بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110253 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

« من مائها » يقال : ماء غور ، أي : غائر ، و نقله ابن أبي الحديد ١ : « و إعوار من مائها » و جعل « و اغورار من مائها » نسخة ، مع أنّه لا معنى لإعوار مائها و جعله له من ( فلاة عوراء ) لا ماء بها غلط ، لأنّه أثبت لها ماء ، مع أنّ ( الكافي ) ٢ و ( تفسير القمي ) ٣ أيضا نقلاه : « و اغورار » .

« قد درست » أي : صارت مندرسة .

« منار الهدى » قد عرفت أنّ في رواية ( الكافي ) ٤ : « أعلام الهدى » و هو الأنسب بقوله : « قد درست » .

« و ظهرت » للناس .

« أعلام » أي : علائم .

« الردى » أي : الهلكة .

« فهي » أي : الدّنيا .

« متجهّمة لأهلها » أي : متلقّيتهم بالغلظة ، و قال الخوئي : و في نسخة « متهجّمة لأهلها » ٥ .

قلت : هي تحريف ، لأنّه لا يقال : تهجم لفلان بل على فلان ، و النسخة إنّما تنقل في ما احتملت صحّتها .

« عابسة في وجه طالبها » فلا يحصل منها مطلوبه .

« ثمرها الفتنة » كشجرة ثمرتها مرّة .

« و طعامها الجيفة » كطعام الكلاب ، روى الطبري في ( ذيله ) أنّه قيل لعبد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقل ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ١٣٥ روايتين : « اعورار » و « اغورار » و أثبت الثاني في متن الخطبة .

( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٦٠ ح ٧ .

( ٣ ) لفظ تفسير القمي ١ : ٣ « و اغوار من مائها » .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ٦٠ ح ٧ .

( ٥ ) جعل الخوئي في شرحه ٣ : ٦٤ « متهجمة » أصلا ، ثم قال : « و في بعض النسخ متجهمة بتقديم الجيم على الهاء » .

١٨١

خير : هل تذكر من أمر الجهّال شيئا ؟ و كان أتى عليه مائة و عشرون سنة . قال :

أذكر أنّ أمّي طبخت لنا قدرا ، فقلت : اطعمينا . فقالت : حتّى يجي‏ء أبوكم . فجاء أبي فقال : إنّ كتاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله قد جاءنا ينهانا عن لحوم الميتة . قال : فاذكر أنّها كانت لحم ميتة فأكفأناها ١ .

و روى أبو نعيم في ( حليته ) عن أبي رجاء العطاردي و كان أدرك الجاهلية قال : بلغنا أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و نحن على ماء لنا يقال له : سند ، فانطلقنا نحو الشجرة هاربين ( أو قال هربا ) بعيالنا ، فبينما أنا أسوق بالقوم إذ وجدت كراع ظبي طريّ فأخذته فأتيت المرأة ، فقلت : هل عندك شعير ؟ فقالت : قد كان في وعاء لنا عام أوّل شي‏ء من شعير ما أدري بقي منه أم لا .

فأخذته فنفضته ، فاستخرجت منه مل‏ء كف من شعير ، فرضخته بين حجرين ، ثمّ ألقيته و الكراع في برمة ، ثمّ قمت إلى بعير ففصدته إناء من دم ثمّ أوقدت تحته ، ثمّ أخذت عودا فلبكته به لبكا شديدا حتّى أنضجته . ثمّ أكلنا ، فقال له رجل : يا أبا رجاء كيف طعم الدم ؟ قال : حلو ٢ .

و قالوا : كانت بنو أسد تأكل الكلاب ، فقال الفرزدق :

إذا أسديّ جاع يوما ببلدة

و كان سمينا كلبه فهو آكله

و قالوا : كان بنو فقعس يأكلون لحوم الناس ، قال شاعر :

إذا ما صفت ليلا فقعسيّا

فلا تأكل له أبدا طعاما

فانّ اللحم إنسانا فدعه

و خير الزاد ما منع الحراما

و عن ابن قرفة : أضافني أعرابي ، فجاءني بقدر جمّاعة ضخمة ، ليس فيها شي‏ء إلاّ قطع من لحم ، فإذا بضعة تتمّات في فمي ، و بعضة كأنّها بضع

ـــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل للطبري : ٨١ .

( ٢ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٢ : ٣٠٥ .

١٨٢

ساق ، و بضعة كأنّها شحم رخم ، فقلت : ما هذا ؟ فقال : إنّي رجل صيّاد جمعت بين ذئب و ظبي و ضبع .

« و شعارها الخوف و دثارها السيف » قال الجوهري : الشعار : ما ولي الجسد من الثياب ١ ، و الدثار : كلّ ما كان من الثياب فوق الشعار ٢ .

قال تعالى : فليعبدوا ربّ هذا البيت . الّذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف ٣ .

٥

من الخطبة ( ٩٢ ) حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى ؟ مُحَمَّدٍ ص ؟

فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ اَلْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وَ أَعَزِّ اَلْأَرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ اَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ وَ اِنْتَخَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ اَلْعِتَرِ وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ اَلْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ اَلشَّجَرِ نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرَةٌ لاَ تُنَالُ فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اِتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اِهْتَدَى .

سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ اَلْقَصْدُ وَ سُنَّتُهُ اَلرُّشْدُ وَ كَلاَمُهُ اَلْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ اَلْعَدْلُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ هَفْوَةٍ عَنِ اَلْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ عَنِ اَلْأُمَمِ . « حتّي أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله » روى ( سنن أبي داود ) في باب الثوم : أن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم‏أتى ببدر أي : طبق فيه خضرات من البقول فوجد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة للجوهري ٢ : ٦٩٩ مادة ( شعر ) .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٢ : ٦٥٥ مادة ( دثر ) .

( ٣ ) قريش : ٤٣ .

١٨٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

لها ريحا ، فقال : قرّبوها إلى بعض أصحابه كان معه ، فلمّا رآه كره أكلها ، فقال له : كلّ فإنّي أناجي من لا تناجي ١ .

« فأخرجه من أفضل المعادن منبتا » عن الكاظم عليه السّلام : أنّ يهوديا من يهود الشام و أحبارهم كان قد قرأ التوراة ، و الإنجيل ، و الزبور ، و صحف الأنبياء و عرف دلائلهم ، جاء إلى مجلس فيه أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و فيهم علي بن أبي طالب و ابن عباس و ابن مسعود و أبو سعيد الجهني ، فقال : يا أمّة محمّد ما تركتهم لنبيّ درجة ، و لا لمرسل فضيلة إلاّ نحلتموها نبيّكم ، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه ؟ فكاع القوم عنه ، فقال علي بن أبي طالب : نعم ، ما أعطى اللّه نبيّا درجة و لا مرسلا فضيلة إلاّ و قد جمعها لمحمّد صلى اللّه عليه و آله ، و زاد محمّدا على الأنبياء أضعافا مضاعفة ٢ .

« و أعزّ الأرومات » بالفتح ، جمع أرومة : أصل الشجرة .

« مغرسا » من حيث النسل ، أي : النسل السامي ، و في خطبة له عليه السّلام المرويّة في ( إثبات المسعودي ) : ثمّ أذنت في إيداعه صلى اللّه عليه و آله ساما دون حام و يافث ، فضربت لهما بسهم في الذلّة ، و جعلت ما أخرجت من بينهما لنسل سام خولا ٣ .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : العرب كلّها ، و الأنبياء كلّها من ولد سام ٤ .

« من الشّجرة التي صدع » أي : شقّ .

