بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110258 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

و ان ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس و قد علموا أنّك قرّبت قربانا فتقبّل منك ، و ردّ عليّ قرباني ، فلا و اللّه لا ينظر الناس إليّ و إليك و أنت خير منّي ، فقال :

لأقتلنّك . فقال له أخوه : ما ذنبي إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين ١ .

قلت : الصواب القول الأخير ، و في ( عرائس الثعلبي ) بعد ذكر تزويج قابيل و هابيل من رواياتهم و قال معاوية بن عمّار : سألت جعفرا الصادق أ كان آدم زوّج ابنته من ابنه ؟ فقال : معاذ اللّه لو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و لا كان دين آدم إلاّ دين نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم . . . فلمّا أدرك قابيل أظهر اللّه تعالى جنّية من الجنّ يقال لها : عمالة في صورة إنسية ، و خلق لها رحما ،

و أوحى اللّه إلى آدم أن زوّجها من قابيل . فزوّجها منه ، فلمّا أدرك هابيل أهبط اللّه إلى آدم حوراء في صورة إنسية ، و خلق لها رحما ، و كان اسمها تركة ، فلمّا نظر إليها هابيل و رمقها ، أوحى اللّه إلى آدم أن زوّجها من هابيل ففعل . فقال قابيل : يا أبت ألست أكبر من أخي و أحقّ بما فعلت به منه ؟ فقال : يا بني إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء ٢ . فقال : لا و لكنّك آثرته عليّ بهواك . فقال له :

إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقرّبا قربانا فأيّكما يقبل قربانه فهو أولى بها من صاحبه . . . ٣ و روى ( توحيد الصدوق ) عن الاصبغ عن أمير المؤمنين عليه السّلام : لمّا قال على المنبر في أوّل خلافته : سلوني قبل أن تفقدوني ، قام إليه الأشعث بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية و لم ينزل عليهم كتاب ، و لم يبعث إليهم نبي ؟ قال : بلى يا أشعث قد أنزل اللّه عليهم كتابا و بعث

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ١ : ٩٢ ٩٦ ، و الآية ٢٧ من سورة المائدة .

( ٢ ) الحديد : ٢٩

( ٣ ) العرائس للثعالبي : ٤٤ .

٢١

إليهم رسولا ، حتّى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها ، فلمّا أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه ، فقالوا : أيّها الملك دنّست علينا ديننا و أهلكته فاخرج نطهّرك و نقم عليك الحدّ . فقال لهم : اجتمعوا و اسمعوا كلامي فان يكن لي مخرج ممّا ارتكبت و إلاّ فشأنكم . فاجتمعوا فقال لهم : هل علمتم أنّ اللّه تعالى لم يخلق خلقاً أكرم عليه من أبينا آدم و أمّنا حوّاء ؟

قالوا : صدقت أيّها الملك . قال : أفليس قد زوّج بنيه من بناته ، و بناته من بنيه ؟

قالوا : صدقت هذا هو الدين . فتعاقدوا على ذلك ، فمحا اللّه ما في صدورهم من العلم ، و رفع عنهم الكتاب ، فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب ، و المنافقون أشدّ حالا منهم . فقال الأشعث : و اللّه ما سمعت بمثل هذا الجواب ، و اللّه لا عدت إلى مثلها أبدا ١ .

و روى ( تفسير العيّاشي ) عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك ، إنّ الناس يزعمون أنّ آدم زوّج ابنته من ابنه ؟ فقال : أما علمت أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال : لو علمت أنّ آدم زوّج ابنته من ابنه لزوّجت زينب من القاسم ، و ما كنت لأرغب عن دين آدم . فقلت : إنّهم يزعمون أنّ قابيل إنّما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على أختهما ؟ فقال : أما تستحيي أن تروي هذا على نبيّ اللّه آدم ؟ فقلت : ففيم قتل قابيل هابيل ؟ قال : في الوصية أنّ اللّه أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية و اسم اللّه الأعظم إلى هابيل ، و كان قابيل أكبر منه ، فغضب فقال :

أنا أولى بالوصية . فأمرهما أن يقرّبا قربانا ففعلا ، فقبل اللّه قربان هابيل فحسده قابيل ، فقتله . فقلت : فممن تناسل ولد آدم هل كانت أنثى غير حواء ،

و هل كان ذكر غير آدم عليه السّلام ؟ فقال : لمّا أدرك قابيل أظهر اللّه له جنيّة و أوحى إلى آدم أن يزوّجها من قابيل ، ففعل ذلك آدم و رضى بها قابيل ، فلمّا أدرك

ـــــــــــــــــ

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٠٦ ح ١ .

