بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110274 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ما في معدّ فتى تغني رباعته

إذا يهمّ بأمر صالح فعلا

١ « بهم » أي : بسببهم .

« في ظلّ سلطان قاهر » ببركة نبوّته صلى اللّه عليه و آله ، و في ( الطبري ) : حجّ عمر فلمّا كان بضجنان قال : لا إله إلاّ اللّه العظيم العلّي المعطي ما شاء من شاء ، كنت أرعى إبل الخطّاب بهذا الوادي في مدرعة صوف ، و كان فظّا يتعبني إذا عملت ،

و يضربني إذا قصّرت ، و هو أوّل من حمل الدرّة و ضرب بها ، و هو أوّل من دوّن للناس في الإسلام الدواوين ، و كتب الناس على قبائلهم ، و فرض لهم العطاء ، و كان عنده خيل موسومة في أفخاذها حبيس ٢ .

« و أوتهم » بالمدّ ، أي : أنزلتهم ، و لا يجوز القصر ، و قال ابن أبي الحديد :

آوتهم بالمدّ ، و يجوز بغير المد ، أفعلت و فعلت ، في هذا المعنى واحد عن أبي زيد ٣ .

قلت : الأصل في كلامه ( الصحاح ) في نقل ما قال عن أبي زيد ٤ ، لكنّه غير صحيح ، فحرّف على أبي زيد ، قال ابن دريد في ( جمهرته ) : قال أبو زيد : تقول العرب : بتّ بهذا المنزل و بتّه ، و ظفرت بالرجل و ظفرته ، و أويت إلى الرجل و أويته أويّا : إذا نزلت به ٥ . و هو كما ترى إنّما يدلّ على أنّ ( أوى ) بدون المدّ بمعنى النزول به ، يتعدّى بالنفس ، فيقال : أويته ، و بإلى ، فيقال : أويت إليه ، و أين هو ممّا ادّعيا من كون أوى بلا مدّك ( آوى ) مع المدّ في كونه بمعنى الإنزال .

« الحال إلى كنف » أي : ناحية .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب لابن منظور ٨ : ١٠٨ مادة ( ربع ) .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ٢٨٦ ، ٢٧٧ ، ٢٧٩ سنة ٢٣ متفرقا .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٣ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) صحاح اللغة للجوهري ٦ : ٢٢٧٤ مادة ( أوى ) .

( ٥ ) جمهرة اللغة لابن دريد ٣ : ٤٩٤ .

٣٠١

« عزّ غالب » فصارت العرب ذاك اليوم أعزّ من الفرس و الروم .

« و تعطّفت الأمور عليهم » قال ابن دريد : تعطّف فلان على فلان : إذا أوى له ،

أو وصله ١ .

« في ذرى » بالفتح ، أي : كنف .

« ملك ثابت » لأنّ ملكهم كان ذاك اليوم أوّل ملك في الدّنيا .

« فهم حكّام على العالمين ، و ملوك في أطراف الأرضين » فتح المسلمون أفريقية في سنة ( ٢٧ ) و أخذوا منهم ثلاثمائة قنطار ذهب ، و وهبها عثمان لآل عمّه الحكم بن أبي العاص ٢ ، و فتحوا قبرس في تلك السنة أو سنة أخرى ،

و فتحوا فارس الأوّل و اصطخر الثاني في سنة ( ٢٨ ) و فتحوا طبرستان في سنة ( ٢٩ ) ٣ .

« يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم » من الفرس و الغاسنة و المناذرة و اليمن ، قالت بنت النّعمان بن المنذر :

فبينا نسوس الناس و الأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف

« و يمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم » في ( الطبري ) : قال جبير بن نفير : لمّا سبينا أهل قبرس ، نظرت إلى أبي الدّرداء يبكي ، فقلت : ما يبكيك في يوم أعزّ اللّه فيه الإسلام و أهله ، و أذلّ فيه الكفر و أهله ؟ فضرب بيده على منكبي ، و قال : ثكلتك أمّك يا جبير ، ما أهون الخلق على اللّه إذا تركوا أمره ، بينا هي أمّة ظاهرة قاهرة للنّاس لهم الملك ، إذ تركوا أمر اللّه فصاروا إلى ما ترى ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) جمهرة اللغة لابن دريد ٣ : ١٠٤ .

