بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110288 / تحميل: 5676
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب ؟ قالوا : بلى . قال الصوم يسوّد وجهه ، و الصدقة تكسر ظهره ، و الحبّ في اللّه و الموازرة على العمل الصالح يقطع دابره ، و الاستغفار يقطع و تينه . . . ١ .

و عن الصادق عليه السّلام : لا يزال إبليس فرحا ما اهتجر المسلمان ، فاذا التقيا اصطكّت ركبتاه ، و تخلّعت أوصاله ، و نادى يا ويله ما لقي من الثبور ٢ .

و عنهم عليهم السلام : ليس شي‏ء أنكأ لإبليس و جنوده من زيارة الإخوان في اللّه بعضهم لبعض ، و إنّ المؤمنين يلتقيان فيذكران اللّه ثمّ يذكران فضلنا أهل البيت ، فلا يبقى على وجه إبليس مضغة لحم إلاّ تخدّد ، حتّى أنّ روحه لتستغيث من شدّة ما يجد من الألم ، فتحسّ ملائكة السماء و خزّان الجنان ،

فيلعنونه حتّى لا يبقى ملك مقرّب إلاّ لعنه ، فيقع خاسئا حسيرا مدحورا ٣ .

« و الاعتصام » عطف على ( مداحر ) أي : الاحتفاظ .

« من حبائله » جمع الحبالة ، أي : الّتي يصيد بها الصائد .

« و مخاتله » أي : مخادعه ، و حبائله و مخاتله : الخمر و الميسر و النساء و زخارف الدّنيا ، قال تعالى : يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون . إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدّكم عن ذكر اللّه و عن الصلاة فهل أنتم منتهون ٤ .

و عنهم عليهم السّلام : الفتن ثلاث : حبّ النساء ، و هو سيف الشيطان ، و شرب

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٤ : ٦٢ ح ٢ ، و الفقيه للصدوق ٢ : ٤٥ ح ٤ ، و أماليه : ٥٩ ح ١ المجلس ١٥ ، و في فضائل رمضان عنه الوسائل ٧ : ٢٩٦ ح ٣٥ ، و التهذيب للطوسي ٤ : ١٩١ ح ٦ ، و الأشعثيات لابن الأشعث : ٥٨ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٤٦ ح ٧ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ١٨٨ ح ٧ عن الكاظم عليه السّلام .

( ٤ ) المائدة : ٩٠ ٩١ .

٢٢١

الخمر ، و هو فخّ الشيطان ، وحبّ الدينار و الدرهم ، و هو سهم الشيطان ١ .

و عنهم عليهم السّلام : إنّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليه السّلام و إذا عليه معاليق من كلّ شي‏ء ، فقال له يحيى : ما هذه المعاليق يا إبليس ؟ فقال : هذه الشهوات التي أصبتها من ابن آدم . قال : فهل لي منها شي‏ء ؟ قال : ربّما شبعت فثقّلتك عن الصلاة و الذكر . قال يحيى : للّه عليّ أن لا أملأ بطني من طعام أبدا . . . ٢ .

« و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله » قدّمت العبودية ، لأنّه لولاها لما حصلت الرسالة .

« و نجيبه و صفوته » . . . اللّه أعلم حيث يجعل رسالته . . . ٣ .

« لا يوازى » أي : لا يحاذى ، و أصل الواو الهمز : من الإزاء ، و قول الجوهري :

« آزيته : إذا حاذيته ، و لا تقل وازيته » ٤ خطأ ، حيث إنّ غيره أجازه ، و يشهد له كلامه عليه السّلام .

« فضله » من أحد ، قال أبو طالب لمّا خطب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم خديجة : ثمّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه لا يوازن برجل من قريش إلاّ رجح به ، و لا يقاس بأحد منهم إلاّ عظم عنه ، و لا عدل له في الخلق .

و قالوا : لمّا تلجلج ورقة عمّ خديجة في الجواب في قبال أبي طالب مع كونه من القسّيسين ، و قالت خديجة نفسها : قد زوّجتك نفسي و المهر عليّ في مالي ، و قال بعض قريش : وا عجباه المهر على النساء للرجال غضب أبو طالب غضبا شديدا و قام على قدميه و كان ممّن تهابه الرجال و تكره غضبه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الخصال للصدوق : ١١٣ ح ٩١ باب الثلاثة ، عن علي عليه السّلام .

( ٢ ) المحاسن للبرقي : ٤٣٩ ح ٢٩٧ عن الصادق عليه السّلام ، و جاءت القصة في ضمن حديث طويل أخرجه الترمذي في غور الأمور عنه البحار ٦٣ : ٢٢٦ ح ٧١ ، و أمالي أبي علي الطوسي ١ : ٣٤٨ المجلس ١٢ .

( ٣ ) الأنعام : ١٢٤ .

( ٤ ) صحاح اللغة للجوهري ٦ : ٢٢٦٨ مادة ( أزي ) .

٢٢٢

و قال : إذا كان الرجال مثل ابن أخي هذا طلبوا بأغلى الأثمان و أعظم المهر ، و إذا كانوا أمثالكم لا يزوّجون إلاّ بالمهر الغالي ١ .

و قال كعب بن نمط في النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم :

و ما حملت من ناقة فوق رحلها

أبرّ و أوفى ذمّة من محمّد

و لا وضعت أنثى لأحمد مشبها

من الناس في التقوى و لا في التعبّد

و قال مالك بن عوف :

ما إن رأيت و لا سمعت بواحد

في الناس كلّهم شبيه محمّد

« و لا يجبر فقده » قال الباقر عليه السّلام : إن أصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك ، فاذكر مصابك بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فإنّ الخلائق لم يصابوا بمثله قط ٢ .

« أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة » الغاشية لها من الجاهلية ، قال العبّاس بن مرداس فيه :

سننت لنا فيه الهدى بعد جورنا

عن الحقّ لمّا أصبح الحقّ مظلما

و نوّرت بالبرهان أمرا مدمّما

و أطفأت بالقرآن جمرا تضرّما

« و الجهالة الغالبة » على جميع الفرق ، في ( سنن أبي داود ) عن ابن عبّاس :

كان النضير من اليهود أشرف من قريظتهم ، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النصير قتل به ، و إذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فودي بمائة و سق من تمر ، فلمّا بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله قتل نضيريّ قريظيّا ، فقالوا : ادفعوه إلينا نقتله . فقالوا : بيننا و بينكم محمّد . فأتوه ، فنزلت : . . . و إن حكمت فاحكم بينهم بالقسط . . . ٣ أي : النفس ، بالنفس ، ثمّ نزلت : أفحكم الجاهلية يبغون

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٤٢ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٢٠ ح ٢ ، و في الباب أحاديث أخرى جمع بعض طرقها الشيخ الحرّ في وسائل الشيعة ٢ : ٩١١ الباب ٧٩ ، و المحدث النوري في المستدرك الوسائل ١ : ١٤٢ الباب ٦٧ .

( ٣ ) المائدة : ٤٢ .

٢٢٣

و من أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون ١ .

« و الجفوة الجافية » أي الغليظة ، فكانوا يفعلون أفعالا في غاية الشناعة ،

و منها و أد البنات ، و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : جاء رجل إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال : إنّي قد ولدت بنتا و ربّتها ، حتّى إذا بلغت ، فألبستها و حلّيتها ثمّ جئت بها إلى قليب ، فدفعتها في جوفه ، و كان آخر ما سمعت منها ، و هي تقول : يا أبتاه .

