بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة6%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113294 / تحميل: 6071
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

« من مائها » يقال : ماء غور ، أي : غائر ، و نقله ابن أبي الحديد ١ : « و إعوار من مائها » و جعل « و اغورار من مائها » نسخة ، مع أنّه لا معنى لإعوار مائها و جعله له من ( فلاة عوراء ) لا ماء بها غلط ، لأنّه أثبت لها ماء ، مع أنّ ( الكافي ) ٢ و ( تفسير القمي ) ٣ أيضا نقلاه : « و اغورار » .

« قد درست » أي : صارت مندرسة .

« منار الهدى » قد عرفت أنّ في رواية ( الكافي ) ٤ : « أعلام الهدى » و هو الأنسب بقوله : « قد درست » .

« و ظهرت » للناس .

« أعلام » أي : علائم .

« الردى » أي : الهلكة .

« فهي » أي : الدّنيا .

« متجهّمة لأهلها » أي : متلقّيتهم بالغلظة ، و قال الخوئي : و في نسخة « متهجّمة لأهلها » ٥ .

قلت : هي تحريف ، لأنّه لا يقال : تهجم لفلان بل على فلان ، و النسخة إنّما تنقل في ما احتملت صحّتها .

« عابسة في وجه طالبها » فلا يحصل منها مطلوبه .

« ثمرها الفتنة » كشجرة ثمرتها مرّة .

« و طعامها الجيفة » كطعام الكلاب ، روى الطبري في ( ذيله ) أنّه قيل لعبد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقل ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ١٣٥ روايتين : « اعورار » و « اغورار » و أثبت الثاني في متن الخطبة .

( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٦٠ ح ٧ .

( ٣ ) لفظ تفسير القمي ١ : ٣ « و اغوار من مائها » .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ٦٠ ح ٧ .

( ٥ ) جعل الخوئي في شرحه ٣ : ٦٤ « متهجمة » أصلا ، ثم قال : « و في بعض النسخ متجهمة بتقديم الجيم على الهاء » .

١٨١

خير : هل تذكر من أمر الجهّال شيئا ؟ و كان أتى عليه مائة و عشرون سنة . قال :

أذكر أنّ أمّي طبخت لنا قدرا ، فقلت : اطعمينا . فقالت : حتّى يجي‏ء أبوكم . فجاء أبي فقال : إنّ كتاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله قد جاءنا ينهانا عن لحوم الميتة . قال : فاذكر أنّها كانت لحم ميتة فأكفأناها ١ .

و روى أبو نعيم في ( حليته ) عن أبي رجاء العطاردي و كان أدرك الجاهلية قال : بلغنا أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و نحن على ماء لنا يقال له : سند ، فانطلقنا نحو الشجرة هاربين ( أو قال هربا ) بعيالنا ، فبينما أنا أسوق بالقوم إذ وجدت كراع ظبي طريّ فأخذته فأتيت المرأة ، فقلت : هل عندك شعير ؟ فقالت : قد كان في وعاء لنا عام أوّل شي‏ء من شعير ما أدري بقي منه أم لا .

فأخذته فنفضته ، فاستخرجت منه مل‏ء كف من شعير ، فرضخته بين حجرين ، ثمّ ألقيته و الكراع في برمة ، ثمّ قمت إلى بعير ففصدته إناء من دم ثمّ أوقدت تحته ، ثمّ أخذت عودا فلبكته به لبكا شديدا حتّى أنضجته . ثمّ أكلنا ، فقال له رجل : يا أبا رجاء كيف طعم الدم ؟ قال : حلو ٢ .

و قالوا : كانت بنو أسد تأكل الكلاب ، فقال الفرزدق :

إذا أسديّ جاع يوما ببلدة

و كان سمينا كلبه فهو آكله

و قالوا : كان بنو فقعس يأكلون لحوم الناس ، قال شاعر :

إذا ما صفت ليلا فقعسيّا

فلا تأكل له أبدا طعاما

فانّ اللحم إنسانا فدعه

و خير الزاد ما منع الحراما

و عن ابن قرفة : أضافني أعرابي ، فجاءني بقدر جمّاعة ضخمة ، ليس فيها شي‏ء إلاّ قطع من لحم ، فإذا بضعة تتمّات في فمي ، و بعضة كأنّها بضع

ـــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل للطبري : ٨١ .

( ٢ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٢ : ٣٠٥ .

١٨٢

ساق ، و بضعة كأنّها شحم رخم ، فقلت : ما هذا ؟ فقال : إنّي رجل صيّاد جمعت بين ذئب و ظبي و ضبع .

« و شعارها الخوف و دثارها السيف » قال الجوهري : الشعار : ما ولي الجسد من الثياب ١ ، و الدثار : كلّ ما كان من الثياب فوق الشعار ٢ .

قال تعالى : فليعبدوا ربّ هذا البيت . الّذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف ٣ .

٥

من الخطبة ( ٩٢ ) حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى ؟ مُحَمَّدٍ ص ؟

فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ اَلْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وَ أَعَزِّ اَلْأَرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ اَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ وَ اِنْتَخَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ اَلْعِتَرِ وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ اَلْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ اَلشَّجَرِ نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرَةٌ لاَ تُنَالُ فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اِتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اِهْتَدَى .

سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ اَلْقَصْدُ وَ سُنَّتُهُ اَلرُّشْدُ وَ كَلاَمُهُ اَلْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ اَلْعَدْلُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ هَفْوَةٍ عَنِ اَلْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ عَنِ اَلْأُمَمِ . « حتّي أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله » روى ( سنن أبي داود ) في باب الثوم : أن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم‏أتى ببدر أي : طبق فيه خضرات من البقول فوجد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة للجوهري ٢ : ٦٩٩ مادة ( شعر ) .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٢ : ٦٥٥ مادة ( دثر ) .

( ٣ ) قريش : ٤٣ .

١٨٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

لها ريحا ، فقال : قرّبوها إلى بعض أصحابه كان معه ، فلمّا رآه كره أكلها ، فقال له : كلّ فإنّي أناجي من لا تناجي ١ .

« فأخرجه من أفضل المعادن منبتا » عن الكاظم عليه السّلام : أنّ يهوديا من يهود الشام و أحبارهم كان قد قرأ التوراة ، و الإنجيل ، و الزبور ، و صحف الأنبياء و عرف دلائلهم ، جاء إلى مجلس فيه أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و فيهم علي بن أبي طالب و ابن عباس و ابن مسعود و أبو سعيد الجهني ، فقال : يا أمّة محمّد ما تركتهم لنبيّ درجة ، و لا لمرسل فضيلة إلاّ نحلتموها نبيّكم ، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه ؟ فكاع القوم عنه ، فقال علي بن أبي طالب : نعم ، ما أعطى اللّه نبيّا درجة و لا مرسلا فضيلة إلاّ و قد جمعها لمحمّد صلى اللّه عليه و آله ، و زاد محمّدا على الأنبياء أضعافا مضاعفة ٢ .

« و أعزّ الأرومات » بالفتح ، جمع أرومة : أصل الشجرة .

« مغرسا » من حيث النسل ، أي : النسل السامي ، و في خطبة له عليه السّلام المرويّة في ( إثبات المسعودي ) : ثمّ أذنت في إيداعه صلى اللّه عليه و آله ساما دون حام و يافث ، فضربت لهما بسهم في الذلّة ، و جعلت ما أخرجت من بينهما لنسل سام خولا ٣ .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : العرب كلّها ، و الأنبياء كلّها من ولد سام ٤ .

« من الشّجرة التي صدع » أي : شقّ .

« منها أنبياءه » و المراد من الشجرة إبراهيم عليه السّلام ، فرسل جاؤوا بعده

ـــــــــــــــــ

( ١ ) هذا حديث جابر أخرجه أبو داود في سننه ٣ : ٣٦٠ ح ٣٨٢٢ ، و جمع ابن الأثير في جامع الأصول ٨ : ٢٧٩ ح ٥٥١٤ طرق أصحاب الصحاح و اختلاف ألفاظهم ، و في الباب عن علي عليه السّلام و سويد و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الاحتجاج للطبرسي : ٢١٠ عن موسى بن جعفر الكاظم عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم السلام .

( ٣ ) إثبات الوصيّة للمسعودي : ١٠٨ .

( ٤ ) المعارف لابن قتيبة : ٢٧ ، ٢٨ .

١٨٤

كانوا من نسله .

« و انتخب » أي : اختار .

« منها أمناءه » على وحيه ، و فسّر قوله تعالى : الّذي يراك حين تقوم .

و تقلّبك في الساجدين ١ في الأخبار بمعنى : حين تقوم في النبوّة ، و تقلّبك في أصلاب النبيين .

« عترته خير العتر » كما أنّه خير البشر ، و في ( الصحاح ) : عترة الرجل :

نسله و رهطه الأدنون ٢ .

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : إنّي أوشك أن أدعى فأجيب ، و إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّ و جلّ حبل ممدود بين السماء و الأرض و عترتي أهل بيتي ، و أخبرني اللطيف أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ٣ .

« و أسرته » و هم بنو هاشم .

« خير الأسر » فكانت بنو هاشم أفضل طوائف قريش .

« و شجرته » و هم قريش .

« خير الشجر » فكانت قريش أفضل طوائف العرب .

« نبتت في حرم » أي : عزّ و منعة ، و ليس المراد مكّة كما احتمله ابن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٢١٨ ٢١٩ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٢ : ٧٣٥ مادة ( عتر ) .

( ٣ ) هذا الحديث المعروف بحديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، أخرجه أحمد بأربع طرق في مسنده ٣ : ١٤ ، ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ ، و ابن سعد في الطبقات ٢ ق ٢ : ٢ ، و أبو يعلى في مسنده ، و الباوردي عنهما إحياء الميت : ١٣ ، ٤٧ ح ٨ ، ٥٥ ، و الطبراني في معجمه عنه الدر المنثور ٢ : ٦٠ ، و الثعلبي في تفسيره عنه ينابيع المودة : ٣٢ ، و الصدوق بخمس طرق في كمال الدين : ٢٣٥ ٢٤٠ ح ٤٦ ، ٤٨ ، ٥٠ ، ٥٧ ، ٦١ ، و أبو علي الطوسي في أماليه ١ : ٢٦١ المجلس ٩ و غيرهم عن أبي سعيد الخدري ، و في الباب عن علي و فاطمة و الحسن عليهم السلام و ابن عباس و زيد بن الأرقم و ثلاثة عشر آخرين من أصحاب النبي صلى اللّه عليه و آله .

١٨٥

أبي الحديد ١ ، فلو كانت مرادة لقال : في الحرم لا في حرم .

« و بسقت » أي : علت .