( ٢ ) نقله الطبري في تاريخه ٣ : ٣١٢ ، ٣١٤ سنة ٢٧ ، و نقل بعضه البلاذري في فتوح البلدان : ٢٢٨.

( ٣ ) نقلها الطبري في تاريخه ٣ : ٣١٥ ، ٣٢٠ ، ٣٢٣ سنة ٢٨ ٣٠ ، و البلاذري في فتوح البلدان : ١٥٧ ، ٢٥١ ، ٣١١ ، ٣٣٠ ) ، باختلاف يسير .

٣٠٢

فسلّط اللّه عليهم السباء ، و إذا سلّط السباء على قوم فليس للّه فيهم حاجة ١ .

و فيه : أنّ في عهد أهل قبرس ألاّ يتزوّجوا في عدوّ المسلمين من الروم إلاّ بإذنهم ٢ .

و روى : أنّ أهل طبرستان سألوا المسلمين الأمان ، فأعطاهم سعيد بن العاص الأمان على ألاّ يقتل منهم رجلا واحدا ، ففتحوا الحصن فقتلهم جميعا إلاّ رجلا واحدا ، و حوى ما كان في الحصن ٣ .

« لا تغمز لهم قناة » عدم غمز قناة لهم كناية عن عدم استطاعة غيرهم لإيقاع ضرر عليهم ، و قد يجي‏ء للحقيقة ، قال الشاعر :

و كنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

٤ « و لا تقرع لهم صفاة » بالفتح : الصخرة الملساء ، يقال في المثل : ما تندى صفاته ٥ .

و قوله عليه السّلام : « لا تقرع لهم صفاة » أيضا كناية عن العزّ ، و قد يجي‏ء أيضا للحقيقة ، كقول الشاعر في وصف ذئب :

يستمخر الريح إذا لم يسمع

بمثل مقراع الصفا الموقّع

٦ و مثل المثلين في الكناية عن الاقتدار و المنعة قولهم : لا يقعقع له بالشنان ٧ . و قولهم : لا تقرع له العصا ، و لا تقلقل له الحصى ٨ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) و ( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ٣١٨ ٣١٩ سنة ٢٩ ، و النقل بالمعنى .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٣ : ٣٢٤ سنة ٣٠ .

( ٤ ) لسان العرب لابن منظور ٥ : ٣٨٩ مادة ( غمز ) .

( ٥ ) لسان العرب لابن منظور ١٤ : ٤٦٤ مادة ( صفا ) .

( ٦ ) لسان العرب لابن منظور ٨ : ٢٦٤ مادة ( قرع ) .

( ٧ ) المستقصى للزمخشري ٢ : ٢٧٤ .

( ٨ ) مجمع الأمثال للميداني ٢ : ٢٤١ .

٣٠٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

« ألا و إنّكم قد نفضتم » أي : حرّكتم بالرفع و الخفض .

« أيديكم من حبل الطاعة » الّتي أمر اللّه تعالى بها في قوله : . . . و اعتصموا بحبل اللّه جميعا و لا تفرّقوا . . . ١ ، و قد روى الثعلبي في تفسير الآية بأسانيد عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، قال : يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم الثقلين خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض أو قال : إلى الأرض و عترتي أهل بيتي ألا و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ٢ .

« و ثلمتم » بفتح اللام ، أي : جعلتم فيه ثلمة ، و الثلمة : الخلل في الحائط ،

و غيره .

« حصن اللّه المضروب عليكم » دون باقي الفرق .

« بأحكام » متعلّق بقوله : ثلمتم ، و الباء فيه للاستعانة .

