بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110250 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بدرجة يطيعون اوامره وينفذون وصاياه الىٰ هذا الحدّ !

فأنظر ـ والكلام لابن سينا ـ الفارق الىٰ ايّ مستوىٰ ! اجل يا بهمنيار ، فلا يمكن الادعاء بما للعظماء كذباً.

الاصدقاء جميعهم : الحقيقة عين ما اشرت إليه.

السبب الحقيقي لنفوذ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله

العقيد : اصدقائي ارجو ان لا تستعجلوا الحكم ، مع ان كلام الشيخ لا يمكن انكاره الى حدّ ما ، فنفوذ الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس عادياً ، لكني اتصور ان جزءاً من نفوذ قدرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس الذين عاصروا ذلك العظيم هي الاعمال التي كانوا يرونها منه والتي كانوا يتصورونها معاجز ، في حين ان المعجزة والامر الذي ليس له اسباب وعلل طبيعية وعادية ، مشكوك فيه في عالمنا المعاصر ، والجزء الآخر من نفوذه والذي يرتبط بعصرنا فهو محصور بين المسلمين غير العلماء ، وطبيعي فالنفوذ الىٰ قلوب مثل هذه النماذج من الناس ليس امراً عجيباً أو صعباً.

طالب الطب ، حسن : انا اوافق سيادة العقيد في هذا الرأي.

الشيخ : اشكركم أيُّها السادة ، علىٰ طرحكم ما ترونه موضع اشكال بحرية تامة ودون مجاملات ، وهدفنا من طرح هذه المواضيع هو دراسة الاشكالات التي يراها الاصدقاء في مواجهة الدين الاسلامي المقدس ، والاجابة عليها.

٨١

الاصدقاء جميعهم : نحن مسرورون لهذا اللقاء ، وهذا اليوم الذي تعرّفنا فيه عليك لهو من اجمل ايام حياتنا ، فكلامك جميل ، واجوبتك وافية ، كما ان سفرنا يمضي بسرور ونحن مستفيدون من وقتنا.

الشيخ : تتلخص اشكالات سيادة العقيد في ثلاثة محاور :

الأول : ايمان اهل ذلك العصر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بالمعجزة الىٰ حدّ ما.

الثاني : من الصعب اليوم القبول بالمعجزة.

الثالث : نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم ، غالباً ما نجده بين غير المتعلمين وغير العلماء.

وسنتكلم في المواضيع الثلاثة ـ ان شاء الله ـ حسب طريقتنا ، اي بشكل مختصر ومفيد.

أمّا الموضوع الأوّل :

خلافاً لما قاله سيادة العقيد ، فأن اغلب اهالي الجزيرة العربية والمسلمون الذين عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تأثروا بقوانين الاسلام التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( طبعاً بالحد الذي كان المستوىٰ الفكري لذلك العصر يسمح به ) وبالاعجاز القرآني من حيث الفصاحة والبلاغة وكذلك بحياة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت غريبة عنهم ، وليست بسائر المعجزات.

لأنه : إذا كان ايمان العرب بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حدث بالمعاجز فقط ، كان لابدّ ان يكون تقدم الاسلام وانتشاره سريعاً في السنوات الثلاثة عشرة التي قضاها

٨٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد البعثة ، لان اكبر واعظم معجزاته كانت في مكة ، في حين ان نمو الاسلام في مكة وقياساً للسنوات العشرة التي قضاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة يعد لاشيء ، بل اصبحت الحياة له لا تطاق في مكة وهو مهدد بالقتل فيها مما اضطره للخروج منها ليلاً والهجرة الىٰ المدينة بأمر من الله تبارك وتعالىٰ ، اما المدينة فقد استقبلته واحتضنته وعاهدته في الدفاع عنه بكل ما تستطيع ، وقد وفو بعهدهم اليه حقاً ، لكن ما الذي دعىٰ أهل المدينة لاستقبال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتضانه والدفاع عنه بالغالي والرخيص ؟

لم تكن المعجزات هي التي جعلتهم يقومون بذلك ، لأنهم لم يروا أية معجزة منه يوم تعهدوا له بالدفاع عنه ، بل كان موسم الحج وقد جاؤا الىٰ مكة فسمعوا كلمات القرآن المحيرة ، وسألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاسلام وقوانينه واحكامه وما يدعوا اليه ، وبعد ان تعرفوا عليه آمنوا به طوعاً ، وسبب افتتانهم به هو ان قبيلتين منهم ( الأوس والخزرج ) كانتا تتقاتلان لقرن من الزمن ، وكانت بينهما دماء ومآسي ، فكم من الشباب قتلوا وكم من النساء ترمّلن وكم من الاطفال تيتموا وكم من الآباء ثكلوا.

كان اهل المدينة قد عانوا الكثير ، كانوا يعيشون حالة من التوحش الكامل ، وقد ملّوا من الجرائم والدماء ، وكان انحطاطهم الاخلاقي بمستوىٰ جعلهم يستشرون ضرورة وجود مصلح وقوانين عادلة تنقذهم من شقائهم ، كانوا بحاجة الىٰ قوة تستبدل البغض والحقد الذي في قلوبهم بالعاطفة والمحبة ، لقد فهموا ان عليهم ايقاف حمامات الدم تلك ونبذ حياة التوحش والظلم والجريمة.

٨٣

ولكن ، من هو الشخص الذي يقوم بذلك العمل الجبار ويبلغهم تلك الآمال ؟ من هو الرجل الذي يرفع لواء العدل ويجمع هؤلاء المظلومين تحت رايته ؟ وهل يمكن ان يجدوا مثل ذلك الشخص وبتلك المواصفات في بلاد مثل الجزيرة العربية ؟

اجل ، لقد رأىٰ اهل المدينة ذلك الرجل الذي ينشدونه في سفر حجهم وادركوا انه الوحيد الذي يستطيع انهاء وضعهم المأساوي ، ولهذا اجتمعوا حول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصروه في الشدائد والمشكلات ، ولماذا لا يفتتنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ولماذا لايفتدوه بأموالهم وانفسهم ، فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رآه ذو قلب سليم وشاهد صفاته التي لا تجتمع لأحد ، إلّا وخضع امامه واستسلم له ! فأي صخرة صماء ذلك الذي يرىٰ جميع تلك الفضائل : الوفاء والتواضع ، حسن الخلق ، نصرة المظلوم ، الرأفة ، الشجاعة ، الشهامة ، العفو ، الأدب ، الصدق ، الامانة ، عدم الاعتناء بالدنيا ومئات الفضائل الأخرىٰ ، ولا يمتلىء قلبه بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فهل يمكن لبشر عادي ان يكون هكذا ؟

اجل صفاته واخلاقه مع الناس ومع ابنائه وازواجه ومع اتباعه ومع العبيد والصغار و الخ هي التي جعلت الناس تفتتن به ويكون له نفوذ في قلوبها ، وليست المعجزات التي جاء بها.

٨٤

سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المليئة بالفخر

سيادة العقيد ! من أجل أن يتّضح الموضوع بشكل جيد ، ولكي تعرفوا هل معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو اسلوبه اخلاقي هو الذي سخر قلوب اهل زمانه له ، سأضطر الىٰ بحث مختصر حول اخلاق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفضائله وملكاته الفاضلة.

بلع العلى بكماله

كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله

صلّوا عليه وآله

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مبتسم علىٰ الدوام مع اهل بيته ، ولم يكن فظَّاً غليظاً معهم ، فقد كان يحنو عليهم ويعاملهم برأفة ، كان يحاول جهد الامكان ان لا يغتمّوا ولا يحزنوا ، وكان عادلاً بينهم حتىٰ انه لم يشتكي منه احد مدىٰ حياته ، يساعدهم في اعمال البيت ، وكان يقول : مساعدة الزوجة في عملها بالبيت صدقة ، ومع ان بعض نساءه كنّ يتجرأن عليه ويعاملنه وكأنه رجل عادي كسائر الرجال وكنّ يؤذينه ويغضبنه ويتعرضنّ عليه ويتدخلن في اعماله ، مع ذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله محافظاً علىٰ عدالته بينهنّ ، ويجب ان لا نتصور ان جميع وسائل الراحل كانت متوفرة لتلك النساء ، لانهنّ نساء امبراطور الاسلام ، أبداً فلا

٨٥

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان امبراطوراً ، ولا نساءه كنّ مثل حريم الاباطرة.

فلم يكن لهنّ قصور ولا غلمان وجواري ، وفي بعض الاحيان لم تتوفر لهنّ ابسط ضروريات الحياة ، لكن ثغر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الضحوك ووجهه البَشر وقلبه الرحيم العطوف ، كان بلسماً لكل وضنك ذلك العيش.

تقول اُمّ سلمة : احدىٰ نساء النبي :

في ليلة زفافي،حيث دخلت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كنت اسكن في غرفة لم يكن فيها الّا قليل من الشعير ومطحنة يدوية ووعاء للعجين وقدر لعمل الخبز وكوز ماء ، فطحنت الشعير وعجنته وصنعت اقراصاً من الخبز ، اكلتها. وهكذا كانت حياة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ في ليلة زفافهنَّ.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبنائه

لا يمكن وصف المحبة والعطف الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يغدقه علىٰ ابناءه ، لقد كان يحب ابناءه واحفاده كثيراً جداً ، كان يجلسهم علىٰ ركبتيه ويداعبهم ويقبل وجوههم ، حتىٰ انه كان يلاعبهم احياناً ، ومحبته لابنته الزهراءعليها‌السلام وابنائهاعليهم‌السلام معروفة ومشهورة.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه ومحبيه ، تشبه معاملته لابنائه ، ولهذا السبب كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله محبوباً عند اصدقائه ، الى حدّ يفوق التصوّر.