« في كرم » و شرف . روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله بيّنا في المسجد الحرام ، و عليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلا ناقة ،

فملؤوا ثيابه بها ، فدخله من ذلك ما شاء اللّه ، فذهب إلى أبي طالب ، فقال له : يا عمّ كيف ترى حسبي فيكم ؟ فقال له : و ما ذاك يابن أخي ؟ فأخبره الخبر ، فدعا أبو طالب حمزة ، و أخذ السيف و قال لحمزة : خذ السلا . ثمّ توجّه إلى القوم و النبيّ صلى اللّه عليه و آله معه ، فأتى قريشا و هم حول الكعبة ، فلمّا رأوه عرفوا الشرّ في وجهه ، ثمّ قال لحمزة : أمرّ السلا على سبالهم ، ففعل ذلك حتّى أتى على آخرهم ، ثم التفت أبو طالب إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فقال : يا ابن أخي هذا حسبك فينا ٢ .

« لها فروع طوال » قال تعالى له : إنّا أعطيناك الكوثر . فصلّ لربّك و انحر . إنّ شانئك هو الأبتر ٣ .

« و ثمرة لا تنال » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و ثمر لا ينال ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٤ ، قال ابن أبي الحديد : ليس على أن يريد به أنّ ثمرها لا ينتفع به ، لأن ذلك ليس بمدح ، بل يريد به أنّ ثمرها لا ينال قهرا ،

و لا يجنى غصبا ٥ .

قلت : إنّما ينال قهرا و غصبا من الإنسان لا من الشجر و الثمر ، و الصواب أن يقال : إنّ شرف الشجر بعلوّه حتّى لا ينهب ثمره كلّ من مرّ عليه ، و المراد أنّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ .

( ٢ ) أخرجه الكليني في الكافي ١ : ٤٤٩ ح ٣٠ و جمع آخر .

( ٣ ) الكوثر : ١ ٣ .

( ٤ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٩٥ « تنال » أيضا .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ .

١٨٦

علوم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كمالاته ليست عاديّة متعارفة حتّى يدّعي نيابته كلّ أحد ،

و غرضه عليه السّلام التعريض بالمتقدّمين عليه بكونهم غير أهلين لتصدي مقامه صلى اللّه عليه و آله ، لأنّ النائب كالمنوب عنه بقضية العقول ، و أين هم من النبيّ صلى اللّه عليه و آله ،

و إنّما كان أهل بيته مثله ، و ممّا يوضح كونهم عليهم السلام ثمرة شجرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله قوله عليه السّلام لمّا بلغه أنّ قريشا احتجّوا في السقيفة لتقدّمهم على الأنصار بكونهم شجرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله : « احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة » ١ . و في زياراتهم عليهم السلام : « السلام على الشجرة النبوية ، و الدوحة الهاشمية المضيئة المثمرة بالنبوّة ، المونعة بالإمامة » ٢ .

« فهو إمام من اتّقى » اللّه في عمله فليتّبعه غيره ، روى ( الطبري ) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله عدّل صفوف أصحابه يوم بدر و في يده قدح يعدّل به القوم ، فمرّ بسواد بن غزية حليف بني عدي من النجّار و هو مستنتل من الصف ، فطعن النبيّ صلى اللّه عليه و آله في بطنه بالقدح ، و قال : استويا سواد بن غزية . فقال : يا رسول اللّه أو جعتني و قد بعثك اللّه بالحقّ ، فأقدني . فكشف النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن بطنه ، ثمّ قال :

استقد . فاعتنقه و قبّل بطنه ، فقال ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال : يا رسول اللّه حضر ما ترى فلم آمن القتل ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك . فدعا له النبيّ صلى اللّه عليه و آله بخير ٣ .

« و بصيرة من اهتدى » فليسلك مسلكه ، روى الطبري عن أبي سفيان قال :

كنّا قوما تجّارا ، و كانت الحرب بيننا و بين محمّد قد حصرتنا حتّى نهكت أموالنا ، فلمّا كانت الهدنة بيننا و بينه لم نأمن أن لا نجد أمنا فخرجت في نفر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الشريف الرضي ضمن خطبة في نهج البلاغة ١ : ١١٦ الخطبة ٦٥ .

( ٢ ) رواه في صدر زيارة المجلسي في البحار ١٠٢ : ٢١٢ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٤٨ سنة ٢ .

١٨٧

من قريش تجّارا إلى الشام ، و كان وجه متجرنا غزّة ، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس ، و أخرجهم منها ، و انتزع له منهم صليبه الأعظم ، و كانوا قد استلبوه إيّاه ، فلمّا بلغ ذلك منهم و بلغه أنّ صليبه قد استنقذ له ، و كانت حمص منزله ، خرج منها يمشي على قدميه متشكرا للّه حين ردّ عليه ما ردّ ليصلّي في بيت المقدس ، تبسط له البسط ، و تلقى عليها الرياحين ، فلمّا انتهى إلى إيليا ، و قضى فيها صلاته ، و معه بطارقته ، و أشراف الروم ، أصبح ذات غداة مهموما يقلّب طرفه إلى السماء ، فقال له بطارقته : قد أصبحت مهموما . قال : أجلّ أريت في هذه الليلة أنّ ملك الختان ظاهر . قالوا له : ما نعلم أمّة تختتن إلاّ اليهود ، و هم في سلطانك ، فابعث إلى كلّ من لك عليه سلطان في بلادك ، مره ليضرب أعناق كلّ من تحت يديه من يهود و استرح من هذا الهمّ ،

و أنّهم لفي ذلك من رأيهم يديرونه ، إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده و كانت الملوك تهادى الأخبار بينها فقال : إنّ هذا الرجل من أهل الشام و الإبل ، يحدّث عن أمر حدث ببلاده عجب ، فسله عنه . فلمّا انتهى به إلى هرقل قال لترجمانه : سله ما كان فسأله ، فقال : خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنّه نبيّ ، و قد اتّبعه ناس و صدّقوه ، و خالفه ناس ، و قد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة ، فتركتهم على ذلك . فلمّا أخبره الخبر ، قال : جرّدوه . فجرّدوه ،

فإذا هو مختون . فقال هرقل : هذا و اللّه الذي أريت لا ما تقولون . أعطوه ثوبه .

انطلق عنّا .

ثم دعا صاحب شرطته ، فقال له : قلّب الشام لي ظهرا و بطنا حتّى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل يعني النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال أبو سفيان : و أنا بغزّة ، إذ هجم علينا صاحب شرطته ، فقال : أنتم من قوم هذا الرجل الّذي ظهر بالحجاز ؟

قلنا : نعم . قال : انطلقوا إلى الملك . فانطلقنا ، فلمّا انتهينا إليه ، قال : أنتم من رهط

١٨٨

هذا الرجل ؟ قلنا : نعم . قال : فأيّكم أمسّ به رحما ؟ قلت : أنا . فقال : ادن فأقعدني بين يديه ، و أقعد أصحابي خلفي ، ثمّ قال : إنّي سأسأله ، فإن كذب فردّوا عليه قال أبو سفيان : فو اللّه لو كذبت ما ردّوا عليّ ، و لكنّي كنت امرأ سيّدا أتكرّم عن الكذب ، و عرفت أنّ أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عليّ ثمّ يحدّثوا به عنّي فلم أكذبه فقال : اخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهر كم يدّعي ما يدّعي . فجعلت أصغّر أمره ، و أقول : ما يهمّك من أمره ، إنّ شأنه دون ما يبلغك . فجعل لا يلتفت إلى ذلك ، ثمّ قال : أنبئني عمّا أسألك عنه من شأنه . قلت : سل . قال : كيف نسبه ؟ قلت : محض أوسطنا نسبا . قال : هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول به ، فهو يتشبّه به ؟ قلت : لا . قال : فهل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه ؟ قلت : لا . قال :

فأخبرني عن أتباعه منكم من هم ؟ قلت : الضعفاء و المساكين و الأحداث من الغلمان و النساء ، و أما ذوو الأسنان و الشرف من قومه ، فلم يتّبعه منهم أحد .

قال : فأخبرني عمّن تبعه ، أيحبّه و يلزمه أم يقليه و يفارقه ؟ قلت : ما تبعه رجل ففارقه . قال : فأخبرني عن الحرب بينكم و بينه . قلت : سجال يدال علينا ، و ندال عليه . قال : فأخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئا ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها ،

قلت : لا ، و نحن منه في هدنة ، و لا نأمن غدره فو اللّه ما التفت إليها منّي ، ثمّ كرّ عليّ الحديث قال : سألتك كيف نسبه فيكم ؟ فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسبا ، و كذلك يأخذ اللّه الأنبياء ، و سألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبّه به ، فزعمت أن لا ، و سألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه ،

فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه ، فزعمت أن لا ، و سألتك عن أتباعه ، فزعمت أنّهم الضعفاء و المساكين و الأحداث و النساء ، و كذلك أتباع الأنبياء في كلّ زمان ، و سألتك عمّن يتّبعه ، أيحبّه و يلزمه أم يقليه و يفارقه ، فزعمت ألاّ يتّبعه

١٨٩

أحد فيفارقه ، و كذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه ، فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدميّ هاتين ، و لوددت أنّي عنده فأغسل قدميه ، انطلق لشأنك . فقمت من عنده و أنا أضرب إحدى يديّ على الأخرى ،

و أقول : يا عباد اللّه لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، لقد أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام ١ .

« سراج لمع ضوءه » فلم يبق معه ظلمة .

« و شهاب » في ( النهاية ) : الشهاب : الّذي ينقضّ في الليل شبه الكوكب ، و هو في الأصل الشعلة من النار ٢ .

« سطع » أي : ارتفع .

« نوره » حتّى أضاء كلّ جانب .

« و زند » في ( الصحاح ) : الزند : العود الّذي يقدح به النار ، و هو الأعلى ،

و الزندة : السفلى فيها ثقب ، و هي الأنثى ، فإذا اجتمعا قيل : زندان ، ثم قال : و تقول لمن أنجدك و أعانك : وردت بك زنادي ٣ .

« برق لمعه » حتّى حصلت منه الاستنارة ، في ( الطبقات ) : أنّ عليّا عليه السّلام كان إذا نعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول : لم يكن بالطويل الممغّط ، و لا بالقصير المتردّد ، كان ربعة من القوم و لم يكن بالجعد القطط ، و لا السبط ، كان جعدا رجلا ، و لم يكن بالمطهّم و لا المكلثم ، و كان في وجهه تدوير أبيض مشرب ، أدعج العينين ،

أهب الأشفار ، جليل المشاش و الكتد ، أجرد ذا مسربة ، شثن الكفّين و القدمين ،

إذا مشى تقلّع كأنّما يمشي في صبب ، و إذا التفت التفت معا ، بين كتفيه خاتم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٢٨٩ سنة ٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) النهاية لابن الأثير ٢ : ٥١٢ مادة ( شهب ) .

( ٣ ) صحاح اللغة ١ : ٤٧٨ مادة ( زند ) .

١٩٠

النبوّة ، و هو خاتم النبييّن . أجود الناس كفّا ، و أجرأ الناس صدرا ، و أصدق الناس لهجة ، و أوفى الناس بذمّة ، و ألينهم عريكة ، و أكرمهم عشرة . من رآه بديهة هابه ، و من خالطه معرفة أحبّه . يقول ناعته لم أر قبله و لا بعده مثله ١ .