٢٢

هابيل أظهر اللّه له حوراء و أوحى إلى آدم أن يزوّجها من هابيل ، فقتل هابيل و الحوراء حاملة ، فولدت غلاما فسمّاه آدم هبة اللّه ، فأوحى إلى آدم أن ادفع الوصية و اسم اللّه الأعظم ، و ولدت حواء غلاما فسمّاه آدم شيثا ، فلمّا أدرك أهبط تعالى له حوراء و أوحى إلى آدم أن يزوّجها من شيث ، فولدت جارية فسمّاها آدم حورة ، فلمّا أدركت زوّج آدم بنت شيث من هبة اللّه بن هابيل ،

فنسل آدم منهما ، فمات هبة اللّه ، فأوحى إلى آدم أن ادفع الوصية و اسم اللّه الأعظم إلى شيث ١ .

و في ( الفقيه ) روى زرارة عن الصادق عليه السّلام : أنّ آدم ولد له شيث و أنّ اسمه هبة اللّه ، و هو أوّل وصي أوصي إليه من الآدميّين في الأرض ، ثمّ ولد له بعد شيث يافث ، فلمّا أدركا أراد اللّه تعالى أن يبلغ بالنّسل ما ترون ، و أن يكون ما قد جرى به القلم من تحريم ما حرّم اللّه عز و جل من الأخوات على الإخوة ،

أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنّة اسمها نزلة ، فأمر اللّه عزّ و جلّ آدم أن يزوّجها من شيث فزوّجها منه ، ثمّ أنزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنة و اسمها منزلة ، فأمر اللّه عزّ و جلّ آدم أن يزوّجها من يافث فزوّجها منه فولد لشيث غلام ، و ولدت ليافث جارية ، فأمر اللّه تعالى آدم حين أدركا أن يزوّج ابنة يافث من ابن شيث ، ففعل ، فولد الصفوة من النّبيين و المرسلين من نسلهما ، و معاذ اللّه أن يكون ذلك على ما قالوا من الإخوة و الأخوات ٢ .

و روى القاسم بن عروة عن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام قال : إنّ اللّه تعالى أنزل على آدم حوراء من الجنّة فزوّجها أحد ابنيه ، و تزوّج الآخر ابنة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير العياشي ١ : ٣١٢ ح ٨٣ و النقل بالتلخيص .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٢٤٠ ح ٤ ، و قد مرّ في آخر العنوان ١ : من هذا الفصل .

٢٣

الجان ، فما كان في الناس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء ، و ما كان فيهم من سواء خلق فهو من ابنة الجان ١ هذا ، و روى المسعودي في ( إثباته ) خطبة عن أمير المؤمنين عليه السّلام في محالّ نور النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ، و في تلك الخطبة : « فأيّ بشر كان مثل آدم في ما سبقت به الأخبار ، و عرّفتنا كتبك في عطاياك ، أسجدت له ملائكتك ، و عرّفته ما حجبت عنهم من علمك إذ تناهت به قدرتك ، و تمّت فيه مشيئتك ، دعاك بما أكننت فيه ، فأجبته إجابة القبول » . . . ٢

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٢٤٠ ح ٥ .

( ٢ ) إثبات الوصية للمسعودي : ١٠٦ .

٢٤

٢٥

الفصل الخامس في النبوّة العامّة

٢٦

٢٧

١

من الخطبة ( ١ ) وَ اِصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى اَلْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ اَلرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اَللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اِتَّخَذُوا اَلْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اِجْتَالَتْهُمُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اِقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ اَلْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ اَلْآيَاتِ اَلْمُقَدِّرَةَ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَائِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ عَلَيْهِمْ .

وَ لَمْ يُخْلِ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لاَ تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لاَ كَثْرَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ .

٢٨

« و اصطفى » أي : اختار .

« سبحانه » أي : المنزّه من كلّ نقص .

« من ولده » أي : من ولد آدم .