« الجاهلية » التي أزالها الإسلام ، روى كاتب الواقدي في ( طبقاته ) عن أبي غادية قال : خطبنا صلى اللّه عليه و آله يوم العقبة فقال : يا أيّها الناس ألا إنّ دماءكم و أموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألاّ هل بلّغت . فقلنا : نعم . فقال : اللّهمّ اشهد . ثمّ قال : ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ٣ .

و روي الخبر عن ابن قتيبة في ( معارفة ) هكذا : قال أبو الغادية : سمعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول : ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإنّ الحقّ يومئذ لمع عمّار . ثمّ قال ابن قتيبة : قال أبو الغادية : و سمعت عمّارا يذكر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ١٠٣ .

( ٢ ) نقله عن الثعلبي في تفسيره ابن البطريق في العمدة : ٣٥ .

( ٣ ) الطبقات لابن سعد ٣ ق ١ : ١٨٦ .

٣٠٤

عثمان في المسجد ، قال : يدعى فينا جبانا ، و يقول : إنّ نعثلا هذا يفعل و يفعل ،

يعيبه ، فلو وجدت عليه أعوانا يومئذ لو طئته حتّى أقتله ، فبينما أنا يوم صفين ،

إذا به أوّل الكتيبة ، فطعنه رجل في ركبته فانكشف المغفر عن رأسه ، فضربت رأسه ، فإذا رأس عمّار قد ندر . ثمّ قال ابن قتيبة : قال كلثوم بن جبير أي :

الراوي عن أبي غادية ما مرّ فما رأيت شيخا أضلّ منه يروي أنّه سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول ما قال ، ثمّ ضرب عنق عمّار ١ .

قلت : ليس العجب من الضلال منحصرا بذاك الشيخ أبي غادية ، بل عامة مشائخ إخواننا مثله ، فرووا أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال في حروبهم باسم عثمان : إنّ الحقّ يكون مع عمّار . و عمّار كان من قتلة عثمان عملا و قولا و سببا ، و مع ذلك يقولون : إنّ عثمان إمام حقّ ، إلاّ أنّهم رأوا أنّهم لو أنكروه كان عليهم إنكار شيخيهم كما أي أبو غادية للاتّحاد المبنى ، فرجّحوا أمر الأموية على أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و قوله : فاضطروا عملا إلى مخالفة القاعدة العقلية من دلالة بطلان اللازم على بطلان الملزوم ، ثمّ من مصاديق قوله عليه السّلام : من ثلمهم حصن الإسلام بأحكام الجاهلية استلحاق معاوية زيادا به بزنا أبيه بأمّه ، مع أنّ الإسلام قال : الولد للفراش ، و للعاهر الحجر ، كما اعترف به ابن الأثير في ( كامله ) ٢ .

« و اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلّها » قال تعالى ممتنّا عليهم : . . . و اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا . . . ٣ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المعارف لابن قتيبة : ٢٥٧ .

( ٢ ) الكامل لابن الأثير ٣ : ٤٤١ سنة ٤٤ .

( ٣ ) آل عمران : ١٠٣ .

٣٠٥

« و يأوون إلى كنفها » أي : جانبها .

« بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة » لأنّهم بتلك الألفة ملكوا الأمم ،

و سخّروا العرب و العجم .

« لأنّها أرجح من كلّ ثمن » قيل : إنّه إشارة إلى قوله تعالى : . . . لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم و لكنّ اللّه ألّف بينهم . . . ١ .

« و أجلّ من كلّ خطر » أي : شي‏ء ذي قيمة .

« و اعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا » لأنّ في محلّ الأعراب لا تقام شرائع الإسلام كما تقام في محلّ الهجرة ، فإذا لا تقام في محلّ الهجرة يصيرون كالأعراب ، و قال ابن أبي الحديد : صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل ، أنشد الحجاج على منبر الكوفة :

قد لفّها اللّيل بعصلبيّ

أروع خرّاج من الدّويّ

مهاجر ليس بأعرابي

و قال عثمان لأبي ذرّ : أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابيا ٢ .