« سيرته القصد » أي : الوسط ، ليس بإفراط و لا تفريط ، و في الخبر كانت صلاة النبيّ صلى اللّه عليه و آله قصدا و خطبته قصدا ٢ .

« و سنّته الرشد » روى ( سنن أبي داود ) عن عبد اللّه بن أبي الحمساء قال :

بايعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله ببيع قبل أن يبعث و بقيت له بقيّة ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، فنسيت ، ثمّ ذكرت بعد ثلاث . فجئت فإذا هو في مكانه . فقال : يا فتى لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك ٣ .

و كان صلى اللّه عليه و آله يقسم لحظاته بين جلسائه ، قال عمّه أبو طالب فيه :

و ميزان صدق لا يخيس شعيرة

و وزّان صدق وزنه غير عائل

و في ( الطبقات ) : عن أمير المؤمنين عليه السّلام كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله إذا أوى إلى منزله جزّا دخوله ثلاثة أجزاء : جزء للّه ، و جزء لأهله ، و جزء لنفسه . ثمّ جزّا جزأه بينه و بين الناس ، فيسرد ذلك على العامة بالخاصة و لا يدّخر عنهم شيئا .

و كان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل ناديه ، و قسمه على قدر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه ابن سعد في الطبقات ١ ق ٢ : ١٢١ ، و ابن هشام في السيرة ٢ : ٣٥ ، و الترمذي في سننه ٥ : ٥٩٩ ، و البيهقي في الدلائل ، و الكجي ، و هشام بن عمّار في البعث عنهم منتخب كنز العمال ٣ : ٩١ ، و الخطيب في تاريخ بغداد ١١ : ٣٠ ، و الثقفي في الغارات ١ : ١٦١ .

( ٢ ) أخرجه مسلم بطريقين في صحيحه ٢ : ٥٩١ ح ٤١ و ٤٢ ، و الترمذي في سننه ٢ : ٣٨١ ح ٥٠٧ ، و النسائي في سننه ٣ : ١٩١ ، و ابن ماجة في سننه ١ : ٣٥١ ح ١١٠٦ ، و الدارمي في سننه ١ : ٣٦٥ ، و أحمد بطرق عديدة في مسنده ٣ : ٩١ و غيره .

( ٣ ) سنن أبي داود ٤ : ٢٩٩ ح ٤٩٩٦ .

١٩١

فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، و منهم ذو الحاجتين ، و منهم ذو الحوائج ،

فيتشاغل بهم و يشغلهم في ما أصلحهم و الأمة من مسألته عنهم ، و إخبارهم بالّذي ينبغي لهم ، و يقول : ليبلّغ الشاهد الغائب ، و أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إيّاه ثبّت اللّه قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلاّ ذلك ، و لا يقبل من أحد غيره ، يدخلون روّادا و لا يفترقون إلاّ عن ذواق و يخرجون أدلّة . ثم قال : كان صلى اللّه عليه و آله يخزن لسانه إلاّ ممّا يعنيهم و يؤلّفهم و لا يفرّقهم أو قال : ينفّرهم و يكرم كريم كلّ قوم و يولّيه عليهم ، و يحذر الناس و يحترس منهم ، من غير أن يطوي من أحد بشره و لا خلقه ، و يتفقّد أصحابه ، و يسأل الناس عمّا في الناس ، و يحسّن الحسن و يقوّيه ، و يقبّح القبيح و يوّهنه . معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا ، لكلّ حال عنده عاد ، لا يقصر عن الحقّ و لا يجوزه . الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة ، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة و موازرة .

ثمّ قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لا يجلس و لا يقوم إلاّ عن ذكر ، لا يوطّن الأماكن ، و ينهى عن إيطانها ، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث انتهى به المجلس ،

و يأمر بذلك ، يعطي كلّ جلسائه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف ، و من سأله حاجة لم يردّه إلاّ بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه بسطه و خلقه ، فصار لهم أبا ، و صاروا في الحقّ عنده سواء . مجلسه مجلس حلم و حياء ، و صبر و أمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبّن فيه الحرم ، و لا تنثى فلتاته ، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقّرون فيه الكبير و يرحمون فيه الصغير و يؤثرون ذا الحاجة و يحفظون أو يحوطون الغريب .

١٩٢

ثم قال : كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظّ و لا غليظ ، و لا صخّاب ، و لا فحّاش و لا عيّاب ، يتغافل عمّا لا يشتهي ، و لا يدنس منه ، و لا يجنب فيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء و الإكثار ، و ممّا لا يعنيه ،

و ترك الناس من ثلاث : كان لا يذمّ أحدا و لا يعيّره ، و لا يطلب عورته ، و لا يتكلّم إلاّ في ما رجا ثوابه . إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلّموا ، و لا يتنازعون عنده ، من تكلّم انصتوا له حتّى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أوّ ليتهم ، يضحك ممّا يضحكون منه ، و يتعجّب ممّا يتعجبون منه ،

و يصبر للغريب على الجفوة في منطقه و مسألته إلى أن قال :

كان سكوت النبيّ صلى اللّه عليه و آله على أربع : على الحلم و الحذر و التقرير و التفكّر ،

فأمّا تقريره ففي تسوية النظر و الاستماع من الناس ، و أمّا تذكّره أو تفكّره ففي ما يبقى و يفنى ، و جمع الحلم و الصبر ، و كان لا يغضبه شي‏ء و لا يستنفره ،

و جمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسني ليقتدى به ، و تركه القبيح ليتناهى عنه ، و اجتهاده الرأي في ما أصلح أمّته ، و القيام في ما جمع لهم الدّنيا و الآخرة ١ .

« و كلامه الفصل » قال صلى اللّه عليه و آله : أوتيت جوامع الكلم ٢ . و ليس بعد كلام اللّه تعالى كلام فوق كلامه ، و قد جمع جمع من العامة و الخاصة كلمه صلى اللّه عليه و آله كالزجاجي صاحب المبرد ، و نفطويه النحوي ، و جعفر بن حمدان الموصلي ،

و المصنّف في كتابه ( المجازات النبويّة ) .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه ابن سعد في الطبقات ١ ق ٢ : ١٢٩ ، و الصدوق بثلاث طرق في معاني الأخبار : ٧٩ ح ١ و بطريق واحد في عيون الأخبار ١ : ٢٤٦ ، و قال الصدوق في ذيل الحديث في العيون : « و قد رويت هذه الصفة عن مشائخ بأسانيد مختلفة أخرجتها في كتاب النبوّة » . و هذا الكتاب مفقود .

( ٢ ) هذا جزء من حديث أبي هريرة ، أخرجه بهذا اللفظ مسلم بطريقين في صحيحه ١ : ٣٧٢ ح ٧ ، ٨ ، و جمع ابن الأثير في جامع الأصول ٩ : ٣٩٣ ح ٦٣٢٠ طرق أصحاب الصحاح و اختلاف ألفاظهم .

١٩٣

و عن الجاحظ : يجب أن يكون الإنسان سخيّا لا يبلغ التبذير ، و شجاعا لا يبلغ الهوج ، محترسا لا يبلغ الجبن ، ماضيا لا يبلغ القحة ، قوّالا لا يبلغ الهذر ،

صموتا لا يبلغ العيّ ، حليما لا يبلغ الذلّ ، منتصرا لا يبلغ الظلم ، وقورا لا يبلغ البلادة ، نافذا لا يبلغ الطيش . ثمّ وجدنا النبيّ صلى اللّه عليه و آله قد جمع ذلك كلّه في كلمة واحدة ، و هي قوله : « خير الأمور أوسطها » فعلمنا أنّه أوتي جوامع الكلام ، و علم فصل الخطاب ، و من عجيب كلماته قوله صلى اللّه عليه و آله : « خمس من أتى اللّه بهنّ أو بواحدة منهنّ أوجبت له الجنّة : من سقى هامّة صادية ، أو أطعم كبدا هافية ، أو أكسى جلدا عارية ، أو حمل قدما حافية ، أو أعتق رقبة عانية » .

و روى ( الكافي ) أنّ أعرابيا قدم بإبل له ، فقال للنبيّ صلى اللّه عليه و آله : يا رسول اللّه بع لي إبلي هذه . فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لست ببيّاع في الأسواق . قال : فأشر عليّ .

فقال له : بع هذا الجمل بكذا ، و بع هذه الناقة بكذا ، حتّى وصف له كلّ بعير منها .

فخرج الأعرابي إلى السوق فباعها ، ثم جاء إليه ، فقال : و الّذي بعثك بالحقّ مازادت درهما و لا نقصت درهما ممّا قلت لي . . . ١ .

و في ( سنن أبي داود ) عنه صلى اللّه عليه و آله قال : « لا طلاق ، و لا عتاق في غلاق » ٢ .

قلت : و هو دليل على بطلان مذهبهم في الحلف بالعتاق و الطلاق .

و فيه أيضا : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا دخل على عائشة و رأى عندها رجلا ،

فتغيّر وجهه ، فقالت : إنّه أخي من الرضاعة . قال : انظرن من اخوانكنّ ، فانّما الرضاعة من الجماعة ٣.

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٥ : ٣١٧ ح ٥٤ .

( ٢ ) سنن أبي داود ٢ : ٢٥٨ ح ٢١٩٣ ، و سنن ابن ماجه ١ : ٦٥٩ ح ٢٠٤٦ ، و المستدرك للحاكم عنه الجامع الصغير ٢ : ٢٠٣ و غيرهم .

( ٣ ) سنن أبي داود ٢ : ٢٢٢ ح ٢٠٥٨ ، و مسلم بطريقين في صحيحه ٢ : ١٠٧٨ ، ١٠٧٩ ح ٣٢ ، ٣٣ ، و النسائي في سننه ٦ : ١٠٢ ، و ابن ماجه في سننه ١ : ٦٢٦ ح ١٩٤٥ ، و أحمد بثلاث طرق في مسنده ٦ : ٩٤ ، ١٧٤ ، ١١٤ و النقل بتصرف في اللفظ .

١٩٤

و في ( السيرة ) : عن أبي عياش قال : قال لي النبيّ صلى اللّه عليه و آله في غزوة ذي قرد :

« لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك ، فقلت : أنا أفرس الناس . فو اللّه ما جرى بي خمسين ذراعا حتّى طرحني ، فعجبت أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول : لو أعطيته أفرس منك ، و أنا أقول : أنا أفرس الناس ١ .

و فيه أيضا : و أقبل النبيّ صلى اللّه عليه و آله في المسلمين ، فإذا مسجّى ببردة أبي قتادة ، فاسترجع الناس و قالوا : قتل أبو قتادة . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ليس بأبي قتادة ، و لكنّه قتيل لأبي قتادة ، وضع عليه برده لتعرفوا أنّه برده ٢ .