« انبياء أخذ على الوحي ميثاقهم » في ( إثبات المسعودي ) : أوحى اللّه تعالى إلى آدم بعد قتل قابيل لهابيل : إنّي أهب لك مكانه غلاما اجعله خليفتك ،

و وارث علمك . فولد له شيث و هو هبة اللّه ، فأوحى اللّه إليه أن سمّه في اليوم السابع . فجرت سنة . فلمّا شبّ و كبر ، أوحى اللّه تعالى إليه أنّي متوفّيك و رافعك إلىّ يوم كذا و كذا ، فأوص إلى خير ولدك ( هبة اللّه ) و سلّم إليه الاسم الأعظم ،

و اجعل العلم في تابوت ، و سلّمه إليه ، فإنّي آليت ألاّ أخلي أرضي من عالم أجعله حجّة لي على خلقي . فجمع آدم ولده الرجال و النساء ، ثمّ قال : يا ولدي إنّ اللّه تعالى أوحى إليّ أنّه رافعي إليه ، و أمرني أن أوصي إلى خير ولدي هبة اللّه فإنّ اللّه قد اختاره لي و لكم من بعدي ، فاسمعوا له و أطيعوا أمره ، فإنّه وصيي و خليفتي . فقالوا : سمعنا و أطعنا . فأمر بتابوت فعمل ، و جعل فيه العلم و الأسماء و الوصية ، ثمّ دفعه إلى هبة اللّه ، و قال له : انظر يا هبة اللّه ، فإذا أنا متّ فغسّلني و كفّني و صلّ عليّ ، و أدخلني حفرتي في تابوت تتّخذه لي ، فإذا حضرت و فاتك ، و أحسست بذلك من نفسك فأوص إلى خير ولدك ، فإنّ اللّه لا يدع الخلق بغير حجّة عالم منّا أهل البيت ، و قد جعلتك حجّة اللّه على خلقه ، فلا تخرج من الدّنيا حتى تدع للّه حجّة و وصيّا من بعدك على خلقه ، و تسلّم إليه التابوت و ما فيه كما سلّمته إليك ، و أعلمه أنّه سيكون نبيّ و اسمه نوح .

و مضى هبة اللّه و استخلف ريسان و عدّ بعده قينان ، ثمّ الحيلث ، ثمّ غنيمشا ، ثمّ إدريس و قال : هو هرمس و هو أخنوخ ، بأمر اللّه تعالى ، و جمع اللّه له علم المضامين ، و زاده ثلاثين صحيفة

٢٩

ثمّ عدّ بعده : بردا ، ثمّ اخنوخ ، ثمّ متوشلخ ، ثمّ لمك ، ثمّ نوح ، ثمّ سام ، ثمّ ارفخشد ، ثمّ شالح ، ثمّ هود ، ثمّ فالغ ، ثمّ يروغ ، ثمّ نوشا ، ثمّ صاروغ ، ثمّ تاجور ،

ثمّ تارخ ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ إسماعيل ، ثمّ إسحاق ، ثمّ يعقوب ، ثمّ يوسف ، ثمّ ببرز بن لاوي ، ثمّ أحرب ، ثمّ ميتاح ، ثمّ عاق ، ثمّ خيام ، ثمّ مادوم ، ثمّ شعيب ، ثمّ موسى ، ثمّ يوشع بن نون ، ثمّ فينحاس ، ثمّ بشير ، ثمّ جبرئيل ، ثمّ أبلث ، ثمّ أحمر ، ثمّ محتان ، ثمّ عوق ، ثمّ طالوت ، ثمّ داود ، ثمّ سليمان ، ثمّ آصف بن برخيا ، ثمّ صفورا ، ثمّ منبه ، ثمّ هندوا ، ثمّ أسفر ، ثمّ رامن ، ثمّ إسحاق ، ثمّ ايم ، ثمّ زكريا ، ثمّ اليسابغ ، ثمّ روبيل ، ثمّ عيسى ، ثمّ شمعون ، ثمّ يحيى ، ثمّ منذر بن شمعون ، ثمّ دانيال ، ثمّ مكيخال بن دانيال ، ثمّ انشوا ، ثمّ رشيخا ، ثمّ نسطورس ، ثمّ مرعيد ، ثمّ بحيرا ، ثمّ منذر ، ثمّ سلمة ، ثمّ برزة ، ثمّ ابي ، ثمّ دوس ،

ثمّ اسيد ، ثمّ هوف ، ثمّ يحيى ، ثمّ نبيّنا ، ثمّ خاتم الأنبياء صلّي اللّه عليه و عليهم أجمعين ١ .

« و على تبليغ الرسالة أمانتهم » قال تعالى : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم . . . ٢ .

« لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه » إظهارا لجلاله مع كون المقام مقام الإضمار كقول السلطان : السلطان يأمرك بكذا .

« إليهم » قال الخوئي : يعني عهده المأخوذ عليهم في الذّر ، كما في آية و إذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهور هم ذرّيّتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم . . . ٣ ، و الأخبار المتواترة ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) إثبات الوصيّة : ١٣ ٧٦ ، و النقل بتقطيع كثير .