قلت : قد عرفت الأصل في الهجرة و الأعرابية ، و لم يكن للكلام ربط بالمثل ، و أمّا حديثه الشريف ، فمن موضوعات سيف الّذي ما استحيى ، و قال في ضدّ متواتر التاريخ : إنّ عثمان ما نفى أباذر إلى الربذة ، بل أبو ذر نفسه أراد الإعراض عن المدينة و الإقامة في الربذة ، فقال له عثمان ذلك . و الاستناد إلى غير معلوم الصدق شين ، فكيف إلى معلوم الكذب .

« و بعد الموالاة أحزابا » أي : صرتم بعد كونكم من أولياء الاسلام من أعداء الإسلام الّذين حزّبوا أحزابا لاستيصال بيضته ، فجاؤوهم من فوقهم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنفال : ٦٣ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٤ .

٣٠٦

و من أسفل منهم ، و الأصل في الأحزاب أنّ جمعا من اليهود خرجوا إلى قريش ،

فدعوهم إلى حرب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، ثمّ خرجوا إلى غطفان فدعوهم إلى حربه فأجابتا لهم ، فأقبل أولئك الأحزاب إليه في غزوة الخندق ١ .

« ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه » دون مسمّاه ، فإنّ المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه .

« و لا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه » بإقامة الصّلوات الخمس في أوقاتها دون حقيقته إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه و جلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا و على ربّهم يتوكّلون . الّذين يقيمون الصلاة و ممّا رزقناهم ينفقون ٢ ، قد أفلح المؤمنون . الّذين هم في صلاتهم خاشعون . و الّذين هم عن اللغو معرضون . . . أولئك هم الوارثون . الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ٣ .

« تقولون النار و لا العار » و الأصل في الكلام تقولون : نختار النار و لا نختار العار ٤ . كما أنّ الأصل في قول الكلمة أوس بن حارثة ، و قال : ابن أبي الحديد هي كلمة جارية مجرى المثل أيضا ، يقولها أرباب الحميّة و الإباء ، فإذا قيلت في حقّ كانت صوابا ، و إذا قيلت في باطل كانت خطأ ٥ . و تبعه الخوئي ٦ .

قلت : هو كلام مضحك ، فاختيار النار ، أي : نار جهنم كيف يمكن أن يكون

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقله بتفصيل ابن هشام في السيرة ٣ : ١٢٧ ، و الواقدي في المغازي ١ : ٤٤١ ، و ابن سعد في الطبقات ٢ ق ١ : ٤٧ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٢٣٣ سنة ٥ ، و القمي في تفسيره ٢ : ١٧٧ ، و الطبرسي في أعلام الورى : ٩٠ .

( ٢ ) الأنفال : ٢ ٣ .

( ٣ ) المؤمنون : ١ ١١ .

( ٤ ) المستقصى للزمخشري ١ : ٣٥١ و فيه : النار و لا العار .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٥ .

( ٦ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٩٤ ، ٢٩٥ .

٣٠٧

حقّا ، و لا يقول الكلمة إلاّ أهل الباطل ؟ و أمّا أهل الحقّ ، فإنّما يقولون ما قاله عليه السّلام في موضع آخر : « المنية و لا الدنية » ١ ، و ما قاله الحسين عليه السّلام يوم الطّف :

الموت خير من ركوب العار

و العار أولى من دخول النار

و اللّه ما هذا و هذا جاري

٢ « كأنّكم تريدون أنّ تكفئوا » من : كفأت الإناء : كببته و قلبته .

« الإسلام على وجهه » .

« إنتهاكا » افتعال من ( نهك ) ، و ليس بانفعال ، فإنّه لو كان لكان من ( تهك ) و ليس لنا تهك .

« لحريمه » قال الجوهري : انتهاك الحرمة : تناولها بما لا يحل ٣ .