و فيه أيضا بعد ذكر إغارة عيينية على لقاح النبيّ صلى اللّه عليه و آله و فيها رجل من غفار ، فقتلوا الرجل ، و احتملوا المرأة في اللقاح قال : و أقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالت : نذرت للّه أن أنحرها إن نجّاني اللّه عليها .

فتبسّم النبيّ صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال : بئس ماجزيتها أن حملك اللّه عليها و نجّاك بها ثمّ تنحرينها ، إنّه لا نذر في معصية اللّه ، و لا في ما لا تملكين ، إنّما هي ناقة من إبلي ،

فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه ٣ .

« و حكمه العدل » أعطى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ليهود خيبر أرضها و نخلها بالمناصفة ، فلمّا أدركت الثمرة بعث عبد اللّه بن رواحة ، فقوّم عليهم و خرص ،

فقال لهم : إمّا أن تأخذوه و تعطوني نصف التمر ، و إمّا أخذه و أعطيكم نصف التمر . فقالوا : بهذا قامت السماوات و الأرض ٤ .

و روى ( الكافي ) أنّ رجلا من الأنصارى و رجلا من ثقيف أتيا النبيّ صلى اللّه عليه و آله ،

فقال الثقفي : يا رسول اللّه حاجتي . فقال صلى اللّه عليه و آله : سبقك أخوك الأنصاري . فقال : يا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سيرة ابن هشام ٣ : ١٧٦ و النقل بتصرف في اللفظ .

( ٢ ) سيرة ابن هشام ٣ : ١٧٦ و النقل بتصرف في اللفظ .

( ٣ ) السيرة النبوية لابن هشام ٣ : ١٧٨ و النقل بتصرف .

( ٤ ) أخرجه أحمد بطريقين في مسنده ٢ : ٢٤ ، و ٣ : ٣٦٧ و غيره .

١٩٥

رسول اللّه إنّي على ظهر سفر ، و إنّي عجلان . و قال الأنصاري : إنّي قد أذنت له . . . ١ .

و في خبر من صار رئيس الخوارج أنّه قال للنبيّ صلى اللّه عليه و آله في غنائم خيبر :

ما عدلت فغضب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال له : و يلك إذا لم يكن العدل عندي ، فعند من يكون ؟ فأراد المسلمون قتله ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : دعوه فإنّه سيكون له أتباع يمرقون من الدّين . . . ٢ .

و عن أبي جعفر عليه السّلام : أنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، و كان منزل الأنصاري بباب البستان ، و كان يمرّ به إلى نخلته و لا يستأذن ، فشكاه الأنصاري إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فأرسل إليه و قال له : إذا أردت الدخول فاستأذن . فأبى ، فساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق في الجنّة . فأبى ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله للأنصاري : اذهب فاقلعها و ارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر و لا ضرار ٣ .

و روى ( سنن أبي داود ) أنّ جمعا من الصحابة كانوا مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله فنام رجل منهم ، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ، ففزع ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلما ٤ .

« على حين فترة » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( أرسله على حين

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي الكليني ٤ : ٢٦١ ح ٣٧ ، و الشهيد في الأربعين : ١٠ ح ١٥ ، و أخرجه برواية أخرى الكافي للكليني ٣ : ٧١ ح ٧ ، و الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٠ ح ١ .

( ٢ ) أخرجه مسلم بثلاث روايات في صحيحه ٢ : ٧٤٠ ح ١٤٢ ، و : ٧٤٤ ح ١٤٨ ، و في لفظ الحديث اضطراب ، جمع ابن الأثير في جامع الأصول ١٠ : ٤٣٦ ح ٧٥٣١ طرق أصحاب الصحاح و اختلاف ألفاظهم ، و اسم الرجل ذو الخويصرة .

( ٣ ) هذا تلخيص حديث أخرجه الكليني بطريقين في الكافي ٥ : ٢٩٢ ، ٢٩٤ ح ٢ ، ٨ ، و الفقيه للصدوق ٣ : ١٤٧ ح ١٨ ،

و التهذيب للطوسي ٨ : ١٤٦ ح ٣٦ ، و بفرق الفقيه للصدوق ٣ : ٥٩ ح ٩ ، و أما فقرة « لا ضرر و لا ضرار » فمشهورة كثيرة الرواية .

( ٤ ) سنن أبي داود ٤ : ٣٠١ ح ٥٠٠٤ .

١٩٦

فترة ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ١ .

« من الرسل » و انقطاع لهم .

« و هفوة » أي : زلّة .

« عن العمل » فلم يكن منهم عمل رأسا أو عمل صالح .

« و غباوة عن الأمم » في رشدهم و صلاحهم ، كما قال شاعر :

كما بعث اللّه النبيّ محمّدا

على فترة و الناس مثل البهائم

٦

الخطبة ( ٩٣ ) و من خطبة له عليه السّلام :

بَعَثَهُ وَ اَلنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ وَ خَابِطُونَ فِي فِتْنَةٍ قَدِ اِسْتَهْوَتْهُمُ اَلْأَهْوَاءُ وَ اِسْتَزَلَّتْهُمُ اَلْكِبْرِيَاءُ وَ اِسْتَخَفَّتْهُمُ اَلْجَاهِلِيَّةُ اَلْجَهْلاَءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ اَلْأَمْرِ وَ بَلاَءٍ مِنَ اَلْجَهْلِ فَبَالَغَ ص فِي اَلنَّصِيحَةِ وَ مَضَى عَلَى اَلطَّرِيقِ وَ دَعَا إِلَى اَلْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ ١٦ : ١٢٥ « بعثه و الناس ضلاّل في حيرة » كان الناس وقت بعثته صلى اللّه عليه و آله بين طبيعي ،

و ثنوي ، و وثني ، و براهمة ، و يهودي ، و نصراني ، و مجوسي ، و صابي ،

و نظائرهم .

« خابطون » قال الجوهري : خبط البعير الأرض بيده خبطا : ضربها ، و منه قيل : خبط عشواء ، و هي الناقة الّتي في بصرها ضعف ، تخبط إذا مشت لا تتوقى شيئا ٢ .

و قال ابن أبي الحديد : « حاطبون في فتنة » جمع حاطب ، و هو الّذي يجمع

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٠ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٩٥ مثل المصرية .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٣ : ١١٢١ مادة ( خبط ) .

١٩٧

الحطب ، و يقال لمن يجمع بين الصواب و الخطأ أو يتكلم بالغثّ و السمين :

حاطب ليل ، لأنّه لا يبصر ما يجمع في حبله ، و يروي : « خابطون » ١ .

قلت : الصحيح : ( و خابطون ) ، و إنّما يصحّ الأوّل لو كان بلفظ و حاطبو ليل . فإنى حاطب ليل : يستعمل في ما ذكر لا الحاطب مجرّدا . فانّه لا يحمل إلاّ على معناه الظاهري من جمع الحطب .

« في فتنة » أي : ما يوجب امتحان الخلق . و الأصل فيها فتن الصائغ الذهب بإدخاله النار لينظر ما جودته .

« قد استهوتهم » أي : استهامتهم .

« الأهواء » كما قال تعالى : . . . أرأيت من اتّخذ إلهه هواه . . . ٢ .

« و استزلّتهم » عن الثبات .

« الكبرياء » أي : التكبّر ، كما حصلت لا بليس .

« و استخفّتهم » أي : عدّتهم خفيفين .

« الجاهلية الجهلاء » أي : الغاية في الجهالة .

« حيارى » أي : متحيرين .

« في زلزال من الأمر » فلا يغدرون رشدهم و صلاحهم .

« و بلاء من الجهل » و الجهل بلاء فوق كلّ بليّة ، فكانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق و فقر ، و لا يعلمون أنّ اللّه يرزقهم كما خلقهم ، و يئدون بناتهم لئلاّ يصلن إلى غير عشيرتهم مع كونه أشنع عمل ، و ينسؤون الشهور الحرم ،

و يخترعون البدع من السائبة ، و الوصيلة ، و الحام ، و البحيرة ، و غيرها بالنسبة إلى أحشامهم و أغنامهم .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٢ .

( ٢ ) الفرقان : ٤٣ .

١٩٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

« فبالغ صلى اللّه عليه و آله في النصيحة » قال السروي : روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى :

و أنذر عشيرتك الأقربين ١ صعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله ذات يوم الصفا ، فقال : يا صباحاه . فاجتمعت إليه قريش . فقالوا : مالك ؟ قال : أرأيتكم أن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني ؟ قالوا : بلى . قال : فإنّي نذير لكم من يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تبّا لك ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت سورة ( تبّت ) .

ثمّ روى عن قتادة أنّه صلى اللّه عليه و آله خطب ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ الرائد لا يكذب أهله ، و لو كنت كاذبا لما كذبتكم ، و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم حقّا خاصّة و إلى الناس عامّة ، و اللّه لتموتون كما تنامون ، و لتبعثون كما تستيقظون ، و لتحاسبون كما تعملون ، و لتجزون بالإحسان إحسانا ،

و بالسوء سواءا ، و إنّها الجنّة أبدا ، و النار أبدا ، و أنّكم أوّل من أنذرتم . . . ٢ .

« و مضى على الطريق » : طريق الحقّ قل هذه سبيلي أدعو إلى اللّه على بصيرة أنا و من اتّبعني ٣ .

« و دعا إلى اللّه بالحكمة و الموعظة الحسنة » كما أمره ربّه بقوله : ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظه الحسنة و جادلهم بالّتي هي أحسن . . . ٤ .

و كان صلى اللّه عليه و آله يحاجّ كلّ فرقة بلسانهم ، و يلزمهم بما يتمّ الحجّة عليهم . قال شاعر :

اللّه قد أيّد بالوحى

محمّدا ذا الأمر و النهي

يأمر بالعدل و ينهي عن

الفحشاء و المنكر و البغي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٢١٤ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٤٦ ، و يأتي تخريجه مفصلا في العنوان ١٥ من هذا الفصل .

( ٣ ) يوسف : ١٠٨ .

( ٤ ) النحل : ١٢٥ .

١٩٩

٧

من الخطبة ( ٩٤ ) منها في ذكر الرسول :

مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ فِي مَعَادِنِ اَلْكَرَامَةِ وَ مَمَاهِدِ اَلسَّلاَمَةِ قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ اَلْأَبْرَارِ وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ اَلْأَبْصَارِ .

دَفَنَ بِهِ اَلضَّغَائِنَ وَ أَطْفَأَ بِهِ اَلثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً أَعَزَّ بِهِ اَلذِّلَّةَ وَ أَذَلَّ بِهِ اَلْعِزَّةَ كَلاَمُهُ بَيَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ « مستقرّه خير مستقرّ » الظاهر أنّ مراده عليه السّلام بمستقرّه المدينة ، و قد سمّاها النبيّ صلى اللّه عليه و آله الطيّبة ، و وصفها بأنّها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ١ . كما في الخبر .

