بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110307 / تحميل: 5676
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تزويجها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها وظاهر الآية مقتض لجواز نكاحها بإذن مولاها فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك لأن ظاهر الآية قد أجازه ومن منع ذلك فإنما خص الآية بغير دلالة وأيضا فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها غيرها به لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما ما لا يملكه فغير جائز توكيل غيره في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون الوكيل وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكل وهي عقود البياعات والإجارات فأما عقد النكاح إذا وكل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البضع فلو لم تكن المرأة مالكة لعقد النكاح لما صح توكيلها به لغيرها إذ كانت أحكام العقود غير متعلقة بالوكيل فلما صح توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دل على أنها تملك العقد وهذا أيضا دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على نفسها كما جاز وتوكيلها على غيرها به وهو وليها وقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم لأنه لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجابه المهر ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله تعالى( بِالْمَعْرُوفِ ) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن المعتاد والمتعارف كقوله تعالى( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) وقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) يقتضى ظاهره وجوب دفع المهر إليها والمهر واجب للمولى دونها لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها كذلك المهر ومع ذلك فإن الأمة لا تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر* ومعنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون المراد إعطاؤهن المهر بشرط إذن المولى فيه فيكون الإذن المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج فيكون تقديره فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى وهو كقوله تعالى( وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ) والمعنى والحافظات فروجهن وقوله تعالى( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ) ومعناه والذاكرات الله وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نفى ملكها لتزويجها نفسها

١٢١

وإن المولى أملك بذلك منها وقوله تعالى( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ) فنفى ملكه نفيا عاما وفيه الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به أنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه وقال تعالى( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من أهل هذه الأصناف وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله( وَآتُوهُنَ ) إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن* وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها واحتج للمهر بقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) وقد بينا وجه ذلك ومعناه وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الاجرة لها لأنه بدل منافعها ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح فلا فرق بينهما* وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق وهذا* خلاف الكتاب زعم* قال أبو بكر ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى فدعواه أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا ما لا نعلم أحدا من العراقيين قاله فحصل هذا القائل على معنيين باطلين إحداهما دعواه على الكتاب وقد بينا أن الكتاب بخلاف ما قال والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك بل قولهم في ذلك أنه إذا تزوج أمته من عبده وجب لها

١٢٢

المهر بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تمك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين فههنا حالان إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد فيسقط كما أن رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه كان قبضه حالان إحداهما حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه وكما نقول في الوكيل في الشرى أن المشترى انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاص بالمعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم* قوله تعالى( مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) يعنى والله أعلم فانكحوهن محصنات غير مسافحات وأمر بأن يكون العقد عليها بالنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا لأن الإحصان هاهنا بالنكاح والسفاح الزنا( وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) يعنى لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخذان قال ابن عباس كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفى منه والخدن هو الصديق للمرأة يزنى بها سرا فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين وسمى الله الإماء الفتيات بقوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) والفتاة اسم للشابة والعجوز الحرة لا تسمى فتاة والأمة الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوزا لأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة والفتوة حال الغرة والحداثة والله أعلم بالصواب.

باب حد الأمة والعبد

قال الله تعالى( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) قال أبو بكر قرئ فإذا أحصن بفتح الألف وقرئ بضم الألف فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن( أُحْصِنَ ) بالضم معناه تزوجن وعن عمر وابن مسعود والشعبي وإبراهيم( أُحْصِنَ ) بالفتح قالوا معناه أسلمن وقال الحسن يحصنها الزوج ويحصنها الإسلام* واختلف السلف في حد الأمة متى يجب فقال من تأول قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) بالضم على التزويج أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت ما لم تتزوج وهو مذهب ابن عباس والقائلين بقوله ومن تأول قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) بالفتح على

١٢٣

الإسلام جبل عليها الحد إذا أسلمت وزنت وإن لم تتزوج وهو قول ابن مسعود والقائلين بقوله* وقال بعضهم تأويل من تأوله على أسلمن بعيد لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن بقوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) قال فيبعد أن يقال من فتياتكم المؤمنات فإذا آمن وليس هذا كما ظن لأن قوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) إنما هو في شأن النكاح وقد استأنف ذكر حكم آخر غيره وهو الحد فجاز استيناف ذكر الإسلام فيكون تقديره فإذا كن مسلمات فأتين بفاحشة فعليهن هذا لا يدفعه أحد ولو كان ذلك غير سائغ لما تأوله عمرو ابن مسعود والجماعة الذين ذكرنا قولهم عليه وليس يمتنع أن يكون الأمر ان جميعا من الإسلام والنكاح مرادين باللفظ لاحتماله لهما وتأويل السلف الآية عليهما* وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد عليها إذا لم تحصن لم يجب لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير والضفير الحبل وفي حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في كل مرة فليقم عليها كتاب الله تعالى فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجوب الحد عليها مع عدم الإحصان فإن قيل فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه* قيل له لما كانت الحرة لا يجب عليها الرجم إلا أن تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإن أحصن بالإسلام وبالتزويج فليس عليهن أكثر من نصف حد الحرة ولو لا ذلك لكان يجوز أن يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم وإذا كانت غير محصنة فنصف الحد فأزال الله تعالى توهم من يظن ذلك وأخبر أنه ليس عليها إلا نصف الحد في جميع الأحوال فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدها ولما أوجب عليها نصف حد الحرة مع الإحصان علمنا أنه أراد الجلد إذ الرجم لا ينتصف وقوله تعالى( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) أراد به الإحصان من جهة الحرية لا الإحصان الموجب للرجم لأنه لو أراد ذلك لم يصح أن يقال عليها نصف الرجم لأنه لا يتبعض* وخص الله الأمة بإيجاب نصف حد الحرة عليها إذا زنت

١٢٤

وعقلت الأمة من ذلك أن العبد بمثابتها إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحد معقولا من الظاهر وهو الرق وهو موجود في العبد* وكذلك قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) خص المحصنات بالذكر وعقلت الأمة حكم المحصنين أيضا في هذه الآية إذا قذفوا إذ كان المعنى في المحصنة العفة والحرية والإسلام فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى* وهذا يدل على أن الأحكام إذا عقلت بمعان فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض.

(فصل) قوله تعالى( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) يدل على جواز عطف الواجب على الندب لأن النكاح ندب ليس بفرض وإيتاء المهر واجب ونحوه قوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ثم قال( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) ويصح عطف الندب على الواجب أيضا كقوله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) فالعدل واجب والإحسان ندب وقوله تعالى( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفى هو الزنا وقال آخرون هو الضرر الشديد في دين أو دنيا من قوله تعالى( وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ) وقوله( لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) راجع إلى قوله( فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) وهذا شرط إلى المندوب إليه من ترك نكاح الأمة والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبدا لغيره فإذا خشي العنت ولم يأمن مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في الترك ثم عقب ذلك بقوله تعالى( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فأبان عن موضع الندب والاختيار هو ترك نكاح الأمة رأسا فكانت دلالة الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمة إذا لم يخض العنت ومتى خشي العنت فالنكاح مباح إذا لم تكن تحته حرة والاختيار أن يتركه رأسا وإن خشي العنت لقوله( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) وإنما ندب الله تعالى إلى ترك نكاح الأمة رأسا مع خوف العنت لأن الولد المولود على فراش النكاح من الأمة يكون عبدا لسيدها ولم يكره استيلاد الأمة بملك اليمين لأن ولده منها يكون حرا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوافق معنى الآية في كراهة نكاح الأمة حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي قال حدثنا محمد بن عقبة بن هرم السدوسي قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم انكحوا