٨٦

وفي حادثة وقعت بعد معركة احد ، كانت مكة قد اعدّتها ودبّرتها ، حيث جاءت مجموعة من الاعراب الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة وطلبت ان يذهب معهم جماعة من المسلمين لتبليغ الدين وبيان الاحكام ، فأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم جماعة من المسلمين برئاسة عاصم بن ثابت ، لكن الأعراب قاموا بقتل المسلمين غيلة إلّا اثنين منهم اسروهم وارسلوهم الىٰ مكة وباعوهم علىٰ المشركين ، وكان زيد بن دثية احد الاسيرين ، فأشتراه صفوان بن اُمية ، لكي يقتله ثأراً لأبيه ، وبعد ان سجنه لفترة ، تقرر ان يُقتل في يوم معين.

وفي ذلك اليوم اجتمع اهل مكة جميعهم ، ليشاهدوا قتل ذلك الشاب المسلم ، انتقاماً لقتلاهم في بدر.

وفي النهاية ، حانت ساعة الاعدام ، فجاءوا ب‍ « زيد » وقد اجتمعت جميع طبقات مكة من كبارها ورؤساء قريش من التجار والمزارعين والنساء والفتيات والاطفال ، اجتمعوا اطرف المشنقة ، في تلك اللحظات التفت أبو سفيان وهو زعيم قريش الىٰ زيد وقال : أتحبُّ ان يكون محمداً مكانك هنا حتىٰ يعدم وترجع انت سالماً الىٰ اهلك ، اقسم عليك بمن تعبد ان تقول الصدق ؟

فأجابه زيد : يا أبا سفيان ، أقسم باللهِ ، أحبُّ ان اُقتل هنا ولا تصيب قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شوكة فتؤذيه ! إفصاح أبو سفيان بعد تلك الاجابة : لم أرَ احداً اعزّ من محمد عند اصحابه.

أجل ، كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ودوداً مع اصحابه للحد الذي جعلهم يهيمون بحبه ، فلم يحملهم في حياته شيئاً ، ومع انه كان القائد وزعيم المسلمين الذي

٨٧

فتح الجزيرة العربية واخضع الجميع للاسلام ، لكنه وفي احدىٰ اسفاره ارادوا ان يذبحوا شاة للأكل ، فتعهد كل واحد بعمل ، فقال احدهم : انا أذبحها ، وقال الآخر : انا اسلخها وقال الثالث : أنا اطبخها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانا اجمع الحطب للطبخ.

واضح ان العمل الذي تكفّل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله به اشقّ من أعمال الآخرين ، لأنه كان يحتاج الىٰ كمية كبيرة من حطب الصحراء ! لكي تطبخ شاة ، لذلك قال المسلمون : يا رسول الله ، نحن نجمع الحطب ولا تؤذي نفسك انت.

لم يقل المسلمون ذلك مجاملة منهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم بذلوا كل ما يملكون من اجله ، هؤلاء الناس لا يتحدثوان زيفاً وتملّقاً وانما لم يحبوا ان يتعب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : اعلم انكم لا تحبون ان اتعب ، لكني لا اُريد ان افضل علىٰ اصحابي ، والله لا يحب الذين يميزون انفسهم عن الآخرين.

وهكذا عندما بنىٰ المسلمون مسجد المدينة ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل معهم الحجارة والتراب ، وعندما حفروا الخندق(1) اختص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لنفسه حصة من العمل كسائر المسلمين ، بل انه كان يعمل اكثر من الآخرين.

________________

(1) هو الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة لصد الاعداء في معركة الاحزاب.

٨٨

اصدقائي !

ألم يكن اهل الجزيرة العربية محقّون في الخضوع لهذا الرجل والافتتنان به ؟! وهل رأيتم رجلاً في العالم يتعامل بهذه الروح السمحة والمحبة للخير مع اتباعه والذين يأتمرون بأوامره وهو في قمة هرم السلطة ؟! هذه التصرفات والمعاملة الاخلاقية لا توجد الّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه

لقد عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اعداءه كما كان يعامل اصدقاءه واصحابه ، فأي شخص لم ينتقم بشدة في اليوم الذي يتسلط فيه علىٰ اعدائه وينتصر عليهم ؟! لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان رؤوفاً بأعدائه ، ينظر اليهم بعين العطف ، وكان متسامحاً للحد الذي وصفوه ـ الاعداء ـ بالعظيم والكريم.

ففي غزوة ذات الرقاع ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفاً الىٰ جانب نهر ، وفجأة جاء سيل وحال بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ، فرأىٰ احد جنود العدو ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده وبعيداً عن معسكره ، فجاءه شاهراً سيفه ظاناً ان اللحظة مؤاتية لقتل الرسول ، وقال : يا محمد ، من سينجيك مني ؟

قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ربي.

ضحك الرجل مستهزءاً ، وهوىٰ بسيفه بقوة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن الله وقىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شره ، فوقعت به فرسه قبل ان يضرب ضربته ، ووقع علىٰ الارض ، فوقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فوق رأسه وأعاد عليه كلامه ، قال : من سينجيك

٨٩

مني ؟!

فقال الرجل وعيناه تبرق املاً : جودك وكرمك يامحمد !!

فما هو اساس ذلك الكلام في تلك اللحظات الحرجة ؟ هل قال الرجل كلامه تملّقاً ؟! بالتأكيد ، لم يقله تملّقاً.

لقد رأىٰ الرجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهراً سيفه فوق رأسه ، وتذكر اللحظات السابقة ، كان والوضح حرجاً بالنسبة له في الظاهر ، لانه لو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله كان قد فعل ماكان هو يريد فعله قبل لحظات ، الاّ انه لم يوفق لذلك ، والأمل الوحيد لذلك المشرك هو أن الذي يريد قتله ليس انساناً عادياً كسائر الناس بل هو رجل الحق ، كريم بمعنىٰ الكرم ، عفوّ ورؤوف ، لقد تكلّم الرجل المشرك بكلامه استناداً الىٰ تاريخ ذلك الرجل الذي يريد قتله ، فحياته مليئة بالكرم والبذل والعمل الصالح والمحبة ، ولا بدّ أنَّ المشرك تذكر تلك السنة التي اصاب القحط فيها مكة ، فكان ذلك الرجل الذي شهر سيفه الآن عليه ، مثل الأب الرحيم علىٰ ابناءه ، يشتري الطعام بأمواله واموال خديجة ( بعد الاستأذان منها ) ، كان يشتري القمح والشعير والابل ويقدمها الىٰ الضعفاء في مكة واطرافها ، وبذلك نجّاهم من الموت جوعاً.

كان المشرك يعلم ان هذا الرجل يحمل بين جنبيه قلباً عطوفاً رحيماً ، فكان محقاً بأن يأمل ويرجو في تلك اللحظات الحرجة تماماً ، لذلك قرر الاجابة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يعرفه عن ماضيه وعطفه واحسانه ، لكن الوقت كان ضيقاً واللحظة خطرة ، فليس هناك مجال للأسهاب في الكلام ، ولهذا اجاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله موجزاً ، وقال : « جودك وكرمك يا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله » ، أي عظمتك

٩٠

ومقامك وعفوك ورأفتك يمكن ان تنجيني.

أجل ، لقد فكّر ذلك الرجل بشكل صحيح ، وكان رجاءه في محله ، لقد انجاه كرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه عندما سمع تلك العبارة ، انزل السيف جانباً ، وقال للرجل : انهض واسرع الىٰ جيشك(1) .

أيُّها السادة !

ألا يستطيع هذا الرجل ان يسخر قلوب الناس بهذه الاخلاق والمكارم الالهية التي هي بذاتها من اكبر المعجزات ؟! هل ان تأثير هذه التصرفات في جذب قلوب الناس اقل من بيان سائر المعجزات ؟

اعجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاخلاقي عند فتح مكة

اشرنا من قبل أن اهل مكة شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ ثلاثة عشرة سنة من بداية البعثة ، تلك المعجزات التي لو رآها أي انسان لأعترف بالنبوة والرسالة ، إلّا انهم كانوا اصم من الصخر فلم تؤثر فيهم ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن اولئك الناس عندما شاهدوا عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم عند فتح مكة لانت قلوبهم وآمنوا بالدين.

لقد كان لمعاملة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في ذلك اليوم اكبر الاثر في اسلامهم ، وهو بنفس الوقت خير دليل علىٰ ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه :

________________

(1) روضة الكافي ، تأليف ثقة الاسلام الكلينيقدس‌سره

٩١

« ادبني ربي فأحسن تأديبي ».

كما انه نموذج كامل لأسلوبه الاخلاقي في التعامل مع اعدائه.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة دون قتال ( سوىٰ مقاومة صغيرة من بعض المشركين ابيدت علىٰ يد جيش الاسلام ).

ومكّة هي مسقط رأسه التي يهفو إليها قلبه علىٰ الدوام ، حتىٰ في الليلة التي اراد ان يهاجر فيها الىٰ المدينة ، نظر الىٰ اطرافها بحسرة ، واغرورقت عيناه بالدموع ، فنزل عليه الامين جبرائيل ووعده من جانب الله بأن يرجعه اليها. وكانت سنوات تمرّ علىٰ ذلك الوعد الالهي ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر ، فمضت اشهر وسنين ببطء وحان الوقت الذي ينجز فيه الوعد.