( ٢ ) الجن : ٢٨ .

( ٣ ) شرح الخوئي ١ : ١٨٢ ، و النقل بالمعنى ، و الآية ٧٢ من سورة الأعراف .

( ٤ ) أخرجه عدّة كثير جمع بعض طرقه السيوطي في الدرّ المنثور ٣ : ١٤١ ١٤٥ ، و المجلسي في بحار الأنوار ٥ : ٢٢٥ الباب ١٠ يبلغ الطرق عندي إلى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ( ٤٨ ) طريقا و إلى الأئمة ( ٣٩ ) طريقا و إلى الصحابة و التابعين ( ٥٧ ) طريقا ، و سيجي‏ء أقوال العلماء فيها في هذا العنوان .

٣٠

قلت : بل الظاهر أنّ المراد عهده المأخوذ عليهم بتوسط رسله في الظاهر ، كما في آية ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان . . . ١ ، قال تعالى : و لقد ضل قبلهم أكثر الأوّلين . و لقد أرسلنا فيهم منذرين ٢ ،

و همّت كلّ أمّة برسولهم ليأخذوه و جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق . . . ٣ .

« فجهلوا حقّه » و ما قدروا اللّه حقّ قدره و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه . . . ٤ .

« و اتّخذوا الأنداد » أي : الأمثال .

« معه » ، قل أإنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين و تجعلون له أندادا . . . ٥ .

« و اجتالتهم الشّياطين عن معرفته » قال الجزري : أي استخفتهم فجالوا معهم في الضّلال . يقال : جال و اجتال ، إذا ذهب و جاء ، و منه الجولان في الحرب ، و اجتال الشّي‏ء : إذا ذهب به وساقه ، و الجائل الزائل عن مكانه ، و روي بالحاء المهملة ، أي : نقلتهم من حال إلى حال ٦ .

و قال ابن أبي الحديد : اجتال فلان فلانا ، و اجتاله عن كذا و على كذا ، أي :

أداره عليه ، كأنّه يصرفه تارة هكذا ، و تارة هكذا ، يحسن له فعله ، و يغريه به .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) يس : ٦٠ .

( ٢ ) الصافات : ٧١ ٧٢ .

( ٣ ) غافر : ٥ .

( ٤ ) الزمر : ٦٧ .

( ٥ ) فصّلت : ٩ .

( ٦ ) هذا تلفيق كلام ابن الأثير في النهاية ١ : ٣٧١ مادة ( جول ) ، و فيه ١ : ٤٦٣ مادة ( حول ) .

٣١

و قال الراوندي : اجتالتهم : عدلت بهم ، و ليس بشي‏ء ١ .

قلت : بل قوله ليس بشي‏ء ، لعدم ذكره في لغة ، و قول الرّاوندي صحيح ،

ففي ( القاموس ) : اجتالهم : حوّلهم عن قصدهم ٢ .

« و اقتطعتهم » أي : قطعتهم ، و التعبير بالاقتطاع للدّلالة على أنّ قطعه لهم كان موافق هواهم .

« عن عبادته » و طاعته .

« فبعث فيهم رسله » قال ابن أبي الحديد : قال الرّاوندي : بعث يونس قبل نوح . قال : و هذا خلاف إجماع المفسّرين ٣ .

قلت : لم أقف فيه على ما قاله .

« و واتر إليهم أنبياءه » قال ابن أبي الحديد : أي بعثهم ، و بين كلّ نبيين عليهم السّلام فترة ٤ . و قال : و هذا ممّا تغلط فيه العامّة ، فتظنّه كما ظنّ الراوندي أنّ المراد به المرادفة و المتابعة ٥ .

قلت : أيّ شي‏ء أنكر من قول الرّاوندي من أنّ المراد من الجملة : المرادفة و المتابعة ، و قد قال تعالى : ثمّ أرسلنا رسلنا تترى كلّما جاء أمّة رسولها كذّبوه فأتبعنا بعضهم بعضا . . . ٦ و قد كان أنبياؤه تعالى لم يكن لهم انقطاع ،

كلّما مضى سلف منهم ، قام بأمر اللّه تعالى خلف ، كما تواتر به الخبر ٧ ، و قد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٧ .

( ٢ ) القاموس المحيط ٣ : ٣٥٢ مادة ( جول ) .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٨ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٧ .

( ٥ ) المصدر نفسه .

( ٦ ) المؤمنون : ٤٤ .

( ٧ ) الأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، جمع بعض طرقه المجلسي في بحار الأنوار ٢٣ : الباب ١ ، و ٢٣ : ٥٧ الباب ٢ .