١٢٥

الأكفاء وانكحوهن واختاروا لنطفكم وإياكم والزنج فإنه خلق مشوه قوله انكحوا الأكفاء يدل على نكاح الأمة لأنها ليست بكفؤ للحر وقوله واختاروا لنطفكم يدل على ذلك أيضا لئلا يصير ولده عبدا مملوكا وماؤه حر فينتقل بتزويجه إلى الرق وروى في خبر آخر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال تخيروا لنطفكم فإن عرق السوء يدرك ولو بعد حين وقوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) يعنى والله أعلم يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته والبيان من الله تعالى على وجهين أحدهما بالنص والآخر بالدلالة ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنص وإما بدليل وهو نظير قوله( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) وقوله( هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ) وقوله( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وقوله( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) من الناس من يقول إن هذا يدل على أن ما حرمه علينا وبين لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرما على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين وقال آخرون لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع وإنما معناه له يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح وقال آخرون يبين لكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبوا الحق وقوله تعالى( وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) يدل على بطلان مذهب أهل الأخبار لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا وزعم هؤلاء أنه يريد من المصرين الإصرار ولا يريد منهم التوبة والاستغفار* قوله تعالى( يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ) فقال قائلون المراد به كل مبطل لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة وقال مجاهد أراد به الزنا وقال السدى اليهود والنصارى* وقوله( أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ) يعنى به العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين إما لعداوتهم أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء وقد دلت الآية على أن القصد في اتباع الشهوة مذموم إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته إذ كان قصده اتباع الحق ولكن من كان هذا سبيله لا يطلق عليه أنه متبع لشهوته لأن قصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها* قوله تعالى

١٢٦

( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل وهو نظير قوله تعالى( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) وقوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وقوله تعالى( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وقوله تعالى( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) فنفى الضيق والثقل والحرج عنا في الآيات ونظيره قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جئتكم بالحنيفة السمحة وذلك لأنه وإن حرم علينا ما ذكرنا تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح وتارة بملك يمين وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال وعلى هذا المعنى ما روى عن عبد الله بن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يعنى أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا مندوحة وغنى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا يضرنا فقد ما حرم في أمور دنيانا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما * وهذه الآيات يحتج بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء وسوغوا فيه الاجتهاد وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله يكلف العباد ما لا يطيقون لأخباره بأنه يريد التخفيف عنا وتكليف ما لا يطاق غاية التثقيل والله أعلم بمعاني كتابه.

باب التجارات وخيار البيع

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) قال أبو بكر قد انتظم هذا العموم النهى عن أكل مال الغير ومال نفسه كقوله تعالى( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قد اقتضى النهى عن قتل غيره وقتل نفسه فكذلك قوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) نهى لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصى الله وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان أحدهما ما قال السدى وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وقال ابن عباس والحسن أن يأكله بغير عوض فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ـ إلى قوله تعالى ـوَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) الآية قال أبو

١٢٧

بكر يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه فهذا لعمري قد تناولته الآية وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وروى الربيع عن الحسن قال ما نسخها شيء من القرآن ونظير ما اقتضته الآية من النهى عن أكل مال الغير قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ) وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وعلى أن النهى عن أكل مال الغير معقود بصفة وهو أن يأكله بالباطل وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة وكمن اشترى شيئا من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل وكذلك أجرة النائحة والمغنية وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهى عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه وكذلك قال أصحابنا أنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه(1) بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به لأنه ربح حصل له من وجه محظور وقوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة فإن قيل هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه قيل له كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية لأن الحظر في أكل المال مقيد الشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية وأما قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات

__________________

(1) قوله بعينة وذلك كما لو باع رجل سلعة من آخر ثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم اشتراها بأقل من الثمن الذي باعها به لمصححه.

١٢٨

المقصود بها طلب الأرباح قال الله تعالى( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز تشبيها بالتجارات المقصود بها الأرباح وقال تعالى( يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شرى قال الله تعالى( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) فسمى بذل النفوس شراء على وجه المجاز وقال الله تعالى( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأعواض كذلك سمى الإيمان بالله تعالى تجارة لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة فتدخل في قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) عقود البياعات والإجارات والهبات المشروطة فيها الأعواض لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير* ولا يسمى النكاح تجارة في العرف والعادة إذ ليس المبتغى منه في الأكثر الأعم تحصيل العوض الذي هو مهر وإنما المبتغى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك فلم يسم تجارة لهذا المعنى وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يسمى شيء من ذلك تجارة ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا قال أبو حنيفة ومحمد إن المأذون له في التجارة لا يزوج أمته ولا عبده ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضا وإن كانت أمة لا تزوج نفسها لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة وقالوا إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة إذ كانت الإجارة من التجارة وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات* واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو وقال أصحابنا إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول ولا يصح عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي ولا يقع بلفظ الاستقبال لأن قوله بعني إنما هو سوم وأمر بالبيع وليس بإيقاع للعقد والأمر بالبيع ليس ببيع وكذلك قوله اشترى منك ليس بشرى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه لأن الألف للاستقبال وكذلك قول البائع اشتر منى وقوله أبيك ليس ذلك بلفظ العقد وإنما هو أخبار بأنه سيعقد

«9 ـ أحكام لث»

١٢٩

أو أمر به وقالوا في النكاح القياس أن يكون مثله إلا أنهم استحسنوا فقالوا إذا قال زوجني بنتك فقال قد زوجتك أنه يكون نكاحا ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقبلها فقال له رجل زوجنيها فراجعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يعطيها إلى أن قال له زوجتكها عقدا بما معك من القرآن فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله زوجنيها مع قوله زوجتكها عقدا واقعا ولأخبار أخر قد رويت في ذلك ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله زوجني وبين قوله قد زوجتك فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله قد زوجتك وقوله زوجيني نفسك سواء* ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السوم بديا كان ذلك سوما ولم يكن عقدا فحملوه على القياس وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد أنه يقع به العقد وهو أن يساومه على شيء ثم يزن له الدراهم ويأخذ للمبيع فجعلوا ذلك عقدا لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طالبه منه وذلك لأن جريان العادة بالشيء كالنطق به إذ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أجروا ذلك مجرى العقد وكما يهدى الإنسان لغيره فيقبضه فيكون للهبة ونحر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدنات ثم قال من شاء فليقتطع فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وقال مالك بن أنس إذا قال بعني هذا بكذا فقال قد بعتك فقد تم البيع وقال الشافعى لا يصح النكاح حتى يقول قد زوجتكها ويقول الآخر قد قبلت تزويجها أو يقول الخاطب زوجنيها ويقول الولي قد زوجتكها فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت* فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشترى الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراض غير جائز أن يكون هذا بيعا لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول وذلك معدوم فيما وصفت وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وما ذكرتموه في معنى هذه البياعات التي أبطلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لوقوعها بغير لفظ البيع قيل له ليس هذا كما ظننت وليس ما أجازه أصحابنا مما

١٣٠

نهى عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع وأما ما جازه أصحابنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع ثم يزن له المشترى الثمن ويسلم البائع إليه المبيع وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رضى منهما بما وقف عليه العقد من السوم ولمس الثوب ووضع الحصاة ونبذه ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه فصار العقد معلقا على خطر فلا يجوز وصار ذلك أصلا في امتناع وقوع البياعات على الأخطار وذلك أن يقول بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد ونحو ذلك وقوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) عموم في إطلاق سائر التجارات وإباحتها وهو كقوله تعالى( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) في اقتضاء عمومه لإباحة سائر البيوع إلا ما خصه التحريم لأن اسم التجارة أعم من اسم البيع لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات فيضمن قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) معنيين أحدهما نهى معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه وهو قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ والمعنى الثاني إطلاق سائر التجارات وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة فلو خلينا وظاهره لأجزنا سائر ما يسمى تجارة إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضى سائر وجوه الانتفاع وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها ولعن بائعها ومشتريها ونهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيع الغرر وبيع العبد الآبق وبيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقود على غرر جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وقد قرئ قوله( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) بالنصب والرفع فمن قرأها بالنصب كان تقديره إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض فتكون التجارة

١٣١

الواقعة عن تراض مستثناة من النهى عن أكل المال إذ كان أكل المال بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة فاستثنى التجارة من الجملة وبين أنها ليست أكل المال بالباطل ومن قرأها بالرفع كان تقديره إلا أن تقع تجارة كقول الشاعر :

فدى لبنى شيبان رحلي وناقتي

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

يعنى إذا حدث يوم كذلك وإذا كان معناه على هذا كان النهى عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يستثن منه شيء وكان ذلك استثناء منقطعا بمنزلة لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح* وقد دلت هذه الآية على بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراض ونحوه قوله تعالى( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله تعالى( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقوله تعالى( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) فذكر الضرب في الأرض للتجارة وطلب المعاش مع الجهاد في سبيل الله فدل ذلك على أنه مندوب إليه والله تعالى أعلم وبالله التوفيق.