« منها أنبياءه » و المراد من الشجرة إبراهيم عليه السّلام ، فرسل جاؤوا بعده

ـــــــــــــــــ

( ١ ) هذا حديث جابر أخرجه أبو داود في سننه ٣ : ٣٦٠ ح ٣٨٢٢ ، و جمع ابن الأثير في جامع الأصول ٨ : ٢٧٩ ح ٥٥١٤ طرق أصحاب الصحاح و اختلاف ألفاظهم ، و في الباب عن علي عليه السّلام و سويد و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الاحتجاج للطبرسي : ٢١٠ عن موسى بن جعفر الكاظم عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم السلام .

( ٣ ) إثبات الوصيّة للمسعودي : ١٠٨ .

( ٤ ) المعارف لابن قتيبة : ٢٧ ، ٢٨ .

١٨٤

كانوا من نسله .

« و انتخب » أي : اختار .

« منها أمناءه » على وحيه ، و فسّر قوله تعالى : الّذي يراك حين تقوم .

و تقلّبك في الساجدين ١ في الأخبار بمعنى : حين تقوم في النبوّة ، و تقلّبك في أصلاب النبيين .

« عترته خير العتر » كما أنّه خير البشر ، و في ( الصحاح ) : عترة الرجل :

نسله و رهطه الأدنون ٢ .

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : إنّي أوشك أن أدعى فأجيب ، و إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّ و جلّ حبل ممدود بين السماء و الأرض و عترتي أهل بيتي ، و أخبرني اللطيف أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ٣ .

« و أسرته » و هم بنو هاشم .

« خير الأسر » فكانت بنو هاشم أفضل طوائف قريش .

« و شجرته » و هم قريش .

« خير الشجر » فكانت قريش أفضل طوائف العرب .

« نبتت في حرم » أي : عزّ و منعة ، و ليس المراد مكّة كما احتمله ابن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٢١٨ ٢١٩ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٢ : ٧٣٥ مادة ( عتر ) .

( ٣ ) هذا الحديث المعروف بحديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، أخرجه أحمد بأربع طرق في مسنده ٣ : ١٤ ، ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ ، و ابن سعد في الطبقات ٢ ق ٢ : ٢ ، و أبو يعلى في مسنده ، و الباوردي عنهما إحياء الميت : ١٣ ، ٤٧ ح ٨ ، ٥٥ ، و الطبراني في معجمه عنه الدر المنثور ٢ : ٦٠ ، و الثعلبي في تفسيره عنه ينابيع المودة : ٣٢ ، و الصدوق بخمس طرق في كمال الدين : ٢٣٥ ٢٤٠ ح ٤٦ ، ٤٨ ، ٥٠ ، ٥٧ ، ٦١ ، و أبو علي الطوسي في أماليه ١ : ٢٦١ المجلس ٩ و غيرهم عن أبي سعيد الخدري ، و في الباب عن علي و فاطمة و الحسن عليهم السلام و ابن عباس و زيد بن الأرقم و ثلاثة عشر آخرين من أصحاب النبي صلى اللّه عليه و آله .

١٨٥

أبي الحديد ١ ، فلو كانت مرادة لقال : في الحرم لا في حرم .

« و بسقت » أي : علت .

« في كرم » و شرف . روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله بيّنا في المسجد الحرام ، و عليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلا ناقة ،

فملؤوا ثيابه بها ، فدخله من ذلك ما شاء اللّه ، فذهب إلى أبي طالب ، فقال له : يا عمّ كيف ترى حسبي فيكم ؟ فقال له : و ما ذاك يابن أخي ؟ فأخبره الخبر ، فدعا أبو طالب حمزة ، و أخذ السيف و قال لحمزة : خذ السلا . ثمّ توجّه إلى القوم و النبيّ صلى اللّه عليه و آله معه ، فأتى قريشا و هم حول الكعبة ، فلمّا رأوه عرفوا الشرّ في وجهه ، ثمّ قال لحمزة : أمرّ السلا على سبالهم ، ففعل ذلك حتّى أتى على آخرهم ، ثم التفت أبو طالب إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فقال : يا ابن أخي هذا حسبك فينا ٢ .

« لها فروع طوال » قال تعالى له : إنّا أعطيناك الكوثر . فصلّ لربّك و انحر . إنّ شانئك هو الأبتر ٣ .

« و ثمرة لا تنال » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و ثمر لا ينال ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٤ ، قال ابن أبي الحديد : ليس على أن يريد به أنّ ثمرها لا ينتفع به ، لأن ذلك ليس بمدح ، بل يريد به أنّ ثمرها لا ينال قهرا ،

و لا يجنى غصبا ٥ .

قلت : إنّما ينال قهرا و غصبا من الإنسان لا من الشجر و الثمر ، و الصواب أن يقال : إنّ شرف الشجر بعلوّه حتّى لا ينهب ثمره كلّ من مرّ عليه ، و المراد أنّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ .

( ٢ ) أخرجه الكليني في الكافي ١ : ٤٤٩ ح ٣٠ و جمع آخر .

( ٣ ) الكوثر : ١ ٣ .

( ٤ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٩٥ « تنال » أيضا .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ .

١٨٦

علوم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كمالاته ليست عاديّة متعارفة حتّى يدّعي نيابته كلّ أحد ،

و غرضه عليه السّلام التعريض بالمتقدّمين عليه بكونهم غير أهلين لتصدي مقامه صلى اللّه عليه و آله ، لأنّ النائب كالمنوب عنه بقضية العقول ، و أين هم من النبيّ صلى اللّه عليه و آله ،

و إنّما كان أهل بيته مثله ، و ممّا يوضح كونهم عليهم السلام ثمرة شجرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله قوله عليه السّلام لمّا بلغه أنّ قريشا احتجّوا في السقيفة لتقدّمهم على الأنصار بكونهم شجرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله : « احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة » ١ . و في زياراتهم عليهم السلام : « السلام على الشجرة النبوية ، و الدوحة الهاشمية المضيئة المثمرة بالنبوّة ، المونعة بالإمامة » ٢ .

« فهو إمام من اتّقى » اللّه في عمله فليتّبعه غيره ، روى ( الطبري ) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله عدّل صفوف أصحابه يوم بدر و في يده قدح يعدّل به القوم ، فمرّ بسواد بن غزية حليف بني عدي من النجّار و هو مستنتل من الصف ، فطعن النبيّ صلى اللّه عليه و آله في بطنه بالقدح ، و قال : استويا سواد بن غزية . فقال : يا رسول اللّه أو جعتني و قد بعثك اللّه بالحقّ ، فأقدني . فكشف النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن بطنه ، ثمّ قال :

استقد . فاعتنقه و قبّل بطنه ، فقال ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال : يا رسول اللّه حضر ما ترى فلم آمن القتل ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك . فدعا له النبيّ صلى اللّه عليه و آله بخير ٣ .

« و بصيرة من اهتدى » فليسلك مسلكه ، روى الطبري عن أبي سفيان قال :

كنّا قوما تجّارا ، و كانت الحرب بيننا و بين محمّد قد حصرتنا حتّى نهكت أموالنا ، فلمّا كانت الهدنة بيننا و بينه لم نأمن أن لا نجد أمنا فخرجت في نفر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الشريف الرضي ضمن خطبة في نهج البلاغة ١ : ١١٦ الخطبة ٦٥ .

( ٢ ) رواه في صدر زيارة المجلسي في البحار ١٠٢ : ٢١٢ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٤٨ سنة ٢ .