٣٢

قال عليه السّلام ، كما يأتي بعد : « و لم يخل سبحانه خلقه من نبيّ مرسل أو كتاب منزل » ١ .

و إنّ ابن أبي الحديد ( صحاح ) الجوهري قبلته ، يتّبعه في كلّ غثّ و سمين ، و قد قال : « و المواترة : المتابعة » ٢ و إنّما قال بعد « و لا تكون المواترة بين الأشياء إلاّ إذا وقعت بينها فترة ، و إلاّ فهي مداركة و مواصلة » ٣ مع أنّ ما ذكره أخيرا لم يعلم صحته ، فيكفي في صداق المواترة عدم كون بعثهم معا ،

و إن كان الآخر متّصلا بالأوّل ، لعدم جواز إبقائه الأرض بغير حجّة .

قال الجزري : إنّ في الحديث : ( ألف جمعهم و أوتر بين ميرهم ) ، أي : لا تقطع الميرة عنهم ، و اجعلها تصل إليهم مرّة بعدمرّة ٤ .

و إنّما حصلت بين عيسى عليه السّلام ، و نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلّم فترة من الرّسل ، لأنّه كان له أوصياء ، كما لم تنقطع الحجّة بعد نبيّنا بأوصيائه صلوات اللّه عليهم .

هذا ، و كما أنّ إثبات الصانع في مقابل الدهريين المنكرين لصانع العالم ،

و إثبات التوحيد في مقابل الثنويين و المشركين المقرّين بأصل الصانع دون توحيده ، كذلك أصل النبوّة العامّة هنا في مقابل البراهمة القائلين بعدم جواز بعثة اللّه تعالى للرّسل و إثبات وجوبها في مقابل فرق من السّنة .

أمّا الأوّلون و هم البراهمة ، فقالوا : لا يخلو أمر الرّسول من حالين : إمّا أن يأتي بما يدلّ عليه العقل أو بخلافه . فإن أتى بما في العقل كان من كمل عقله غنيّا عنه ، لأن الّذي يأتيه به مستقر عنده ، موجود في عقله ، و إن أتى بخلاف ما في العقل ، فالواجب ردّ ما يأتي به ، لأنّ اللّه تعالى إنّما خلق العقول للعباد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) يأتي في تكملة هذا العنوان .

( ٢ ) صحاح اللغة ٢ : ٨٤٣ مادة ( وتر ) .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) النهاية لابن الأثير ٥ : ١٤٨ مادة ( وتر ) .

٣٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

ليستحسنوا بها ما استحسنت ، و يقرّوا بما أقرّت ، و ينكروا ما أنكرت .

و أجاب أهل الحقّ عن شبهتهم : بأنّ الرّسول لا يأتي أبدا بما يخالف العقول ، غير أنّ الأمور في العقل على ثلاثة أقسام : واجب ، و ممتنع ، و جائز .

فالواجب في العقل يأتي السّمع بإيجابه تأكيدا له عند من علمه ، و تنبيها عليه عند من لم يعلمه .

و الجائز يمكن في العقل حسنه تارة و قبحه أخرى .

و من الأمور التي لا يصل العقل فيها إلى القطع العلم بأدوية الاعلال و مواضعها و طبائعها و خواصّها ، و مقادير ما يحتاج إليها و أوزانها ، فهذا ممّا لا سبيل للعقل فيه إلى حقيقة العلم ، و ليس يمكن امتحان كلّ ما في البرّ و البحر ،

و لا تحسن التجربة و السبر ، لما فيهما من الخطر المستقبح في العقل الاقدام عليه ، فعلم أنّ هذا ممّا لا غناء فيه عن طارق السّمع .

قالوا : و بعد فإنّ شكر المنعم عندنا ، و عند البراهمة ممّا هو واجب في العقل ، و ليس في وجوبه و وجوب تعظيم مبدأ النعمة بيننا خلاف ، و شكر اللّه و تعظيمه أوجب ما يلزمنا لعظيم أياديه لدينا ، و إحسانه إلينا ، و لسنا نعلم بمبلغ عقولنا أيّ نوع يريده من تعظيمه منّا و شكره ، فلا بد أن يرسل إلينا رسلا يعرّفنا ما يريده منّا ١ .