فما كفّارة ذلك ؟ قال : ألك أمّ حيّة ؟ قال : لا . قال : فلك خالة حيّة ؟ قال : نعم . قال :

فابررها ، فإنّها بمنزلة الامّ تكفّر عنك ما صنعت . قيل : متى كان هذا ؟ فقال : كان في الجاهلية ، و كانوا يقتلون البنات مخافة أن يسبين فيلدن في قوم آخرين ٢ .

« و الناس يستحلّون الحريم » أي : الحرام ، فيرتكبونه بلا مبالاة .

« و يستذلّون الحكيم » فضلا عن أن لا يعظّموه ، في ( الأغاني ) خرج قيسبة بن كلثوم السكوني ، و كان ملكا يريد الحجّ و كانت العرب تحجّ في الجاهلية فلا يعرض بعضها لبعض فمرّ ببني عامر بن عقيل ، فوثبوا عليه ، فأسروه و أخذوا ماله و ما كان معه ، و ألقوه في القدّ ، فمكث فيه ثلاث سنين ، و شاع باليمن أنّ الجنّ استطارته . . . فتمشّى يوما في أغلاله و قيوده حتّى صعد أكمة ثمّ أقبل يضرب ببصره نحو اليمن و تغشاه عبرة ، فبكى ثمّ رفع طرفه الى السماء و قال : اللّهم ساكن السماء فرّج لي ممّا أصبحت فيه ، إذ عرض له راكب ،

فأشار إليه أن أقبل ، فكتب تحت خشبة رحله بالمسند أمره ، فجاء قومه فاستنقذوه ٣ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سنن أبي داود ٤ : ١٦٨ ح ٤٤٩٤ ، و سنن النسائي ٨ : ١٨ ، و ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و المستدرك للحاكم ، و سنن البيهقي عنهم الدر المنثور ٢ : ٢٨٥ و النقل بتصرف يسير ، و الآية ٥٠ من سورة المائدة .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ١٦٢ ح ١٨ .

( ٣ ) لم أجده في الأغاني .

٢٢٤

« يحيون على فترة » غافلين عن ربّهم الّذي خلقهم و رزقهم .

« و يموتون على كفرة » بالههم ، و ما أراد منهم من عبادته ، قال حسّان فيه صلى اللّه عليه و آله .

رسول أتانا بعد يأس و فترة

من الرسل و الأوثان في الأرض تعبد

و لمّا بعثت قريش عمرو بن العاص إلى ملك الحبشة لردّ جعفر الطيّار و من معه لمّا هاجروا إليه تخلّصا من أذاهم ، و قال عمرو للملك : « إنّهم خالفونا في ديننا ، و سبّوا آلهتنا ، و أفسدوا شبابنا ، و فرّقوا جماعتنا ، و فردّهم إلينا لنجمع أمرنا » ، قال جعفر للملك : خالفناهم بأنّه بعث اللّه تعالى فينا نبيّا أمر بخلع الأنداد ، و ترك الاستقسام بالأزلام ، و أمرنا بالصلاة و الزكاة ، و حرّم الظلم و الجور و سفك الدماء بغير حقّها و الزنا و الربا و الميتة و الدم ، و أمرنا بالعدل و الإحسان و ايتاء ذي القربى ، و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي . فقال الملك :

فبهذا بعث اللّه تعالى عيسى بن مريم ١ .

١٢

من الخطبة ( ١٥٩ ) و من خطبة له عليه السّلام :

بَعَثَهُ بِالنُّورِ اَلْمُضِي‏ءِ وَ اَلْبُرْهَانِ اَلْجَلِيِّ وَ اَلْمِنْهَاجِ اَلْبَادِي وَ اَلْكِتَابِ اَلْهَادِي أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ مَوْلِدُهُ ؟ بِمَكَّةَ ؟ وَ هِجْرَتُهُ ؟ بِطَيْبَةَ ؟ عَلاَ بِهَا ذِكْرُهُ وَ اِمْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلاَفِيَةٍ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه بهذا اللفظ القمي في تفسيره ١ : ١٧٧ ، و الطبرسي في أعلام الورى : ٤٣ ، و أمّا الحوار بين جعفر و النجاشي فحديث مشهور أخرجه أحمد بطريقين في مسنده ١ : ٢٠١ ، و ٥ : ٢٩٠ ، و الطبراني بطرق في معجمه عنه مجمع الزوائد ٦ : ٢٤ ٣٢ ، و ابن هشام في السيرة ١ : ٢٨٩ و غيرهم .

٢٢٥

أَظْهَرَ بِهِ اَلشَّرَائِعَ اَلْمَجْهُولَةَ وَ قَمَعَ بِهِ اَلْبِدَعَ اَلْمَدْخُولَةَ وَ بَيَّنَ بِهِ اَلْأَحْكَامَ اَلْمَفْصُولَةَ فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاَمِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ ثُمَّ يَكُونُ مَآبُهُ إِلَى اَلْحُزْنِ اَلطَّوِيلِ وَ اَلْعَذَابِ اَلْوَبِيلِ « بعثه بالنور المضي‏ء » أي : القرآن ، قال تعالى : . . . فالّذين آمنوا به و عزّروه و نصروه و أتبعوا النور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ٢ .

« و البرهان الجلي » قال تعالى : . . . قد جاءكم برهان من ربّكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا ٣ .

« و المنهاج » أي : الطريق الواضح .

« البادي » أي : الظاهر المستبين ، من : بدا يبدو ، لا بادى بدى الّذي أصله الهمز بمعنى الابتداء ، قال تعالى : . . . قد تبيّن الرشد من الغيّ . . . ٤ .

« و الكتاب الهادي » إلى اللّه تعالى ، قال تعالى : . . . و كتاب مبين . يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السلام . . . ٥ .

« أسرته » أي : عشيرته ، و هم بنو هاشم .

« خير أسرة » قالت قتيلة ابنة النضر الداري الّذي قتله أمير المؤمنين عليه السّلام صبرا بأمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله في أبيات :

أ محمّد و لأنت صنو نجيبة

من قومها و الفحل فحل معرق

ما كان ضرّك لو مننت و لربّما

منّ الفتى و هو المغيظ المحنق

ـــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ٨٥ .

( ٢ ) الأعراف : ١٥٧ .

( ٣ ) النساء : ١٧٤ .

( ٤ ) البقرة : ٢٥٦ .

( ٥ ) المائدة : ١٥ ١٦ .

٢٢٦

« و شجرته خير شجرة » و المراد أصله الّذي خلق صلى اللّه عليه و آله منه ، كما يشهد له قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أنا و عليّ من شجرة واحدة ، و الناس من أشجار شتّى ١ .

« أغصانها معتدلة » ليس فيها زيغ و اعوجاج .

« و ثمارها متهدّلة » أي : نازلة لا تمتنع من قطفها ، و المراد من أغصانها و ثمارها خلفاؤه الحقّة ، و عن الباقر عليه السّلام سئل عن قوله تعالى : . . . كشجرة طيّبة أصلها ثابت و فرعها في السماء . تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها . . . ٢ ،

فقال : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أنا أصل تلك الشجرة و عليّ ، و الأئمّة عليهم السلام أغصانها ،

و علمنا ثمرها ، و ما يخرج من الإمام من الحلال و الحرام في كلّ سنة إلى شيعته هو إيتاء أكلها كلّ حين ٣ .