* * *

عقد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً مع كفار قريش وأهل مكة في الحديبية ، إلّا ان الكفار لم يعملوا بمفاد الصلح ، فكانت النتيجة ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عزم علىٰ فتح مكة بأمر من الله ، وسار نحوا بعشرة آلاف مسلم ، وقد علم اهل مكة من خلال ابي سفيان « الذي ذكرناه تفاصيل لقاءه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرب مكة » بالتعبئة العامة للمسلمين.

طوىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الطريق بين المدينة ومكة ، حتىٰ وصل الىٰ« ذي طوىٰ »(1) . نظر الىٰ ما حوله ، فوجد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل مستعدون

________________

(1) مكان مشرف علىٰ مكة.

٩٢

لنصرته وقلوبهم تطفح بالمحبة. فتذكّر يوم هجرته ، ذلك اليوم الذي خرج فيه خائفاً يريد الحفاظ علىٰ نفسه من مكة هذه. لكنه يعود اليها اليوم ومعه عشرة آلاف مقاتل من المسلمين الشجعان ، فمن الذي منحه تلك القوة ؟!

أهو غير ربّه الذي يدعوه ؟! بالتأكيد لا.

فلا احد يستطيع ان يحببه الىٰ قلوب الناس بهذا الشكل سوىٰ الله القادر والمهيمن ، اذن ، فاليوم هو اليوم الذي وعده به الله ، وقريب ما يتحقق الوعد الالهي.

نعم ، جميع ما حدث كان بنصر الله ، فلماذا لا يسجد له ، لماذا لا يعبده ؟ وكان ان صاح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا إله الّا الله ، وحده وحده ، انجز وعده ، ونصر عبده ، واعزّ جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نِعَم الله ، تلك النِعَم التي يعجز عن شكرها ، واتقدت شعلة الحب الالهي في قلبه اكثر من ذي قبل ، يريد ان يسجد لربه ، لكنه لا يزال على ظهر الناقة ، تجسم العشق الالهي ورأفة الله به بحيث لم يستطع الصبر لينزل من علىٰ ظهر الناقة كي يسجد ، فسجد شكراً لله وهو علىٰ الناقة ، ثم رفع رأسه من السجود ، فوقعت عيناه علىٰ مكة ، تلك المدينة التي تتوسطها الكعبة ، حيث بناها جده ابراهيم الخليلعليه‌السلام ، موطن آباءه والمكان الذي يهفو اليه قلبه.

جميع تلك الاسباب جعلته يناجي مكة ويظهر لها حبه ، فقال : الله يعلم احبك ، ولو لا ان اهلك اخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ، ولا ابتغيت بك بدلاً ، اني لمغتم على مفارقتك.

٩٣

فلماذا خاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة بهذا الكلام ؟!

وكأنما كان يسمع مسقط رأسه ، أي مكة هذه ، تعاتبه وتقول له : لماذا هجرتني ، وفارقتني ثمان سنوات ، ياحبيب الله ، انا ايضاً أحبك ، فلماذا تركتني الىٰ المدينة التي اخترتها بدلاً مني ، فهل كنت سيئة معك ؟!

وبعد أن أتمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه ، تحرك من ذي طوىٰ ودخل الحجون(1) ، فأغتسل هناك وركب ناقته حتىٰ يدخل مكة.

مكّة في انتظار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

اجتمع اهل مكة ووقفوا مع زعماء قريش ورؤساء القبائل الىٰ جانب الكعبة ، لكي ينظروا دخول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يريدون بذلك أمرين :

الأول : رؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني : معرفة مصيرهم.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة واستسلم الحجر الاسود من علىٰ الناقة ، ثم ارتفع صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتكبير :

الله اكبر الله اكبر

فتعالت معه حناجر عشرة آلاف مسلم الله اكبر ، كان صوت التكبير يملأ سماء مكة وينعكس في جبالها ، لكن تأثيره في قلوب المشركين كان اشدّ.

________________

(1) محل اقرب الىٰ مكة من ذي طوىٰ.

٩٤

لقد خاف زعماء قريش من ذلك الصوت ، وكأنما سمعوا صيحة من السماء ، فأضطربت قلوبهم واخذت تخفق بشدّة.

بعد التكبير ، ترجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناقة ، ودخل الكعبة كي يطهرها من رجز الاوثان ، فلا يجدر ببيت بُنيَ فيه الله ان يكون مأوىٰ الاثم ومركز الاصنام ، وكان علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يطهر البيت من تلك الاصنام والآلهه المصنوعة من الخشب أو الحجر.

وقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاطاحة بالاصنام الواحدة بعد الاُخرىٰ ، بعصاه ، وهو يقول :

( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1) .

( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) (2) .

أجل ، لقد انتهىٰ زمان الاصنام وعبادتها ، انتهى عصر الانحناء والخضوع امام آلهة صنعت من معدن أو خشب علىٰ هيئة البشر ، لقد حان الوقت الذي يعبد فيه الناس الله سبحانه وتعالىٰ ، ويخرجوا من ذلّ عبادة هذه الاوثان ، الىٰ عزّ عبادة رب العالمين.

وبعد ان فرغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الاطاحة بالاوثان ، توجه الىٰ اهل مكة ، فوجدهم قد اصطفوا مثل التماثيل التي صنعت من حجر ، وكأن علىٰ رؤوسهم الطير ، لا يتحركون ولا يحركون ساكناً ، ووجوهم المصفرة تعبر عن اضطرابهم الداخلي ( بعد ان شاهدوا قوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ) ، كانت عيونهم

________________

(1) سورة الاسراء : 81.

(2) سورة سبأ : 49.

٩٥

تريد الخروج من حدقاتها من شدة الخوف ، كانوا غارقين في افكارهم ، ويتصورون المصير الذي ينتظرهم ، بعد تلك الحروب التي خاضوها ضد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاذية التي آذوه ، لكنهم في نفس الوقت يرجون شيئاً من شخص الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن اهل مكة يعرفون جيداً ، ان الرجل الذي دخل مكة اليوم ظافراً منتصراً ، هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو القلب العطوف والرحيم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من شيمه العفو عند المقدرة والصفح عمن اساء له ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا يظلم حتىٰ اعتىٰ اعدائه واقساهم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كالآخرين الذي لا يفكرون عند انتصارهم سوىٰ بالانتقام ، فهو الذي وصفه الله سبحانه وتعالىٰ في القرآن ، فقال :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1)

فلماذا لا يرجوا أهل مكة فيه الخير ؟! ولماذا لا يمتزج خوفهم واضطرابهم بالامل ؟! لقد رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الخوف والرجاء في وجوههم ، لكنه اراد ان يسمعه منهم ، فقال لهم : ماذا تقولون وتظنون ؟

فأجابه اهل مكة : نقول خيراً ونظن خيراً ، اخ كريم وابن اخ كريم وقد قدرت.

كان جواب اهل مكة مزيج من الخوف والامل ، فعبارة « قد قدرت » استخدمت للتعبير عن الخوف ، لكن العبارات التي سبقت ذلك كانت مفعمة بالرجاء لكن كفة الامل والرجاء كانت تفوق احتمال الانتقام.

ومن حقِّ أهل مكة ان يأملوا العفو والمسح من مثل ذلك الرجل العظيم ،

________________

(1) سورة الانبياء : 107.

٩٦

لأنه لو كان يريد الانتقام منهم ، لما اعطىٰ أبا سفيان الامان ، وجعل بيته مأمناً لأهل مكة ، فلماذا لا يأملوا بعد ذلك ، في حين ان ابا سفيان في خارج مكة عندما التقىٰ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ان شاهد جيش المسلمين وهو واقف مع العباس عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان قد سمع سعد بن عباد رئيس قبيلة الخزرج ، يقول بصوت عال :

اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبىٰ الحرمة ، اليوم تذل قريش.

فخاف أبو سفيان بعد سماعة ذلك الكلام ، واخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخف يا ابا سفيان ، سعد مخطيء ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ، اليوم تعزّ قريش.

ألم يكن اهل مكة محقّون في رجائهم ؟ لذلك اجابوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : نقول خيراً ونظن خيراً.

أما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعندما سمع جوابهم ذلك ، اغرورقت عيناه المباركة بالدمع ، وعندما رأىٰ ذلك أهل مكة تجلت امام اعينهم جميع اعمالهم السيئة السابقة ، فتذكروا التهم التي كالوها له ، والسباب والرمي بالحجارة والحصار في شعب ابي طالب ومهاجمة بيته ليلاً لقتله واجباره علىٰ ترك وطنه الىٰ يثرب ، ومئات الاعمال الاخرىٰ التي جعلتهم يقفون ذلك الموقف النادم اليوم ، وشاهدوا ايضاً ذلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قاسىٰ ماقاساه منهم ، لكنه يقف اليوم ويعاملهم بلطف ورأفة وهو المنتصر والفاتح الذي يستطيع الانتقام.