و أمّا الأخيرون ، فقال المفيد : اتّفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج في علمه و نتائجه إلى السّمع ، و أنّه غير منفكّ عن سمع ينبّه الغافل على كيفية الاستدلال ، و أنّه لا بد في أوّل التكليف ، و ابتدائه في العالم من رسول ، و وافقهم في ذلك أصحاب الحديث ، و أجمعت المعتزلة و الخوارج و الزيدية على خلاف

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإشكال و الجواب أوردهما بطولهما الكراجكي في كنز الفوائد : ١٠١ ، و أما قول البراهمة في النبوّة ، فنقله الشهرستاني في الملل و النحل ٢ : ٢٥٨ ، و الطوسي في تمهيد الأصول : ٣١٤ ، و الاقتصاد : ١٥٢ ، و غيرهما .

٣٤

ذلك ، و زعموا أنّ العقول بمجردها من السمع و التوقيف ، إلاّ أنّ البغداديين من المعتزلة خاصّة يوجبون الرّسالة في أوّل التكليف ، و يخالفون الإمامية في علّتهم لذلك ، و يثبتون عللا يصحّحها الإمامية ، و يضيفونها إلى علّتهم في ما وصفناه ١ .

و لكن في ( شرح تجريد العلاّمة ) : قالت الأشاعرة بعدم وجوب النبوّة ٢ ،

و كيف كان فقد نبّه عليه السّلام على خمسة من أدلّة وجوب الرسالة :

الأوّل : « ليستأدوهم ميثاق » أي : عهد .

« فطرته » التي فطرهم عليها ، قال تعالى : . . . فطرة اللّه التي فطر الناس عليها . . . ٣ ، و قال عزّ و جلّ : و إذا أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ٤ .

و قد اختلف في معنى أخذ الميثاق من الناس ، فقال المرتضى : لمّا خلقهم و ركّبهم تركيبا يدلّ على معرفته ، و يشهد بقدرته ، و وجوب عبادته ، و أراهم العبر و الآيات و الدلائل في أنفسهم و في غيرهم ، كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، و كانوا في مشاهدة ذلك و معرفته و ظهوره على الوجه الذي أراده اللّه تعالى و تعذّر امتناعهم منه و انفكاكهم من دلالته ، بمنزلة المقرّ المعترف ، و إن لم يكن هناك إشهاد و لا اعتراف على الحقيقة ٥ .

و قال المفيد في ( مسائله السّروية ) : و أمّا الحديث في إخراج الذّريّة من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) قاله المفيد في أوائل المقالات : ٥٠ .

( ٢ ) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٧٣ .

( ٣ ) الروم : ٣٠ .

( ٤ ) الأعراف : ١٧٢ .

( ٥ ) أمالي المرتضى ١ : ٢٣ المجلس ٣ الجواب الثاني .

٣٥

صلب آدم عليه السّلام على صورة الذّرّ ، فقد جاء الحديث بذلك على اختلاف ألفاظه و معانيه ، و الصحيح أنّه أخرج الذرّيّة من ظهره كالذرّ ، فملأ بهم الأفق ، و جعل على بعضهم نورا لا يشوبه ظلمة ، و على بعضهم ظلمة لا يشوبها نور ، و على بعضهم نور و ظلمة ، فقال تعالى لأدم : أمّا الّذين عليهم النور بلا ظلمة ، فهم أصفيائي من ولدك الّذين يطيعوني و لا يعصوني في شي‏ء من أمري ، فأولئك سكّان الجنّة ، و أمّا الذين عليهم ظلمة لا يشوبها نور ، فهم الكفّار من ولدك الّذين يعصوني و لا يطيعوني في شي‏ء من أمري ، فهؤلاء حطب جهنّم ، و أمّا الّذين عليهم نور و ظلمة ، فأولئك الذين يطيعوني من ولدك و يعصوني ، يخلطون أعمالهم السيّئة بأعمالهم الحسنة ، فهؤلاء أمرهم إليّ : إن شئت عذّبتهم فبعدلي ، و إن شئت عفوت عنهم بتفضّلي . قال : فأنبأه اللّه تعالى بما يكون من ولده ، و شبّههم بالذرّ الّذي أخرجه من ظهره ، و جعلهم علامة على كثرة ولده ، قال : و يحتمل أن يكون ما أخرجه من ظهره أصول أجسام ذرّيته دون أرواحهم ، و إنّما فعل اللّه تعالى ذلك ليدلّ آدم على العاقبة منه ، و يظهر له من قدرته و سلطانه من عجائب صنعه ، و علمه بالكائن قبل كونه ليزداد آدم يقينا بربّه .

قال : و أمّا الأخبار التي جاءت بأنّ ذريّة آدم استنطقوا في الذرّ ، فنطقوا فأخذ عليهم العهد فأقرّوا ، فهي من أخبار التناسخية ، و قد خلطوا فيها و مزجوا الحقّ بالباطل .