« و منبته أشرف منبت » و الظاهر أنّ مراده عليه السّلام بمنبته صلى اللّه عليه و آله مكّة ، و قد قال تعالى : إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركا و هدى للعالمين . فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا . . . ٢ .

و في خطبة له عليه السّلام على رواية ( إثبات المسعودي ) في محالّ نوره صلى اللّه عليه و آله :

« و أيّ ساحة من الأرض سلكت به لم يظهر بها قدسه ، حتّى الكعبة التي جعلت منها مخرجه ، غرست أساسها بياقوتة من جنّات عدن ، و أمرت الملكين المطهّرين : جبرئيل و ميكائيل ، فتوسّطا بها أرضك ، و سميّتها بيتك ، و اتّخذتها

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحيح مسلم ٢ : ١٠٠٦ ح ٤٩٠ عن زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه و آله قال : « . . أنّها طيبة ، و انها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة » . لكن صدر الحديث و ذيله روي مستقلا أيضا : أخرج الصدر الطبراني في معجمه الكبير ، و عنه الجامع الصغير ١ : ٦٨ من حديث جابر بن سمرة ، و أخرج الذيل بلفظ : « كما ينفي الكير خبث الحديد » . أخرجه أصحاب الصحاح ، و جمع طرقهم و ألفاظهم ابن الأثير في جامع الأصول ١٠ : ١٩٩ ٢٠١ ح ٦٩١٧ ، ٦٩٢٠ ، ٦٩٢١ ، ٦٩٢٢ .

( ٢ ) آل عمران : ٩٦ ٩٧ .

٢٠٠

معبدا لنبيّك . . . » ١ .

« في معادن الكرامة » الظاهر رجوعه إلى ( مستقرّه ) على اللفّ و النشر المرتّب ، قال الحميري :

فاحتلّ دار كرامة في معشر

آووه في سعة المحلّ الأرحب

« و مماهد » جمع ممهد : اسم مكان .

« السلامة » الظاهر رجوع ( مماهد السلامة ) إلى ( منبته ) ، قال تعالى :

و من دخله كان آمنا . . . ٢ .

و قال ابن أبي الحديد : مماهد : جمع مهاد ، و هو ازدواج بقرينة ( معادن ) كقولهم : الغدايا و العشايا . و يعني ب ( السلامة ) : البراءة من العيوب ، أي : في نسب طاهر ٣ .

و هو كما ترى ، و وجه ما قاله أنّه لم ير ( ممهد ) في ( الصحاح ) . فقال :

مماهد : جمع مهاد ، مع أنّه لا يلزم أن يذكر ( الصحاح ) جميع الاستقاقات ، مع أنّه لا معنى للازدواج بما قاله ، كما أنّ وجه قوله : « يعني بالسلامة البراءة من العيوب » أنّه حمل المستقرّ ، و المنبت في كلامه عليه السّلام على الأرحام و الأصلاب ،

و هو أيضا كما ترى .

« قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار » فصاروا مصدّقيه و ملازميه ، و في ( الطبري ) : و قد الأسود بن ربيعة على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال : جئت لأقترب إلى اللّه تعالى بصحبتك . فسمّاه صلى اللّه عليه و آله المقترب ٤ .

و قال : أبو طالب فيه :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإثبات للمسعودي : ١٠٨ .

( ٢ ) آل عمران : ٩٧ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٢ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) تاريخ الطبري ٣ : ١٨٢ سنة ١٧ .

٢٠١

و إنّ عليه في العباد محبّة

و لا حيف في من خصّه اللّه بالحبّ

و قال أيضا :

لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمد

و أحببته حبّ الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه فحميته

و دافعت عنه بالذرى و الكواهل

قال بعضهم : إذا تفكّرت في أشعار أبي طالب في مدائح النبيّ صلى اللّه عليه و آله و أنّها أشعار ذاك الشيخ المبجّل في ابن أخيه ، و هو شابّ مستجير به معتصم بظلّه من قريش ، قد ربّاه في حجره غلاما ، و على عاتقه طفلا ، و بين يديه شابّا ،

يأكل من زاده ، و يأوي إلى داره علمت موضع خاصّية النبوّة و سرّها ، و أنّ أمره كان عظيما ، و أنّ اللّه تعالى أوقع له في القلوب و الأنفس منزلة رفيعة ،

و مكانا جليلا .

« و ثنيت » أي : رفعت ، من ثاني عطفه . . . ١ .

« إليه أزمّة الأبصار » فلا تخفض إلى غيره ، كان الجلف البدوي يرى وجهه ، فيقول : و اللّه ما هذا وجه كذّاب ٢ . و كان عظيما مهيبا في النفوس حتّى ارتاعت منه رسل كسرى ، مع أنّه كان بالتواضع موصوفا ٣ .

و قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش : و اللّه لقد وفدت على كسرى و قيصر و النجاشي ، و اللّه ما رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّدا : يقتتلون على وضوئه ، و يتبادرون لأمره ، و يخفضون أصواتهم عنده ، و ما يحدّدون النظر إليه تعظيما . و لمّا دخل أبو سفيان عام الفتح عليه ،

و رأى أيدي المسلمين تحت شعره يستشفون بالقطرات من وضوئه ، قال : تاللّه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الحج : ٩ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٢٣ .

( ٣ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٢٦ .

٢٠٢

إن رأيت كاليوم كسرى و قيصر ١ .

و في ( الاستيعاب ) : دخل النبيّ صلى اللّه عليه و آله على كبشة الأنصارية ، فشرب من فم قربة معلّقة ، فقطعت فمها فرفعته . ( أي : تبرّكا به ) ٢ .

و في ( الأغاني ) : أنّ زيد بن الدثنة لمّا أسره المشركون ، فاجتمع رهط من قريش ليقتلوه و فيهم أبو سفيان ، قال له : أتحبّ أن تكون في أهلك ، و يكون محمّد عندنا مكانك ، فنضرب عنقه ؟ فقال : و اللّه ما أحبّ أنّ محمّدا تصيبه شوكة في مكانه الّذي فيه ، و أنا في أهلي . فتعجّب أبو سفيان ٣ .

« دفن به الضغائن » كان بين الأوس و الخزرج ضغائن من حروب كانت بينهما ، و قتلى كثيرة منهما ، فأماتها اللّه به صلى اللّه عليه و آله .

« و أطفأ به الثوائر » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( النوائر ) جمع النار ،

كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٤ ، و لأنّ الإطفاء إنّما ينسب إلى النار لا إلى الثار ، قال تعالى : . . . و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم . . . ٥ .

« ألّف به إخوانا » قال تعالى : . . . لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم و لكنّ اللّه ألّف بينهم إنّه عزيز حكيم ٦ ، . . . و اذكروا نعمة اللّه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المغازي للواقدي ٢ : ٨١٦ ، و فتوح البلدان للبلاذري : ٥١ .

( ٢ ) الاستيعاب لابن عبد البر ٤ : ٣٩٥ .

( ٣ ) لم أجده في الأغاني ، لكن رواه أسد الغابة لابن الأثير ٢ : ٢٣٠ .

( ٤ ) أورد ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ١٨٢ ، و ابن ميثم في شرحه ٢ : ٤٠١ في متن الخطبة « الثوائر » ، لكن أورده ابن ميثم عند شرح اللغات بلفظ « النوائر » .

( ٥ ) النساء : ٩٤ .

( ٦ ) الأنفال : ٦٣ .

٢٠٣

عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . . . ١ ، إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم . . . ٢ .

و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمّتهم أدناهم ، و هم يد على من سواهم ٣ .

« و فرّق به أقرانا » بواسطة مخالفتهم في الدين ، فكم ابن و أخ ترك أباه و أخاه به ، و كم امرأة تركت زوجها به .

و قالوا : أتى الوليد بن المغيرة قريشا ، فقال لهم : إنّ الناس غدا يجتمعون بالموسم ، و قد فشا أمر هذا الرجل ، فيسألونكم فما تقولون لهم ؟ فقال أبو جهل : أنا أقول : إنّه مجنون . و قال أبو لهب : أنا أقول : إنّه شاعر . و قال عقبة بن أبي معيط : أنا أقول : إنّه كاهن . فقال الوليد : و أنا أقول : إنّه ساحر يفرّق بين الرجل و المرأة و بين الرجل و أخيه و أبيه ٤ .

« أعزّ به الذلّة » فكم من أذلاّء صاروا أعزّاء بالايمان به .

« و أذلّ به العزّة » و كم من جبابرة أعزّاء صاروا أذلاّء بالكفر به .

« كلامه بيان » قال تعالى فيه : و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ٥ ، و لكنّ الثاني قال لمّا قال صلى اللّه عليه و آله في مرض وفاته : « ايتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم ما لا تضلّون بعدي » : إنّ الرجل ليهجر ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ١٠٣ .

( ٢ ) الحجرات : ١٠ .

( ٣ ) سنن ابن ماجه ٢ : ٨٩٥ ح ٢٦٨٣ ، ٢٦٨٥ بثلاث طرق ، و المعجم الأوسط للطبراني ، و عنه مجمع الزوائد ٦ : ٢٨٣ ، و بين الألفاظ فرق يسير .

( ٤ ) الكامل لابن الأثير ٢ : ٧١ ، و غيره .

( ٥ ) النجم : ٣ ٤ .

٢٠٤

حسبنا كتاب اللّه ١ .

و روى ( أسد الغابة ) عن ابن أبي حدرد الأسلمي ، قال : كان ليهودي عليه أربعة دراهم ، فاستعدى عليه فقال : يا محمّد إنّ لي على هذا أربعة دراهم ، و قد غلبني عليها . فقال : أعطه حقّه . قال : و الّذي بعثك بالحقّ ما أقدر عليها . قال :

أعطه حقّه . قال : و الّذي نفسي بيده ما أقدر عليها ، قد أخبرته إنّك تبعثنا إلى خيبر ، فأرجو أن تغنمنا شيئا ، فأرجع فأقضيه . قال : فاعطه حقّه . قال : و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله إذا قال ثلاثا لا يراجع ، فخرج بابن أبي حدرد إلى السوق ، و على رأسه عصابة ، و هو متّزر ببردة ، فنزع العمامة من رأسه ، فاتّزر بها ، و نزع البردة ، فقال : اشتر منّي هذه البردة . فباعها منه بأربعة دراهم . . ٢ .

و في ( الطبقات ) جاء مجوسي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قد أعفى شاربه ،

و أحفى لحيته ، فقال : من أمرك بهذا ؟ قال ربّي . قال : لكن ربّي أمرني أن أخفي شاربي ، و أعفي لحيتي ٣ .

« و صمته لسان » حيث إنّ تقريره صلى اللّه عليه و آله أيضا حجّة كقوله و فعله ، و في ( الطبري ) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله عهد إلى أمرائه في فتح مكّة أن لا يقتلوا أحدا إلاّ من قاتلهم ، إلاّ أنّه قد عهد في نفر سمّاهم أمر بقتلهم ، منهم عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح ، لأنّه أسلم فارتدّ ، ففرّ إلى عثمان ، و كان أخاه من الرضاعة ، فغيّبه حتّى أتى به النبيّ صلى اللّه عليه و آله فاستأمنه له ، فذكر أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله صمت طويلا ، ثمّ قال : نعم .