١٨٧

من قريش تجّارا إلى الشام ، و كان وجه متجرنا غزّة ، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس ، و أخرجهم منها ، و انتزع له منهم صليبه الأعظم ، و كانوا قد استلبوه إيّاه ، فلمّا بلغ ذلك منهم و بلغه أنّ صليبه قد استنقذ له ، و كانت حمص منزله ، خرج منها يمشي على قدميه متشكرا للّه حين ردّ عليه ما ردّ ليصلّي في بيت المقدس ، تبسط له البسط ، و تلقى عليها الرياحين ، فلمّا انتهى إلى إيليا ، و قضى فيها صلاته ، و معه بطارقته ، و أشراف الروم ، أصبح ذات غداة مهموما يقلّب طرفه إلى السماء ، فقال له بطارقته : قد أصبحت مهموما . قال : أجلّ أريت في هذه الليلة أنّ ملك الختان ظاهر . قالوا له : ما نعلم أمّة تختتن إلاّ اليهود ، و هم في سلطانك ، فابعث إلى كلّ من لك عليه سلطان في بلادك ، مره ليضرب أعناق كلّ من تحت يديه من يهود و استرح من هذا الهمّ ،

و أنّهم لفي ذلك من رأيهم يديرونه ، إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده و كانت الملوك تهادى الأخبار بينها فقال : إنّ هذا الرجل من أهل الشام و الإبل ، يحدّث عن أمر حدث ببلاده عجب ، فسله عنه . فلمّا انتهى به إلى هرقل قال لترجمانه : سله ما كان فسأله ، فقال : خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنّه نبيّ ، و قد اتّبعه ناس و صدّقوه ، و خالفه ناس ، و قد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة ، فتركتهم على ذلك . فلمّا أخبره الخبر ، قال : جرّدوه . فجرّدوه ،

فإذا هو مختون . فقال هرقل : هذا و اللّه الذي أريت لا ما تقولون . أعطوه ثوبه .

انطلق عنّا .

ثم دعا صاحب شرطته ، فقال له : قلّب الشام لي ظهرا و بطنا حتّى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل يعني النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال أبو سفيان : و أنا بغزّة ، إذ هجم علينا صاحب شرطته ، فقال : أنتم من قوم هذا الرجل الّذي ظهر بالحجاز ؟

قلنا : نعم . قال : انطلقوا إلى الملك . فانطلقنا ، فلمّا انتهينا إليه ، قال : أنتم من رهط

١٨٨

هذا الرجل ؟ قلنا : نعم . قال : فأيّكم أمسّ به رحما ؟ قلت : أنا . فقال : ادن فأقعدني بين يديه ، و أقعد أصحابي خلفي ، ثمّ قال : إنّي سأسأله ، فإن كذب فردّوا عليه قال أبو سفيان : فو اللّه لو كذبت ما ردّوا عليّ ، و لكنّي كنت امرأ سيّدا أتكرّم عن الكذب ، و عرفت أنّ أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عليّ ثمّ يحدّثوا به عنّي فلم أكذبه فقال : اخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهر كم يدّعي ما يدّعي . فجعلت أصغّر أمره ، و أقول : ما يهمّك من أمره ، إنّ شأنه دون ما يبلغك . فجعل لا يلتفت إلى ذلك ، ثمّ قال : أنبئني عمّا أسألك عنه من شأنه . قلت : سل . قال : كيف نسبه ؟ قلت : محض أوسطنا نسبا . قال : هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول به ، فهو يتشبّه به ؟ قلت : لا . قال : فهل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه ؟ قلت : لا . قال :

فأخبرني عن أتباعه منكم من هم ؟ قلت : الضعفاء و المساكين و الأحداث من الغلمان و النساء ، و أما ذوو الأسنان و الشرف من قومه ، فلم يتّبعه منهم أحد .

قال : فأخبرني عمّن تبعه ، أيحبّه و يلزمه أم يقليه و يفارقه ؟ قلت : ما تبعه رجل ففارقه . قال : فأخبرني عن الحرب بينكم و بينه . قلت : سجال يدال علينا ، و ندال عليه . قال : فأخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئا ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها ،

قلت : لا ، و نحن منه في هدنة ، و لا نأمن غدره فو اللّه ما التفت إليها منّي ، ثمّ كرّ عليّ الحديث قال : سألتك كيف نسبه فيكم ؟ فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسبا ، و كذلك يأخذ اللّه الأنبياء ، و سألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبّه به ، فزعمت أن لا ، و سألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه ،

فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه ، فزعمت أن لا ، و سألتك عن أتباعه ، فزعمت أنّهم الضعفاء و المساكين و الأحداث و النساء ، و كذلك أتباع الأنبياء في كلّ زمان ، و سألتك عمّن يتّبعه ، أيحبّه و يلزمه أم يقليه و يفارقه ، فزعمت ألاّ يتّبعه

١٨٩

أحد فيفارقه ، و كذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه ، فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدميّ هاتين ، و لوددت أنّي عنده فأغسل قدميه ، انطلق لشأنك . فقمت من عنده و أنا أضرب إحدى يديّ على الأخرى ،

و أقول : يا عباد اللّه لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، لقد أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام ١ .

« سراج لمع ضوءه » فلم يبق معه ظلمة .

« و شهاب » في ( النهاية ) : الشهاب : الّذي ينقضّ في الليل شبه الكوكب ، و هو في الأصل الشعلة من النار ٢ .

« سطع » أي : ارتفع .

« نوره » حتّى أضاء كلّ جانب .

« و زند » في ( الصحاح ) : الزند : العود الّذي يقدح به النار ، و هو الأعلى ،

و الزندة : السفلى فيها ثقب ، و هي الأنثى ، فإذا اجتمعا قيل : زندان ، ثم قال : و تقول لمن أنجدك و أعانك : وردت بك زنادي ٣ .

« برق لمعه » حتّى حصلت منه الاستنارة ، في ( الطبقات ) : أنّ عليّا عليه السّلام كان إذا نعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول : لم يكن بالطويل الممغّط ، و لا بالقصير المتردّد ، كان ربعة من القوم و لم يكن بالجعد القطط ، و لا السبط ، كان جعدا رجلا ، و لم يكن بالمطهّم و لا المكلثم ، و كان في وجهه تدوير أبيض مشرب ، أدعج العينين ،

أهب الأشفار ، جليل المشاش و الكتد ، أجرد ذا مسربة ، شثن الكفّين و القدمين ،

إذا مشى تقلّع كأنّما يمشي في صبب ، و إذا التفت التفت معا ، بين كتفيه خاتم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٢٨٩ سنة ٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) النهاية لابن الأثير ٢ : ٥١٢ مادة ( شهب ) .

( ٣ ) صحاح اللغة ١ : ٤٧٨ مادة ( زند ) .

١٩٠

النبوّة ، و هو خاتم النبييّن . أجود الناس كفّا ، و أجرأ الناس صدرا ، و أصدق الناس لهجة ، و أوفى الناس بذمّة ، و ألينهم عريكة ، و أكرمهم عشرة . من رآه بديهة هابه ، و من خالطه معرفة أحبّه . يقول ناعته لم أر قبله و لا بعده مثله ١ .

« سيرته القصد » أي : الوسط ، ليس بإفراط و لا تفريط ، و في الخبر كانت صلاة النبيّ صلى اللّه عليه و آله قصدا و خطبته قصدا ٢ .

« و سنّته الرشد » روى ( سنن أبي داود ) عن عبد اللّه بن أبي الحمساء قال :

بايعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله ببيع قبل أن يبعث و بقيت له بقيّة ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، فنسيت ، ثمّ ذكرت بعد ثلاث . فجئت فإذا هو في مكانه . فقال : يا فتى لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك ٣ .

و كان صلى اللّه عليه و آله يقسم لحظاته بين جلسائه ، قال عمّه أبو طالب فيه :

و ميزان صدق لا يخيس شعيرة

و وزّان صدق وزنه غير عائل

و في ( الطبقات ) : عن أمير المؤمنين عليه السّلام كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله إذا أوى إلى منزله جزّا دخوله ثلاثة أجزاء : جزء للّه ، و جزء لأهله ، و جزء لنفسه . ثمّ جزّا جزأه بينه و بين الناس ، فيسرد ذلك على العامة بالخاصة و لا يدّخر عنهم شيئا .

