمجادكم العظيمة ، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم ، وليكتب علماؤكم ، ويجاهد مقاتلوكم ، ويسعى التجار والعمال ، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم ، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والاستعطاف!! ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة ، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب ، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة ، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية ، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية

٤٦٣

سلسلة من الإمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين ، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافا ، بل لا بدّ من الاستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

الأولى : ما ورد عن الإمام الصّادق في هذا الشأن إذ قالعليه‌السلام «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنبا يستحقق بذلك السلب»(1) .

والثّانية : ما نقرؤه في حديث آخر لهعليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك : إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء ، فتحولوا عمّا أحبّ إلى ما أكره إلّا تحولت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحبّ إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

2 ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ ، ولا في سائر الأمور

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح ، هو أنّه ليس للإنسان مصير خاص قد تعين من قبل ، ولا يقع تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التأريخ» و «جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإنسانية ، ويجعل التحوّلات في الأسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها ، وهو إرادة الإنسان نفسه! فبناء على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقدر الجبري ، ويقولون : إنّ الأمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإجبارية ، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 193.

٤٦٤

وأصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والمعامل والمصانع.

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإسلامية ، ويرفضه القرآن ، فالإنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه ، فيصنع لها الفخر والنصر ، وهو الذي يسوق نفسه إلى الابتلاء والمذلة ، فداؤه منه ودواؤه بيده ، فإذا لم يغير نفسه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

٤٦٥

الآيات

( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) )

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إلى طائفة أخرى من أعداء الإسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المليئة بالأحداث ، إلّا أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مرّا وكانت عاقبة أمرهم خسرا. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّهم ، الأسلوب الذي فيه عبرة للآخرين ، كما فيه درء لخطر هذه الطائفة.

٤٦٦

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

ولعل التعبير ب( الَّذِينَ كَفَرُوا ) يشير إلى أنّ كثيرا من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا لما وجدوه مكتوبا عنه في كتبهم ، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر ، فكفروا به وأظهروا عنادا شديدا في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم ، وكما يقول القرآن الكريم :( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وتقول الآية الأخرى :( الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ) (1) . والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الإضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلا هم يخافون الله تعالى ، ولا يحذرون من مخالفة أوامره ، ولا يراعون القواعد والأصول الانسانية :( وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ) .

والتعبير بـ «ينقضون» و «لا يتقون» وهما فعلان مضارعان ، هذا التعبير بهما يدلّ على الاستمرار ، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضوا عهودهم مرارا.(2) .

والآية بعدها توضح كيفية أسلوب مواجهة هؤلاء فتقول :( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) أي قاتلهم بشكل مد مرّ بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ

__________________

(1) «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة ، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم كما يرد هذا الاحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

(2) بالإضافة إلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضا وهي «في كل مرّة»

٤٦٧

الشيء بدقة وسرعة ، وهي إشارة إلى وجوب التنبه والاطلاع السريع والدقيق على قراراتهم ، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأخرى من الأعداء وناقضي العهود ، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون ، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضا ويتجنبوا الحرب مع المسلمين ، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين ، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم ، إلّا أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافا ودون سبب بل عند ما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم ، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإنباذ» وهي بمعنى «الإلقاء» أو «الإعلام» و «الرّد» أي : ردّ عليهم عهودهم وأعلن عن إلغائها جهرا.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها ، فألغه أنت من جهتك أيضا ، فهذا حكم عادل ، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

٤٦٨

المسلمين من نقض العهد ، وتحذرهم أن يكونوا هدفا وغرضا لهجوم العدوّ ، فهي تدعوهم إلى رعاية مبادئ الإنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يوجه تعالى الخطاب إلى ناقضي العهد ، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) .

* * *

٤٦٩

الآيات

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) )

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها :

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر ، وهو لزوم

٤٧٠

الاستعداد العسكري لمواجهة الأعداء ، فتقول :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته ، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والاستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلة :( وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) .

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء ، ويرد هذا الاستعمال كثيرا بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه ، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و «المرابطة» تعني حفظ الحدود ، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر ، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطا أيضا.