باب خيار المتبايعين

اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما وإن لم يتفرقا وروى نحوه عن عمر بن الخطاب وقال الثوري والليث وعبيد الله بن الحسن والشافعى إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا وقال الأوزاعى هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة بيع مزايدة الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة فإذا صافقه فقد وجب وليسا فيه بالخيار* ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه وقال الليث التفرق أن يقوم أحدهما وكل من أوجب الخيار يقول إذا خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع وروى خيار المجلس عن ابن عمر* قال أبو بكر قوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) يقتضى جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق إذ كانت التجارة هي الإيجاب والقبول في عقد البيع وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء ولا يسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراض فمانع ذلك بإيجاب الخيار خارج عن

١٣٢

ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به وفي إثبات الخيار نفى للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل عليه أيضا قوله تعالى( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) إلى قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقة بالثمن وذلك مأمور به عند عقده البيع قبل التفرق لأنه قال تعالى( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) فأمر بالكتاب عند عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ) فلو لم يكن عقد المداينة موجبا للحق عليه قبل الإفتراق لما قال( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ ) ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ ) دليل على نفى الخيار وإيجاب البتات ثم قال تعالى( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) تحصينا للمال واحتياطا للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه ثم قال تعالى( وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا ) ولو كان لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياط ولا كان أقوم للشهادة إذ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال ثم قال( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) وإذا هي للوقت فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ثم أمر برهن مقبوض في السفر بدلا من الاحتياط بالإشهاد في الحضر وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع والاحتياط في تحصين المال تارة بالإشهاد وتارة بالرهن إن العقد قد أوجب ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما إذ كان إثبات الخيار نافيا لمعانى الإشهاد والرهن ونافيا لصحة الإقرار بالدين فإن قيل الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين إما أن يكون الشهود حاضرين العقد

١٣٣

ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئذ شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا فيصح قيل له أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيهما إبطال ما تضمنته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وذلك لأن الله تعالى قال( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ـ إلى قوله تعالى ـوَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ) فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا لهما وزعمت أنت أنه يشهد بعد الإفتراق وجائز أن تهلك السلعة قبل الإفتراق فيبطل الدين أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهد أو جائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد وقال الله تعالى( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه ولم يقل إذا تبايعتم وتفرقتم وموجب الخيار مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد وعسى أن يموت المشترى قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما فإن قيل فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا مع شرط الخيار ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفى صحة الشهادة والرهن قيل له الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار فليس فيما أجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يشرط فيها خيار والبيع المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها وأيضا فإن إثبات الخيار إنما يكون مع

١٣٤

عدم الرضى بالبيع ليرتئ في إبرام البيع أو فسخه فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط الخيار فكل واحد منهما راض بتمليك ما عقد عليه لصاحبه فلا معنى لإثبات الخيار فيه مع وجود الرضى به ووجود الرضى مانع من الخيار ألا ترى أنه لا خلاف بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه اختر فاختاره ورضى به أن ذلك مبطل لخيارهما وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة فلا يحتاجان إلى رضى ثان لأنه لو جاز أن يشترط بعد رضاهما به بديا بالعقد رضى آخر لجاز أن يشترط رضى ثان وثالث وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع فلما بطل هذا صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع وإنما صح خيار الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من ملكه حين شرط لنفسه الخيار ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه* فإن قيل فأنت قد أثبت خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضى بالبيع ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه فكذلك لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار المجلس* قيل له ليس خيار العيب من خيار المجلس في شيء وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد منهما فيما عقد صاحبه من جهته لوجود الرضى من كل واحد منهما به فليس لهذا الخيار تأثير في نفى الملك بل الملك واقع مع وجود الخيار لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به وخيار المجلس على قول القائلين به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه ولا فرق بين الرضى به بديا بإيجابه له العقد وبينه إذا قال قد رضيت فاختر ورضى به صاحبه فلا فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد من الخيارين في باب وقوع الملك به وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير ناف للملك وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفوت جزء منه موجب له بالعقد ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاق الجميع على وقوع الملك لكل واحد منهما بعد الافتراق وبطلان الخيار به وقد علمنا أنه ليس في الفرقة دلالة على الرضى ولا على نفيه لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواء في نفى دلالته على الرضى فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى بديا بالعقد لا بالفرقة وأيضا فإنه ليس في الأصول فرقة يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير

١٣٥

من العقود من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض لرأس المال وعن الدين بالدين قبل تعيين أحدهما فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم تجد في الأصول فرقة مؤثرة في تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب وأيضا قد ثبت بالسنة واتفاق الأمة من شرط صحة عقد افتراقهما عن مجلس العقد عن قبض صحيح فإن كان خيار المجلس ثابتا في عقد الصرف مع التقابض والعقد لم يتم ما بقي الخيار فإذا افترقا لم يجز أن يصح بالافتراق ما من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح بعد لم يجز أن يصح بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه ويدل على نفى خيار المجلس قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه فأحل له المال بطيبة من نفسه وقد وجد ذلك بعقد البيع فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له ودلالة الخبر على ذلك كدلالة قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) ويدل عليه نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشترى فأباح بيعه إذا جرى فيه الصاعان ولم يشرط فيه الافتراق فوجب ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله من بائعة في المجلس الذي تعاقدا فيه وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق فوجب بقضية الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه وذلك ينفى خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشترى فيه* ويدل عليه أيضا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلا وله ثمرة فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعل الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق ومحال أن يملكها المشترى قبل مالك الأصل المعقود عليه فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد* ويدل عليه أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبى هريرة لن يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه واتفق الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى استئناف عتق بعد الشرى وأنه متى صح له الملك عتق عليه فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب عتقه بالشرى من غير شرط الفرقة ويدل عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر فلو عقلنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه

١٣٦

لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك ألا ترى أنه لو باعه بيعا باتا وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه كان البيع باطلا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد واحتج القائلون بخيار المجلس بما روى عن ابن عمرو أبى برزة وحكيم بن حزام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وروى عن نافع عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بائعه ما لم يفترقا أو يكون بيعهما عن خيار فإذا كان عن خيار فقد وجب وكان ابن عمر إذا بايع الرجل ولم يخيره وأراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع فاحتج القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وابن عمر هو راوي الحديث وقد عقل من مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقة الأبدان* قال أبو بكر فأما ما روى من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه وقد روى عن ابن عمر ما يدل على موافقته وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة ابن عبد الله بن عمر عن أبيه قال ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع وهذا يدل على أنه كان يرى أن المبيع كان يدخل من ملك المشترى بالصفقة ويخرج من ملك البائع وذلك ينفى الخيار قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وفي بعض الألفاظ البائعان بالخيار ما لم يفترقا فإن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم فإذا أبر ما البيع وتراضيا فقد وقع البيع فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كان متقايلين ومتضاربين وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به فإن قيل هذا التأويل يؤدى إلى إسقاط فائدة الخبر لأنه غير مشكل على أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد على خيارهما في إيقاع العقد أو تركه* قيل له بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه قد كان جائزا أن يظن ظان أن البائع إذا قال للمشتري قد بعتك أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول المشترى كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة فأبان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر وأنه مفارق للعتق والخلع

١٣٧

فإن قيل كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما* قيل له ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمى القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد وكما قيل لولد إبراهيم عليه السلام المأمور بذبحه الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يذبح قال تعالى( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ ) وأراد به حقيقة البلوغ فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر هذا الكتاب وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقابلين وكانا متضاربين* ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع العقد أنه قد يصح منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقابلان في حال فعل الإقالة وغير جائز أن يكونا متقابلين متفاسخين ومتبايعين في حال واحدة فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال السوم وإيقاع العقد حقيقة وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع وهو أن يقول قد بعتك فأطلق اسم البيع من قبل نفسه قبل قبول الآخر فهذه هي الحال التي هما متبايعان فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما فللبائع الخيار في الفسخ قبل قبول الآخر وللمشتري الخيار في القبول قبل الإفتراق ويدلك على أن المراد هذه الحال قوله المتبايعان وإنما البائع أحدهما وهو صاحب السلعة فكأنه قال إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق لأنه معلوم أن المشترى ليس ببائع فثبت أن المراد إذا باع البائع قبل قبول المشترى* وقد اختلف الفقهاء في تأويل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا فروى عن محمد بن الحسن أن معناه إذا قال البائع قد بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشترى قبلت قال وهو قول أبى حنيفة وعن أبى يوسف هما المتساومان فإذا قال بعتك بعشرة فللمشترى خيار القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشترى ومتى قام أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما

١٣٨

إجازته فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ قال الله تعالى( وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) ويقال تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس ويدل على أن المراد الافتراق بالقول ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقبله * وقوله المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا هو على الافتراق بالقول ألا ترى أنه قال ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله وهذا هو افتراق الأبدان بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به والاستقالة هو مسألته الإقالة وهذا يدل من وجهين على نفى الخيار بعد وقوع العقد أحدهما أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه والثاني أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه فهذا يدل على نفى الخيار وصحة البيع وقوله ولا يحل له أن يفارقه يدل على أنه مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ماداما في المجلس مكروه له أن لا يجيبه إليها وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويكره له قبلها* ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا على بن أحمد الأزدى قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة قال حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم البيعان لا بيع بينهما إلا أن يفترقا إلا بيع الخيار وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بيعين لا بيع بينهما إلا بعد الافتراق وهذا يدل على أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السوم وذلك لأنهما لو كانا قد تبايعا لم ينف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تبايعهما مع صحة العقد وقوعه فيما بينهما لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينفى ما قد أثبت فعلمنا أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع للمشتري إلى شرائه منه بأن قال له بعني فنفى أن يكون بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول إذا لم يكن قوله بعني قبولا

١٣٩

للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمر به فإذا قال قد قبلت وقع البيع فهذا هو الافتراق الذي أراده النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان* فإن قيل ما أنكرت أن يكون مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفيه البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول وإنما نفى أن يكون بينهما بيع لما لهما فيه من خيار المجلس قيل له هذا غلط من قبل أن ثبوت الخيار لا يوجب نفى اسم البيع عنه ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت الخيار فيه موجبا لنفى اسم البيع عنه لأنه قال كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار فجعل بيع الخيار بيعا فلو أراد بقوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا حال وقوع الإيجاب والقبول لما نفى البيع بينهما لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله بيعا فدل ذلك على أن قوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إنما أراد به المتساومين في البيع وأفاد ذلك أن قوله اشتر منى أو قول المشترى بعني ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع قد بعت ويقول المشترى قد اشتريت فيكون قد افترقا وتم البيع ووجب أن لا يكون فيه خيار مشروط فيكون ذلك بيعا وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق فيهما بالإيجاب والقبول وأكثر أحوال ما روى من قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا احتماله لما وصفنا ولما قال مخالفنا وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما والمعنى فيه الإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط وقوله عز وجل( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال عطاء والسدى لا يقتل بعضكم بعضا قال أبو بكر هو نظير قوله تعالى( وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ) ومعناه يقتلوا بعضكم وتقول العرب قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم وقيل إنما حسن ذلك لأنهم أهل دين واحد فهم كالنفس الواحدة فلذلك قال( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) وأراد قتل بعضكم بعضا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المؤمنين كالنفس الواحدة إذا ألم بعضه تداعى سائره بالحمى والسهر وقال المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا فكان تقديره ولا يقتل بعضكم بعضا في أكل أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

« و ساور » من ساوره ، أي : وثب عليه .

« به المغالب » أي : من أراد الغلبة ، فصار عاليا على المغالب ، في ( الطبقات ) : لمّا ولد النبيّ صلى اللّه عليه و آله فوقع إلى الأرض وقع على يديه رافعا رأسه إلى السّماء ، و قبض قبضة من التراب بيده ، فبلغ ذلك رجلا من لهب فقال لصاحب له : انجه لئن صدق الفأل ليغلبنّ هذا المولود أهل الأرض ١ .

و عن ابن عبّاس : اجتمع قريش في الحجر ، فتعاقدوا باللاّت و العزّي و مناة لو رأينا محمّدا لقمنا مقام رجل واحد ، و النقتلنّه . فدخلت فاطمة عليهما السلام على النبيّ صلى اللّه عليه و آله باكية ، و حكمت مقالتهم ، فقال : يا بنيّة أدني وضوءا ، فتوّضأ و خرج إلى المسجد ، فلمّا رأوه قالوا : ها هو ذا ، و خفضت رؤوسهم ، و سقطت أذقانهم في صدورهم ، فلم يصل إليه رجل منهم ، فأخذ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قبضة من التراب فحصبهم بها و قال : شاهت الوجوه . فما أصاب رجلا منهم إلاّ قتل يوم بدر ٢ .

و روى الطّبري في ( ذيله ) عن يزيد بن عامر السوائي و كان مع المشركين يوم حنين ثمّ أسلم قال : لمّا كانت انكشافة المسلمين حين انكشفوا يوم حنين ، ضرب النبيّ صلى اللّه عليه و آله يده إلى الأرض فأخذ منها قبضة من تراب ، فأقبل بها على المشركين و هم متبعون المسلمين ، فحثا بها في وجوههم ، و قال : ارجعوا شاهت الوجوه . قال : فانصرفنا ما يلقى منّا أحد أحدا إلاّ و هو يمسح القذى عن عينيه ٣ .

« و ذلّل به الصعوبة » . . . و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم . . . ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ٩٧ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٧١ ، و غيره .

( ٣ ) منتخب ذيل المذيل للطبري : ٦٧ ، و غيره .

( ٤ ) الأعراف : ١٥٧ .

٢٦١

« و سهّل به الحزونة » و الحزونة : ضدّ السهولة ، و في ( الاستيعاب ) : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لحزن بن أبي وهب المخزومي جدّ سعيد بن المسيّب : ما اسمك ؟

قال : حزن . فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أنت سهل . فقال : اسم سمّاني به أبي . و يروى أنّه قال له : إنّما السهولة للحمار . قال سعيد بن المسيّب : فما زالت تلك الحزونة تعرف فينا حتّى اليوم ، و قال أهل النسب : في ولده حزونة ، و سوء خلق ،

معروف ذلك فيهم ، لا تكاد تعدم منهم ١ .

« حتّى سرّح » أي : أرسل سريعا .

« الضلال عن يمين و شمال » أي : أزاله رأسا ، في ( طبقات كاتب الواقدي ) عن مجاهد : حجّ أبو بكر ، و نادى عليّ بالأذان في ذي القعدة ، قال : فكانت الجاهلية يحجّون في كلّ شهر من شهور السنة عامين ، فوافق حجّ نبيّ اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم في ذي الحجّة ، فقال [ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ] : هذا يوم استدار الزمان كهيئته يوم خلق اللّه السماوات و الأرض ٢ .

و قال تعالى : هو الّذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكّيهم و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ٣ .

٢٣

الخطبة ( ٢٢٩ ) و من خطبة له عليه السّلام ، خطبها بذي قار و هو متوجّه إلى البصرة ، ذكرها الواقدي في كتاب ( الجمل ) :

فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ فَلَمَّ اَللَّهُ بِهِ اَلصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب لابن عبد البر ١ : ٣٨٦ .

( ٢ ) الطبقات لابن سعد ٢ ق ١ : ١٣٤ .

( ٣ ) الجمعة : ٢ .

٢٦٢

اَلْفَتْقَ وَ أَلَّفَ بِهِ اَلشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي اَلْأَرْحَامِ بَعْدَ اَلْعَدَاوَةِ اَلْوَاغِرَةِ فِي اَلصُّدُورِ وَ اَلضَّغَائِنِ اَلْقَادِحَةِ فِي اَلْقُلُوبِ قول المصنّف : « و من خطبة له عليه السّلام خطبها بذي قار » في ( بلدان الحموي ) : ذو قار ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها و بين واسط ، و فيه كانت الواقعة المشهورة بينهم و بين الفرس ، و كسرت الفرس كسرة هائلة ،

و كانت الواقعة يوم ولادة النبيّ صلى اللّه عليه و آله . و قيل : عند منصرفه من بدر الكبرى ،

و كان أوّل يوم انتصف فيه العرب من العجم ، و بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم انتصفوا ، و هي من مفاخر بكر .