و كان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل ناديه ، و قسمه على قدر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه ابن سعد في الطبقات ١ ق ٢ : ١٢١ ، و ابن هشام في السيرة ٢ : ٣٥ ، و الترمذي في سننه ٥ : ٥٩٩ ، و البيهقي في الدلائل ، و الكجي ، و هشام بن عمّار في البعث عنهم منتخب كنز العمال ٣ : ٩١ ، و الخطيب في تاريخ بغداد ١١ : ٣٠ ، و الثقفي في الغارات ١ : ١٦١ .

( ٢ ) أخرجه مسلم بطريقين في صحيحه ٢ : ٥٩١ ح ٤١ و ٤٢ ، و الترمذي في سننه ٢ : ٣٨١ ح ٥٠٧ ، و النسائي في سننه ٣ : ١٩١ ، و ابن ماجة في سننه ١ : ٣٥١ ح ١١٠٦ ، و الدارمي في سننه ١ : ٣٦٥ ، و أحمد بطرق عديدة في مسنده ٣ : ٩١ و غيره .

( ٣ ) سنن أبي داود ٤ : ٢٩٩ ح ٤٩٩٦ .

١٩١

فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، و منهم ذو الحاجتين ، و منهم ذو الحوائج ،

فيتشاغل بهم و يشغلهم في ما أصلحهم و الأمة من مسألته عنهم ، و إخبارهم بالّذي ينبغي لهم ، و يقول : ليبلّغ الشاهد الغائب ، و أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إيّاه ثبّت اللّه قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلاّ ذلك ، و لا يقبل من أحد غيره ، يدخلون روّادا و لا يفترقون إلاّ عن ذواق و يخرجون أدلّة . ثم قال : كان صلى اللّه عليه و آله يخزن لسانه إلاّ ممّا يعنيهم و يؤلّفهم و لا يفرّقهم أو قال : ينفّرهم و يكرم كريم كلّ قوم و يولّيه عليهم ، و يحذر الناس و يحترس منهم ، من غير أن يطوي من أحد بشره و لا خلقه ، و يتفقّد أصحابه ، و يسأل الناس عمّا في الناس ، و يحسّن الحسن و يقوّيه ، و يقبّح القبيح و يوّهنه . معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا ، لكلّ حال عنده عاد ، لا يقصر عن الحقّ و لا يجوزه . الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة ، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة و موازرة .

ثمّ قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لا يجلس و لا يقوم إلاّ عن ذكر ، لا يوطّن الأماكن ، و ينهى عن إيطانها ، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث انتهى به المجلس ،

و يأمر بذلك ، يعطي كلّ جلسائه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف ، و من سأله حاجة لم يردّه إلاّ بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه بسطه و خلقه ، فصار لهم أبا ، و صاروا في الحقّ عنده سواء . مجلسه مجلس حلم و حياء ، و صبر و أمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبّن فيه الحرم ، و لا تنثى فلتاته ، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقّرون فيه الكبير و يرحمون فيه الصغير و يؤثرون ذا الحاجة و يحفظون أو يحوطون الغريب .

١٩٢

ثم قال : كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظّ و لا غليظ ، و لا صخّاب ، و لا فحّاش و لا عيّاب ، يتغافل عمّا لا يشتهي ، و لا يدنس منه ، و لا يجنب فيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء و الإكثار ، و ممّا لا يعنيه ،

و ترك الناس من ثلاث : كان لا يذمّ أحدا و لا يعيّره ، و لا يطلب عورته ، و لا يتكلّم إلاّ في ما رجا ثوابه . إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلّموا ، و لا يتنازعون عنده ، من تكلّم انصتوا له حتّى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أوّ ليتهم ، يضحك ممّا يضحكون منه ، و يتعجّب ممّا يتعجبون منه ،

و يصبر للغريب على الجفوة في منطقه و مسألته إلى أن قال :

كان سكوت النبيّ صلى اللّه عليه و آله على أربع : على الحلم و الحذر و التقرير و التفكّر ،

فأمّا تقريره ففي تسوية النظر و الاستماع من الناس ، و أمّا تذكّره أو تفكّره ففي ما يبقى و يفنى ، و جمع الحلم و الصبر ، و كان لا يغضبه شي‏ء و لا يستنفره ،

و جمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسني ليقتدى به ، و تركه القبيح ليتناهى عنه ، و اجتهاده الرأي في ما أصلح أمّته ، و القيام في ما جمع لهم الدّنيا و الآخرة ١ .

« و كلامه الفصل » قال صلى اللّه عليه و آله : أوتيت جوامع الكلم ٢ . و ليس بعد كلام اللّه تعالى كلام فوق كلامه ، و قد جمع جمع من العامة و الخاصة كلمه صلى اللّه عليه و آله كالزجاجي صاحب المبرد ، و نفطويه النحوي ، و جعفر بن حمدان الموصلي ،

و المصنّف في كتابه ( المجازات النبويّة ) .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه ابن سعد في الطبقات ١ ق ٢ : ١٢٩ ، و الصدوق بثلاث طرق في معاني الأخبار : ٧٩ ح ١ و بطريق واحد في عيون الأخبار ١ : ٢٤٦ ، و قال الصدوق في ذيل الحديث في العيون : « و قد رويت هذه الصفة عن مشائخ بأسانيد مختلفة أخرجتها في كتاب النبوّة » . و هذا الكتاب مفقود .

( ٢ ) هذا جزء من حديث أبي هريرة ، أخرجه بهذا اللفظ مسلم بطريقين في صحيحه ١ : ٣٧٢ ح ٧ ، ٨ ، و جمع ابن الأثير في جامع الأصول ٩ : ٣٩٣ ح ٦٣٢٠ طرق أصحاب الصحاح و اختلاف ألفاظهم .

١٩٣

و عن الجاحظ : يجب أن يكون الإنسان سخيّا لا يبلغ التبذير ، و شجاعا لا يبلغ الهوج ، محترسا لا يبلغ الجبن ، ماضيا لا يبلغ القحة ، قوّالا لا يبلغ الهذر ،

صموتا لا يبلغ العيّ ، حليما لا يبلغ الذلّ ، منتصرا لا يبلغ الظلم ، وقورا لا يبلغ البلادة ، نافذا لا يبلغ الطيش . ثمّ وجدنا النبيّ صلى اللّه عليه و آله قد جمع ذلك كلّه في كلمة واحدة ، و هي قوله : « خير الأمور أوسطها » فعلمنا أنّه أوتي جوامع الكلام ، و علم فصل الخطاب ، و من عجيب كلماته قوله صلى اللّه عليه و آله : « خمس من أتى اللّه بهنّ أو بواحدة منهنّ أوجبت له الجنّة : من سقى هامّة صادية ، أو أطعم كبدا هافية ، أو أكسى جلدا عارية ، أو حمل قدما حافية ، أو أعتق رقبة عانية » .

و روى ( الكافي ) أنّ أعرابيا قدم بإبل له ، فقال للنبيّ صلى اللّه عليه و آله : يا رسول اللّه بع لي إبلي هذه . فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لست ببيّاع في الأسواق . قال : فأشر عليّ .

فقال له : بع هذا الجمل بكذا ، و بع هذه الناقة بكذا ، حتّى وصف له كلّ بعير منها .

فخرج الأعرابي إلى السوق فباعها ، ثم جاء إليه ، فقال : و الّذي بعثك بالحقّ مازادت درهما و لا نقصت درهما ممّا قلت لي . . . ١ .

و في ( سنن أبي داود ) عنه صلى اللّه عليه و آله قال : « لا طلاق ، و لا عتاق في غلاق » ٢ .