فالخجل الذي اعتراهم من مواقفهم تلك من جهة ، والرأفة والحب الذي شاهدوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرىٰ ، اهاجتهم وجعلت اصواتهم ترتفع

٩٧

بالبكاء ، لقد كان الجميع يذرفون الدموع ، النادمون من سوء اعمالهم ، والمنتصرون الذين عادوا الىٰ وطنهم وحرروا قبلتهم ، حتىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذرف الدمع ، وبعد لحظات من تلك الحالة ، قال لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأقول لكم ما قاله أخي يوسفعليه‌السلام لأخوته الذين غدروا به :

( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

صحيح انكم لم تنظروا فيّ انكم قومي وعشيرتي ، فأستبحتم ايذائي والوقوف بوجهي ، ولكن لا تخافوا « اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، ولا يحق لاحد ان يتعرض لكم ولأموالكم.

وبهذه الكلمات المتقطبة ، خطّ علىٰ اعمالهم السيئة وغفر لهم اخطاء عشرين سنة بحقه.

اصدقائي الاعزاء !

أي واحدة من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تستطيع ان تسخر قلوب اعتىٰ الاعداء مثل هذا الحدّ الذي يفوق تصور البشر ؟ ألم يكن هؤلاء الناس ، هم انفسهم الذين شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ عشرين سنة ولم يأمنوا ولم تتغير نفوسهم ، بل كلما جاءهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعجزة وآية جديدة ، كانوا يزدادون غضباً وغيضاً وتتحد صفوفهم اكثر في عدائه ، في حين ان العفو العام الذي أعلنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحقيقة من معجزاته الاخلاقية التي ليس لها ________________

(1) سورة يوسف : 92.

٩٨

مثيل ، استطاع ان يحرك عواطفهم ، للحد الذي تعالىٰ فيه صوت البكاء من تلك القلوب القاسية حتىٰ ملأ ارجاء مكة.

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعو بالسوء

وفي معركة اُحد ، بعد ان دحر جيش الاسلام قوىٰ المشركين ، وعلىٰ اثر غفلة المسلمين وعدم اطاعتهم أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استفاد جيش المشركين من تلك الفرصة ، وهجم من جديد علىٰ المسلمين ، فكانت نتيجة حملاته المتكررة والشديدة ان فرّ المسلمون الّا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونفر من المجاهدين الذين صمدوا رغم شدة البلاء ، وقد جرح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسر سنّة وكان الخطر محيط به من كل جانب ، في تلك اللحظات ، قال له بعض اصحابه الذين صمدوا معه : ادعو يا رسول الله علىٰ اعدائك بالهلاك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بعثت لذلك ، وانما بعثت لأكون رحمة للعالمين.

اجل هذه النماذج قليلة من معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغلمانه

المعاملة التي كانت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غلمانه ، لا يوجد مثيل لها الّا في عترته الطاهرة ، فلم يكن يُحسن إليهم فقط ، ويعاملهم كأفراد الاسرة ، بل وصىٰ المسلمين بهم كثيراً ، فقال : اطعموهم مما تطعمون والبسوهم مما تلبسون. ولم يطلب منهم يوماً القيام بعمل يذلّهم أو يكون لهم عاراً ، ولم يكن يشكل علىٰ

٩٩

اعمالهم.

يقول أنس الذي لازم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنوات عديدة : خدمت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة سنوات ، فلم يزجرني بكلمة ابداً خلال تلك الفترة ، ولم يشكل علىٰ ايّ عمل قمت به لرأفته ، ولم يؤاخذني علىٰ شيء لم افعله أو عمل قصرّت فيه.

ورأفته كانت بحيث يقول أنس : طلب مني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً ان انجز له عمل ، لكني شغلت في الطريق بمشاهدة لعب الاطفال ، فمضىٰ علىٰ ذلك وقت كثير ، وانا لازلت انظر الاطفال في لعبهم ، وفجأة رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسك بقميصي من الخلف ، ويقول لي وهو يبتسم : اذهب الىٰ ما أرسلتك اليه.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

و في ( السبائك ) : ديانات العرب كانت متباينة مختلفة ، فصنف منهم قالوا بالدهر ، و صنف أقرّوا بالمبدأ و أنكروا المعاد ، و قالوا : . . . من يحيي العظام و هي رميم ١ ، و صنف عبدوا الأصنام ، و صنف عبدوا الملائكة ،

و صنف عبدوا الجنّ ، و صنف يميل الى اليهودية ، و صنف إلى النصرانية ،

و صنف إلى الصابئة ، و يعتقدون أنّ الكواكب فعّالة بأنفسها ٢ .

و روى ( سنن أبي داود ) : أنّ النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء ،

فكان منها : نكاح اليوم .

و الثاني : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فستبضعي منه ، و يعتزلها زوجها و لا يمسّها أبدا حتّى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الّذي تستبضع منه ، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها إن أحبّ ، و إنّما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ، فكان هذا النكاح يسمّى نكاح الاستبضاع .

و الثالث : يجتمع الرهط دون العشرة ، فيدخلون على المرأة كلّهم يصيبها ، فإذا حملت و وضعت و مرّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتّى يجتمعوا عندها ، فتقول لهم : قد عرفتم الّذي كان من أمركم ، و قد ولدت و هو ابنك يا فلان ، فتسمّي من أحبّت منهم باسمه ،

فيلحق به ولدها .

و الرابع : يجتمع الناس الكثير لا تمتنع ممّن جاءها ، و هنّ البغايا ، كنّ ينصبن على أبوابهنّ رايات يكن علما لمن أرادهنّ دخل عليهن ، فإذا حملت فوضعت ، جمعوا لها و دعوا لهم القافة ، ثمّ ألحقوا ولدها بالّذي يرون ، فالتاطه ،

و دعي ابنه لا يمتنع من ذلك .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) يس : ٧٨ .

( ٢ ) سبائك الذهب للسويدي : ١٠١ ١٠٢ ، و النقل بتلخيص .

١٦١

فلمّا بعث اللّه محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم هدم نكاح أهل الجاهلية كلّه إلاّ نكاح أهل الاسلام اليوم ١ .

قلت : و من الثالث كان تكوّن عمرو بن العاص ، و من الرابع تكوّن زياد بن أبيه ، لكن معاوية الحقه بأبيه أبي سفيان عن هواه لا بطريقة الجاهلية عن حكم القافة ، و لا بسنّة الاسلام بكونه للفراش عبيد .

« و في شرّ دار » قال المغيرة ليزد جرد : و أمّا منازلنا فإنّما هي ظهر الأرض ٢ .

« منيخون » أي : مقيمون ، و الأصل في الإناخة : إناخة الإبل على الأرض .

« بين حجارة خشن و حيّات صمّ » و في ( الصحاح ) : الصمّة : الذكر من الحيّات ٣ .

و في ( السير ) : قال رجل : كنت بالبادية ، فرأيت ناسا حول نار فسألت عنهم ، فقالوا : صادوا حيّات فهم يشتوونها ، فأتيتهم فرأيت رجلا منهم قد أخرج حيّة من الجمر ليأكلها ، فامتنعت عليه ، فجعل مدّها ، فما صرفت بصري عنه حتّى صرع ، فمات .

هذا ، و قال ابن قتيبة : جي‏ء إلى المتوكل بأسود من بعض البوادي ، يأكل الأفاعي و هي حيّة ، يتلقّاها بالنهش من جهة رؤوسها ، و يأكل ابن عرس و هو حيّ ، يتلقاه بالأكل من جهة الرأس ٤ .

هذا ، و قال ابن أبي الحديد : قوله عليه السّلام : « بين حجارة خشن و حيّات صمّ » يحتمل المجاز أيضا ، و هو أحسن ، يقال للأعداء : حيّات ، و يقال للعدو : إنّه حجر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سنن أبي داود ٢ : ٢٨١ ح ٢٢٧٢ ، و غيره .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ١٨ سنة ١٤ .

( ٣ ) صحاح اللغة ٥ : ١٩٢٨ مادة ( صم ) .

( ٤ ) لم أجده في المعارف و لا عيون الأخبار .

١٦٢

خشن المسّ ، إذا كان ألدّ الخصام ١ .

قلت : المقام ليس بمقام مجاز ، فلا جواز له فضلا عن أحسنيته . ثمّ إطلاق الحيّة و الحجر ليس مختصّا بالعدو كما قال بل يطلقان على الولي أيضا ،

فيطلقان على الرجل الشديد و ليّا أو عدوّا .

« تشربون الكدر » فلم يكن عندهم صاف ، قال الجاحظ في ( بخلائه ) في عنوان شرب العرب : كان للعرب شرب مجدوح ، و هو إذا بلغ العطش منهم المجهود نحروا الإبل و تلقّوا دمائها بالجفان كيلا يضيع من دمائها شي‏ء ، فإذا برد الدم ضربوه بأيديهم ، وجدحوه بالعيدان جدحا ، حتّى ينقطع فيعتزل ماؤه من ثفله ، كما يخلص الزبد بالمخيض و الجبن بالأنفحة ، فيتصافنون ذلك الماء ،

و يبتلعون به حتّى يخرجوا من المفازة . قال : و لهم شرب غضّ و هو عصارة الفرث إذا أصابهم العطش في المفاوز ٢ .

و في ( بلدان الحموي ) : سلاح : ماء لبني كلاب شبكة ملحة لا يشرب منها أحد إلاّ سلح ٣ .

« و تأكلون الجشب » قال الجوهري : طعام جشب و مجشوب ، أي : غليظ و خشن ، و يقال : هو الّذي لا أدم معه ٤ .

سئل اعرابي : ما تأكلون و ما تعافون ؟ قال : نأكل ما دبّ وهبّ إلاّ أمّ حبين . فقال السائل : تهنئي أمّ حبين العافية .