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام : نحن شجرة النبوّة ، و محطّ الرسالة ،

و مختلف الملائكة ، و معادن العلم ، و ينابيع الحكم ٤ .

« مولده بمكّة » حرم اللّه .

« و هجرته بطيبة » أي : المدينة ، فطيبة أحد أسمائها ، ففي ( شرح المرتضى لقصيدة الحميري ) : أنّ للمدينة اثني عشر اسما : طيبة ، و يثرب ، و الدار ،

و السكينة ، و جابرة ، و المجبورة ، و المحبّة ، و المحبوبة ، و العذراء ، و الرعبوبة ،

و القاصمة ، و بندد ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الحاكم و ابن مردويه و الذهبي عنهم الدر المنثور ٤ : ٤٤ ، و ابن عساكر بطريقين في ترجمة علي عليه السّلام ١ : ١٤٢ ، ١٤٧ ح ١٧٨ ، ١٨١ ، و الخوارزمي في مناقبة : ٨٧ ، و ابن المغازلي في مناقبه : ٤٠٠ ح ٤٥٣ ، و الحسكاني بطريقين في شواهد التنزيل ١ : ٢٨٨ ح ٣٩٥ ، ٣٩٦ ، و الجويني في فرائد السمطين ١ : ٥٢ ح ١٧ و غيرهم .

( ٢ ) إبراهيم : ٢٤ ٢٥ .

( ٣ ) هذا المعنى روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام كليهما ، بعضه مرفوع إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و بعضه لم يرفع . أقرب الألفاظ ما أخرجه الصفار في بصائر الدرجات : ٧٨ ح ١ ، و جمع بعض طرقه المجلسي في بحار الأنوار ٢٤ : ١٣٦ الباب ٤٤ .

( ٤ ) نهج البلاغة للشريف الرضي ١ : ٢٠٩ ضمن الخطبة ١٠٧ .

( ٥ ) شرح القصيدة الذهبية للشريف المرتضى : ٨ .

٢٢٧

و قال سيف بن ذي يزن لجدّه عبد المطلب لما بشّره به : أجد في الكتاب الناطق و العلم السابق أنّ يثرب دار هجرته و بيت نصرته ١ .

« علا بها » أي : بطيبة .

« ذكره ، و امتدّ بها » في الآفاق .

« صوته » قال قيس بن صرمة من بني النجار فيه صلى اللّه عليه و آله :

ثوى في قريش بضع عشرة حجّة

يذكّر من يلقى صديقا مواليا

و يعرض في أهل المواسم نفسه

فلم ير من يؤوي و لم ير داعيا

فلمّا أتانا أظهر اللّه دينه

فأصبح مسرورا بطيبة راضيا

و قال الأعشى :

نبي يرى ما لا يرون و ذكره

أغار لعمري في البلاد و أنجدا

هذا ، و في ( الفقيه ) عن الصادق عليه السّلام : كان اسم النبيّ صلى اللّه عليه و آله يكرّر في الأذان ، فأوّل من حذفه ابن أروى ٢ .

قلت : أي : عثمان ، و كان معاوية يتلهف على عدم استطاعته رفع اسمه صلى اللّه عليه و آله رأسا من الأذان .

« أرسله بحجّة كافية » و هي القرآن ، قال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس و الجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا ٣ ، و قال عزّ و جلّ : و إن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) حديث سيف بن ذي يزن أخرجه البيهقي في الدلائل عنه أعلام الورى : ١٧ ، و المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٥٨ و الصدوق في كمال الدين : ١٧٦ ح ٣٢ ، و الكراجكي في كنز الفوائد : ٨٢ ، و رواه شاذان بن جبرئيل في الفضائل : ٣٨ ، و الطبرسي في أعلام الورى : ١٥ باختلاف بين الروايات .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ١ : ١٩٥ ح ٥١ .

( ٣ ) الإسراء : ٨٨ .

٢٢٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

بسورة من مثله . . . ١ .

« و موعظة شافية » . . . و جاءك في هذه الحقّ و موعظة و ذكرى للمؤمنين ٢ ، يا أيّها الناس قد جاءتكم موعظه من ربّكم و شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة للمؤمنين ٣ . و لو لم يكن في القرآن إلاّ قوله تعالى :

فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره . و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره ٤ ، أو قوله تعالى : . . . يا أيّها الناس إنّما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدّنيا ثمّ إلينا مرجعكم فننبّئكم بما كنتم تعملون ٥ ، إنّما مثل الحياة الدّنيا كماء أنزلناه من السماء . . . ٦ ، أو قوله تعالى : قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه فانّه ملاقيكم ثمّ تردّون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون ٧ ، إلى غير ذلك من نظائرها ، لكفى في كونها موعظة شافية .

« و دعوة » إلى اللّه .

« متلافية » أي : متداركة ، قال تعالى : . . . إنّا أرسلناك شاهدا و مبشّرا و نذيرا . و داعيا إلى اللّه بإذنه و سراجا منيرا ٨ .

« أظهر به الشرائع المجهولة » يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا ممّا كنتم تخفون من الكتاب و يعفو عن كثير . . . ٩ ، في ( سنن أبي داود )

ـــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٢٣ .

( ٢ ) هود : ١٢٠ .

( ٣ ) يونس : ٥٧ .

( ٤ ) الزلزلة : ٧ .

( ٥ ) يونس : ٢٣ .

( ٦ ) يونس : ٢٤ .

( ٧ ) الجمعة : ٨ .

( ٨ ) الأحزاب : ٤٥ ٤٦ .

( ٩ ) المائدة : ١٥ .

٢٢٩

عن البراء بن عازب : مرّوا على النبيّ صلى اللّه عليه و آله بيهودي قد حمّم وجهه ( أي : سوّد ) و هو يطاف به ، فناشدهم ما حدّ الزاني في كتابهم ، فأحالوه على رجل منهم ،

فنشده النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ما حدّ الزّنا في كتابكم ؟ فقال : الرّجم ، و لكن ظهر الزّنا في أشرافنا فكرهنا أن يترك الشريف و يقام على من دونه ، فوضعنا هذا عنّا ، فأمر به النبيّ صلى اللّه عليه و آله فرجم . ثمّ قال : اللّهم إنّي أوّل من أحيا ما أماتوا من كتابك ١ .

« و قمع به البدع المدخولة » في الدين ، ما جعل اللّه من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام . . ٢ .

و في ( النهاية ) كانوا إذا ولدت إبلهم سقبا بحروا أذنه أي : شقّوها و قالوا : اللّهم إن عاش ففتيّ و إن مات فذكيّ . فإذا مات أكلوه و سمّوه : البحيرة .

و قيل : البحيرة : بنت السائبة ، كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر أناث لم يركب ظهرها و لم يجزّ و برها ، و لم يشرب لبنها إلاّ ولدها أو ضيف ، و تركوها مسيبة لسبيلها و سمّوها السائبة ، فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقّوا أذنها و خلّوا سبيلها ، و حرم منها ما حرم من أمّها و سمّوها البحيرة ٣ .