فلمّا انصرف به عثمان ، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمن حوله من أصحابه : أما و اللّه لقد صمتّ ليقوم إليه بعضكم ، فيضرب عنقه . فقال رجل من الأنصار : فهلاّ أو مأت .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) هذا الحديث كثير الطرق مختلف اللفظ ، أقرب الألفاظ ما في صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٩ ح ٢١ ، و مسند أحمد ١ : ٣٥٥ ، و طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ : ٣٧ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .

( ٢ ) أسد الغابة لابن الأثير ٣ : ١٤٢ .

( ٣ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ٢ : ١٤٧ .

٢٠٥

قال : إنّ النبيّ لا يقتل بالإشارة ١ .

هذا ، و يناسب كلامه عليه السّلام في وصفه صلى اللّه عليه و آله كلام أبي الفضل الهمداني في بعض ( أعيان دهره ) : له من الصدور ما ليس للفؤاد ، و من القلوب ما ليس للأولاد ، فكأنّما اشتق من جميع الأكباد ، و ولد بجميع البلاد ، سواء الحاضر فيه و الباد ، و كلّ أفعاله غرّة في ناصية الأيّام ، و زهرة في جنح الظلام .

و ذكر أعرابي رجلا ، فقال : و اللّه لكأنّ القلوب و الألسن ريّضت له ، فما تعقد إلاّ على ودّه ، و لا تنطق إلاّ بحمده .

٨

من الخطبة ( ١٠٣ ) و من خطبة له عليه السّلام :

حَتَّى بَعَثَ اَللَّهُ ؟ مُحَمَّداً ص ؟ شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً خَيْرَ اَلْبَرِيَّةِ طِفْلاً وَ أَنْجَبَهَا كَهْلاً أَطْهَرَ اَلْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً وَ أَمْطَرُ اَلْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً « حتّى بعث اللّه محمّدا شهيدا و بشيرا و نذيرا » عن ( تفسير الواحدي ) عن الحسن عليه السّلام في قوله تعالى : و شاهد و مشهود ٢ الشاهد : النبيّ صلى اللّه عليه و آله ،

و المشهود يوم القيامة . قال تعالى : يا أيّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهدا و مبشّرا و نذيرا ٣ ، و قال تعالى : . . . ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود ٤ .

« خير البريّة طفلا » في ( المناقب ) عن ابن عبّاس : أنّه كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقرب إلى الصبيان يصحبهم ، فيختلسون و يكفّ ، و يصبح الصبيان غمصا و رمصا ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٣٣٥ سنة ٨ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) البروج : ٣ .

( ٣ ) الأحزاب : ٤٥ .

( ٤ ) الوسيط للواحدي ، و هو كتاب تفسير القرآن ، و عنه كشف الغمة ٢ : ١٦٩ ، و الآية ١٠٣ من سورة هود .

٢٠٦

و يصبح صقيلا دهنيا ١ .

و عن عكرمة : كان يوضع فراش لعبد المطّلب في ظلّ الكعبة ، و لا يجلس عليه أحد إلاّ هو إجلالا له ، و كان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج ، فكان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه ، فقال لهم عبد المطلب : دعوا ابني ، فو اللّه إنّ له لشأنا عظيما ٢ .

و فيه : قال أبو طالب لأخيه : يا عبّاس أخبرك عن محمّد ، إنّي ضممته فلم أفارقه ساعة من ليل أو نهار ، فلم أأتمن أحدا حتّى نؤمته في فراشي ، فأمرته أن يخلع ثيابه و ينام معي ، فرأيت في وجهه الكراهية ، فقال : يا عمّاه اصرف بوجهك عنّي حتّى أخلع ثيابي ، و أدخل فراشي . فقلت له : و لم ذاك ؟ فقال : لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي . فتعجبت من قوله و صرفت بصري عنه حتّى دخل فراشه ، فإذا دخلت أنا الفراش إذا بينه و بيني ثوب ، و اللّه ما أدخلته في فراشي فأمسه فاذا هو ألين ثوب ، ثمّ شممته كأنّه غمس في مسك ٣ .

و فيه أيضا عن أبي طالب : لم أرمنه كذبة قط ، و لا جاهلية قطّ ، و لا رأيته يضحك في غير موضع الضحك ، و لا يدخل مع الصبيان في لعب ، و لا التفت إليهم ، و كان الوحدة أحبّ إليه و التواضع ٤ .

و قال المسعودي : قال عبد اللّه أبوه فيه :

الحمد للّه الّذي أعطاني

هذا الغلام الطيّب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

أعيذه بالبيت ذي الأركان

٥

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٣٤ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٣٥ .

( ٣ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٣٦ .

( ٤ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٣٧ .

( ٥ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٢٧٤ ، لكن نسب البيتين إلى أبي عبد اللّه .

٢٠٧

و قال أبو طالب عمّه فيه :

و لقد عهدتك صادقا

في القول لا تتزيّد

ما زلت تنطق بالصواب

و أنت طفل أمرد

« و أنجبها كهلا » قال الجوهري : الكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين ١ ،

و لمّا بنت قريش الكعبة ، و تنازعوا في رفع الحجر و وضعه في محلّه ، و حكّموا النبيّ صلى اللّه عليه و آله فحكم بينهم بما ارتضوه ، قال قائل متعجّبا من انقياد شيوخ قريش لشابّ و كان يومئذ ابن خمس و ثلاثين : أما و اللات و العزّى ليفوقنّهم سبقا ،

و ليقسمنّ بينهم حظوظا و جدودا ، و ليكوننّ له بعد هذا اليوم شأن و نبأ عظيم ٢ .

و قال بعضهم : و لو لا خاصّيّة النبوّة و سرّها لما كان مثل أبي طالب و هو شيخ قريش و ذو سنّها و ذو شرفها يمدحه و هو شابّ قد ربّي في حجره ، و هو يتيمه و مكفوله و جار مجرى أولاده بمثل قوله :

و تلقوا ربيع الأبطحين محمّدا

و مثل قوله :

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه

فإنّ مثل هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع و الذنابي من الناس ،

و إنّما هو من مديح الملوك و العظماء .

« أطهر المطهّرين شيمة » أي : خلقا و طبيعة ، قالوا : كان صلى اللّه عليه و آله يكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، و يتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم ، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلاّ بما أمر اللّه ، و لا يجفو على أحد . يقبل معذرة المعتذر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة للجوهري ٥ : ١٨١٣ مادة ( كهل ) .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٢٧٣ ، و الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ٩٤ .

٢٠٨

إليه ، و كان أكثر الناس تبسّما ما لم ينزّل عليه قرآن ، و لا يرتفع على عبيده و إمائه في مأكل و لا في ملبس ، و ما شتم أحدا بشتمه ، و لا لعن امرأة و لا خادما بلعنة ، و لا يأتيه حرّ و لا عبد أو أمة إلاّ قام معه في حاجته ١ .

« و أمطر » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( و أجود ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٢ .

« المستمطرين » بلفظ اسم المفعول .

« ديمة » في ( الصحاح ) الديمة : المطهر الّذي ليس فيه رعد و لا برق ، و أقلّه ثلث النهار أو ثلث الليل ، و أكثر ما بلغ من العدة . و الجمع : ديم . قال لبيد :

باتت و أسبل و اكف من ديمة

يروي الخمائل دائما تساجمها

ثمّ يشبّه به غيره . و في الحديث : « كان عمله ديمة » ٣ .

قالوا : كان صلى اللّه عليه و آله أسخى الناس لا يثبت عنده دينار و لا درهم ، فإن فضل و لم يجد من يعطيه و يجنّه الليل لم يأو إلى منزله حتّى يتبرّأ منه إلى من يحتاج إليه ، و لا يسئل شيئا إلاّ أعطاه ، ثمّ يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتّى ربّما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شي‏ء ، و كان لا يجلس إليه أحد و هو يصلّي إلاّ خفّف صلاته ، و أقبل عليه ، و قال : ألك حاجة ؟ و كان يكرم من يدخل عليه حتّى ربما بسط ثوبه ، و يؤثر الداخل بالوسادة الّتي تحته ٤ .

و قال أبو طالب فيه :

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامي عصمة للأرامل

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مناقب ابن شهر آشوب ١ : ١٤٦ ، و النقل بتقطيع .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠٠ ، لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ٢٣ « أمطر » أيضا .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ٥ : ١٩٢٤ مادة ( ديم ) ، و الحديث أخرجه مسلم في صحيحه ١ : ٥٤١ ح ٢١٧ ، و غيره عن عائشة .

( ٤ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٤٥ ، و النقل بتقطيع .

٢٠٩

يطيف به الهلاّك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة و فواضل

٩

من الخطبة ( ٣٣ ) إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ ؟ مُحَمَّداً ص ؟ وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً فَسَاقَ اَلنَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ وَ بَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ اِطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ من الخطبة ( ١٠٢ ) و من خطبة له عليه السّلام ( و قد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية ) :

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى بَعَثَ ؟ مُحَمَّداً ص ؟ وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً وَ لاَ وَحْياً فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ وَ يُبَادِرُ بِهِمُ اَلسَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ .

يَحْسِرُ اَلْحَسِيرُ وَ يَقِفُ اَلْكَسِيرُ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ إِلاَّ هَالِكاً لاَ خَيْرَ فِيهِ حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وَ بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ وَ اِسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ قوله عليه السّلام في الأوّل : « إنّ اللّه » هكذا في ( المصرية ) و زاد ( ابن أبي الحديد و الخطية ) ١ « سبحانه » كما في الثاني بالاتّفاق .

« فإنّ اللّه سبحانه » قوله عليه السّلام فيهما .

« بعث محمّدا صلى اللّه عليه و آله و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا » قال تعالى : هو الّذي بعث في الأمّيين رسولا منهم . . . ٢ .

و في ( معارف ابن قتيبة ) قال الأصمعي : ذكروا أنّ قريشا سئلوا من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٧٦ ، و لكن لفظ ابن ميثم ٢ : ٧٢ مثل المصرية .

( ٢ ) الجمعة : ٢ .

٢١٠

أين لكم الكتاب ؟

قالوا : من أهل الحيرة . و قيل لأهل الحيرة : من أين لكم الكتاب ؟ قالوا : من الأنبار .

و روي : أنّ بشر بن عبد اللّه العبادي علّم أبا سفيان بن أمية ، و أبا قيس بن عبد مناف بن زهرة الكتاب ، فعلّما أهل مكّة .

و روى عن سهل : أنّ أوّل من كتب بالعربيّة مرامر بن مرة من أهل الأنبار ، و من الأنبار انتشرت في الناس .

و قال وهب : أوّل من خطّ بالقلم إدريس عليه السّلام ١ .