و قال المغيرة الأسيدي ليزدجرد : كنّا نأكل الخنافس و الجعلان

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٢١ .

( ٢ ) البخلاء للجاحظ : ٣٣٧ ، ٣٣٩ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) معجم البلدان للحموي ٣ : ٢٣٣ ، و المشترك و المفترق : ٢٥٠ .

( ٤ ) صحاح اللغة ١ : ٩٩ مادة ( جشب ) .

١٦٣

و العقارب و الحيّات ١ .

قوله عليه السّلام في رواية الكليني : « تأكلون العلهز و الهبيد » ٢ ، قال الجاحظ :

العلهز : القردان ترضّ و تعجن بالدم ٣ .

و قال أبو عبيدة : الهبيد ، حبّ الحنظل زعموا أنّه يعالج حتّى يمكن أكله ٤ .

و الهبيد : كان طعام عمر في الجاهلية ، فقالوا : ذكر عمر خشونة مطعمه و ملبسه في صباه فقال : لقد رأيتني مرة و أختا لي نرعى على أبوينا ناضحا أي بعير السقي قد ألبستنا أمّنا نقبتها النقبة : قطعة من ثوب قدر السراويل ،

يجعل لها حجزة محيطة من غير نيفق ، و يشدّ حجزة السراويل و زوّدتنا من الهبيد فنخرج بناضحنا ، فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي و خرجت أسعى عريانا ، فنرجع إلى أمّنا و قد جعل لنا لفيتة أي : ضربا من الطبيخ كالحساء من ذلك الهبيد فيا خصباه . ذكروا ذلك في غريب حديث عمر ٥ .

و لا بدّ أنّه عليه السّلام عرّض به حيث سألوه عنه و عن أخويه .

و عدّ الجاحظ في ( بخلائه ) في طعام العرب غير العلهز و الهبيد أطعمة أخرى مذمومة منها : الغثّ ، و الدعاع ، و القدّ ، و العسوم ، و منقع البرم ، و القصيد ،

و الحيّات ، و الستشهد لها بأبيات :

كقول الشاعر :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٣ : ١٨ سنة ١٤ .

( ٢ ) نقلا عن رسائل الكليني ، كشف المحجة : ١٧٤ .

( ٣ ) البخلاء للجاحظ : ٣٣٩ .

( ٤ ) لسان العرب لابن منظور ٣ : ٤٣١ مادة ( هبد ) ، و غيره ، لكن لم أجد من نقله عن أبي عبيد .

( ٥ ) النهاية لابن الأثير ٥ : ٣٣٩ مادة ( هبد ) ، و غيره .

١٦٤

لم يأكل الغث و الدعاع و لم

و قول الشاعر :

و لا أقوات أهلهم العسوم

و قول الشاعر :

من المشتوين القدّ في كلّ شتوة

و قول الشاعر :

و أنتم حلول تشتوون الأفاعيا

١ .

و قال أيضا : القوامة : نحاتة القرون و الأظلاف ، و القرّة : الدقيق المختلط بالشعر ، كان الرجل منهم لا يحلق رأسه إلاّ و على رأسه قبضة من دقيق ،

ليكون صدقة على الضرائك و طهورا له ٢ .

و قال الحموي : كان لقضاعة و لخم و جذام و أهل الشام صنم يقال له :

الأقيصر ، و كانوا يحجّون إليه و يحلقون رؤوسهم عنده ، فكان كلّما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كلّ شعرة قرّة من دقيق و هي قبضة و كانت هوازن تنتابهم في ذلك الإبّان ، فإن أدركه الهوازني قبل أن يلقي القرّة على الشعر ،

قال : أعطنيه يعني الدقيق فإنّي من هوازن ضارع ، و إن فاته أخذ ذلك الشعر بما فيه من القمل و الدقيق فخبزه و أكله . فقال معاوية الجرمي في أبيات :

أ لم تر جرما أنجدت و أبوكم

مع القمل في حفر الأقيصر شارع

٣ هذا ، و في ( شعراء ابن قتيبة ) : قال أبو عبيدة : دخلت على رؤبة بن العجّاج و هو يجيل جرذانا على النار ، فقلت : أتأكلها ؟ قال : نعم ، انّها خير من دجاجكم ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) البخلاء للجاحظ : ٣٣٧ ٣٤٠ .

( ٢ ) البخلاء للجاحظ : ٣٣٩ .

( ٣ ) معجم البلدان للحموي ١ : ٢٣٨ ، و النقل بتقطيع .

١٦٥

إنّها تأكل البرّ و التمر ١ .

« و تسفكون دماءكم » بغير الحقّ .

« و تقتطعون أرحامكم » حتّى كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق ، و يئدون بناتهم لئلاّ تصير إلى قبيلة أخرى .

« الأصنام » قال الجزري : قيل : الصنم ما كان له جسم أو صورة ، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن ٢ .

« فيكم منصوبة » لكلّ قبيلة منهم صنم ، و لابن الكلبي كتاب في أصنام العرب ، و في ( سيرة ابن هشام ) : اللاّت بيت لثقيف و يعظّمونه تعظيم الكعبة .

قال ضرار بن الخطاب الفهري :

و فرّت ثقيف إلى لاتها

بمنقلب الخائب الخاسر

٣ و فيه : قال ابن إسحاق : و اتّخذ أهل كلّ دار في دارهم صنما يعبدونه ، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسّح به حين يركب ، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجّه إلى سفره ، و إذا قدم من سفره تمسّح به ، فكان ذلك أوّل ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله ، فلمّا بعث اللّه تعالى رسوله محمّدا صلى اللّه عليه و آله بالتوحيد قالت قريش : أجعل الإلهة إلها واحدا إنّ هذا لشي‏ء عجاب ٤ .

و قالوا : لمّا ولّت خزاعة أمر البيت ، و كان أوّل من ولي عمرو بن لحي ،

بعث العرب على عبادة التماثيل ، و أكثر من نصب الأصنام حول الكعبة .

و قالوا : كان ودّ لكلب بدومة الجندل ، و سواع لهذيل برها ، و نسر لحمير ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ٢٣٠ .

( ٢ ) النهاية لابن الأثير ٣ : ٥٦ مادة ( صنم ) .

( ٣ ) سيرة ابن هشام ١ : ٤٢ بفرق يسير .

( ٤ ) سيرة ابن هشام ١ : ٧٨ ، و الآية ٥ من سورة ( ص ) .

١٦٦

و يغوث لهمدان ، و اللاّت لثقيف ، و العزّى لكنانة و قريش و مضر كلّها و بعض بني سليم ، و السعير لعنزة ، و عوص لبكر بن وائل . قال الأعشى :

حلفت بمائرات حول عوص

و أنصاب تركن لدى السعير

و مناة بالمشلّل لغسّان و الأوس و الخزرج ، و كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة ، و أساف و نائلة على الصفا و المروة .

و عن ( تهذيب الأزهري ) : الدوّار : صنم كانت العرب تنصبه يجعلون موضعا حوله يدورون به ، و اسم ذلك الصنم و الموضع الدوّار . و منه قول امرى‏ء القيس :

فعنّ لنا سرب كأنّ نعاجه

عذارى دوار في ملاء مذيّل

١ و في ( القاموس ) : الضمار ككتاب : صنم عبده العبّاس بن مرداس و رهطه ٢ ، و رضا : صنم كان لطيّ ، و به سمّي جدّ زيد الخيل : عبد رضا ٣ ،

و سواع : بالضم و الفتح و قرأ به الخليل صنم عبد في زمن نوح عليه السّلام ، فدفنه الطوفان ، فاستشاره إبليس فعبد و صار لهذيل ٤ .

و في ( المعجم ) : لمّا قتلت بنو أسد حجرا ، و خرج ابنه امرؤ القيس في طلب ثأره ، مرّ بتبالة و بها صنم للعرب تعظّمه يقال له : ذو الخلصة ، فاستقسم عنده بقداحه ، و هي ثلاثة : الأمر و الناهي و المتربّص ، فأجالها فخرج الناهي ،

فجمعها و كسرها و ضرب بها وجه الصنم ، و قال : مصصت بظر أمّك ، لو قتل أبوك ما نهيتني ، و قال :

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا

مثلي و كان شيخك المقبورا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب لابن منظور ٤ : ٢٩٧ مادة ( دور ) .

( ٢ ) القاموس المحيط ٢ : ٧٦ مادة ( ضمر ) .

( ٣ ) القاموس المحيط ٤ : ٣٣٥ مادة ( رضا ) و نص ما جاء فيه : « رضا : بيت صنم لربيعة » .

( ٤ ) القاموس المحيط ٣ : ٤٣ مادة ( سوع ) .

١٦٧

لم تنه عن قتل العداة زورا

ثم خرج فظفر ببني أسد ، و قتل قاتل أبيه و أهل بيته ، و ألبسهم الدروع البيض محماة و كحّلهم بالنار . و يقال : إنّه ما استقسم عند ذي الخلصة بعدها أحد بقدح حتّى جاء الاسلام و هدم .

و قالوا : كان لأهيب بن سماع صنم يقال له : راقب ، و استعان به الحرث المصطلقي في حربه ، فعقر له عقيرة ليستخيره في أمره ، فسمع منه صوتا هائلا ، فصار سبب هدايته ، و له قصّة طويلة .