قلت : و هو دليل على بطلان مذهبهم في الحلف بالعتاق و الطلاق .

و فيه أيضا : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا دخل على عائشة و رأى عندها رجلا ،

فتغيّر وجهه ، فقالت : إنّه أخي من الرضاعة . قال : انظرن من اخوانكنّ ، فانّما الرضاعة من الجماعة ٣.

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٥ : ٣١٧ ح ٥٤ .

( ٢ ) سنن أبي داود ٢ : ٢٥٨ ح ٢١٩٣ ، و سنن ابن ماجه ١ : ٦٥٩ ح ٢٠٤٦ ، و المستدرك للحاكم عنه الجامع الصغير ٢ : ٢٠٣ و غيرهم .

( ٣ ) سنن أبي داود ٢ : ٢٢٢ ح ٢٠٥٨ ، و مسلم بطريقين في صحيحه ٢ : ١٠٧٨ ، ١٠٧٩ ح ٣٢ ، ٣٣ ، و النسائي في سننه ٦ : ١٠٢ ، و ابن ماجه في سننه ١ : ٦٢٦ ح ١٩٤٥ ، و أحمد بثلاث طرق في مسنده ٦ : ٩٤ ، ١٧٤ ، ١١٤ و النقل بتصرف في اللفظ .

١٩٤

و في ( السيرة ) : عن أبي عياش قال : قال لي النبيّ صلى اللّه عليه و آله في غزوة ذي قرد :

« لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك ، فقلت : أنا أفرس الناس . فو اللّه ما جرى بي خمسين ذراعا حتّى طرحني ، فعجبت أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول : لو أعطيته أفرس منك ، و أنا أقول : أنا أفرس الناس ١ .

و فيه أيضا : و أقبل النبيّ صلى اللّه عليه و آله في المسلمين ، فإذا مسجّى ببردة أبي قتادة ، فاسترجع الناس و قالوا : قتل أبو قتادة . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ليس بأبي قتادة ، و لكنّه قتيل لأبي قتادة ، وضع عليه برده لتعرفوا أنّه برده ٢ .

و فيه أيضا بعد ذكر إغارة عيينية على لقاح النبيّ صلى اللّه عليه و آله و فيها رجل من غفار ، فقتلوا الرجل ، و احتملوا المرأة في اللقاح قال : و أقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالت : نذرت للّه أن أنحرها إن نجّاني اللّه عليها .

فتبسّم النبيّ صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال : بئس ماجزيتها أن حملك اللّه عليها و نجّاك بها ثمّ تنحرينها ، إنّه لا نذر في معصية اللّه ، و لا في ما لا تملكين ، إنّما هي ناقة من إبلي ،

فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه ٣ .

« و حكمه العدل » أعطى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ليهود خيبر أرضها و نخلها بالمناصفة ، فلمّا أدركت الثمرة بعث عبد اللّه بن رواحة ، فقوّم عليهم و خرص ،

فقال لهم : إمّا أن تأخذوه و تعطوني نصف التمر ، و إمّا أخذه و أعطيكم نصف التمر . فقالوا : بهذا قامت السماوات و الأرض ٤ .

و روى ( الكافي ) أنّ رجلا من الأنصارى و رجلا من ثقيف أتيا النبيّ صلى اللّه عليه و آله ،

فقال الثقفي : يا رسول اللّه حاجتي . فقال صلى اللّه عليه و آله : سبقك أخوك الأنصاري . فقال : يا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سيرة ابن هشام ٣ : ١٧٦ و النقل بتصرف في اللفظ .

( ٢ ) سيرة ابن هشام ٣ : ١٧٦ و النقل بتصرف في اللفظ .

( ٣ ) السيرة النبوية لابن هشام ٣ : ١٧٨ و النقل بتصرف .

( ٤ ) أخرجه أحمد بطريقين في مسنده ٢ : ٢٤ ، و ٣ : ٣٦٧ و غيره .

١٩٥

رسول اللّه إنّي على ظهر سفر ، و إنّي عجلان . و قال الأنصاري : إنّي قد أذنت له . . . ١ .

و في خبر من صار رئيس الخوارج أنّه قال للنبيّ صلى اللّه عليه و آله في غنائم خيبر :

ما عدلت فغضب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال له : و يلك إذا لم يكن العدل عندي ، فعند من يكون ؟ فأراد المسلمون قتله ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : دعوه فإنّه سيكون له أتباع يمرقون من الدّين . . . ٢ .

و عن أبي جعفر عليه السّلام : أنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، و كان منزل الأنصاري بباب البستان ، و كان يمرّ به إلى نخلته و لا يستأذن ، فشكاه الأنصاري إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فأرسل إليه و قال له : إذا أردت الدخول فاستأذن . فأبى ، فساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق في الجنّة . فأبى ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله للأنصاري : اذهب فاقلعها و ارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر و لا ضرار ٣ .

و روى ( سنن أبي داود ) أنّ جمعا من الصحابة كانوا مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله فنام رجل منهم ، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ، ففزع ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلما ٤ .

« على حين فترة » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( أرسله على حين

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي الكليني ٤ : ٢٦١ ح ٣٧ ، و الشهيد في الأربعين : ١٠ ح ١٥ ، و أخرجه برواية أخرى الكافي للكليني ٣ : ٧١ ح ٧ ، و الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٠ ح ١ .

( ٢ ) أخرجه مسلم بثلاث روايات في صحيحه ٢ : ٧٤٠ ح ١٤٢ ، و : ٧٤٤ ح ١٤٨ ، و في لفظ الحديث اضطراب ، جمع ابن الأثير في جامع الأصول ١٠ : ٤٣٦ ح ٧٥٣١ طرق أصحاب الصحاح و اختلاف ألفاظهم ، و اسم الرجل ذو الخويصرة .

( ٣ ) هذا تلخيص حديث أخرجه الكليني بطريقين في الكافي ٥ : ٢٩٢ ، ٢٩٤ ح ٢ ، ٨ ، و الفقيه للصدوق ٣ : ١٤٧ ح ١٨ ،

و التهذيب للطوسي ٨ : ١٤٦ ح ٣٦ ، و بفرق الفقيه للصدوق ٣ : ٥٩ ح ٩ ، و أما فقرة « لا ضرر و لا ضرار » فمشهورة كثيرة الرواية .

( ٤ ) سنن أبي داود ٤ : ٣٠١ ح ٥٠٠٤ .

١٩٦

فترة ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ١ .

« من الرسل » و انقطاع لهم .

« و هفوة » أي : زلّة .

« عن العمل » فلم يكن منهم عمل رأسا أو عمل صالح .

« و غباوة عن الأمم » في رشدهم و صلاحهم ، كما قال شاعر :

كما بعث اللّه النبيّ محمّدا

على فترة و الناس مثل البهائم

٦

الخطبة ( ٩٣ ) و من خطبة له عليه السّلام :

بَعَثَهُ وَ اَلنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ وَ خَابِطُونَ فِي فِتْنَةٍ قَدِ اِسْتَهْوَتْهُمُ اَلْأَهْوَاءُ وَ اِسْتَزَلَّتْهُمُ اَلْكِبْرِيَاءُ وَ اِسْتَخَفَّتْهُمُ اَلْجَاهِلِيَّةُ اَلْجَهْلاَءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ اَلْأَمْرِ وَ بَلاَءٍ مِنَ اَلْجَهْلِ فَبَالَغَ ص فِي اَلنَّصِيحَةِ وَ مَضَى عَلَى اَلطَّرِيقِ وَ دَعَا إِلَى اَلْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ ١٦ : ١٢٥ « بعثه و الناس ضلاّل في حيرة » كان الناس وقت بعثته صلى اللّه عليه و آله بين طبيعي ،

و ثنوي ، و وثني ، و براهمة ، و يهودي ، و نصراني ، و مجوسي ، و صابي ،

و نظائرهم .