قال : و المعتمد من إخراج الذريّة ما ذكرنا ، دون ما ينطق القول به على الدّلالة العقلية و الحجج السمعية ، و إنّما هو غلط لا يثبت به أثر على ما وصفناه .

قال : فإن تعلّق متعلّق بقوله تعالى : و إذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا ان

٣٦

تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ١ ، و ظنّ بظاهر هذا القول تحقّق ما رواه أهل التناسخ و الحشوية و العامة في إنطاق الذرّية و خطابهم ، و أنّهم كانوا أحياء ناطقين ، فالجواب عنه : أنّ هذه الآية من المجاز في اللّغة ، كنظائرها ممّا هو مجاز و استعارة و المعنى فيها : أنّ اللّه تعالى أخذ من كلّ مكلّف يخرج من صلب آدم و ظهور ذريّته العهد عليه بربوبيّته من حيث أكمل عقله ، و دلّه بآثار الصنعة فيه على حدثه ، و أنّ له محدثا أحدثه لا يشبهه أحد يستحقّ العبادة منه بنعمته عليه . فلذلك هو أخذ العهد منهم ، و آثار الصنعة فيهم ، و الإشهاد لهم على أنفسهم بأنّ اللّه تعالى ربّهم ، و قوله تعالى : . . . قالوا بلى . . . ٢ يريد أنّه لم يمتنعوا من لزوم آثار الصنعة فيهم ، و دلائل حدوثهم اللازمة لهم ، و حجّة العقل عليهم في إثبات صانعهم ، فكأنّ سبحانه كما ألزمهم الحجّة بعقولهم على حدوثهم و وجود محدثهم ، قال لهم : . . . ألست بربّكم . . . ٣ . فلمّا لم يقدروا على الامتناع من لزوم دلائل الحدوث لهم ، كأنّهم قائلون : . . . بلى شهدنا . . . و قوله تعالى : . . . أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل و كنّا ذرّية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ٤ . ألا ترى أنّه تعالى احتجّ عليهم بما لا يقدرون يوم القيامة إن تناولوا في إنكاره ، و لا يستطيعون ، و قد قال سبحانه : . . . و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدوابّ و كثير من الناس و كثير حقّ عليه العذاب . . . ٥ ، و لم يروا أنّ المذكور يسجد سجود البشر في الصلاة ، و إنّما أراد أنّه غير ممتنع من فعل اللّه ، فهو كالمطيع للّه ، و هو يعبّر عنه بالساجد .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأعراف : ١٧٢ .

( ٢ ) الأعراف : ١٧٢ .

( ٣ ) الأعراف : ١٧٢ .

( ٤ ) الأعراف : ١٧٣ .

( ٥ ) الحج : ١٨ .

٣٧

قال الشاعر :

بجمع تظلّ البلق في حجراته

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر

يريد أنّ الحوافر تذلّ الأكم بوطيها عليها .

و قال آخر :

سجود له نوقان يرجون فضله

و ترك و رهط الأعجمين و كابل

يريد أنّهم مطيعون له ، و عبّر عن طاعتهم بالسّجود ، و قوله تعالى : ثمّ استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ١ ، و هو سبحانه لم يخاطب السماء بكلام ، و لا السّماء قالت قولا مسموعا ، و إنّما أراد أنّه عهد إلى السماء فخلقها ، فلم يتعذّر عليه صنعها .

قال : و لذلك أمثال كثيرة في منظوم كلام العرب و منثوره ، و هو من الشواهد على ما ذكرناه في تأويل الآية ٢ .

و الثاني : « و يذكّروهم منسيّ نعمته » قال تعالى حكاية عن هود في تذكير قومه بآلائه تعالى : . . . و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح و زادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء اللّه لعلّكم تفلحون ٣ ، و عن صالح لقومه في ذلك : و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد و بوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصورا و تنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء اللّه و لا تعثوا في الأرض مفسدين ٤ ، و عن موسى لقومه في ذلك : . . . اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل

ـــــــــــــــــ

( ١ ) فصّلت : ١١ .

( ٢ ) قاله المفيد في أجوبة المسائل السروية : ٢١٢ ، و النقل بتقطيع ، و أما قوله في عدم حمل الاية على ظاهر أحاديث الذرّ فذهب إليه المفيد أيضا في تصحيح الاعتقاد : ٣٣ ، و المرتضى في أماليه ١ : ٢٠ المجلس ٣ ، و الطوسي في التبيان ٥ : ٣٠ ، و الطبرسي في مجمع البيان ٤ : ٤٩٧ ، و العلاّمة الحلّي في المسائل الممنائية الثالثة : ١٤١ ، و غيرهم .