و في ( أسد الغابة ) كان عمرو بن الجموح الأنصاري سيّدا من سادات بني سلمة ، و كان قد اتّخذ في داره صنما من خشب يقال له : مناف ، يعظّمه و يطهّره ، فلمّا أسلم فتيان بني سلمة ، كانوا يدخلون بالليل على صنمه فيحملونه ، و يطرحونه في بعض حفر بني سلمة ، و فيها عذر بني سلمة منكّسا على رأسه ، فإذا أصبح عمرو قال : و يلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟ ثمّ يغدو فيلتمسه ، فإذا وجده غسله و طيّبه ، ثمّ يقول : و اللّه لو أعلم من يصنع بك هذا لأخزينّه . يفعلون به ذلك كلّ ليلة ، فلمّا ألحّوا عليه جاء بسيفه فعلّقه عليه ، ثمّ قال له : إن كان فيك خير فهذا السيف معك . فلمّا أمسى عدوا عليه و أخذوا السيف من عنقه ، ثمّ أخذوا كلبا ميّتا فقرنوه معه بحبل ثمّ ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر الناس ، و غدا عمرو يبتغيه حتّى وجده مقرونا بكلب فأبصر رشده ، و كلّم من أسلم من قومه ، فأسلم و قال :

تاللّه لو كنت إلها لم تكن

أنت و كلب وسط بئر في قرن

١ و في ( حلية أبي نعيم ) عن أبي رجاء العطاردي : بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله و نحن على ماء لنا ، و كان لنا صنم مدوّر ، فحملناه على قتب ، و انتقلنا من ذلك الماء إلى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) معجم البلدان للحموي ٢ : ٣٨٤ ، و النقل بتصرف يسير .

١٦٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

غيره ، فمررنا برملة ، فانسلّ الحجر فوقع في رمل فغاب فيه ، فلمّا رجعنا إلى الماء فقدنا الحجر ، فرجعنا في طلبه ، فإذا هو في رمل قد غاب فيه فاستخرجناه . فقلت : إنّ إلها لم يمنع من تراب يغيب فيه لإله سوء ، و إنّ العنز لتمنع حياها بذنبها . فكان ذلك أوّل إسلامي ، فرجعت إلى المدينة ، و قد توفي النبيّ صلى اللّه عليه و آله ١ .

و قالوا : كان لسعد العشيرة صنم يقال له : فرّاض ، و يقال لسادنه : ابن وقشة ، و كان له رئي يخبره بما يكون ، فأتاه فقال له : « اسمع العجب العجاب ،

بعث أحمد بالكتاب ، بمكّة لا يجاب » .

فحكى ابن وقشة ذلك لرجل من قومه ، فلمّا سمع الرجل بخروج النبيّ صلى اللّه عليه و آله قام الى الصنم فحطّمه ، ثمّ أتى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فأسلم ، و قال :

تبعت رسول اللّه إذ جاء بالهدى

و خلّفت فرّاضا بأرض هوان

شددت عليه شدّة فتركته

كأن لم يكن و الدهر ذو حدثان

و لمّا رأيت اللّه أظهر دينه

أجبت رسول اللّه حين دعاني

فمن مبلغ سعد العشيرة أنّني

شريت الّذي يبقى بآخر فان

٢ و قالوا : كان لبني عذرة صنم يقال له : حمام ، و كان في بني هند بن حزام ، و سادنه رجل منهم يقال له : طارق . فلمّا بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله سمعوا منه صوتا يقول :

يا بني هند بن حزام ، ظهر الحقّ و أودى حمام ، و دفع الشرك الإسلام ،

ففزعوا .

ثم سمعوا بعد أيّام صوتا يقول : يا طارق بعث النبيّ الصادق بوحي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٢ : ٣٠٥ .

( ٢ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ٢ : ٧٤ ، و النقل بتصرف .

١٦٩

ناطق . صدع صادع بأرض تهامه ، لناصريه السلامه ، و لخاذليه الندامه . هذا الوداع منّي إلى يوم القيامه . ثمّ وقع الصنم لوجهه . فأتى زمل العذري و نفر من قومه إلى النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و أخبروه بما سمعوا . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ذاك كلام مؤمن من الجنّ . فأسلموا ١ ، و قال زمل :

إليك رسول اللّه أعملت نصّها

أكلّفها حزنا و فوزا من الرمل

و قالوا : كان لجهينة صنم ، فرأى سادنه في النوم من يقول : تقشّعت الظلماء ، و سطع الضياء ، و بعث خاتم الأنبياء . أقبل حقّ فسطع ، و دمغ باطل فانقمع . فكسر الصنم و لحق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و قال :

شهدت بأنّ اللّه حقّ و أننّي

لآلهة الاحجار أوّل تارك

و شمّرت عن ساق الازار مهاجرا

إليك أجوب الوعث بعد الدكادك

فبعثه النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى قومه ، فأسلموا إلاّ رجلا منهم كذّبه ، فقال له : أمرّ اللّه عيش الأكذب منّي و منك ، و أبكم لسانه ، و أكمه إنسانه . فما مات حتّى عمي و افتقر و أبكم ٢ .

و في ( الأسد ) : كان لأحمر بن سواء السدوسي صنم يعبده ، فألقاه في بئر ثمّ أتى النّبي صلى اللّه عليه و آله فبايعه ٣ .

و فيه : كان اسم راشد بن حفص ظالما ، و قيل : غاويا . فسمّاه النبيّ صلى اللّه عليه و آله راشدا ، و كان سادن صنم بني سليم الّذي يدعى سواعا فكسره ٤ .

و في ( المناقب ) : أنّه لمّا فتح النبيّ صلى اللّه عليه و آله مكّة كان فيها ثلاثمائة و ستون صنما بعضها مشدود ببعض بالرصاص ، فأنفذ أبو سفيان من ليلة مناة إلى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر . آشوب ١ : ٨٧ ، و النقل بتصرف .

( ٢ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ٢ : ٦٨ ، و النقل بتصرف .

( ٣ ) أسد الغابة لابن الأثير ١ : ٥٤ .

( ٤ ) أسد الغابة لابن الأثير ٢ : ١٤٩ .

١٧٠

الحبشة ، و منها إلى الهند فهيّؤوا لها دارا من مغناطيس ، فتعلّقت في الهواء إلى أيّام محمود بن سبكتكين ، فلمّا غزاها أخذها و كسرها ، و نقلها إلى اصفهان و جعلت تحت مارّة الطريق ١ .

و في ( كامل الجزري ) في فتح مكّة : و كان على الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما ، و كان بيد النّبي صلى اللّه عليه و آله قضيب ، فكان يشير به إلى الأصنام و هو يقرأ . . . جاء الحقّ و زهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ٢ ، فلا يشير إلى صنم منها إلاّ سقط لوجهه ٣ .

و في ( تاريخ بغداد ) للخطيب : عن أبي مريم قال : قال عليّ عليه السّلام : انطلق بي النّبي صلى اللّه عليه و آله إلى الأصنام ، فقال : اجلس ، فجلست إلى جنب الكعبة ، ثمّ صعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله على منكبي ، ثمّ قال : انهض بي إلى الصنم ، فنهضت به ، فلمّا رأى ضعفي تحته ، قال : اجلس ، فجلست و أنزلته عنّي ، و جلس لي النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، ثمّ قال لي : يا علي اصعد إلى منكبي ، فصعدت على منكبيه ، ثمّ نهض بي النبيّ صلى اللّه عليه و آله ،

فلمّا نهض بي خيّل لي أنّي لو شئت نلت السماء ، و صعدت على الكعبة ، و تنحّي النّبيّ صلى اللّه عليه و آله فألقيت صنمهم الأكبر صنم قريش ، و كان من نحاس موتّدا بأوتاد من حديد إلى الأرض ، فقال لي النبيّ صلى اللّه عليه و آله : عالجه ، فعالجته ، فما زلت أعالجه و النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول : إيه إيه إيه ، فلم أزل أعالجه حتّى استمكنت منه ، فقال : دقّه فدقتته ، و كسرته و نزلت ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٩ .

( ٢ ) الإسراء : ٨١ .

( ٣ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٢ : ٢٥٢ سنة ٨ .

( ٤ ) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد ١٣ : ٣٠٢ ، و أحمد في مسنده ١ : ٨٤ ، و النسائي في الخصائص : ١١٣ ، و الخوارزمي في مناقبه : ٧١ ، و ابن أخي تبوك في مسنده ( منتخبه ) : ٤٢٩ ح ٥ ، و الجويني في فرائط السمطين ١ :

٢٤٩ ح ١٩٣ ، عن أبي مريم ، و في الباب عن أبي هريرة و جابر بن عبد اللّه ، و جمع بعض طرقه الأخرى الهيثمي في مجمع الزوائد ٦ : ٢٣ ، و ابن شهر آشوب في مناقبه ٢ : ١٣٥ .

١٧١

و في ( الطبقات ) : لمّا أراد النبيّ صلى اللّه عليه و آله السير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة الدوسي يهدمه ، و أمره أن يستمدّ قومه و يوافيه بالطائف ، فخرج سريعا إلى قومه فهدم ذا الكفين ، و جعل يحش النار في وجهه و يحرقه و يقول :

يا ذا الكفين لست من عبّادكا

ميلادنا أقدم من ميلادكا

إنّي حششت النار في فؤادكا

١ و فيه : لمّا و فد خولان على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و أسلموا قال لهم : ما فعل عمّ أنس صنم لهم قالوا : بشرّ و عرّ ، أبدلنا اللّه به ما جئت به ، و لو قد رجعنا إليه هدمناه ، فلمّا رجعوا فلم يحلّوا عقدة حتّى هدموه ٢ .