و الوصيلة : هي الشاة إذا ولدت ستّة أبطن اثنيين أثنيين ، و ولدت في السابعة ذكرا و أنثى . قالوا : وصلت أخاها . فأحلّوا لبنها للرجال ، و حرّموه على النساء . و قيل : إن كان السابع ذكرا ذبح و أكل منه الرجال و النساء ، و إن كانت أنثى تركت في الغنم ، و إن كان ذكرا و أنثى قالوا : وصلت أخاها و لم تذبح ، و كان لبنها حراما على النساء ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سنن أبي داود ٤ : ١٥٤ ح ٤٤٤٧ ، ٤٤٤٨ .

( ٢ ) المائدة : ١٠٣ .

( ٣ ) النهاية لابن الأثير ١ : ١٠٠ مادة ( بحر ) .

( ٤ ) النهاية لابن الأثير ٥ : ١٩٢ مادة ( وصل ) .

٢٣٠

و في ( الصحاح ) الحامي : الفحل من الإبل الذي طال مكثه عندهم ١ .

قال الفرّاء : إذا لقح ولد ولده ، فقد حمى ظهره ، و لا يجزّ له وبر ، و لا يمنع من مرعى ٢ .

و عن ( البخاري ) البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت ، فلا يحلبها أحد من الناس ، و السائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شي‏ء ، و الوصيلة الناقة البكر تبكّر في أوّل نتاج الإبل ثمّ تثنّي بعد بأنثى ، و كانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ليس بينهما ذكر ، و الحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه و دعوه للطواغيت و أعفوه من الحمل فلا يحمل عليه شي‏ء و سمّوه الحامي ٣ .

و قال تعالى : و قالوا هذه أنعام و حرث حجر لا يطعمها إلاّ من نشاء بزعمهم و أنعام حرّمت ظهورها و أنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون . و قالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا و محرّم على أزواجنا و إن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم و صفهم إنّه حكيم عليم ٤ .

و قالوا : كانت تلبية قريش و العرب تلبية إبراهيم و الأنبياء عليهم السلام : « لبّيك اللّهم لبّيك لا شريك لك لبّيك » فجاءهم إبليس في صورة شيخ و قال : ما هذا تلبية أسلافكم و إنّما تلبيتهم ( لا شريك لك إلاّ شريك هو لك ) فنفرت قريش من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٦ : ٢٣٢٠ مادة ( حمى ) .

( ٢ ) لسان العرب لابن منظور ١٤ : ٢٠٢ مادة ( حما ) .

( ٣ ) أخرجه البخاري في صحيحه ٣ : ١٢٦ ، و مسلم في صحيحه ٤ : ٢١٩٢ ح ٥١ ، و عبد الرزاق و عبد ابن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عنهم الدر المنثور ٢ : ٣٣٧ كلّهم عن سعيد بن المسيب موقوفا .

( ٤ ) الأنعام : ١٣٨ ١٣٩ .

٢٣١

هذا القول ، فقال لهم إبليس : على رسلكم حتّى آتي على آخر كلامي . فقالوا : و ما هو ؟ قال : ( إلاّ شريك هو لك تملكه و ما ملك ) ألا ترون أنّه يملك الشريك و ما ملكه . فرضوا بذلك ، و كانت قريش خاصّة يلبّون به ، فقال لهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله : هذا شرك ، و أنزل تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم ممّا ملكت من أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء ١ .

« و بيّن به الأحكام المفصولة » . . . و قد فصّل لكم ما حرّم عليكم . . . ٢ ،

و هو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصّلا . . ٣ .

« فمن يبتغ غير الاسلام دينا تحقّق شقوته » قال تعالى : و من يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين ٤ .

« و تنفصم » أي : تنقطع .

« عروته » فإنّ العروة الوثقى التي لا انفصام لها هي دين الاسلام .

« و تعظم كبوته » بحيث لا يرجى نعشه .

« ثمّ يكون مآبه » أي : مرجعه .

« إلى الحزن الطويل » الذي لا انقضاء له .

« و العذاب الوبيل » أي : الوخيم ، قال أبو طالب فيه :

نبيّ أتاه الوحي من عند ربّه

و من قال : لا . يقرع بسنّ نادم

هذا ، و للبحتري في أحمد بن محمّد الطائي :

و لو تناهت بنو شيبان عنه إذن

لم يجشموا غير ذي حدّين مذروب

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقله كذلك عبد الرؤوف سعد في هامش السيرة النبوية ١ : ٧٣ ، و نقله مختصرا ابن هشام في السيرة ١ : ٧٣ ، و الطبراني و ابن مردويه عنهما الدار المنثور ٥ : ١٥٥ ، و اليعقوبي في تاريخه ١ : ٢٥٥ ، و الآية ٢٨ من سورة الروم .

( ٢ ) الأنعام : ١١٩ .

( ٣ ) الأنعام : ١١٤ .

( ٤ ) آل عمران : ٨٥ .

٢٣٢

ما زادها النفر عنه غير تغوية

و بعدها من رضاه غير تتبيب

١٣

من الخطبة ( ١٧٦ ) وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ وَ لاَ مَشْكُوكٍ فِيهِ وَ لاَ مَكْفُورٍ دِينُهُ وَ لاَ مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ وَ صَفَتْ دِخْلَتُهُ وَ خَلَصَ يَقِينُهُ وَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ ؟ مُحَمَّداً ؟ عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ اَلَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلاَئِقِهِ وَ اَلْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ وَ اَلْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ وَ اَلْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ وَ اَلْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ اَلْهُدَى وَ اَلْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ اَلْعَمَى « و أشهد ألاّ إله إلاّ اللّه » فقد قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا . . . ١ .

« غير معدول به » أحد ، و كيف يعدل المخلوق بالخالق ، و كيف يعدل من هو في غالية النقص بمن هو في نهاية الكمال ؟

« و لا مشكوك فيه » و كيف و هو أظهر من الشمس ، كف لا و الشمس أحد آثاره ؟ . . . أفي اللّه شكّ فاطر السماوات و الأرض . . . ٢ .

« و لا مكفور دينه » و كيف و هو دين قيّم غير ذي عوج جامع لسعادة الدارين ، فقد قال سفراؤه تعالى : اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا ، و اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا ؟

« و لا مجحود تكوينه » حتّى من الّذين جعلوا الأصنام له شركاء في العبادة و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولنّ اللّه . . . ٣ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنبياء : ٢٢ .

( ٢ ) إبراهيم : ١٠ .

( ٣ ) لقمان : ٢٥ .

٢٣٣

« شهادة من صدقت نيّته » من الكذب .

« و صفت دخلته » من الكدر .

« و خلص يقينه » من الريب .

« و ثقلت موازينه » بالأعمال الصالحة ، و إنّما قيّد عليه السّلام شهادته بما قيّده ،

لأنّ الشهادة إذا لم تكن كذلك لم تكن بمفيدة ، كشهادة المنافقين .

« و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله » إلى خلقه .

« المجتبى » أي : المصطفى .

« من خلائقه » من الأوّلين و الآخرين ، و عن ابن عبّاس في حديث المعراج :

أنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال : إنّ ربّي بعثني إليك و أمرني أن آتيه بك فقم ،

فإنّ اللّه تعالى يكرمك كرامة لم يكرم بها أحد قبلك و لا بعدك ١ .