« و لا يدّعي نبوّة » و زاد في الثاني « و لا وحيا » .

و إنّما كان أمية بن أبي الصلت لرغبته عن عبادة الأوثان و قراءته كتب السلف ، يخبر أنّ نبيّا يبعث قد أظلّ زمانه ، فلمّا سمع بخروج النبيّ صلى اللّه عليه و آله كفر حسدا له ، و كان يطمع أن يكونه ٢ .

و لشياع خبر بعثته و قرب ظهوره ، سمّى قوم أبناءهم محمّدا رجاء أن يكونوه لما سمعوا أنّ اسم النبيّ الاتي محمّد ، و المسمّون هم : محمّد بن مسلمة ، و محمّد بن احيحة ، و محمّد بن برء البكري ، و محمّد بن سفيان بن مجاشع ، و محمّد بن حمران الجعفي ، و محمّد بن خزاعة السلمي ٣ . و قد وقع نظير ذلك قبله صلى اللّه عليه و آله لموسى عليه السّلام و بعده صلى اللّه عليه و آله للمهدي عليه السّلام .

و روى الطبري عن الزهري : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم لمّا كان يعرض نفسه على القبائل في المواسم ، عرض نفسه على بني عامر ، فاشترطوا أن يكون الأمر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المعارف لابن قتيبة : ٥٥٢ ٥٥٣ ، و النقل بتقديم و تأخير .

( ٢ ) التهذيب للنووي ١ ق ١ ١٢٦ ، و غيره .

( ٣ ) فتح ابن سعد في الطبقات ١ ق ١ : ١١١ بابا بهذا العنوان ، و ذكر فيه من سمّي في الجاهلية بمحمّد.

٢١١

لهم بعده ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم : الأمر إلى اللّه . فأعرضوا عنه ، و رجعوا إلى شيخ كبير لهم ، فأخبروه خبره و نسبه ، فوضع يده على رأسه ، ثمّ قال : يا بني عامر هل من تلاف : و الّذي نفسي بيده ، و ما تقوّلها إسماعيليّ قطّ ، و إنّها لحقّ ، و أين كان رأيكم عنه ؟ ١ .

و ادّعي النبوّة كذبا بعد بعثته صلى اللّه عليه و آله و سلم جمع : مسيلمة من حنيفة ، و سجاح الّتي تزوّجها مسيلمة من بني يربوع ، و أسود بن كعب من عنس ، و طلحة بن خويلد من أسد بن خزيمة لكنّه رجع إلى الاسلام بعد ، و أمّا خالد بن سنان العبسي الّذي قالوا : أتت ابنته إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم فسمعته يقرأ قل هو اللّه أحد ٢ فقالت : كان أبي يقول هذا . فغير محقّق ، و إنّ قالوا : إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال :

« ذلك نبيّ أضاعه قومه » ٣ .

هذا ، و في الخبر : أنّ خمسة من الأنبياء كانوا سريانيين و هم : آدم و شيث و إدريس و نوح و إبراهيم ، و خمسة منهم عبرانيين : إسحاق و يعقوب و موسى و داود و عيسى ، و خمسة منهم من العرب : هود و صالح و إسماعيل و شعيب و محمّد عليه و على آله و عليهم السلام ٤ .

قوله عليه السّلام في الأوّل : « فسّاق الناس حتّى بوّأهم » أي : مكّنهم .

« محلّتهم » التي ينبغي لهم أن يحلّوها ، و هي الإسلام ، ذاك الدين الحنيف .

قوله عليه السّلام في الثاني : « فقاتل بمن أطاعه » و هم أهل المدينة .

« من عصاه » و هم أهل مكّة و اليهود و غيرهم ، و في ( المناقب ) : لما كان بعد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٨٤ ، و النقل بالمعنى .

( ٢ ) الاخلاص : ١ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ١ : ٨١ ، ٨٢ ، و أمّا حديث : « ذلك نبي أضاعه قومه » فرواه ابن سعد في الطبقات ١ ق ٢ : ٤٢ ، و المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢١٤ ، و الصدوق في كمال الدين : ٦٥٩ ، و غيرهم .

( ٤ ) الاختصاص للمفيد : ٢٦٤ .

٢١٢

سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل عليه السّلام بقوله : أذن للذين يقاتلون . . . ١ ،

و قلّد في عنقه سيفا ، و في رواية : لم يكن له غمد ، فقال له : حارب بهذا قومك حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه .

و عن أهل السير : أنّ جميع ما غزا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بنفسه ستّ و عشرون غزوة على هذا النسق : البواط ، العشيرة ، بدر الأولى ، بدر الكبرى ، السويق ، ذو امرة ، أحد ، نجران ، بنو سليم ، الأسد ، بنو النضير ، ذات الرقاع ، بدر الآخرة ،

دومة الجندل ، الخندق ، بنو قريظة ، بنو لحيان ، ذو قرد ، بنو المصطلق ،

الحديبية ، خيبر ، الفتح ، حنين ، الطائف ، تبوك ، و يلحق بها بنو قينقاع . قاتل في تسع و هي : بدر الكبرى و أحد و الخندق و بني قريظة و بني المصطلق و بني لحيان و خيبر و الفتح و حنين و الطائف .

و أمّا سراياه صلى اللّه عليه و آله فستّ و ثلاثون : أوّلها سريّة حمزة لقي أبا جهل بسيف البحر في ثلاثين من المهاجرين ، و في ذي القعدة بعث سعد بن أبي و قّاص في طلب عير ، ثمّ عبيدة بن الحارث بعد سبعة أشهر في ستين من المهاجرين نحو الجحفة إلى أبي سفيان . . . ٢ .

قوله عليه السّلام في الأوّل : « و بلّغهم منجاتهم » و في الثاني : « يسوقهم إلى منجاتهم » أي : محلّ نجاتهم ، قال تعالى : . . . عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ٣ .

« و يبادر بهم الساعة » أي : القيامة .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الحج : ٣٩ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٨٦ ، و نقل عدد غزواته و سراياه صلى اللّه عليه و آله الواقدي في المغازي ١ : ٧ ، و ابن هشام في السيرة ٤ : ١٨٩ ، و ابن سعد في الطبقات ٢ ق ١ : ١ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٤٠٤ ، ٤٠٥ سنة ١٠ ، و المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢٨٠ ، ٢٨٢ و غيرهم ، و اختلف في تعدادها و ترتيبها اختلافا يسيرا .

( ٣ ) التوبة : ١٢٨ .

٢١٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

« أن تنزل بهم » و لم يستعدّوا لها ، و في ( ارشاد المفيد ) لمّا عاد النبيّ صلى اللّه عليه و آله من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معديكرب ، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أسلم يا عمرو يؤمنك اللّه من الفزع الأكبر . قال : يا محمّد و ما الفزع الأكبر فإنّي لا أفزع ؟

فقال : يا عمرو إنّه ليس كما تظنّ و تحسب ، إنّ الناس يصاح بهم صيحة واحدة ،

فلا يبقى ميّت إلاّ نشر ، و لا حيّ إلاّ ما شاء اللّه ، ثمّ يصاح بهم صيحة أخرى ، فينشر من مات ، و يصفّون جميعا ، و ينشقّ السماء ، و تهدّ الأرض ،

و تخرّ الجبال هدّا ، و ترمي النار بمثل الجبال شررا ، فلا يبقى ذو روح إلاّ انخلع قلبه و ذكر ذنبه و شغل بنفسه ، إلاّ ما شاء اللّه . فأين أنت يا عمرو من هذا ؟ قال :

إلا إنّي أسمع أمرا عظيما . فآمن باللّه و رسوله ، و من آمن معه من قومه ناس و رجعوا إلى قومهم ١ .

« يحسر الحسير » أي : يعجز العاجز ، قال الجوهري : حسر البعير : أعيا ،

فهو حسير ٢ .

« و يقف الكسير » أي : من كسر رجله .

« فيقيم عليه » أي : على كلّ من الحسير و الكسير ، و يحسن في مثله توحيد الضمير لرجوع الحسير و الكسير إلى معنى واحد ، و هو من لم يقدر على السير المتعارف .

« حتّى يلحقه غايته » و مقصده ، و الضميران أيضا كالضمير في ( عليه ) ،

و المراد أنّه لمّا لم يكن كلّ الناس صاحب معرفة قويّة يسلم حين يدعوه ، بل كثير منهم كانوا آبين أوّلا ، يداريهم و يدعوهم مرّة بعد مرّة ، حتّى يعرفوا الحقّ بالتأمّل و يهتدوا .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإرشاد للمفيد : ٨٤ .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٢ : ٦٢٩ مادة ( حسر ) .

٢١٤

« إلاّ هالكا لا خير فيه . . . » و لا تفيده الدّعوة ، كالّذين قال تعالى فيهم : ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة و كلّمهم الموتى و حشرنا عليهم كلّ شي‏ء قبلا ما كانوا ليؤمنوا . . . ١ .

و منهم المستهزئون به صلى اللّه عليه و آله الّذين قال تعالى فيهم : إنّا كفيناك المستهزئين ٢ . و هم الوليد بن المغيرة ، و الأسود بن عبد يغوث ، و أبو زمعة ،

و العاص بن وائل ، و الحرث بن قيس ، و عقبة بن أبي معيط ، و الأسود بن الحرث ، و أبو أحيحة ، و النضر بن الحرث ، و الحكم بن العاص ، و عتبة ، و شيبة ،

و طعيمة بن عدي ، و الحرث بن عامر ، و أبو البحتري ، و أبو جهل ، و أبو لهب ،

و نظراؤهم ، فدلّهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله على سبيل نجاتهم ، فأبوا إلاّ سلوك طريق الهلكة ،

و كانوا قد هدّدوه بالقتل ، فأهلكهم اللّه ، بعضهم بالقتل في غزوة بدر ، و بعضهم بأسقام و أوجاع .

قالوا : مرّ الأسود بن عبد يغوث على النبيّ صلى اللّه عليه و آله فأومأ صلى اللّه عليه و آله إلى بطنه ،

فاستسقى و مات حبنا .

و مرّ عليه أبو زمعة ، فأشار صلى اللّه عليه و آله إلى عينه ، فعمي ، و كان يضرب رأسه على الجدار حتّى هلك .

و مرّ عليه الوليد بن المغيرة ، فأومأ صلى اللّه عليه و آله إلى جرح اندمل في بطن رجله من نبل ، فتعلّقت به شوكة فنن فخدشت ساقه ، و لم يزل مريضا حتّى مات .

و خرج العاص بن وائل من بيته ، فلحقته السموم ، فلما انصرف إلى داره لم يعرفوه ، فباعدوه فمات غمّا ، و في خبر فقتلوه ، و في آخر وطأ على شبرقة فدخلت في أخمص رجله ، فقال : لدغت ، فلم يزل يحكّها حتّى مات .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنعام : ١١١ .

( ٢ ) الحجر : ٩٥ .