« خابطون » قال الجوهري : خبط البعير الأرض بيده خبطا : ضربها ، و منه قيل : خبط عشواء ، و هي الناقة الّتي في بصرها ضعف ، تخبط إذا مشت لا تتوقى شيئا ٢ .

و قال ابن أبي الحديد : « حاطبون في فتنة » جمع حاطب ، و هو الّذي يجمع

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٩٥ مثل المصرية .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٣ : ١١٢١ مادة ( خبط ) .

١٩٧

الحطب ، و يقال لمن يجمع بين الصواب و الخطأ أو يتكلم بالغثّ و السمين :

حاطب ليل ، لأنّه لا يبصر ما يجمع في حبله ، و يروي : « خابطون » ١ .

قلت : الصحيح : ( و خابطون ) ، و إنّما يصحّ الأوّل لو كان بلفظ و حاطبو ليل . فإنى حاطب ليل : يستعمل في ما ذكر لا الحاطب مجرّدا . فانّه لا يحمل إلاّ على معناه الظاهري من جمع الحطب .

« في فتنة » أي : ما يوجب امتحان الخلق . و الأصل فيها فتن الصائغ الذهب بإدخاله النار لينظر ما جودته .

« قد استهوتهم » أي : استهامتهم .

« الأهواء » كما قال تعالى : . . . أرأيت من اتّخذ إلهه هواه . . . ٢ .

« و استزلّتهم » عن الثبات .

« الكبرياء » أي : التكبّر ، كما حصلت لا بليس .

« و استخفّتهم » أي : عدّتهم خفيفين .

« الجاهلية الجهلاء » أي : الغاية في الجهالة .

« حيارى » أي : متحيرين .

« في زلزال من الأمر » فلا يغدرون رشدهم و صلاحهم .

« و بلاء من الجهل » و الجهل بلاء فوق كلّ بليّة ، فكانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق و فقر ، و لا يعلمون أنّ اللّه يرزقهم كما خلقهم ، و يئدون بناتهم لئلاّ يصلن إلى غير عشيرتهم مع كونه أشنع عمل ، و ينسؤون الشهور الحرم ،

و يخترعون البدع من السائبة ، و الوصيلة ، و الحام ، و البحيرة ، و غيرها بالنسبة إلى أحشامهم و أغنامهم .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٢ .

( ٢ ) الفرقان : ٤٣ .

١٩٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

« فبالغ صلى اللّه عليه و آله في النصيحة » قال السروي : روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى :

و أنذر عشيرتك الأقربين ١ صعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله ذات يوم الصفا ، فقال : يا صباحاه . فاجتمعت إليه قريش . فقالوا : مالك ؟ قال : أرأيتكم أن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني ؟ قالوا : بلى . قال : فإنّي نذير لكم من يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تبّا لك ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت سورة ( تبّت ) .

ثمّ روى عن قتادة أنّه صلى اللّه عليه و آله خطب ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ الرائد لا يكذب أهله ، و لو كنت كاذبا لما كذبتكم ، و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم حقّا خاصّة و إلى الناس عامّة ، و اللّه لتموتون كما تنامون ، و لتبعثون كما تستيقظون ، و لتحاسبون كما تعملون ، و لتجزون بالإحسان إحسانا ،

و بالسوء سواءا ، و إنّها الجنّة أبدا ، و النار أبدا ، و أنّكم أوّل من أنذرتم . . . ٢ .

« و مضى على الطريق » : طريق الحقّ قل هذه سبيلي أدعو إلى اللّه على بصيرة أنا و من اتّبعني ٣ .

« و دعا إلى اللّه بالحكمة و الموعظة الحسنة » كما أمره ربّه بقوله : ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظه الحسنة و جادلهم بالّتي هي أحسن . . . ٤ .

و كان صلى اللّه عليه و آله يحاجّ كلّ فرقة بلسانهم ، و يلزمهم بما يتمّ الحجّة عليهم . قال شاعر :

اللّه قد أيّد بالوحى

محمّدا ذا الأمر و النهي

يأمر بالعدل و ينهي عن

الفحشاء و المنكر و البغي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٢١٤ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٤٦ ، و يأتي تخريجه مفصلا في العنوان ١٥ من هذا الفصل .

( ٣ ) يوسف : ١٠٨ .

( ٤ ) النحل : ١٢٥ .

١٩٩

٧

من الخطبة ( ٩٤ ) منها في ذكر الرسول :

مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ فِي مَعَادِنِ اَلْكَرَامَةِ وَ مَمَاهِدِ اَلسَّلاَمَةِ قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ اَلْأَبْرَارِ وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ اَلْأَبْصَارِ .

دَفَنَ بِهِ اَلضَّغَائِنَ وَ أَطْفَأَ بِهِ اَلثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً أَعَزَّ بِهِ اَلذِّلَّةَ وَ أَذَلَّ بِهِ اَلْعِزَّةَ كَلاَمُهُ بَيَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ « مستقرّه خير مستقرّ » الظاهر أنّ مراده عليه السّلام بمستقرّه المدينة ، و قد سمّاها النبيّ صلى اللّه عليه و آله الطيّبة ، و وصفها بأنّها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ١ . كما في الخبر .

« و منبته أشرف منبت » و الظاهر أنّ مراده عليه السّلام بمنبته صلى اللّه عليه و آله مكّة ، و قد قال تعالى : إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركا و هدى للعالمين . فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا . . . ٢ .

و في خطبة له عليه السّلام على رواية ( إثبات المسعودي ) في محالّ نوره صلى اللّه عليه و آله :

« و أيّ ساحة من الأرض سلكت به لم يظهر بها قدسه ، حتّى الكعبة التي جعلت منها مخرجه ، غرست أساسها بياقوتة من جنّات عدن ، و أمرت الملكين المطهّرين : جبرئيل و ميكائيل ، فتوسّطا بها أرضك ، و سميّتها بيتك ، و اتّخذتها

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحيح مسلم ٢ : ١٠٠٦ ح ٤٩٠ عن زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه و آله قال : « . . أنّها طيبة ، و انها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة » . لكن صدر الحديث و ذيله روي مستقلا أيضا : أخرج الصدر الطبراني في معجمه الكبير ، و عنه الجامع الصغير ١ : ٦٨ من حديث جابر بن سمرة ، و أخرج الذيل بلفظ : « كما ينفي الكير خبث الحديد » . أخرجه أصحاب الصحاح ، و جمع طرقهم و ألفاظهم ابن الأثير في جامع الأصول ١٠ : ١٩٩ ٢٠١ ح ٦٩١٧ ، ٦٩٢٠ ، ٦٩٢١ ، ٦٩٢٢ .

( ٢ ) آل عمران : ٩٦ ٩٧ .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

السابقة و اللاحقة و التدبّر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم حينما ودّعوه للرحيل، و إنّما اتّخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرّسه من نزول مصيبة بهم تفرّق جمعهم و تنقص من عددهم كما اُشير إليه في الآية السابقة لكن اتّخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكنّ الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنّه جعل هذا السبب الّذي تخلّف عن أمره و أدّى إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلّا كبيرهم إلى أبيهم ثمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذلّلون لعزّته فعرّفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتّصلوا به.

فقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الّذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئاً ألبتّة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل اُخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله:( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) قيل: إنّ( إِلَّا ) بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فردّ إليه ولده الّذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون( إِلَّا ) استثنائيّة فإنّ قوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئاً و لم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلّا حاجة في نفس يعقوب، و قوله:( قَضاها ) استئناف و جواب سؤال كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاُجيب بقوله:( قَضاها ) .