و في خبر آخر : فلمّا بلغ إلى سدرة المنتهى فانتهى الى الحجب فقال جبرئيل : تقدّم يا رسول اللّه ليس لي أن أجوز هذا المكان ، ولو دنوت أنملة لا حترقت ٢ .

و في خبر آخر : قال له جبرئيل : ما وطأ نبيّ قطّ مكانك ٣ .

« و المعتام » أي : المختار ، و لفظ اسمي الفاعل و المفعول في مثله ، و إن كان واحدا إلاّ أنّه هنا اسم مفعول كلفظ ( المختص ) بعده . و قول الخوئي : « إنّه اسم فاعل » ٤ وهم .

« لشرح حقائقه » جمع حقيقة ، قال ابن أبي الحديد : أي لشرح حقائق توحيده و عدله ، و معنى حقائق توحيده الأمور المحقّقة اليقينية الّتي لا تعتريها

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٧٧ ، ١٧٩ ضمن حديثين عن ابن عباس .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٧٩ ضمن حديث عن أبي بصير .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) شرح الخوئي ٥ : ٦٢ .

٢٣٤

الشكوك ، و لا تتخالجها الشبه ، و هي أدلّة أصحابنا المعتزلة الّتي استنبطوها بعقولهم بعد أن دلّهم إليها و نبّههم على طرق استنباطها النبيّ صلى اللّه عليه و آله بواسطة أمير المؤمنين عليه السّلام ، لأنّه إمام المتكلّمين الّذي لم يعرف علم الكلام من أحد قبله ١ .

قلت : بل المراد بشرح حقائقه مطلق الأصول و الفروع ، فانّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم كما شرح التوحيد و العدل شرح المعاد و الثواب و العقاب ، و شرح الحلال و الحرام ، و لا سيّما بعض الأحكام التي بيّنها صلى اللّه عليه و آله و سلم بواسطة أهل بيته عليهم السّلام ،

فقال رجل للكاظم عليه السّلام : إنّ رجلا من مواليك تزوّج جارية معصرا لم تطمث ،

فلمّا افتضّها سال الدّم فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيام ، و إنّ القوابل اختلفن في ذلك ، فقال بعضهنّ : دم الحيض ، و قال بعضهنّ : دم العذرة . فما ينبغي لها أن تصنع ؟ إلى أن قال قال عليه السّلام له : سرّ اللّه فلا تذيعوه ، و لا تعلّموا هذا الخلق أصول دين اللّه ، بل ارضوا لهم ما رضي اللّه لهم من ضلال . ثمّ قال :

تستدخل القطنة ثمّ تدعها مليّا ، ثمّ تخرجها إخراجا رفيقا ، فان كان الدّم مطوّقا في القطنة فهو من العذرة ، و إن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض . فبكى الرجل و قال له عليه السّلام : من كان يحسن هذا غيرك ؟ فرفع الكاظم عليه السّلام يده إلى السماء و قال : و اللّه إنّي ما أخبرك إلاّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السّلام عن اللّه عزّ و جلّ ٢ .

و في خبر عن الصادق عليه السّلام في اشتباه دم الحيض و القرحة : فان خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض ، و ان خرج من الجانب الأيمن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٠٣ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٣ : ٩٢ ح ١ ، و المحاسن للبرقي : ٣٠٧ ح ٢٢ و النقل بتقطيع ، و قريب منه التهذيب للطوسي ١ : ٣٨٥ ح ٧ .

٢٣٥

فهو من القرحة ١ .

و قد شرح النبيّ صلى اللّه عليه و آله الحقائق في ما نسبه أهل الكتاب إلى التوراة و الإنجيل افتراء منهم ، فقالوا : لحم الإبل كان محرّما في ملّة إبراهيم عليه السّلام .

فكذّبهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم في ما أنزل تعالى في قوله : كلّ الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ٢ .

و شرح النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قصص الأنبياء بحقائقها في ما أنزل تعالى عليه ،

فقال في ( هود ) بعد ذكر قصّة نوح : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا . . . ٣ ، و شرح خبر ذي القرنين ٤ ، و خبر أصحاب الكهف ٥ ، إلى غير ذلك .

و كان في الأنصار تيه و تكرّم فيتحرّجون من مؤاكلة الأعمى و الأعرج و المريض ، و يتحرّجون هم من مؤاكلة الأصحّاء ، فسألوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن ذلك فنزلت : ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج و لا على أنفسكم . . . ٦ ، و توهّم غير الأصحّاء وجوب الجهاد عليهم كالأصحّاء

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه كذلك التهذيب للطوسي ١ : ٣٨٥ ح ٨ ، و صاحب فقه الرضا فيه ، عنه البحار ٨١ : ٩٣ ، و به أفتى الفقيه للصدوق ١ : ٥٤ و المقنع : ٥ و الطوسي في المبسوط ١ : ٤٣ و النهاية : ٢٣١ ، و أخرجه بالعكس أي الحيض من الأيمن و القرحة من الأيسر الكافي للكليني ٣ : ٩٤ ح ٣ ، و رواه العلاّمة الحلي نقلا عن تهذيب الطوسي في المختلف ١ : ٣٦ و المنتهى ١ : ٩٥ ، و به أفتى ابن الجنيد كما في المنتهى ١ : ٩٥ ، و للفقهاء بحث حول هذا الحديث .

( ٢ ) آل عمران : ٩٣ .

( ٣ ) هود : ٤٩ .

( ٤ ) جاءت القصة في سورة الكهف الآيات : ٨٣ ٩٨ .

( ٥ ) جاءت القصة في سورة الكهف الآيات : ١٠ ٢٦ .

( ٦ ) هذا الشأن تفسير القمي ٢ : ١٠٨ عن الباقر عليه السّلام و الواحدي في أسباب النزول : ٢٢٣ عن ابن عباس ، و في الباب عن غيره ، جمع بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور ٥ : ٥٨ و الآية من سورة النور : ٦١ .

٢٣٦

فنزلت : ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج و من يطع اللّه و رسوله . . . ١ .

ثمّ لم خصّ ابن أبي الحديد شرح النبيّ صلى اللّه عليه و آله للحقائق بالتوحيد و العدل من الأصول ؟ و لم لم يذكر المعاد ؟ و قد شرحه في كتابه ، فقال : و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم . قل يحييها الّذي أنشأها أوّل مرّة و هو بكلّ خلق عليهم ٢ .

و لم لم يذكر شرح النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم للإمامة الّتي هي أهمّ الحقائق إذ بها تكميل الدين ، و لو لم يشرحها كأن لم يبلّغ رسالته ، كما نصّ على ذلك في الكتاب ؟ و قد شرحها في كتابه في قوله تعالى : إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ٣ ، و في قوله تعالى : فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين ٤ ، و في قوله تعالى : . . . إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ٥ ، و في قوله صلى اللّه عليه و آله بعد تقرير الناس بكونه أولى بهم من أنفسهم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه ٦ . و في قوله صلى اللّه عليه و آله : أنت منّي يا عليّ بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الطبراني في معجمه عنه الدر المنثور ٦ : ٧٣ عن زيد بن ثابت ، و الآية ١٧ من سورة الفتح و طرفاها يدلاّن على ذلك لا حاجة إلى الرواية .

( ٢ ) يس : ٧٨ ٧٩ .