٢١٥

و مرّ عليه صلى اللّه عليه و آله الحرث فأومأ صلى اللّه عليه و آله إلى رأسه فتقيّأ قيحا ، و في خبر لدغته حيّة ، و في آخر تدهده عليه حجر من جبل فتقطّع .

و أكل الأسود بن الحارث حوتا فأصابه عطش ، فلم يزل يشرب الماء حتّي إنشقّ بطنه .

و رمى اللّه أبا لهب بالعدسة ، فتركه ابناه ثلاثا لا يدفنانه ، و كانوا يتّقون العدسة ، فقذفوا عليه الحجارة حتّى و اروه ١ .

و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله مثل ما بعثني اللّه به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها نقيّة فثبت الماء ، فأنبتت الكلأ و العشب الكثير ،

و كان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع اللّه بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا ،

و كان منها قيعان لا تمسك ماء ، و لا تنبت كلا ٢ .

و في ( الأغاني ) : نظر النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى زهير بن أبي سلمى ، و له مائة سنة ،

فقال : اللّهم أعذني من شيطانه . فما لاك بيتا حتّى مات ٣ .

قوله عليه السّلام في الأول و كذا الثاني : « فاستقامت قناتهم » أي : رمحهم ،

و استقامة القناة كناية عن تمكّنهم ، كقوله عليه السّلام في الثاني .

« فاستدارت رحاهم » فإنّه كناية عن نفوذ أمرهم .

١٠

من الخطبة ( ١٠٦ ) منها في ذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله :

اِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ اَلْأَنْبِيَاءِ وَ مِشْكَاةِ اَلضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ اَلْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ ؟

ـــــــــــــــــ

( ١ ) هذا تلخيص كلام ابن شهر آشوب في مناقبه ١ : ٧٣ ٧٥ ، و أخرجه أيضا أبو نعيم بطرق في الدلائل عنه الدر المنثور ٤ : ١٠٧ ، و ابن هشام في السيرة ٢ : ٤٠ ، و رواه ابن الأثير في الكامل ٢ : ٧٠ .

( ٢ ) صحيح مسلم ٤ : ١٧٨٧ ح ١٥ ، و غيره ، و بين الألفاظ اختلاف يسير .

( ٣ ) الأغاني لأبي الفرج ١٠ : ٢٩١ .

٢١٦

اَلْبَطْحَاءِ ؟ وَ مَصَابِيحِ اَلظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ اَلْحِكْمَةِ « إختاره من شجرة الأنبياء » روى ( طبقات كاتب الواقدي ) عن ابن عباس في قوله تعالى : و تقلّبك في الساجدين ١ قال : من نبيّ إلى نبيّ و من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجك نبيّا ٢ .

« و مشكاة الضياء » عن الفرّاء المشكاة : الكوّة التي ليست بنافذة .

« و ذؤابة العلياء » تستعار الذؤابة كالمشكاة للنقاوة ، قال حسّان في بئر معونة :

بني أمّ البنين ألم يرعكم

و أنتم من ذوائب أهل نجد

٣ قال الشاعر في كونه صلى اللّه عليه و آله و سلم من شجرة الأنبياء ، و مشكاة الضياء :

ورث الشرف جامعا عن جامع

و شهد له نداء نداء الصوامع

هو من مضر في سويداء قلبها

و من هاشم في سواد طرفها

و عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أنّ اللّه تعالى قسّم الخلق قسمين ،

فجعلني في خيرهما قسما ، فذلك قوله و أصحاب اليمين و أصحاب الشمال ٤ .

فأنا من أصحاب اليمين ، و أنا خير أصحاب اليمين ، ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا ، فذلك قوله : و أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة و السابقون السابقون ٥ ، فأنا من السابقين ، و أنا خير السابقين ، ثمّ جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، و ذلك قوله : و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٢١٩ .

( ٢ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ٥ .

( ٣ ) السيرة لابن هشام ٣ : ١٠٦ .

( ٤ ) جاء ذكر أصحاب اليمين في الواقعة : ٢٧ ، ٣٨ ، ٩٠ ، ٩١ ، و المدثّر : ٣٩ ، و ذكر أصحاب الشمال في الواقعة : ٤١ .

( ٥ ) الواقعة : ٨ ١٠ .

٢١٧

أتقاكم ١ ، و أنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على اللّه تعالى و لا فخر ، ثمّ جعل القبائل بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا ، فذلك قوله : إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ٢ ، فأنا و أهل بيتي مطهرون من الذنوب ٣ .

« و سرّة البطحاء » قال المسعودي : إنّ قريشا : قريش الظواهر ، و قريش الأباطح ، و الظواهر : بنو محارب ، و الحارث بن فهر ، و بنو الادرم بن غالب بن فهر ، و بنو هصيص بن عامر بن لؤي . و البطائح : بنو عبد مناف ، و بنو عبد الدار ، و بنو عبد العزّى ، و زهرة ، و مخزوم ، و تيم ، و جمح ، و سهم ، و عدي ،

و قصي ، و الفخر للبطاح .

قال ذكوان مولى عبد الدار للضحاك الفهري :

تطاولت للضحاك حتّى رددته

إلى نسب في قومه متقاصر

فلو شاهدتني من قريش عصابة

قريش البطاح لا قريش الظواهر

و قال أبو طالب في النبيّ صلى اللّه عليه و آله :

من القوم مفضال أبيّ على العدى

تمكّن في الفرعين من آل هاشم

و كان قصيّ أبو عبد مناف هو الأصل في قريش البطاح ، و سمّي مجمّعا ،

لأنّه جمع قومه من الشعاب و الأودية و الجبال إلى مكّة ، فلمّا تركهم بمكّة ملّكوه عليهم ، فكان أوّل ولد كعب بن لؤيّ أصاب ملكا أطاعه به قومه ، و كان إليه الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة و اللواء ، فحاز شرف قريش كلّه ،

و قسّم مكّة أرباعا بين قومه فبنوا المساكن ، و تيمّنت قريش بأمره ، فما ينكح

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الحجرات : ١٣ .

( ٢ ) الأحزاب : ٣٣ .

( ٣ ) أخرجه الحكيم الترمذي و الطبراني و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي في الدلائل عنهم الدر المنثور ٥ : ١٩٩ ، و الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ : ٢٩ ح ٦٦٩ عن ابن عباس .

٢١٨

رجل و لا امرأة إلاّ في داره ، و كان أمره في قومه كالدين المتّبع في حياته و بعد موته .

و أمّا قول قريش للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم : ابن أبي كبشة . ففي ( أنساب قريش مصعب الزبيري ) : أنّ قريشا كانت تنسب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم إلى أبي كبشة ، و حر بن غالب الخزاعي جدّ وهب أبي آمنة أمّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم لأمّه و لم يعيّروا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم في نسبته إليه من تقصير كان فيه ، فكان سيّد قومه ، و إنّما كان أبو كبشة أوّل من عبد الشعرى لأنّها تقطع السماء عرضا بخلاف الشمس و القمر و باقي الكواكب ، و العرب تظنّ أنّ أحدا لا يعمل شيئا إلاّ بعرق ينزعه ،

فلمّا خالف النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم دين قريش قالت قريش : نزعه أبو كبشة ١ .

هذا ، و قالوا : يكون موضعا آخران مسمّيان بالبطحاء غير بطحاء مكّة :

أحدهما : بطحاء الجزيرة ، و ثانيهما : بطحاء ذي قار .

و قالوا : رأى قرشي رجلا له هيئة رثّة فسأل عنه ، فقالوا : من تغلب .

فوقف عليه و هو يطوف بالبيت ، فقال له : أرى رجلين قلّما وطئتا البطحاء . فقال الرجل : البطحاوات ثلاث : بطحاء الجزيرة و هي لي دونك ، و بطحاء ذي قار ،

و أنا أحقّ بها منك ، و هذه البطحاء ، و سواء العاكف فيه و الباد ٢ .

هذا ، و في ( سيرة ابن هشام ) عن الزهري : لمّا وفد الأشعث بن قيس على النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : يا رسول اللّه نحن بنو آكل المرار كان من ولده من قبل النساء و أنت ابن آكل المرار . قال : فتبسّم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال : ناسبوا بهذا النسب العبّاس بن عبد المطلب و ربيعة بن الحارث و كان العبّاس و ربيعة رجلين تاجرين ، و كانا إذا شاعا في بعض العرب فسئلا ممّن هما قالا : نحن بنو

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نسب قريش للزبيري : ٢٦١ و النقل بالمعنى .

( ٢ ) معجم البلدان للحموي ١ : ٤٤٦ ، و المشترك و المفترق : ٥٩ ، و الآية ٢٥ من سورة الحجّ .

٢١٩

آكل المرار يتعزّزان بذلك ، و ذلك أنّ كندة كانوا ملوكا ثمّ قال لهم : لا ، بل نحن النضر بن كنانة ، لا نقفو أمّنا ، و لا ننتفي من أبينا ١ .

« و مصابيح الظلمة » أي : اختاره منها .

« و ينابيع الحكمة » أي : الأنبياء و الحكماء الّذين كانوا آباءه صلى اللّه عليه و آله و سلم .

١١

من الخطبة ( ١٤٩ ) و من خطبة له عليه السّلام :

وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ اَلشَّيْطَانِ وَ مَزَاجِرِهِ وَ اَلاِعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَ مَخَاتِلِهِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ ؟ مُحَمَّداً ؟ عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ لاَ يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لاَ يُجْبَرُ فَقْدُهُ أَضَاءَتْ بِهِ اَلْبِلاَدُ بَعْدَ اَلضَّلاَلَةِ اَلْمُظْلِمَةِ وَ اَلْجَهَالَةِ اَلْغَالِبَةِ وَ اَلْجَفْوَةِ اَلْجَافِيَةِ وَ اَلنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ اَلْحَرِيمَ وَ يَسْتَذِلُّونَ اَلْحَكِيمَ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ « و استعينه على مداحر » أي : ما يوجب الطرد و الإبعاد ، قال تعالى :

اخرج منها مذؤوما مدحورا . . . ٢ .

« الشيطان و مزاجره » أي : ما يوجب منعه ، و مداحر الشيطان و مزاجره :

العبادات و الطاعات ، من الصلاة و الصيام و باقي القربات .

قال الصادق عليه السّلام : إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس يا ويلاه أطاع و عصيت ، و سجد و أبيت ٣ .

و قال النبيّ لأصحابه : ألا أخبركم بشي‏ء إن أنتم فعلتموه تباعد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سيرة ابن هشام ٤ : ١٧٢ و غيره .

( ٢ ) الأعراف : ١٨ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٦٤ ح ٢ ، و المحاسن للبرقي ١٨ ح ٥٠ ، و الفقيه للصدوق ١ : ١٣٦ ح ١٧ ، و ثواب الأعمال : ٥٦ ح ١ عن الصادق عليه السّلام ، و دعائم الإسلام للقاضي النعمان ١ : ١٣٦ عن علي عليه السّلام ، و المقنع للصدوق : ٤٥ بلا عزو .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605