و في ( انساب البلاذري ) : و من سرايا النبيّ صلى اللّه عليه و آله سرية خالد بن الوليد بعد فتح مكّة لهدم العزّى ببطن نخلة ، و سريّة عمرو بن العاص لهدم سواع برهاط من بلاد هذيل في شهر رمضان سنة ثمان ٣ .

و فيه : و من سرايا النبيّ صلى اللّه عليه و آله سريّة علي عليه السّلام لهدم الفلس صنم طيّ ،

و كان مقلّدا بسيفين أهداهما إليه الحارث بن أبي شمر ، و هما مخذم و رسوب ،

و فيهما يقول علقمة :

مظاهر سربالي حديد عليهما

عقيلا سيوف مخذم و رسوب

فأتى بهما النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ٤ .

هذا و في ( الطبري ) : أنّ جذيمة الأبرش اتّخذ صنمين يقال لهما :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الطبقات لابن سعد ٢ ق ١ : ١٣٥ .

( ٢ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ٢ : ٦١ ، و النقل بتلخيص .

( ٣ ) أنساب الأشراف للبلاذري ١ : ٣٨١ .

( ٤ ) أنساب الأشراف للبلاذري ١ : ٥٢٢ ، و النقل بتصرف .

١٧٢

الضيزنان ، و مكانهما بالحيرة معروف ، و كان يستسقي بهما ، و يستنصر بهما على العدو ، فغزا أيادا ، فبعثوا قوما ، فسقوا سدنة الصنمين الخمر و سرقوهما ،

فبعثوا إلى جذيمة : إنّ صنميك أصبحا فينا ، زهدا فيك و رغبة فينا ، فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا رددناهما إليك . . . ١ .

و رووا عن هشام الكلبي في قصّة أساف و نائلة : أنّ أسافا كان رجلا من جرهم يقال له : أساف بن يعلى ، و أنّ نائلة كانت بنت زيد من جرهم ، و كان يتعشّقها بأرض اليمن ، فأقبلا حاجّين فدخلا الكعبة ، فوجدا غفلة من الناس و خلوة في البيت ، ففجر بها في البيت فمسخا ، فأصبحوا فوجدوهما مسخين فوضعا عند الكعبة ليتّعظ بهما الناس ، فلمّا طال مكثهما و عبدت الأصنام عبدا معها . فكانوا ينحرون و يذبحون عندهما إلى أن كسرهما النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم الفتح في ما كسر من الأصنام . . . ٢ و لكن في خبر عن مسعدة أنّهما كانا شابّين صبيحين ، و كان بأحدهما تأنيث ، و كانا يطوفان بالبيت فصادفا من البيت خلوة ، فأراد أحدهما صاحبه ،

ففعل ، فسخهما اللّه تعالى ، فقالت قريش : لو لا أنّ اللّه رضي أن يعبد هذان معه ما حوّلهما عن حالهما ٣ .

« و الاثام بكم معصوبة » أي : مشدودة ، يقال : عصب رأسه بعصابة . كانوا يزنون ، و يشربون ، و يسرقون ، و يقامرون ، قال ابن قتيبة في ( شعرائه ) : إنّه لمّا رحل الأعشى و هو ابن قيس قتيل الجوع إلي النبيّ صلى اللّه عليه و آله في صلح الحديبية ،

فسأله أبو سفيان عن وجهه الّذي يريد ، فقال : أردت محمدا . قال : إنّه يحرم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ١ : ٤٤٠ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) رواه عنه الحموي في معجم البلدان للحموي ١ : ١٧٠ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٤ : ٥٤٦ ح ٢٩ .

١٧٣

عليكم الخمر ، و الزنا ، و القمار . قال : أمّا الزنا فقد تركني و لم أتركه ، و أمّا الخمر فقد قضيت منها و طرا ، و أمّا القمار فلعلّي أصيب منه عوضا . . . ١ .

و قالوا : ان عمرو بن كلثوم ، و زهير بن جناب ، و عامر ملاعب الأسنّة ممّن غضبوا فشربوا خمرهم صرفا حتّى ماتوا .

و قيل لحنظلة بن الشرقي : ما أدنى آثامك ليلة الدير ؟ قال : نزلت بديرانية ،

فأكلت عندها طفشليا أي : مرقا بلحم خنزير ، و شربت من خمرها ، و زنيت بها ، و سرقت كأسها و مضيت .

و جعل عمرو بن لحي الخزاعي فتح باب الكعبة و غلقه إلى أبي غبشان الخزاعي ، فباعه أبو غبشان من قصيّ ببعير و زقّ خمر ، فقال شاعر :

إذا افتخرت خزاعة في قديم

وجدنا فخرها شرب الخمور

و باعت كعبة الرحمن جهرا

بزقّ بئس مفتخر الفخور

و قالوا : كان سبب الفجار الثاني من الفجار الأربعة أنّ فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ ، و عليها برقع ، و هي في درع فضل ، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها ، فسألوها أن تسفر عن وجهها ،

فأبت عليهم ، فأتى أحدهم من خلفها ، فشدّ ذيلها بشوكة إلى ظهرها ، و هي لا تدري ، فلمّا قامت تقلص الدرع عن دبرها ، فضحكوا و قالوا : منعتنا النظر إلى وجهها ، فقد رأينا دبرها . فنادت المرأة يا آل عامر فتثاور الناس ، و وقع يوم الفجار الثاني .

و قصة ذات النحيين التي يضرب بها المثل ، و يقال : أشغل من ذات النحيين . معروفة : كانت امرأة من تيم اللّه بن ثعلبة تبيع السمن ، فأتاها خوّات بن جبير الأنصاري ليبتاع منها سمنا ، فلم ير عندها أحدا فطمع فيها و ساومها ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ٧٩ .

١٧٤

فحلّت نحيا ، فنظر إليه ، ثمّ قال : أمسكيه حتّى أنظر إلى غيره فأمسكته . و قال :

حلّي نحيا آخر ، ففعلت و نظر إليه ، فقال : أريد غير هذا ، امسكيه شرد بعيري .

ففعلت ، فلمّا شغلت يديها ساورها ، فلم تقدر على دفعه حتّى قضى ما أراد و هرب ، فقال :

شغلت يديها إذ أردت خلاطها

بنحيين من سمن ذوي عجرات

فأخرجته ريّان ينطف رأسه

من الرامل المذموم بالمقرات

ثمّ أسلم و شهد بدرا ، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : كيف شراؤك يا خوّات ؟

و تبسّم . فقال : رزق اللّه خيرا ، و أعوذ باللّه من الحور بعد الكور ١ .

و في رواية قال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ما فعل بعيرك أشرد عليك ؟ فقال : أمّا منذ عقله الإسلام فلا ٢ .

و خوّات هذا هو الّذي شهد حفر الخندق ، و كان في ذاك الوقت لم يحلّ الإفطار في ليالي شهر رمضان بعد صلاة العشاء و النوم فنام ليلة و لم يفطر ،

فانتبه و قد حرم عليه الأكل ، و لمّا أصبح و حفر غشي عليه ، فرقّ له النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و أنزل تعالى به : . . . و كلوا و اشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . . . ٣ .

و لألفهم و اعتيادهم بالآثام سألت هذيل النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم أن يحلّ لهم الزنا ،

فقال حسّان :

سالت هذيل رسول اللّه فاحشة

ضلّت هذيل بما سالت و لم تصب

و سألت بنو عمرو بن عمير من ثقيف و بنو المغيرة من مخزوم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب لابن عبد البر ١ : ٤٤٥ ، و أسد الغابة لابن الأثير ٢ : ١٢٥ و غيرهما .

( ٢ ) الاستيعاب لابن عبد البر ١ : ٤٤٥ ، و أسد الغابة لابن الأثير ٢ : ١٢٥ و غيرهما .

( ٣ ) تفسير القمي ١ : ٦٦ ، لكن المشهور نزول هذه الآية في قيس بن صرمة الأنصاري ، أخرجه عدة ، جمع بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور ١ : ١٩٧ ، ١٩٨ ، و الآية ١٨٧ من سورة البقرة .

١٧٥

النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم أن يحلّ لهم الربا ، فنزلت كما في ( أسباب نزول الواحدي ) آية :

و ذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه و رسوله . . . ١ .

هذا ، و في ( الكافي ) عن الباقر عليه السّلام : إنّ ناسا أتوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بعدما أسلموا ، فقالوا : يا رسول اللّه أيؤخذ الرجل منّا بما كان عمل في الجاهلية بعد إسلامه ؟ فقال لهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم : من حسن إسلامه و صحّ يقين إيمانه لم يأخذه اللّه تعالى بما عمل في الجاهلية ، و من سخف إسلامه ، و لم يصحّ يقين إيمانه أخذه اللّه تعالى بالأوّل و الآخر ٢ .

قلت : و مصداق الأوّل خوّات المتقدّم صاحب ذات النحيين ، و مصداق الثاني المغيرة بن شعبة ، غدر في جاهليته بجمع فقتلهم و أخذ أموالهم ، و صار في إسلامه سببا لتصدي الرجلين الأجنبيين لخلافة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و صار سببا لا ستلحاق معاوية زيادا به ، و استخلافه ابنه السكّير القمّير ، كما أنّ جمعا أسلموا لو كانوا بقوا على شركهم كانوا أهون عذابا ، و هم الّذين عملوا مع أهل بيت نبيّهم ما عملوا . . . و لا يزيد الظالمين إلاّ خسارا ٣ .