( ٣ ) المائدة : ٥٥ .

( ٤ ) آل عمران : ٦١ .

( ٥ ) الأحزاب : ٣٣ .

( ٦ ) هذا الحديث المعروف بحديث الولاء و حديث الغدير من الأحاديث المتواترة ، أخرجه كثير من أهل الحديث و روي على ما أحصيته عن مائة و عشرين من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و منهم : علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و ابن عباس و الزبير و طلحة و أبو بكر و عمر و عثمان ، رواه من الطرق كثيرة ابن عساكر في ترجمة علي عليه السّلام ٢ : ٣٥ ٩٠ ح ٥٣٥ ٥٩٢ ، و جمع بعض طرقه المجلسي في البحار ٣٧ : ١٠٨ الباب ٥٢ .

٢٣٧

نبيّ بعدي ١ . إلى غير ذلك .

« و المختصّ بعقائل » جمع عقيلة ، أي : نفائس .

« كراماته » قال تعالى له صلى اللّه عليه و آله و سلم : ألم نشرح لك صدرك . و وضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك . و رفعنا لك ذكرك ٢ ، و قال عزّ و جلّ له :

و الضّحى . و اللّيل إذا سجى . ما ودّعك ربّك و ما قلى . و للآخرة خير لك من الأولى . و لسوف يعطيك ربّك فترضى . أ لم يجدك يتيما فآوى . و وجدك ضالاّ فهدى . و وجدك عائلا فأغنى . . . و أمّا بنعمة ربّك فحدّث ٣ ، و قال عزّ اسمه : سبحان الّذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الّذي باركنا حوله لنريه من آياتنا . . . ٤ ، و قال سبحانه : و ما ينطق عن الهوى . إن هو إلاّ وحي يوحى ٥ ، و قد جعل عزّ و جلّ ذكره صلى اللّه عليه و آله مقرونا بذكره في كلّ يوم خمس مرّات على المنائر ، و جعل الشهادة برسالته موصولة بالشّهادة بتوحيده جلّ و علا على المنائر .

و في خبر المعراج : أنا المحمود و أنت محمّد شققت اسمك من اسمي ،

فمن وصلك وصلته ، و من قطعك بتلته ، انزل إلى عبادي فأخبرهم بكرامتي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) هذا الحديث المعروف بحديث المنزلة من الأحاديث المتواترة ، أخرجه كثير من أهل الحديث و روي على ما أحصيته عن اثنين و أربعين من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، منهم : علي و فاطمة و الحسن عليهم السلام و ابن عباس و الزبير و طلحة و أبوبكر و عمر و عثمان ، رواه من طرق كثيرة ابن عساكر في ترجمة علي عليه السّلام ١ : ٣٠٦ ٣٩٤ ح ٣٣٦ ٤٥٦ ، و جمع بعض طرقه المجلسي في البحار ٣٧ : ٢٥٤ الباب ٥٣ .

( ٢ ) الانشراح : ١ ٤ .

( ٣ ) الضحى : ١ ١١ .

( ٤ ) الإسراء : ١ .

( ٥ ) النجم : ٣ ٤ .

٢٣٨

إيّاك ، و إنّي لم أبعث نبيّا إلاّ جعلت له وزيرا ، و أنّك رسولي ، و أنّ عليّا وزيرك ١ .

« و المصطفى » أي : المختار .

« لكرائم رسالاته » إلى بريّته ثمّ دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى ٢ . و قال صلى اللّه عليه و آله : إنّما بعثت لاتمّم مكارم الأخلاق ٣ .

« و الموضّحة به » صلى اللّه عليه و آله .

« أشراط » جمع شرط بفتحتين ، أي : علائم .

« الهدى » قال ابن الزبعرى فيه صلى اللّه عليه و آله :

هادي العباد إلى الرشاد و قائد

للمؤمنين بضوء نور ثاقب

« و المجلّو به غربيب » عطف على اشراط ، أي : شدائد سواد .

« العمى » فرفع به صلى اللّه عليه و آله المنكرات و الشنائع ، فصار الناس به بصيرين ،

و في الخبر : سأل ابن الكوا أمير المؤمنين عليه السلام عن مسائل ، منها : ما الأعمى باللّيل بصير بالنّهار ؟ فقال عليه السّلام : ذلك رجل جحد الأنبياء الّذين مضوا ، ثمّ أدرك النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم فأمن به ، فعمي باللّيل و أبصر بالنّهار ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٧٩ .

( ٢ ) النجم : ٨ ١٠ .

( ٣ ) رواه المناوي في كنوز الحقائق ١ : ٧٦ ، و الطبرسي في مكارم الأخلاق : ٨ ، و البخاري في الأدب ، و الحاكم في المستدرك ، و البيهقي في الشعب عنهم الجامع الصغير ١ : ١٠٣ ، و أبو جعفر الطوسي في أماليه ٢ : ٢٠٩ المجلس ٨ و غيرهم .

( ٤ ) أخرجه الطبرسي في الاحتجاج : ٢٢٩ ، و محمد بن علي بن إبراهيم في عجائب الأحكام : ١٠٦ ح ١٧٤ ، ضمن الحديث .

٢٣٩

١٤

الخطبة ( ١٧١ ) و من خطبة له عليه السّلام :

أَمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ « أمين وحيه » قال حسّان فيه صلى اللّه عليه و آله و سلم :

أمين اللّه شيمته الوفاء

و قال عمّه أبو طالب فيه :

أنت الأمين أمين اللّه لا كذب

و الصّادق القول لا لهو و لا لعب

أنت الرّسول رسول اللّه نعلمه

عليك ينزل من ذي العزّة الكتب

« و خاتم رسله » قال تعالى : . . . و لكن رسول اللّه و خاتم النبييّن . . . ١ .

و قال صلى اللّه عليه و آله و سلم لأمير المؤمنين عليه السّلام : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ٢ . و هو من الأخبار المتواترة .

و حلاله حلال إلى يوم القيامة ، و حرامه حرام إلى يوم القيامة ، فمن ادّعى بعده نبوّة ، أو أتى بعد كتابه بكتاب ، أو جاء بعد سنّته بسنّة ، فكافر و دمه مباح ، و مع ذلك فقد قال فاروقهم : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما ٣ . و زاد هو و صدّيقهم على سنّة خاتم الرسل سننا أثبتها التاريخ ، و لما قال أمينهم ابن عوف لأمير المؤمنين عليه السّلام يوم الدار :

أبايعك على سنّة أبي بكر و عمر أنكر عليه السّلام ذلك ٤ . و رضي بغصب حقّه الّذي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأحزاب : ٤٠ .

( ٢ ) هذا الحديث المتواتر المعروف بحديث المنزلة مرّ تخريجه في العنوان ١٣ من هذا الفصل .

( ٣ ) أخرجه الطحاوي في معاني الآثار ، و أبو صالح في نسخته عنهما منتخب كنز العمال ٦ : ٤٠٤ ، و رواه أبو القاسم الكوفي في الاستغاثة : ٤٤ بلفظ : « أنا أنهى عنهما و اعاقب عليهما » و أمّا لفظ الكتاب فرواه ابن عطية في المؤتمر : ٤٩ .