قال أبو تمام في أبي دلف :

فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم

عروش الّذين استرهنوا قوس حاجب

و قال في خالد بن يزيد الشيباني :

لهم يوم ذي قار مضى و هو مفرد

وحيد من الأشباه ليس له صحب

١ قلت : و قال العجيف في أمّه ذاكرا أنّها لا تروى و إن شربت ماء ذي قار ،

كما لا تشبع و إن أكلت نخيل هجر :

يا ليتنا أمّنا شالت نعامتها

أيما إلى جنّة أيما إلى نار

ليست بشعبى و إن أسكنتها هجرا

و لا بريّا و إن حلّت بذي قار

« و هو متوجّه إلى البصرة » أي : لقتال طلحة و الزبير .

« ذكرها الواقدي في كتاب الجمل » الواقدي : هو محمّد بن عمر بن واقد صاحب ( المغازي ) .

قوله عليه السّلام : « فصدع » أي : جهر .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) معجم البلدان للحموي ٤ : ٢٩٣ ، ٢٩٤ ، و المشترك و المفترق : ٣٣٧ أيضا .

٢٦٣

« بما أمر » في ( صحيح محمّد الحلبي ) عن الصادق عليه السّلام : اكتتم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بمكة مختفيا خائفا خمس سنين ، ليس يظهر أمره و عليّ عليه السّلام معه و خديجة ، ثمّ أمره تعالى أن يصدع بما امر به ، فظهر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و أظهر أمره ١ .

و في خبر آخر : أنّه صلى اللّه عليه و آله كان مختفيا بمكّة ثلاث سنين ٢ .

« و بلّغ رسالات » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( رسالة ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٣ .

« ربّه » و آخر ما بلّغه من رسالة ربّه ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام ، و هي الأصل في رسالته ، و لذا قال تعالى له : . . . و إن لم تفعل فما بلّغت رسالته . . . ٤ ، و كان صلى اللّه عليه و آله و سلم في تبليغها خائفا من الناس حتّى قال تعالى له :

و اللّه يعصمك من النّاس . . . ٥ .

« فلمّ اللّه » أي : جمع و أصلح .

« به الصدع » أي : الشقّ .

« و رتق » أي : وصل .

« به الفتق » أي : الفصل ، قال السروي : كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم ، فلقي رهطا من الخزرج ، فقال : ألا تجلسون أحدّثكم . قالوا : بلى . فجلسوا إليه ، فدعاهم إلى اللّه تعالى ، و تلا عليهم القرآن ،

فقال بعضهم لبعض : يا قوم تعلموا ، و اللّه إنّه النبي الّذي كان يوعدكم به اليهود ، فلا يسبقنّكم إليه أحد . فأجابوه ، و قالوا له : إنّا تركنا قومنا و لا قوم بينهم من العداوة و الشرّ مثل ما بينهم ، و عسى أن يجمع اللّه بينهم بك ، فتقدم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كمال الدين للصدوق : ٣٤٤ ح ٢٨ ، و الغيبة للطوسي : ٢٠١ ، و قد مرّ في العنوان ١٨ من هذا الفصل .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٣٤٤ ح ٢٨ .

( ٣ ) في شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٨٣ ، و شرح ابن ميثم ٤ : ١٠٩ « رسالات » أيضا .

( ٤ ) المائدة : ٦٧ .

( ٥ ) المائدة : ٦٧ .

٢٦٤

عليهم ، و تدعوهم إلى أمرك . و كانوا ستّة نفر ، فلمّا قدموا المدينة فأخبروا قومهم بالخبر ، فما دار حول إلاّ و فيها حديث النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم . . . ١ .

« و ألّف به بين ذوي الأرحام » كالأوس و الخزرج ابني حارثة ، و يقال لهما :

ابني قيلة . نسبة إلى أمّهما .

« بعد العداوة الواغرة » أي : المتوقدة .

« في الصدور » قال شاعر :

دسّت رسولا بأنّ القوم ان قدروا

عليك يشفوا صدورا ذات توغير

٢ « و الضغائن » جمع الضغينة ، أي : الحقد .

« القادحة » أي : المشعلة .

« في القلوب » فكانت بين الأوس و الخزرج حروب كثيرة حصلت فيها قتلى كثيرة من الفريقين ، و كلّ منهما يجد في طلب ثاره ، فارتفع كلّ ذلك بسببه صلى اللّه عليه و آله و سلم ، قال تعالى : . . . و اذكروا نعمة اللّه عليهم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا . . . ٣ ، و قال سبحانه : و ألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم و لكنّ اللّه ألّف بينهم إنّه عزيز حكيم ٤ .

٢٤

من الخطبة ( ١٣١ ) منها :

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ تَنَازُعٍ مِنَ اَلْأَلْسُنِ فَقَفَّى بِهِ اَلرُّسُلَ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٨١ .

( ٢ ) لسان العرب لابن منظور ٥ : ٢٨٦ مادة ( و غر ) ، و البيت منسوب إلى الفرزدق .

( ٣ ) آل عمران : ١٠٣ .

( ٤ ) الأنفال : ٦٣ .

٢٦٥

وَ خَتَمَ بِهِ اَلْوَحْيَ فَجَاهَدَ فِي اَللَّهِ اَلْمُدْبِرِينَ عَنْهُ وَ اَلْعَادِلِينَ بِهِ « أرسله على حين فترة من الرّسل » في الخبر : أنّ أهل السماوات لم يسمعوا و حيا في ما بين أن بعث عيسى إلى أن بعث محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم ، فلمّا بعث اللّه جبرئيل إليه فسمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا علموا أنّ اللّه بعث نبيّا ١ .

« و تنازع من الألسن » قال ابن أبي الحديد : معنى تنازع من الألسن : أنّ قوما في الجاهلية كانوا يعبدون الصنم ، و قوما يعبدون الشمس ، و قوما يعبدون الشيطان ، و قوما يعبدون المسيح ، فكلّ طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها ٢ .

قلت : الأظهر أنّ معناه : أنّ الناس كانوا قبل رسالته يتنازعون في ملل و نحل ، لم يكن لها معنى في القلوب ، بل مجرد ألفاظ على الألسن ، فيكون قوله عليه السّلام : « و تنازع من الألسن » نظير قول يوسف عليه السّلام في ما حكى اللّه تعالى عنه : ما تعبدون من دونه إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان . . . ٣ ، أو المراد أنّهم كانوا يتنازعون في أنواع الكلام من القصائد و الخطب و الأراجيز هل هذه أحسن أو تلك ، فكانوا قبل بعثة النبيّ صلى اللّه عليه و آله يباهون بذلك ، و قصّة المعلّقات السبع معروفة ، قال امرؤ القيس لمّا احتضر في أنقرة في آخر شي‏ء تكلّم به : ربّ خطبة محبّرة ، و طعنة مسحنفرة ، و جفنة مثعنجرة ،

تبقى غدا بأنقرة .

و من السبع المعلّقات قصيدة عمرو بن كلثوم التغلبي ، التي كان قام بها

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لم أجده بهذا اللفظ ، نعم له شاهد أخرجه الصدوق في كمال الدين : ١٦١ ح ٢٠ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٦٢ .

( ٣ ) يوسف : ٤٠ .

٢٦٦

خطيبا في ما كان بينه و بن عمرو بن هند ملك الحيرة ، و كان لقومه بها شغف كثير حتّى قالوا فيهم :

ألهى بني تغلب عن كلّ مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذ كان أوّلهم

يا للرجال لشعر غير مسؤوم

و من السبع قصيدة عبيد بن الأبرص الّتي أوّلها :

أقفر من أهلها ملحوب

و لمّا لقيه ملك الحيرة في يوم بؤسه و أراد قتله ، استنشده القصيدة إعجابا بها ، فغيّر البيت و قال :

أقفر من أهلها عبيد

فاليوم لا يبدي و لا يعيد

و الكلّ مجرد ألفاظ .

و أمّا ما قاله ابن أبي الحديد من مجادلتهم بألسنتهم ، فبارد ، فالمجادلة لا تكون بغير اللسان . و كيف كان ، فقال الجوهري : قد يكنى بها عن الكلمة فتؤنث حينئذ . قال أعشى باهلة :

إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها

من علو لا عجب منها و لا سخر

فمن ذكّره قال في الجمع : ثلاثة ألسنة ، مثل حمار و أحمرة ، و من أنّثه قال : ثلاث ألسن ١ .