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) الضمير ليعقوب أي إنّ يعقوب لذو

٢٤١

علم بسبب ما علّمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إيّاه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنّه علم موهبيّ غير اكتسابيّ و قد تقدّم أنّ إخلاص التوحيد يؤدّي إلى مثل هذه العناية الإلهيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) إذ لو كان من العلم الاكتسابيّ الّذي يحكم بالأسباب الظاهريّة و يتوصّل إليه من الطرق العاديّة المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبيّ لا يضلّ في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرّس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسّل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أنّ في قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، تصديقاً ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتّخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكّله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات و للمفسّرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ - إلى قوله -قَضاها ) إنّه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأنّ الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى أنّ الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم و هم متفرّقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ أنّه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إيّاه و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إنّ اللّام في( لِما عَلَّمْناهُ ) للتقوية و المعنى أنّه يعلم ما علّمناه فيعمل به لأنّ من علم شيئاً و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

٢٤٢

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإيواء إليه ضمّه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية:( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ ) بعد دخولهم مصر( آوى) و قرّب( إِلَيْهِ أَخاهُ ) الّذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و اُمّه( قالَ ) له( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) أي يوسف الّذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدّر( فَلا تَبْتَئِسْ ) و لا تغتمّ( بِما كانُوا ) أي الإخوة( يَعْمَلُونَ ) من أنواع الأذى و المظالم الّتي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من اُمّ أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنّه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنّه عرّفه نفسه بإسرار القول إليه و سلّاه على ما عمله الإخوة و طيّب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أنّ معنى قوله: إنّي أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنّه كان له أخ من اُمّه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من اُمّه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنّه أراد أن يطيّب نفسه.

و ذلك أنّه ينافيه ما في قوله:( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) من وجوه التأكيد و ذلك إنّما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنّه هو يوسف. على أنّه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) فإنّه إنّما يناسب ما إذا علم أخوه أنّه أخوه فاعتزّ بعزّته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) السقاية الظرف الّذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الّذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّة و فصّله الله تعالى و جعل ذلك مقدّمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه

٢٤٣

و هما منعّمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله:( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لاُمّه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الّذي سمّي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم و هو أخو يوسف لاُمّه لكن عدم تعيّنه بعد من بينهم كان مجوّزاً لخطابهم جميعا بأنّكم سارقون فإنّ معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أنّ السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممّن لا يتعيّن إلّا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أنّ أخا يوسف لاُمّه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه و لذلك لم يتكلّم من أوّل الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرّفه يوسف أنّه أخاه و سلّاه و طيّب نفسه فليس إلّا أنّ يوسف (عليه السلام) كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنّه إنّما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنّما كان اتّهاماً في نظر الإخوة و أمّا بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدّيّة و تهمة حقيقيّة بل توصيفاً صوريّاً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرّم شرعاً، على أنّ القائل هو المؤذّن الّذي أذّن بذلك.

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ القائل:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أنّ يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إنّ يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجبّ، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسّر.

و قال بعضهم: إنّ الجملة استفهاميّة، و التقدير: أ إنّكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

٢٤٤

قوله تعالى: ( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) الفقد - كما قيل - غيبة الشي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله:( قالُوا ) للإخوة و هم العير، و قوله:( ما ذا تَفْقِدُونَ ) مقول القول و الضمير في قوله:( عَلَيْهِمْ ) ليوسف و فتيانه كما يدلّ عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) الصواع بالضمّ السقاية و قيل: إنّ الصواع هو الصاع الّذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمّي تارة سقاية و اُخرى صواع، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ ) و قال:( ثُمَّ اسْتَخْرَجَها ) .

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أنّ الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختصّ باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختصّ باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضاً القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعلّ القائل:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) هو فتيان يوسف و القائل:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يوسف (عليه السلام) نفسه لأنّه هو الرئيس الّذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أمّا فتيانه فقالوا:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ، و أمّا يوسف فقال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏ ) ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسّرين: أنّ قوله:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) تتمّة قول المؤذّن:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و على هذا فقوله:( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -صُواعَ الْمَلِكِ ) معترض.

٢٤٥

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) المراد بالأرض أرض مصر و هي الّتي جاؤها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ) دلالة على أنّهم فتّشوا و حقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة اُخرى فسألوا عن شأنهم و محلّهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيّد ما ورد في بعض الروايات أنّ يوسف أظهر لهم أنّه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أنّ لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) نفي أن يكونوا متّصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الّذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم:( إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قد تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) مرادهم أنّ جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنّة يعقوب (عليه السلام) كما يدلّ عليه قولهم:( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي هؤلاء الظالمين و هم السرّاق لكنّهم عدلوا عنه إلى قولهم:( جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) للدلالة على أنّ السرقة إنّما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحقّقت السرقة إلّا السارق بعينه من غير أن يتعدّى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثمّ للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

٢٤٦

قوله تعالى: ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) فيه تفريع على ما تقدّم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا و يتفطّنوا أنّه هو الّذي وضعها في رحل أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقرّ الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته، و قد كان كيداً لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطّنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكّنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علّمه به طريق التوصّل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

و ليس كلّ كيد بمنفيّ عنه تعالى و إنّما تتنزّه ساحة قدسه عن الكيد الّذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، و لا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أنّ جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الّذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أنّ الاستثناء يفيد أنّه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشقّ، و كان ذلك متداولاً في كثير من السنن

٢٤٧

القوميّة و سياسات الملوك.

و قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) و كان امتناناً عليه.

و في قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) بيان أنّ العلم من الاُمور الّتي لا يقف على حدّ ينتهي إليه بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر قوله:( ذِي عِلْمٍ ) هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة( ذِي ) من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الّذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أنّ وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أنّ الجملة( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إنّما تصدق فيما أمكن هناك فرض( فَوْقَ ) و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حدّ لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى كونه تعالى فوق كلّ ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اُورد في هيئة النكرة صوناً للّسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة لأنّهما كانا من اُمّ واحدة، و المعنى أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنّه كان له أخ و قد تحقّقت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما و نحن مفارقوهما في الاُمّ.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنّه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) لأنّهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلّا لم يكن ينفعهم ألبتّة فقولهم:( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يناقضه و هو ظاهر. على

٢٤٨

أنّهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلّهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن اُمور مؤسّفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتّضح بعض الاتّضاح معنى قول يوسف:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) كما أنّ الظاهر أنّ قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلى آخر الآية كالبيان لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كما أنّ قوله:( وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) عطف تفسير لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) .

و المعنى - و الله أعلم -( فَأَسَرَّها ) أي أخفى هذه الكلمة الّتي قالوها أي لم يتعرّض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبيّن حقيقة الحال بل( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه فاُجيب أنّه( قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كلّه( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) إنّه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذّبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ معنى قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلخ: أنّكم أسوأ حالا منه لأنّكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أنّ من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) لكنّ الكلام فيما تلقّاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرّفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلّا بما تقدّم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ الّتي أسرّها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكان ) فلم يخاطبهم بها ثمّ جهر بقوله:( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا

٢٤٩

شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنّهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلّموا العزيز في ذلك أن يأخذ أيّ من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتّهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوّة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ( قالَ مَعاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) ردّ منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجيّ القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه:( وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) و إنّما جاز ذلك لأنّه مصدر وصف به، و المناجاة المسارّة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنّه رفع السرّ من كلّ واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسماً و مصدراً قال سبحانه:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ ) أي يتناجون، و قال في المصدر:( إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ ) و جمع النجيّ أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحّى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله:( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) أي إخوة يوسف( مِنْهُ ) أي من يوسف أن يخلّي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه( خَلَصُوا ) و خرجوا من بين الناس إلى فراغ( نَجِيًّا ) يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

( قالَ كَبِيرُهُمْ ) مخاطباً لسائرهم( أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً

٢٥٠

مِنَ الله ) ألّا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلّا بأخيكم،( وَ مِنْ قَبْلُ ) هذه الواقعة( ما فَرَّطْتُمْ ) أي تفريطكم و تقصيركم( فِي ) أمر( يُوسُفَ ) عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردّوه إليه سالماً فألقيتموه في الجبّ ثمّ بعتموه من السيّارة ثمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ) أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحّى و لن اُفارق أرض مصر( حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) برفعه اليد عن الموثق الّذي واثقته به( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة الّتي سدّت لي كلّ باب و ذلك إمّا بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أمّا أنا فاختار البقاء هاهنا و أمّا أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل المراد بقوله:( وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) إنّا لم نشهد في شهادتنا هذه:( إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) إلّا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ إلّا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنّما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ؟ و إنّما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أوّلهما.