( ٤ ) تاريخ الطبري ٣ : ٣٠١ سنة ٢٣ ، و الإمامة و السياسة لابن قتيبة ١ : ٢٦ ، و تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٢ و غيرهم .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

مسائل حسن الطالع والحظ وعدمهما ، وما شابه ذلك ، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إلى هذه الأمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع ، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول : لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين ، ولا وراء الأوهام والخيال ، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم ، وفي نظمكم والاجتماعية ، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّا وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها ، وكانت قوية العزم والإرادة ، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك ، هذه الشعوب منتصرة حتما.

أمّا إذا حلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث ، وحلّ التراجع مكان الجرأة والنفاق والتفرقة مكان الاتحاد ، وحبّ النفس مكان الفداء ، وحل التظاهر والرياء محل الإخلاص والإيمان ، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) تبيّن أسمى قانون في حياة الإنسانية ، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإنسانية ، وأوضحها حتى لأولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإنسان ، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء : إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها ، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيدا ، فإنّ تأريخ الإسلام ، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد انتصارات باهرة في بداياته ، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة

٤٦١

بعدها.

ففي القرون الأولى كان الإسلام يتقدم في العالم بسرعة ، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة ، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم ، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معا ، وجاء بمدينة زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها ، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة ، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي ، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إلى الآخرين طلبا لوسائل الحياة الابتدائية ، ويبعثون بأبنائهم إلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم ، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة.

لكن الأمور بلغت حدا بحيث أنّهم لم يصدروا علما وصناعة ، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوما مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مائتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلّا أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة ، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهرا وسنين لإرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إلى أية نتيجة سيصلو؟

ألم يعد الله عباده بالقول :( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) أو قوله :( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

أو قوله :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3) .

__________________

(1) الروم ، 47.

(2) المنافقون ، 8.

(3) الأنبياء ، 105.

٤٦٢

فهل الله عاجز ـ والعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك ، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات ، ويدعو إلى العودة إلى أعماق الوجدان ، والنظر في ثنايا المجتمع ، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم ، وأنّ الألطاف والرحمة الإلهية تعم الجميع ، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدرا فصرتم إلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال : إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة ، وانتهى ولن يعود ، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضا ، فإنّكم إذا عدتم إلى الله وأحكمتم أسس إيمانكم ، ووعت عقولكم ، وذكرتم عهودكم ومسئولياتكم ، وتصافحت الأيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدوّية للنهضة ، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد ، فسوف تعود المياه إلى مجاريها ، وستنقضي الأيّام السود وترون أفقا مشرقا وضاء ، وستعود أمجادكم العظيمة ، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم ، وليكتب علماؤكم ، ويجاهد مقاتلوكم ، ويسعى التجار والعمال ، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم ، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والاستعطاف!! ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة ، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب ، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة ، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية ، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية

٤٦٣

سلسلة من الإمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين ، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافا ، بل لا بدّ من الاستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

الأولى : ما ورد عن الإمام الصّادق في هذا الشأن إذ قالعليه‌السلام «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنبا يستحقق بذلك السلب»(1) .

والثّانية : ما نقرؤه في حديث آخر لهعليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك : إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء ، فتحولوا عمّا أحبّ إلى ما أكره إلّا تحولت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحبّ إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

2 ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ ، ولا في سائر الأمور

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح ، هو أنّه ليس للإنسان مصير خاص قد تعين من قبل ، ولا يقع تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التأريخ» و «جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإنسانية ، ويجعل التحوّلات في الأسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها ، وهو إرادة الإنسان نفسه! فبناء على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقدر الجبري ، ويقولون : إنّ الأمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإجبارية ، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 193.

٤٦٤

وأصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والمعامل والمصانع.

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإسلامية ، ويرفضه القرآن ، فالإنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه ، فيصنع لها الفخر والنصر ، وهو الذي يسوق نفسه إلى الابتلاء والمذلة ، فداؤه منه ودواؤه بيده ، فإذا لم يغير نفسه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

٤٦٥

الآيات

( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) )

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إلى طائفة أخرى من أعداء الإسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المليئة بالأحداث ، إلّا أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مرّا وكانت عاقبة أمرهم خسرا. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّهم ، الأسلوب الذي فيه عبرة للآخرين ، كما فيه درء لخطر هذه الطائفة.

٤٦٦

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

ولعل التعبير ب( الَّذِينَ كَفَرُوا ) يشير إلى أنّ كثيرا من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا لما وجدوه مكتوبا عنه في كتبهم ، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر ، فكفروا به وأظهروا عنادا شديدا في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم ، وكما يقول القرآن الكريم :( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وتقول الآية الأخرى :( الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ) (1) . والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الإضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلا هم يخافون الله تعالى ، ولا يحذرون من مخالفة أوامره ، ولا يراعون القواعد والأصول الانسانية :( وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ) .

والتعبير بـ «ينقضون» و «لا يتقون» وهما فعلان مضارعان ، هذا التعبير بهما يدلّ على الاستمرار ، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضوا عهودهم مرارا.(2) .

والآية بعدها توضح كيفية أسلوب مواجهة هؤلاء فتقول :( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) أي قاتلهم بشكل مد مرّ بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ

__________________

(1) «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة ، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم كما يرد هذا الاحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

(2) بالإضافة إلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضا وهي «في كل مرّة»

٤٦٧

الشيء بدقة وسرعة ، وهي إشارة إلى وجوب التنبه والاطلاع السريع والدقيق على قراراتهم ، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأخرى من الأعداء وناقضي العهود ، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون ، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضا ويتجنبوا الحرب مع المسلمين ، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين ، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم ، إلّا أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافا ودون سبب بل عند ما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم ، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإنباذ» وهي بمعنى «الإلقاء» أو «الإعلام» و «الرّد» أي : ردّ عليهم عهودهم وأعلن عن إلغائها جهرا.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها ، فألغه أنت من جهتك أيضا ، فهذا حكم عادل ، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

٤٦٨

المسلمين من نقض العهد ، وتحذرهم أن يكونوا هدفا وغرضا لهجوم العدوّ ، فهي تدعوهم إلى رعاية مبادئ الإنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يوجه تعالى الخطاب إلى ناقضي العهد ، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) .

* * *

٤٦٩

الآيات

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) )

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها :

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر ، وهو لزوم

٤٧٠

الاستعداد العسكري لمواجهة الأعداء ، فتقول :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته ، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والاستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلة :( وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) .

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء ، ويرد هذا الاستعمال كثيرا بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه ، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و «المرابطة» تعني حفظ الحدود ، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر ، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطا أيضا.

* * *

ملاحظات

1 ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر ، والتعبير في الآية واسع إلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماما.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظا ، إلّا أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق ، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب ، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثرا ما في الإنتصار على الأعداء ، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للانتصار على الأعداء هو كمية السلاح ، هم على خطأ كبير ، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوبا قليلة العدد وأسلحتها غير

٤٧١

متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة ، كما حصل للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناء على ذلك ، ومضافا إلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الاقتصادية والثقافية والسياسية ، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها ، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع ، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبل»(1) .

ونقرأ في رواية أخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح(2) .

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(3) .

ونجد رواية أخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول : «منه الخضاب بالسواد»(4) .

فترى أنّ الإسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماما ليستعملوا الخضاب ، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم ، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناء على ذلك ، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 164 ـ 165.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السّابق.