قلت : الظاهر أنّ اللسان إذا كان بمعنى اللغة يكون مذكّرا ، لقوله تعالى :

و هذا كتاب مصدّق لسانا عربيّا . . ٢ ، و قوله تعالى : . . . و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم . . . ٣ ، و إذا كان بمعنى التكلّم يكون مؤنثا كقوله :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة للجوهري ٦ : ٢١٥٩ مادة ( لسن ) .

( ٢ ) الأحقاف : ١٢ .

( ٣ ) الروم : ٢٢ .

٢٦٧

أتتني لسان بني عامر

أحاديثها بعد قول نكر

١ و كقول طرفة :

و إذا تلسنني ألسنها

إنّني لست بموهون فقر

٢ و كقوله عليه السّلام : « و تنازع من الألسن » لكن ينقضه قول ابن الزبعرى المتقدّم ٣ .

« فقفّى به الرّسل » قال الجوهري : قفّيت على أثره بفلان ، أي : أتبعته إيّاه .

و منه قوله تعالى : ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا . . . ٤ .

« و ختم به الوحي » فلا يوحى إلاّ إلى النبيّ ، و لا نبيّ بعده ، و أمّا الإمام فإنّما يلهم .

« فجاهد في اللّه المدبرين عنه » و أمّا قوله تعالى : فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا و لم يرد إلاّ الحياة الدّنيا ٥ فلا ينافيه .

« و العادلين به » أي : الجاعلين غير اللّه عديلا له تعالى ، كما أمره عزّ و جلّ في قوله : يا أيّها النبيّ جاهد الكفّار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنّم و بئس المصير ٦ . ذكرت الآية في التحريم و التوبة ، و أمّا عدم جهاده المنافقين ، و إنّما جاهدهم أمير المؤمنين بعده صلى اللّه عليه و آله و سلم حيث إنّه كان كنفس النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بنصّ قوله تعالى : . . . و أنفسنا و أنفسكم . . . ٧ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب للجوهري ١٣ : ٣٨٥ ، ٣٨٦ مادة ( لسن ) .

( ٢ ) لسان العرب للجوهري ١٣ : ٣٨٥ ، ٣٨٦ مادة ( لسن ) .

( ٣ ) مرّ في العنوان ٢٢ من هذا الفصل ، و البيت :

يا رسول الإله إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور

( ٤ ) صحاح اللغة للجوهري ٦ : ٢٤٦٦ مادة ( قفى ) ، و الآية ٢٧ من سورة الحديد .

( ٥ ) النجم : ٢٩ .

( ٦ ) التوبة : ٧٣ .

( ٧ ) آل عمران : ٦١ .

٢٦٨

٢٥

من الخطبة ( ١١٤ ) و من خطبة له عليه السّلام :

أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى اَلْحَقِّ وَ شَاهِداً عَلَى اَلْخَلْقِ فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ وَ لاَ مُقَصِّرٍ وَ جَاهَدَ فِي اَللَّهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ وَ لاَ مُعَذِّرٍ إِمَامُ مَنِ اِتَّقَى وَ بَصَرُ مَنِ اِهْتَدَى « أرسله داعيا إلى الحقّ و شاهدا على الخلق » يا أيّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهدا و مبشّرا و نذيرا و داعيا إلى اللّه بإذنه و سراجا منيرا ١ ، فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يودّ الّذين كفروا و عصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض و لا يكتمون اللّه حديثا ٢ .

« فبلّغ رسالات ربّه غير وان » من : ونى يني ، أي : ضعف .

« و لا مقصّر » في التبليغ ، حتّى إنّه صلى اللّه عليه و آله و سلم حضر يوم وفاته مع شدّة مرضه كما روي المسجد و قال : و اتّقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه ثمّ توفّى كلّ نفس ما كسبت و هم لا يظلمون ٣ أيّها الناس لا يدّعي مدّع و لا يتمنّى متمنّ أنّه ينجو إلاّ بعمل و رحمة ، و لو عصيت هويت ، اللّهم هل بلّغت ٤ .

و قالوا : خطب صلى اللّه عليه و آله و سلم بمنى في حجّة الوداع ، و قال في جملة ما قال : و كلّ مأترة أو بدع كانت في الجاهلية ، أو دم أو مال فهو تحت قدميّ هاتين ، ليس أحد أكرم من أحد إلاّ بالتقوى ، ألا هل بلّغت . قالوا : نعم . قال : اللّهم اشهد .

ثمّ قال : ألا و كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، و أوّل موضوع منه ربا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأحزاب : ٤٥ ٤٦ .

( ٢ ) النساء : ٤١ ٤٢ .

( ٣ ) البقرة : ٢٨١ .

( ٤ ) ذكره بفرق يسير المفيد في الإرشاد : ٩٧ ، و الطبرسي في اعلام الورى : ١٣٤ .

٢٦٩

العبّاس بن عبد المطلب ، ألا و كلّ دم كان في الجاهلية فهو موضوع ، و أوّل دم موضوع دم ربيعة ، ألا هل بلّغت . قالوا : نعم . قال : اللّهم اشهد .

ثمّ قال : ألا و إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، و لكنّه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، إلاّ أنّه إذا أطيع فقد عبد ، ألا أيّها الناس إنّ المسلم أخو المسلم حقّا ، لا يحلّ لامرى‏ء مسلم ، و ماله إلاّ ما أعطاه بطيبة نفس منه ، و إنّي أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه . فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها ، و حسابهم على اللّه ، ألا هل بلّغت .

قالوا : نعم . قال اللّهم اشهد .

ثمّ قال : أيّها الناس احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي ، و افهموه تنعشوا ، ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدّنيا ، فإن أنتم فعلتم ذلك و لتفعلنّ لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل و ميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف قال : ثمّ التفت عن يمينه ، فسكت ثمّ قال : إن شاء اللّه أو عليّ بن أبي طالب ١ .

« و جاهد في اللّه أعداءه غير واهن » أي : ضعيف .

« و لا معذّر » و المعذّر بالتشديد : من يأتي بالعذر باطلا . و ضبطته ( المصرية ) بدون التشديد و هو غلط ، لأنّ المعذر بدونه من له عذر صحيح ،

و إنّما ينفى عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم التعذير لا الإعذار ، قال تعالى : و جاء المعذّرون من الأعراب . . . ٢ .

قالوا : وصف أحد أحبار أهل الكتاب لكعب بن أسد اليهودي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرج هذه الخطبة باختلاف يسير بين الروايات ابن هشام في السيرة ٤ : ١٨٥ ، و الواقدي في المغازي ٢ : ١١٠٣ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٤٠٢ سنة ١٠ ، و الصدوق في الخصال : ٤٨٦ ح ٦٣ ، و غيرهم .

( ٢ ) التوبة : ٩٠ .

٢٧٠

النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بأنّه يضع سيفه على عاتقه ، و لا يبالي من لاقى ، و لمّا أراد النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قتل كعب في أسراء بني النضير ذكّره قول ذاك الحبر ، فأقرّ به ،

و لكن قال : لا أسلم لئلاّ يقول الناس : إنّه جزع عند الموت ١ .

« إمام من اتّقى و بصر من اهتدى » مرّت الجملتان في طيّ الخطبة ( ٩٢ ) ٢ لكن ثمة : « و بصيرة من اهتدى » .

٢٦

من الخطبة ( ٩٨ ) و من خطبة له عليه السّلام أخرى :

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلنَّاشِرِ فِي اَلْخَلْقِ فَضْلَهُ وَ اَلْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ وَ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ وَ أَنَّ ؟ مُحَمَّداً ؟ عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَ بِذِكْرِهِ نَاطِقاً فَأَدَّى أَمِيناً وَ مَضَى رَشِيداً من الخطبة ( ٨٢ ) وَ أَشْهَدُ أَنَّ ؟ مُحَمَّداً ص ؟ عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ من الخطبة ( ٨٩ ) بعد ذكر آدم و الأنبياء :

حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا ؟ مُحَمَّدٍ ص ؟ حُجَّتُهُ وَ بَلَغَ اَلْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ قول المصنّف : « و من خطبة له عليه السّلام أخرى » هكذا في ( المصرية ) ،

و الصواب : ( و من خطبة له عليه السّلام ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كمال الدين للصدوق : ١٩٨ ح ٤ و النقل بالمعنى .