و قوله:( وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل أي لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترقّ و إنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحقّ أنّ المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها و معنى الآية إنّ ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلّا بما علمنا و ما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية و أنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة فما كنّا نظنّ به ذلك.

٢٥١

قوله تعالى: ( وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا لم نفرط في أمره بل إنّه سرق فاسترقّ.

فالمراد بالقرية الّتي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير الّتي أقبلوا فيها القافلة الّتي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثمّ أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقّبوا عرض السؤال بقولهم:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلّفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

٢٥٢

( سورة يوسف الآيات ٨٣ - ٩٢)

قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَميعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٨٣) وَتَوَلّى‏ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم( ٨٤) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ( ٨٥) قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٨٦) يَا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ٨٧) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ( ٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ( ٨٩) قَالُوا أَءِنّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٩٠) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ( ٩١) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ( ٩٢)

٢٥٣

( بيان‏)

الآيات تتضمّن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر و إخبارهم إيّاه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر و تحسّسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرّفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) في المقام حذف كثير يدلّ عليه قوله:( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا ) إلى آخر الآيتين و التقدير و لمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصّاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إلخ.

و قوله:( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) رميا بالمظنّة بل ليس إلّا أنّه وجد بفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط و تتفرّع على تسويل نفسانيّ منهم إجمالاً و كذلك كان الأمر فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم.

و من هنا يظهر أنّه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الّذي توقّف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أنّ ترجّيه رجوع بنيه الثلاثة مبنيّ على صبره الجميل قبال ما سوّلت لهم أنفسهم أمراً.

فالمعنى - و الله أعلم - أنّ هذه الواقعة ممّا سوّلت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.

٢٥٤

و من هنا يظهر أنّ قولهم: إنّ المعنى: ما عندي أنّ الأمر على ما تصفونه بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فيما أظنّ، ليس في محلّه.

و قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ترجّ مجرّد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ يوسف حيّ لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) بل بمثل قولنا: إنّه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إنّ واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة الّتي أخذت منّي ابنين آخرين إنّما هما لأمر مّا سوّلته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً و يتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنّه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللّذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأوّل مرّة أوّل رؤياه فقال:( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثمّ ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانياً حيث رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجداً فقال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ - إلى أن قال -هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى:( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) أي أغضبونا قال أبوعبدالله(١) الرضا: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون

____________________

(١) كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبوالحسن.

٢٥٥

فجعل رضاهم رضاه و غضبهم‏ غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبّر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفّس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدّة بعد ملئه مانعاً لنفسه. انتهى.

و قوله:( وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربّما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنّه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية:( ثمّ تولّى ) و أعرض يعقوب (عليه السلام)( عَنْهُمْ ) أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) ( وَ قالَ: يا أَسَفى) و يا حزني( عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ ) و ذهب بصره( مِنَ الْحُزْنِ ) على يوسف( فَهُوَ كَظِيمٌ ) حابس غيظه متجرّع حزنه لا يتعرّض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الّذي لا ميت فينسى و لا حيّ فيرجي، و المعنى الأوّل أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنّى و لا يجمع لأنّه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنّهم إنّما قالوه رقّة بحاله و رأفة به، و لعلّهم إنّما تفوّهوا به تبرّما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصّة من جهة أنّه كان يكذّبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسّفه أنّه يشكوهم كما ربّما يؤيّده قوله:( ما أَشْكُو ) إلخ.

٢٥٦

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ) قال في المجمع: البثّ الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه، و كلّ شي‏ء فرّقته فقد بثثته و منه قوله:( وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

و الحصر الّذي في قوله:( إنّما أَشْكُو ) إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أنّي لست أشكو بثّي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم و حزنهم عند المصائب، و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحّون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله:( ‏وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) إشارة إجماليّة إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلّا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) قال في المجمع: التحسّس - بالحاء - طلب الشي‏ء بالحاسّة و التجسّس - بالجيم - نظيره‏ و في الحديث: لا تحسّسوا و لا تجسّسوا، و قيل إنّ معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر( متى أدن منه ينأى عنه و يبعد) .

و قيل: التجسّس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عبّاس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسّس في الخير و التجسّس في الشرّ. انتهى.

و قوله:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيّب و يكنّى به عن الحالة الّتي هي ضدّ التعب و هي الراحة و ذلك أنّ الشدّة الّتي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً و كظماً للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفّساً و روحاً لقولهم يفرّج

٢٥٧

الهمّ و ينفّس الكرب فالرّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله و مشيّته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أنّ الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيّته و لا معقّب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنّه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ ) الحجر: ٥٦، و قد عدّ اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثمّ قال يعقوب لبنيه آمراً لهم -( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) الّذي اُخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلّكم تظفرون بهما( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) و الفرج الّذي يرزقه الله بعد الشدّة( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) الّذين لا يؤمنون بأنّ الله يقدر أن يكشف كلّ غمّة و ينفّس عن كلّ كربة.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لمّا دخلوا على يوسف قالوا إلخ.

كانت لهم - على ما يدلّ عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنّهم عرفوا بالكذب و سجّل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلّي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحّوا عليه فأبى العزيز حتّى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لمّا حضروا عند يوسف العزيز و كلّموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلّل و الخضوع و بالغوا في رقّة الكلام

٢٥٨

استرحاما و استعطافا فذكروا أوّلاً ما مسّهم و أهلهم من الضرّ و سوء الحال ثمّ ذكروا قلّة ما أتوا به من البضاعة ثمّ سألوه إيفاء الكيل، و أمّا حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرّحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدّق عليهم و إنّما يتصدّق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترقّ مال العزيز ظاهراً ثمّ حرّضوه بقولهم:( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ ) و أحاط بنا جميعاً المضيقة و سوء الحال( وَ جِئْنا ) إليك( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنّه نهاية ما في وسعنا( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) و كأنّهم يريدون به أخاهم أو إيّاه و الطعام( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) خيرا.

و قد بدؤا القول بخطاب( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلّة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدّق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممّن لا يستحقّ ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة أنّه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) و عرّفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنّه بمصر طول هذه المدّة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلّة و المسكنة و هو متّك على أريكة العزّة.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) إنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنّه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) و فيه تلقين عذر.

فقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) مجرّد تذكير لعملهم بهما من

٢٥٩

غير توبيخ و مؤاخذة ليعرّفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوّة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوّة.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها و إنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) مؤكّداً بإنّ و اللّام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و إنّما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال:( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) .

ثمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب فقال:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنّه يتحقّق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضدّ الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأً و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطأ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنّما قيّد نفي التثريب باليوم ليدلّ على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اُوتي النبوّة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذّلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أوّل يوم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثمّ دعا لهم و استغفر بقوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الّذين ظلموه جميعاً و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605