( ٣ ) الأعراف : ٦٩ .

( ٤ ) الأعراف : ٧٤ .

٣٨

فيكم أنبياء و جعلكم ملوكا و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ١ ، و قال عزّ و جلّ على لسان نبيّنا صلى اللّه عليه و آله في ذلك : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم و إيّاي فارهبون . و آمنوا بما أنزلت مصدّقا لما معكم و لا تكونوا أوّل كافر به و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا و إيّاي فاتّقون . و لا تلبسوا الحقّ بالباطل و تكتموا الحقّ و أنتم تعلمون ٢ .

و الثالث : « و يحتجّوا عليهم بالتبليغ » لئلاّ يعتذروا في ترك طاعته ، قال تعالى : و إن تكذّبوا فقد كذّب أمم من قبلكم و ما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين ٣ .

و في الخبر : أنّ الأحلام لم تكن في ما مضى في أوّل الخلق و إنّما حدثت .

قيل : و ما العلّة في ذلك ؟ فقال : إنّ اللّه تعالى بعث رسولا إلى أهل زمانه ، فدعاهم إلى عبادة اللّه و طاعته ، فقالوا : إن فعلنا ذلك فما لنا ، فو اللّه ما أنت بأكثرنا مالا ،

و لا بأعزّنا عشيرة . فقال : إن أطعتموني أدخلكم اللّه الجنّة ، و إن عصيتموني أدخلكم اللّه النّار . فقالوا : و ما الجنّة و النّار ؟ فوصف لهم ذلك . فقالوا : متى نصير إلى ذلك ؟ فقال : إذا متّم . فقالوا : لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما و رفاتا .

فازدادوا له تكذيبا ، و به استخفافا ، فأحدث اللّه تعالى فيهم الأحلام ،

فأتوه فأخبروه بما رأوا و ما أنكروا من ذلك ، فقال : إنّ اللّه تعالى أراد أن يحتجّ عليكم بهذا ، هكذا تكون أرواحكم إذا متّم ، و إذا بليت أبدانكم تصير الأرواح إلى عقاب حتّى تبعث الأبدان ٤ .

و الرابع : « و يثيروا » من أثار الأرض .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ٢٠ .

( ٢ ) البقرة : ٤٠ ٤٢ .

( ٣ ) العنكبوت : ١٨ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٨ : ٩٠ ح ٥٧ .

٣٩

« لهم دفائن العقول » حتّى تكون في مرآهم قالت رسلهم أفي اللّه شكّ فاطر السماوات و الأرض . . . ١ .

و الخامس : « و يروهم » بالضّم من الإراءة .

« الآيات » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( آيات ) كما في ( ابن أبي الحديد ،

و ابن ميثم ، و الخطّيّة ) ٢ ، و لأنّه مضاف .

« المقدرة » و في نسخة ابن ميثم ( القدرة ) .

« من سقف فوقهم مرفوع ، و مهاد تحتهم موضوع ، و معائش تحييهم ، و آجال تفنيهم » قال تعالى حكاية عن نوح في دعوته قومه : مالكم لا ترجون للّه و قارا . و قد خلقكم أطوارا . أ لم تروا كيف خلق اللّه سبع سماوات طباقا .

و جعل القمر فيهنّ نورا و جعل الشمس سراجا . و اللّه أنبتكم من الأرض نباتا .

ثمّ يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا . و اللّه جعل لكم الأرض بساطا . لتسلكوا منها سبلا فجاجا ٣ .

« و أوصاب » أي : أوجاع و أمراض .

« تهرمهم » أي : تجعلهم هرمين ، قال عمرو بن معديكرب :

أشاب الرّأس أيّام طوال

و همّ ما تضمّنه الضّلوع

و قال الجاحظ : قال أبو عبيدة : قيل لشيخ مرة : ما بقي منك ؟ قال : يسبقني من بين يدي ، و يلحقني من خلفي ، و أنسى الحديث ، و أذكر القديم ، و أنعس في الملأ ، و أسهر في الخلأ ، و إذا قمت قربت الأرض منّي ، و إذا قعدت تباعدت عنّي ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) إبراهيم : ١٠ .

( ٢ ) في شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٧ ، و شرح ابن ميثم ١ : ١٩٨ ، « الآيات » أيضا .

( ٣ ) نوح : ١٣ ٢٠ .

( ٤ ) البيان و التبيين للجاحظ ٢ : ٩٦ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605