( ٢ ) مرّ في العنوان ٥ من هذا الفصل .

٢٧١

و الخطّية ) ١ . و أيضا لا معنى لقوله : أخرى هنا .

قوله عليه السّلام في الأول : « الحمد للّه الناشر في الخلق فضله » قال تعالى :

و أنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم ٢ ، . . . قل إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه واسع عليهم . يختصّ برحمته من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم ٣ .

« و الباسط فيهم بالجود يده » قالت اليهود يد اللّه مغلولة غلّت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . . . ٤ .

« نحمده في جميع أموره » لكن كلّها على وفق الحكمة و نهاية المصلحة .

« و نستعينه على رعاية حقوقه » فلا حول و لا قوّة إلاّ باللّه .

« و نشهد إلاّ إله غيره » لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا . . . ٥ .

« و أنّ محمّدا عبده و رسوله » إلى خلقه كافّة .

« أرسله بأمره صادعا » أي : مجاهرا ، كما أمره عزّ و جلّ في قوله : فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين ٦ .

« و بذكره ناطقا » و لمّا رأت قريش ذلك منه قالوا له مرّتين : تعبد آلهتنا سنة ، و نعبد إلهك سنة . فأجابهم بما أمره تعالى به بمثل قولهم في قوله : قل يا أيّها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون . و لا أنتم عابدون ما أعبد . و لا أنا عابد ما عبدتم . و لا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم و لي دين ٧ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٨ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٦ .

( ٢ ) الحديد : ٢٩ .

( ٣ ) آل عمران : ٧٣ ٧٤ .

( ٤ ) المائدة : ٦٤ .

( ٥ ) الأنبياء : ٢٢ .

( ٦ ) الحجر : ٩٤ .

( ٧ ) رواه الواحدي في أسباب النزول : ٣٠٧ ، و الطوسي في التبيان ١٠ : ٤٢٠ ، و الزمخشري في الكشاف ٤ : ٨٠٨ ، و عدة أخرى ، جمع بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور ٦ : ٤٠٤ ، و الآيات ( ١ ٦ ) من سورة ( الكافرون ) .

٢٧٢

« فأدّى أمينا » و ما ينطق عن الهوى . إن هو إلاّ وحي يوحى ١ .

« و مضى رشيدا » حيث أدّى ما كان عليه من قبل اللّه تعالى ، و نزل عليه أخيرا : إذا جاء نصر اللّه و الفتح . و رأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا .

فسبّح بحمد ربّك و استغفره إنّه كان توّابا ٢ .

قوله عليه السّلام في الثاني : « أرسله لإنفاذ أمره » كما قال تعالى : يا أيها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك . . . ٣ .

« و إنهاء » أي : إبلاغ .

« عذره » و لو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربّنا لو لا أرسلت إلينا رسول فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ و نخزى ٤ .

« و تقديم نذره » قال لا تختصموا لديّ و قد قدّمت إليكم بالوعيد ٥ .

كلّما القي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير . قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذّبنا و قلنا ما نزّل اللّه من شي‏ء إن أنتم إلاّ في ضلال كبير ٦ .

و في ( الأسد ) عن ابن أمّ مكتوم قال : خرج النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بعد ما ارتفعت الشمس و ناس عند الحجرات ، فقال : يا أهل الحجرات سعّرت النار ، و جاءت الفتن كقطع الليل ، و لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا ٧ .

قوله عليه السّلام في الثالث : « حتى تمّت بنبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم حجّته » . . . و لكن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النجم : ٣ ٤ .

( ٢ ) النصر : ١ ٤ .

( ٣ ) المائدة : ٦٧ .

( ٤ ) طه : ١٣٤ .

( ٥ ) ق : ٢٨ .

( ٦ ) الملك : ٨ ٩ .

( ٧ ) أسد الغابة لابن الأثير ٤ : ١٠٣ .

٢٧٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

رسول اللّه و خاتم النبييّن . . . ١ .

« و بلغ المقطع » بالكسر ، قال الجوهري : أي : ما يقطع به الشي‏ء ٢ .

« عذره و نذره » قل فللّه الحجّة البالغة . . . ٣ ، رسلا مبشّرين و منذرين لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرّسل و كان اللّه عزيزا حكيما ٤ .

٢٧

من الخطبة ( ١٩٠ ) في القاصعة فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ ؟ إِسْمَاعِيلَ ؟ وَ ؟ بَنِي إِسْحَاقَ ؟ وَ ؟ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع ؟ فَمَا أَشَدَّ اِعْتِدَالَ اَلْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اِشْتِبَاهَ اَلْأَمْثَالِ .

تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ اَلْأَكَاسِرَةُ وَ اَلْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ اَلْآفَاقِ وَ ؟ بَحْرِ اَلْعِرَاقِ ؟

وَ خُضْرَةِ اَلدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ اَلشِّيحِ وَ مَهَافِي اَلرِّيحِ وَ نَكَدِ اَلْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ اَلْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً لاَ يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ اَلْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ اَلْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلاَءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ .

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ اَلنِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأحزاب : ٤٠ .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٣ : ١٢٦٧ مادة ( قطع ) .

( ٣ ) الأنعام : ١٤٩ .

( ٤ ) النساء : ١٦٥ .

٢٧٤

كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ اِلْتَفَّتِ اَلْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهِ غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ اَلْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ اَلْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ اَلْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى اَلْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ اَلْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ اَلْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ اَلْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ .

أَلاَ وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ اَلطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اَللَّهِ اَلْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ اَلْجَاهِلِيَّةِ وَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِ اِمْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ اَلْأُلْفَةِ اَلَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ اَلْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ .

وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ اَلْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ اَلْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ وَ لاَ تَعْرِفُونَ مِنَ اَلْإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ تَقُولُونَ اَلنَّارَ وَ لاَ اَلْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا اَلْإِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ اِنْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ اَلَّذِي وَضَعَهُ اَللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ اَلْكُفْرِ ثُمَّ لاَ ؟ جَبْرَئِيلُ ؟ وَ لاَ ؟ مِيكَائِيلَ ؟ وَ لاَ وَ لاَ مُهَاجِرُونَ وَ لاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ اَلْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَكُمْ وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ اَلْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ اَلْقَرْنَ اَلْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ

٢٧٥

فَلَعَنَ اَللَّهُ اَلسُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ اَلْمَعَاصِي وَ اَلْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ اَلتَّنَاهِي .

أَلاَ وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ اَلْإِسْلاَمِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ « و اعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السلام » قال ابن أبي الحديد : إنّه ذكر عليه السّلام في هذه الكلمات المقهورين و القاهرين جميعا . أما المقهورون فبنو إسماعيل ، و أمّا القاهرون فبنو إسحاق و بنو إسرائيل ، لأنّ الأكاسرة من بني إسحاق ، ذكر كثير من أهل العلم أنّ فارس من ولد إسحاق و القياصرة من ولد إسحاق أيضا ، لأنّ الروم بنو العيص بن إسحاق ، و على هذا يكون الضمير في أمرهم و تشتتهم و تفريقهم يرجع إلى بني إسماعيل خاصة ،

فإن قلت : فبنو إسرائيل أيّ مدخل لهم هاهنا ؟ قلت : لأنّ بني إسرائيل لمّا كانوا ملوكا بالشام في أيّام أجاب الملك و غيره ، حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرّة و طردوهم عن الشام ، و ألجؤوهم على المقام ببادية الحجاز ، و يصير تقدير الكلام : فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بني إسحاق و بني إسرائيل ١ .

قلت : ما ذكره خارج عن طريق المحاورة ، فإنّ مقتضى السّياق كون الأكاسرة و القياصرة مسلّطين على ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل ، و يفعلون بهم ما شاؤوا ، و كون الأكاسرة و القياصرة غير ولد إسماعيل ، و غير بني إسحاق و بني إسرائيل ، و كيف جعل بني إسرائيل من القاهرين ، و القرآن ناطق بمقهوريتهم مثل بني إسماعيل ، بل أشدّ ؟ و كيف لا و قد قال عزّ و جلّ فيهم : . . . و ضربت عليهم الذلّة و المسكنة و باؤوا بغضب من اللّه . . . ٢ ، و قال تعالى : و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين و لتعلنّ علوّا كبيرا . فاذا جاء و عد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤١ .

( ٢ ) البقرة : ٦١ .

٢٧٦

أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعدا مفعولا . . . . فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة و ليتبّروا ما علوا تتبيرا ١ ؟ و الأكاسرة جعلهم ابن قتيبة و الدينوري و الطبري من غير ولد إسحاق ،

بل من ولد الملوك الأوّلين قبل ملوك الطوائف ، قال الأوّل : كتب أردشير إلى ملوك الطوائف : من أردشير المستأثر دونه بحقّه ، المغلوب على تراث آبائه ٢ .

و قال الأخير : وثب أردشير بفارس طالبا بزعمه بدم ابن عمّه دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار الذي حارب الإسكندر فقتله حاجباه مريدا في ما يقول : ردّ الملك إلى أهله ، و إلى ما لم يزل عليه أيّام سلفه ، و آبائه الّذين مضوا قبل ملوك الطوائف ، و جمعه لرئيس واحد و ملك واحد ٣ .

و قريبا منه قال الثاني رافعا نسبه إلى إسفنديار بن بشتاسف ٤ .

و إنّما نقل المسعودي أقوالا ضعيفة في كون الأكاسرة من ولد إسحاق ،

فقال : تنازع الناس في الفرس و أنسابهم ، فقال قوم : إنّ فارس بن ياسور بن سام بن نوح ، و كذلك النبط ، و هذا قول هشام بن محمّد في ما حكاه عن أبيه و غيره ، و منهم من زعم أنّه من ولد يوسف بن يعقوب ، و منهم من ذكر أنّه من ولد إرم بن ارفخش بن سام بن نوح ، و أنّه ولد له بضعة عشر رجلا كلّهم كان فارسا شجاعا فسمّوا الفرس بالفروسية ، و في ذلك يقول حطّان الفارسي :

و بنا سمّي الفوارس فرسا

نا و منّا مناجب الفرسان

و كهول طواهم الركض و الكرّ

كمثل الكرّات يوم الطّعان

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإسراء : ٤ ٧ .

( ٢ ) المعارف لابن قتيبة : ٦٥٣ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٣ : ٢٤١ .

( ٤ ) الأخبار الطوال للدينوري : ٤٤ .

٢٧٧

قال : و قد زعم قوم أنّ الفرس من ولد لوط من ابنتيه ، و ذكر آخرون أنّهم من ولد بوّان بن إيران بن الأسود بن سام بن نوح الّذي ينسب إليه شعب بوّان ،

و منهم من رأى أنّ الفرس من ولد إيران بن أفريدون ، و لا تناكر بين الفرس جميعا في أنّها من ولد إيرج جميعا ، و إيرج هو إيران بن أفريدون . و من الناس من ذهب إلى أنّ سائر أجناس الفرس ، و أهل كور الأهواز من ولد عيلام ، و لا خلاف بين الفرس في أنّ الجميع منهم من ولد كيومرث ، و من الناس من ذهب إلى أنّ الفرس السّاسانية دون من سلف من الفرس الاولى من ولد منوشهر بن إيرج بن أفريدون ، و منهم من ذهب إلى أنّ منوشهر هو ابن مشجر بن فريقس بن ويرك ، و ويرك هو إسحاق بن إبراهيم عليه السّلام ، و سار مشجر إلى أرض فارس ، و كان بها امرأة متملّكة يقال لها : كورك ابنة إيرج ، فتزوّجها ،

فولدت له منوشهر الملك ، و كثر ولده فملكوا الأرض ، و غلبوا عليها و هابتهم الملوك ، و دثرت الفرس الأولى كدثور الأمم الماضية ، و العرب العاربة ، و أكثر حكماء العرب من نزار بن معد . يقول هذا ، و يعمل عليه في بدء النسب ، و ينقاد إليه كثير من الفرس ، و قد ذكرته شعراء العرب من نزار ، و افتخرت على اليمن من قحطان بالفرس ، و أنّها من ولد إسحاق ، قال إسحاق بن سويد العدوي عدي قريش :

إذا افتخرت قحطان يوما بسؤدد

أتى فخرنا أعلى عليها و أسودا

ملكناهم بدءا بإسحاق عمّنا

و صاروا لنا غرما على الدهر أعبدا

فإن كان منهم تبّع و ابن تبّع

فأملاكهم كانوا لأملاكنا يدا

و يجمعنا و الغرّ أبناء سارة

أب لا يبالي بعده من تفرّدا

هم ملكوا شرقا و غربا ملوكهم

و هم منحوهم بعد ذلك سؤددا

و في ذلك يقول جرير بن الخطفي التميمي يفخر على قحطان بأنّ

٢٧٨

الفرس و الروم من أولاد إسحاق ، و الأنبياء من ولد يعقوب بن إسحاق من كلمة طويلة يقول فيها :

و أبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا

حمائل موت لا بسين السّنوّرا

إذا افتخروا عدّوا الصبهبذ منهم

و كسرى و عدّوا الهرمزان و قيصرا

و كان كتاب اللّه فيهم و نوره

و كانوا باصطخر الملوك و تسترا

و منهم سليمان النبيّ الّذي دعا

فأعطي بنيانا و ملكا مقدّرا

أبونا أبو إسحاق يجمع بيننا

آب كان مهديّا نبيّا مطهّرا

بني قبلة اللّه التي يهتدي بها

فأورثنا عزّا و ملكا معمّرا

و موسى و عيسى و الّذي خرّ ساجدا

و أنبت زرعا دمع عينيه أخضرا

و يعقوب منهم زاده اللّه حكمة

و كان ابن يعقوب نبيّا مطهّرا

و يجمعا و الغرّ أبناء فارس

أب لا يبالي بعده من تأخّرا

أبونا خليل اللّه و اللّه ربّنا

رضينا بما أعطى الإله و قدّرا

و في ذلك يقول بشار بن برد :

نمتني الكرام بنو فارس

قريش و قومي قريش العجم

و قال أحد شعراء الفرس يذكر أنّه من ولد إسحاق ، و أنّ إسحاق هو المسمّى و يرك :

أبونا ويرك و به أسامي

إذا فخر المفاخر بالولاده

أبونا و يرك عبد رسول

له شرف الرّسالة و الزّهاده

فمن مثلي إذا افتخرت قرون

و بيتي مثل واسطة القلاده

قال : و قد افتخر بعض أبناء الفرس بعد التسعين و المائتين بجدّه إسحاق على ولد إسماعيل ، بأنّ الذبيح كان إسحاق ، فقال :

قل لبني هاجر أبيت لكم

ما هذه الكبرياء و العظمه

٢٧٩

ألم تكن في القديم أمّكم

لأمّنا سارة الجمال أمه

و الملك فينا و الأنبياء لنا

إن تنكروا ذلك توجدوا ظلمه

إسحاق كان الذّبيح قد أجمع ال

ناس عليه إلاّ ادّعاء لمه

و قد أجابه ابن المعتز ، فمن ذلك قوله :

أسمع صوتا و لا أرى أحدا

من ذا الشّقي الّذي أباح دمه

حاشا لإسحاق أن يكون لكم

أبا و إن كنتم بنيه فمه

و الفرس لا تنقاد إلى القول : بأنّ الملك كان فيها لأحد غير ولد أفريدون في عصر من الأعصار في ما سلف و خلف ، إلى أن زال عنهم الملك ، إلاّ أن يكون دخل عليهم داخل على طريق الغصب بغير حقّ .

قال : و قد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام ، و تطوف به تعظيما له ، و لجدّها إبراهيم عليه السّلام ، و تمسّكا بهديه و حفظا لأنسابها ، و كان آخر من حجّ منهم ساسان جدّ أردشير ، فكان إذا أتى البيت طاف به و زمزم على بئر إسماعيل .

فقيل : إنّما سمّيت زمزم لزمزمته عليها هو و غيره من فارس ، و هذا يدلّ على ترادف كثرة هذا الفعل منهم على هذا البئر ، و في ذلك يقول الشاعر في قديم الزمان :

زمزمت الفرس على زمزم

و ذاك من سالفها الأقدم

و قد افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام بذلك ، فقال :

و ما زلنا نحج البيت قدما

و نلفى بالأباطح آمنينا

و ساسان بن بابك سار حتّى

أتى البيت العتيق يطوف دينا

فطاف به و زمزم عند بئر

لإسماعيل تروى الشاربينا

و كانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالا في صدر الزمان و جواهر ، و قد

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605