* * *

ملاحظات

1 ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر ، والتعبير في الآية واسع إلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماما.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظا ، إلّا أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق ، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب ، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثرا ما في الإنتصار على الأعداء ، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للانتصار على الأعداء هو كمية السلاح ، هم على خطأ كبير ، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوبا قليلة العدد وأسلحتها غير

٤٧١

متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة ، كما حصل للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناء على ذلك ، ومضافا إلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الاقتصادية والثقافية والسياسية ، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها ، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع ، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبل»(1) .

ونقرأ في رواية أخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح(2) .

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(3) .

ونجد رواية أخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول : «منه الخضاب بالسواد»(4) .

فترى أنّ الإسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماما ليستعملوا الخضاب ، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم ، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناء على ذلك ، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 164 ـ 165.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السّابق.

٤٧٢

جدّا.

ولكن مع الأسف ، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح ، لا نجد فيهم أثرا لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم ، كأنّهم قد نسوا كل شيء. ولا هم يستغلّون قواهم الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا ما زلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وانحطاطنا على رقبة الإسلام ، ونقول : إذا كان الإسلام داعية ترقّ وتقدم ، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!

ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) إذا أضحى شعارا شاملا في كل مكان ، ينادي ، به الصغير والكبير ، والعالم وغير العالم ، والمؤلف والخطيب ، والجندي والضابط ، والفلاح والتاجر ، والتزموا به في حياتهم وطبقوه ، كان كافيا لجبران التخلفّ والتأخر.

إنّ سيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العملية وأئمّة الإسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعا ، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح ، وشد الأزر ورفع المعنويات ، وبناء معسكرات التدريب ، وإختيار الزمان المناسب للهجوم ، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية ، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحا جديدا مؤثرا صنع في اليمن أيّام معركة حنين ، فأرسل النّبي جماعة إلى اليمن لشرائه فورا.

ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ على شعار المشركين «أعل هبل ، اعل هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم : «إنّ لنا العزى والعزى لكم» ، بقوله : «الله مولانا ولا مولى لكم» ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في

٤٧٣

مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.

ومن التعاليم الإسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية ، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة ، فهو مثل آخر على تفكير الإسلام العميق إلى جانب الاستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.

2 ـ واللطيفة المهمّة الأخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تخلق على مرور الزمان ولا تغدو بالية أو منسوخة برغم القدم ، فجملة( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام ، كما هي الحال اليوم ، وسيبقى مفهومها حيا إلى عشرات الآلاف من السنين الأخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة ، إذ أن جملة «ما استطعتم» عامّة ، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.

3 ـ ويرد هنا سؤال وهو : لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.

وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانونا شاملا لكل عصر وزمان ، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليما مهما خاصا بعصر النّبي ، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر ، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب ، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع ، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية :

ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إلى الهدف المنطقي والإنساني من وراء هذا الموضوع ، فيقول : إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في

٤٧٤

مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الأخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم ، وليس الهدف هو توسعة الاستعباد والاستعمار في العالم ، بل الهدف من ذلك هو( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) !

لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإنسانية ، ولا يفهمون غير منطق القوّة!

فإذا كان المسلمون ضعافا ، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون ، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية ، فإنّ أعداء الحق والعدل والاستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.

واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسما من الأراضي الإسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة ، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل ، وقتلوا المئات من الأبرياء ، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية ، وأحالوها إلى انقاض ، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أخرى إلى سجلهم الأسود في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل ، وأصدرت الأمم المتحدة بيانا دعت فيه إلى إخلاء هذه الأرض ، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الاستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني ، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.

فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا ، لتقول لنا : جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إلى مكانه الأوّل.

٤٧٥

وممّا يثير النظر ويسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و «عدوّكم» وذلك إشارة إلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد والدفاع عن الإسلام ، بل الهدف هو حفظ رسالة الإسلام الإنسانية ، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداء الله وأعداء الحق والعدل والإيمان والتوحيد والأخلاق الإنسانية ، فينبغي الردّ عليهم انطلاقا من هذا المجال.

وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم ، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية ، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله ، وفي مسير إحياء الحق والعدل.

ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لا تعرفونهم فتقول :( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ من هم المقصودون في الآية «الذين لا تعلمونهم»

بالرّغم من أنّ المفسّرين احتملوا في هذه الطائفة : الذين لا تعلمونهم احتمالات كثيرة ، فقال بعضهم : إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم ، وقال آخرون : إنّها إشارة إلى الأعداء مستقبلا ، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.

إلّا أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم ، فإذا قوى جيش الإسلام فإنّ أولئك سيقعون

٤٧٦

في حيرة واضطراب ويرحلون ، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (101) من سورة التّوبة إذ تقول :( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الإسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.

2 ـ الاستعداد في كل مكان وزمان

وتتضمن الآية تعليما لمسلمي اليوم أيضا ، وهو أنّه لا ينبغي الاكتفاء بالاستعداد لأعداء الإسلام الذين تعرفونهم ، بل عليكم أن تنتبهوا للأعداء الاحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة ، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما منوا بهجمات الأعداء المفاجئة.

وفي نهاية الآية إشارة إلى موضوع مهم آخر ، وهو أنّ الاستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة ، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له ، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال ، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله ، ولن ينقص منه شيء أبدا( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) فيرجع إليكم جميعه ، بل أكثر ممّا أنفقتم( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإسلام وقوته وعظمته ، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضا ، فبناء على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.

كما أنّ ثوابا أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله ، فمع هذه الحال لا تظلمون ، بل ستنالون خيرا كثيرا.

٤٧٧

وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع ، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء ، مالا كان أو نفسا أو فكرا أو منطقا أو قوة أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية والعسكرية ، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم ، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم ، وبناء على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبدا.

أهداف الجهاد في الإسلام وأركانه :

واللطيفة الأخرى التي تستفاد من هذه الآية ، وتكون جوابا على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم ، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه ، فالآية تقول بوضوح : إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم ، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّا في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.

فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم ، وما صرّح به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإسلام هو دين السيف ، وتارة يقولون بأنّ الإسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد ، ويقيسون النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر محتلي البلدان في التاريخ.

وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعود إلى القرآن ، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع ، لتتّضح لهم كل تلك الأمور.

٤٧٨

الاستعداد للصّلح :

مع أنّ الآية السابقة أو ضحت هدف الجهاد في الإسلام بقدر كاف ، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) .

ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضا ، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل ، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضا ، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إلى جهة ، لذلك يمكن الاستناد في تفسير هذه الآية إلى جذر اللغة تارة ، وإلى مفهومها الثّانوي تارة أخرى.

ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عند ما يراد التوقيع على معاهدة الصلح ، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل ، فتقول :( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

ومع ذلك فهي تحذر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من احتمال الاحتيال والخداع في دعوة الأعداء ، إلى الصلح ، فقد تكون دعوة للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة ، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر ، إلّا أنّ الآية تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يخشى هذا الأمر أيضا ، لأنّ اللهعزوجل سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال ، إذ تقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ) .

وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة ، لأنّ الله( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .

فكم أرادوا بك كيدا ، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنة ، لكنّهعزوجل حفظك ورعاك في مواجهة

٤٧٩

كل ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعا في الدفاع عنك ، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين ، ولكنّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) .

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظا وحقدا بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما ، وسيكونون صفا واحدا متراصا ، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن ، ولم يكن هذا الإمر مقتصرا على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار ، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضا الذين جاءوا من مكّة ، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإسلام ـ حب ومودّة ، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضا ، لكن اللهعزوجل غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثمائة وثلاثة عشر من أبطال بدر ، منهم حوالي ثمانين نفرا من المهاجرين والباقي من الأنصار ، فكانوا جيشا صغيرا ، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.

ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب ، أو إيجاد تلك الألفة ، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية( لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين ، كأولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي ، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإمكان إزالتها ، لا بالمال ولا بالجاه والمقام ، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلّا بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم ، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605