٤٧٢

جدّا.

ولكن مع الأسف ، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح ، لا نجد فيهم أثرا لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم ، كأنّهم قد نسوا كل شيء. ولا هم يستغلّون قواهم الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا ما زلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وانحطاطنا على رقبة الإسلام ، ونقول : إذا كان الإسلام داعية ترقّ وتقدم ، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!

ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) إذا أضحى شعارا شاملا في كل مكان ، ينادي ، به الصغير والكبير ، والعالم وغير العالم ، والمؤلف والخطيب ، والجندي والضابط ، والفلاح والتاجر ، والتزموا به في حياتهم وطبقوه ، كان كافيا لجبران التخلفّ والتأخر.

إنّ سيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العملية وأئمّة الإسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعا ، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح ، وشد الأزر ورفع المعنويات ، وبناء معسكرات التدريب ، وإختيار الزمان المناسب للهجوم ، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية ، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحا جديدا مؤثرا صنع في اليمن أيّام معركة حنين ، فأرسل النّبي جماعة إلى اليمن لشرائه فورا.

ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ على شعار المشركين «أعل هبل ، اعل هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم : «إنّ لنا العزى والعزى لكم» ، بقوله : «الله مولانا ولا مولى لكم» ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في

٤٧٣

مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.

ومن التعاليم الإسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية ، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة ، فهو مثل آخر على تفكير الإسلام العميق إلى جانب الاستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.

2 ـ واللطيفة المهمّة الأخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تخلق على مرور الزمان ولا تغدو بالية أو منسوخة برغم القدم ، فجملة( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام ، كما هي الحال اليوم ، وسيبقى مفهومها حيا إلى عشرات الآلاف من السنين الأخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة ، إذ أن جملة «ما استطعتم» عامّة ، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.

3 ـ ويرد هنا سؤال وهو : لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.

وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانونا شاملا لكل عصر وزمان ، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليما مهما خاصا بعصر النّبي ، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر ، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب ، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع ، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية :

ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إلى الهدف المنطقي والإنساني من وراء هذا الموضوع ، فيقول : إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في

٤٧٤

مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الأخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم ، وليس الهدف هو توسعة الاستعباد والاستعمار في العالم ، بل الهدف من ذلك هو( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) !

لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإنسانية ، ولا يفهمون غير منطق القوّة!

فإذا كان المسلمون ضعافا ، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون ، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية ، فإنّ أعداء الحق والعدل والاستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.

واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسما من الأراضي الإسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة ، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل ، وقتلوا المئات من الأبرياء ، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية ، وأحالوها إلى انقاض ، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أخرى إلى سجلهم الأسود في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل ، وأصدرت الأمم المتحدة بيانا دعت فيه إلى إخلاء هذه الأرض ، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الاستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني ، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.

فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا ، لتقول لنا : جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إلى مكانه الأوّل.

٤٧٥

وممّا يثير النظر ويسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و «عدوّكم» وذلك إشارة إلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد والدفاع عن الإسلام ، بل الهدف هو حفظ رسالة الإسلام الإنسانية ، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداء الله وأعداء الحق والعدل والإيمان والتوحيد والأخلاق الإنسانية ، فينبغي الردّ عليهم انطلاقا من هذا المجال.

وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم ، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية ، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله ، وفي مسير إحياء الحق والعدل.

ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لا تعرفونهم فتقول :( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ من هم المقصودون في الآية «الذين لا تعلمونهم»

بالرّغم من أنّ المفسّرين احتملوا في هذه الطائفة : الذين لا تعلمونهم احتمالات كثيرة ، فقال بعضهم : إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم ، وقال آخرون : إنّها إشارة إلى الأعداء مستقبلا ، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.

إلّا أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم ، فإذا قوى جيش الإسلام فإنّ أولئك سيقعون

٤٧٦

في حيرة واضطراب ويرحلون ، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (101) من سورة التّوبة إذ تقول :( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الإسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.

2 ـ الاستعداد في كل مكان وزمان

وتتضمن الآية تعليما لمسلمي اليوم أيضا ، وهو أنّه لا ينبغي الاكتفاء بالاستعداد لأعداء الإسلام الذين تعرفونهم ، بل عليكم أن تنتبهوا للأعداء الاحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة ، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما منوا بهجمات الأعداء المفاجئة.

وفي نهاية الآية إشارة إلى موضوع مهم آخر ، وهو أنّ الاستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة ، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له ، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال ، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله ، ولن ينقص منه شيء أبدا( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) فيرجع إليكم جميعه ، بل أكثر ممّا أنفقتم( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإسلام وقوته وعظمته ، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضا ، فبناء على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.

كما أنّ ثوابا أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله ، فمع هذه الحال لا تظلمون ، بل ستنالون خيرا كثيرا.

٤٧٧

وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع ، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء ، مالا كان أو نفسا أو فكرا أو منطقا أو قوة أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية والعسكرية ، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم ، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم ، وبناء على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبدا.

أهداف الجهاد في الإسلام وأركانه :

واللطيفة الأخرى التي تستفاد من هذه الآية ، وتكون جوابا على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم ، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه ، فالآية تقول بوضوح : إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم ، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّا في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.

فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم ، وما صرّح به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإسلام هو دين السيف ، وتارة يقولون بأنّ الإسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد ، ويقيسون النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر محتلي البلدان في التاريخ.

وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعود إلى القرآن ، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع ، لتتّضح لهم كل تلك الأمور.

٤٧٨

الاستعداد للصّلح :

مع أنّ الآية السابقة أو ضحت هدف الجهاد في الإسلام بقدر كاف ، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) .

ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضا ، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل ، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضا ، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إلى جهة ، لذلك يمكن الاستناد في تفسير هذه الآية إلى جذر اللغة تارة ، وإلى مفهومها الثّانوي تارة أخرى.

ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عند ما يراد التوقيع على معاهدة الصلح ، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل ، فتقول :( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

ومع ذلك فهي تحذر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من احتمال الاحتيال والخداع في دعوة الأعداء ، إلى الصلح ، فقد تكون دعوة للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة ، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر ، إلّا أنّ الآية تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يخشى هذا الأمر أيضا ، لأنّ اللهعزوجل سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال ، إذ تقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ) .

وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة ، لأنّ الله( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .

فكم أرادوا بك كيدا ، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنة ، لكنّهعزوجل حفظك ورعاك في مواجهة

٤٧٩

كل ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعا في الدفاع عنك ، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين ، ولكنّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) .

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظا وحقدا بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما ، وسيكونون صفا واحدا متراصا ، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن ، ولم يكن هذا الإمر مقتصرا على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار ، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضا الذين جاءوا من مكّة ، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإسلام ـ حب ومودّة ، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضا ، لكن اللهعزوجل غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثمائة وثلاثة عشر من أبطال بدر ، منهم حوالي ثمانين نفرا من المهاجرين والباقي من الأنصار ، فكانوا جيشا صغيرا ، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.

ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب ، أو إيجاد تلك الألفة ، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية( لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين ، كأولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي ، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإمكان إزالتها ، لا بالمال ولا بالجاه والمقام ، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلّا بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم ، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605