٤

الخطبة ( ٨٧ ) و من خطبة له عليه السّلام :

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ اَلْأُمَمِ وَ اِعْتِزَامٍ مِنَ اَلْفِتَنِ وَ اِنْتِشَارٍ مِنَ اَلْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ اَلْحُرُوبِ وَ اَلدُّنْيَا كَاسِفَةُ اَلنُّورِ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أسباب النزول للواحدي : ٥٨ ، و جمع بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور ١ : ٣٦٦ ، و الآيتان ٢٧٨ ٢٧٩ من سورة البقرة .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٦١ ح ١ .

( ٣ ) الإسراء : ٨٢ .

١٧٦

ظَاهِرَةُ اَلْغُرُورِ عَلَى حِينِ اِصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ اِغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ اَلْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلاَمُ اَلرَّدَى فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا ثَمَرُهَا اَلْفِتْنَةُ وَ طَعَامُهَا اَلْجِيفَةُ وَ شِعَارُهَا اَلْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا اَلسَّيْفُ . و في ( ١٥٦ ) من خطبة له عليه السّلام :

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ اَلْأُمَمِ وَ اِنْتِقَاضٍ مِنَ اَلْمُبْرَمِ . أقول : رواهما ( الكافي ) في باب : الرّد إلى الكتاب و السنّة من ( كتاب عقله ) مع زيادة هكذا : « يا أيّها الناس إنّ اللّه تبارك و تعالى أرسل إليكم الرسول ،

و أنزل إليه الكتاب بالحقّ ، و أنتم أميّون عن الكتاب و من أنزله ، و عن الرسول و من أرسله ، على حين فترة من الرسل ، و طول هجعة من الامم ، و انبساط من الجهل ، و اعتراض من الفتنة ، و انتقاض من المبرم ، و عمى عن الحقّ ، و اعتساف من الجور ، و امتحان من الدين ، و تلظّ من الحروب . على حين اصفرار من رياض جنّات الدّنيا ، و يبس من أغصانها ، و انتثار من ورقها ، و يأس من ثمرها ،

و اغورار من مائها . قد درست أعلام الهدى ، فظهرت أعلام الردى ، فالدّنيا متجهّمة في وجوه أهلها مكفهرّة ، مدبرة غير مقبلة ، ثمرتها الفتنة ،

و طعامها الجيفة ، و شعارها الخوف ، و دثارها السيف . مزّقتم كلّ ممزّق ، و قد أعمت عيون أهلها ، و أظلمت عليها أيّامها ، قد قطعوا أرحامهم ، و سفكوا دماءهم ، و دفنوا في التراب الموءودة بينهم من أولادهم . يجتاز دونهم طيب العيش ، و رفاهية خفوض الدنيا ، لا يرجون من اللّه ثوابا ، و لا يخافون و اللّه منه عقابا . حيّهم أعمى نجس ، و ميّتهم في النار مبلس . فجاءهم

١٧٧

بنسخة ما في الصحف الأولى . . . ١ .

و عن القمي روايتهما في أوّل ( تفسيره ) ٢ .

و يناسب كلامه عليه السّلام كلام سيّدة النساء صلوات اللّه عليها في خطبتها التي رواها أحمد بن أبي طاهر البغدادي في ( بلاغات نسائه ) ، فروى أنّها قالت :

ابتعثه اللّه تعالى إتماما لأمره ، و عزيمة على إمضاء حكمه ، فرأى الامم فرقا في أديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة للّه تعالى مع عرفانها ، فأنار اللّه عزّ و جلّ بمحمّد ظلمها ، و فرّج عن القلوب بهمها ، و جلّى عن الأبصار غممها . . . ٣ .

قوله عليه السّلام فيهما : « أرسله على حين فترة » في ( النهاية ) : الفترة ما بين الرسولين من رسل اللّه تعالى من الزمان الّذي انقطعت فيه الرسالة ، و منه فترة ما بين عيسى و محمّد صلى اللّه عليه و آله ٤ .

في ( أنساب البلاذري ) : كان كعب بن لؤي يخطب الناس في أيّام الحجّ ،

فيقول : أعظموا هذا الحرم ، و تمسّكوا به فسيكون له نبأ ، و يبعث منه خاتم الأنبياء ، بذلك جاء موسى و عيسى . ثمّ ينشد :

على فترة يأتي نبيّ مهيمن

يخبّر أخبارا عليها خبيرها

٥ « من الرسل » و لم يقل من الأنبياء لاتصال الأنبياء ، و هم أوصياء المسيح من المسيح إليه صلى اللّه عليه و آله ، كما مرّ في الفصل المتقدّم ٦ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٦٠ ح ٧ في باب الردّ الى الكتاب و السنة ، لكن هذا الباب في كتاب فضل العلم لا كتاب العقل و الجهل .

( ٢ ) تفسير القمي ١ : ٢ .

( ٣ ) بلاغات النساء للبغدادي : ٢٩ .

( ٤ ) النهاية لابن الأثير ٣ : ٤٠٨ مادة ( فتر ) .

( ٥ ) أنساب الأشراف للبلاذري ١ : ٤١ .

( ٦ ) مرّ في الفصل الخامس في العنوان ١ .

١٧٨

« و طول هجعة » قال الجوهري : الجوهري : الهجوع : النوم ليلا ١ .

« من الأمم » و عدم تنبّههم لرشدهم .

قوله عليه السّلام في الثاني : « و انتقاض من المبرم » أي : حلّ الحبلين اللذين فتلا فجعلا واحدا ، و المراد نقض الديانات الإلهية .

قوله عليه السّلام في الأوّل : « و اعتزام من الفتن » قال : ابن أبي الحديد : كأنّه عليه السّلام جعل الفتن معتزمة ، أي : مريدة مصمّمة للشغب و الهرج . و يروى : « و اعتراض » و يروى : « و اعترام » بالراء المهملة من العرام ، و هي : الشّرّة ٢ .

قلت : الصحيح الأخير بتصديق ( الكافي ) ، و ( تفسير القمّي ) له نسخة واحدة مع أنّ ( الاعتزام ) بالزاي إنّما يتعدى ب ( على ) و ليس بل لم يذكر له مفعول ، ( و الاعترام ) بالراء لم يعلم استعماله مستقلا ، و إنّما يقال : صبي عارم .

« و انتشار من الأمور » و اختلالها ، و اغتشالها لعدم نظام لها .

« و تلظّ » أي : التهاب .

« من الحروب » الّتي كانت كالنار ، قال ابن قتيبة في ( معارفه ) : الأيّام المشهورة في الجاهلية يوم ذي قار : كان بين جيش أبرويز و هاني الشيباني ،

لما استودعه النعمان عياله و مائة درع ، و هرب فظفر بنو شيبان ، و يوم الفجار الأوّل : كاد أن يكون حرب و لم يقع ، و يوم الفجار الثاني : كان بين كنانة و قيس عيلان ، و يوم شويحط : كان بين اليمن و مضر . و كانت لهم في حرب بكر و تغلب ستّة أيّام مشهورة : يوم عنيزة ، و يوم واردات ، و يوم الحنو ، و يوم القصيبات ، و يوم قضة ، و يوم تحلاق اللمم ، و كانت هذه الحرب أربعين سنة ،

و حرب داحس و غبراء بين عبس و ذبيان ، تراهنوا فسبقت ( الغبراء ) فرس

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة للجوهري ٣ : ١٣٠٥ مادة ( هجع ) ، و لفظ « ليلا » في بعض النسخ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٥ .

١٧٩

عبس ، فوضعت ذبيان كمينا فردّوها ، فهاجت الحرب بينهما ١ .

و في ( اشتقاق ابن دريد ) أنّه سمّي الحارث بن مالك من بني عجل و صّافا ، لأنّ المنذر الأكبر يوم أوارة قتل بكر بن وائل قتلا ذريعا ، و كان يذبحهم على جبل ، فآلى أن يذبحهم حتّى يبلغ الدم الأرض ، فقال له الوصّاف :

أبيت اللعن ، لو قتلت أهل الأرض هكذا لم يبلغ دمهم الحضيض ، و لكن تأمر بصبُّ الماء على الدم حتّى يبلغ الدم الأرض ٢ .

و فيه : و من رجال بني عكابة و قاء بن الأشعر ، و كان الأشعر سيّدا و هو لسان الحمّرة أحد البلغاء في الجاهلية ، ولد ( وقاء ) في حرب كانت بينهم ، و جاء الإسلام فاشتغلوا به ، فقال أبوه : و قانا اللّه به ، فسمّي وقاء ٣ .

و قد جمع ابن عبد ربّه في ( عقده ) ٤ ، و الجزري في ( كامله ) ٥ أيّام العرب و حروبها مبسوطة .

« و الدنيا كاسفة النور » مظلمة .

« ظاهرة الغرور » فلم يكن لأحد على معتمد .

« على حين اصفرار من ورقها » كالأشجار وقت الخريف .

« و إياس من ثمرها » بعد حصول العيب في أصلها ، حتّى يبس غصنها ،

و انتشر ورقها ، كما مرّ في رواية ( الكافي ) .

« و اغورار » كاحمرار من ( غار الماء ) : ذهب .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المعارف لابن قتيبة : ٦٠٣ و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الاشتقاق لابن دريد : ٣٤٥ .

( ٣ ) الاشتقاق لابن دريد : ٣٥٤ و النقل بتصرف .

( ٤ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٦ : ٢ .

( ٥ ) الكامل لابن الأثير الجزري ١ : ٥٠٢ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605