« و نقضا لميثاقه » قال تعالى في بني إسرائيل : فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم و جعلنا قلوبهم قاسية . . . ٤ .

« الّذي » وصف للإسلام ، و جعله ابن ميثم ٥ و صفا لميثاق ، و مع كونه خلاف الظاهر لعدم الإتيان بوصف لحريم يمنع منه قوله بعد : « و أنّكم إن لجأتم إلى غيره » .

« وضعه اللّه لكم حرما في أرضه » فكما أنّ الحرم صيده و شجره حرام ،

المسلم ماله و دمه حرام ، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه ، فإذا قالوا : لا إله إلاّ اللّه عصموا منّي دماءهم ٦ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نهج البلاغة للشريف الرضي ٤ : ٩٤ الحكمة ٣٩٦ ، و ذكره بعنوان المثل الميداني في مجمع الأمثال ٢ : ٣٠٣ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٦٨ .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ٣ : ١٦١٣ مادة ( نهك ) .

( ٤ ) المائدة : ١٣ .

( ٥ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٣٠٣ .

( ٦ ) أخرجه مسلم في صحيحه ١ : ٥٢ ح ٣٥ ، و الترمذي في سننه ٥ : ٤٣٩ ح ٣٣٤١ ، و ابن ماجه في سننه ٢ : ١٢٩٥.

٣٠٨

و قال الخوئي في شرح الفقرة : لمنعه الآخذين به و المواظبين له من الرفث و الفسوق و الجدال ١ .

قلت : أيّ ربط لما قال هنا ؟ فإنّ ما قاله محرّمات الإحرام و لو كان في غير الحرم ، و الرفث مطلق المقاربة و لو بالحلال ، كما أنّ الجدال مطلق اليمين و لو صدقا لا الحرم ، و قد قال عليه السّلام : وضعه لكم حرما ، و لم يقل : إحراما .

« و أمنا بين خلقه » فكما أنّ الحرم من دخله كان آمنا ، و لو كان قاتلا في غيره ، كذلك الإسلام من دخله كان آمنا ، ولو كان قبل إسلامه قاتلا ، و قال عزّ و جلّ : . . . و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدّنيا . . . كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم . . . ٢ .

« و إنّكم إن لجأتم إلى غيره » أي : غير الإسلام .

« حاربكم أهل الكفر » كما حاربوكم حين كنتم متمسّكين به .

« ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرون و لا أنصار ينصرونكم » كما كانوا ينصرونكم زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله حيث كنتم معتصمين به ، قال تعالى : لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة و يوم حنين . . . ٣ ، إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين ٤ ، إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الذّين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق و اضربوا منهم كلّ بنان ٥ .

ح ٣٩٢٨ ، و أحمد بأربع طرق في مسنده ٣ : ٢٩٥ ، ٣٠٠ ، ٣٣٢ ، ٣٣٩ ، و ابن سعد في الطبقات ١ ق ١ : ١٢٨ ، و غيرهم عن جابر بن عبد اللّه ، و في الباب عن علي و الصادق عليهما السلام و ابن هريرة و ابن عمر و أوس .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٩٤ ، ٢٩٥ .

( ٢ ) النساء : ٩٤ .

( ٣ ) التوبة : ٢٥ .

( ٤ ) الأنفال : ٩ .

( ٥ ) الأنفال : ١٢ .

٣٠٩

و في ( تفسير القمي ) : و جاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : أنّا جاركم ادفعوا إليّ رايتكم فدفعوها إليه ، و جاء بشياطينه يهوّل بهم على أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و يخيّل اليهم و يفزعهم ، و أقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية ، فنظر إليه النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال : عضّوا أبصاركم و عضّوا على النواجذ ، و لا تسلّوا سيفا حتّى آذن لكم . ثمّ رفع يده إلى السّماء ، و قال : يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد ، ثمّ أصابه الغشي فسري عنه ، و يسلت العرق عن وجهه ، و يقول : هذا جبرئيل قد آتاكم في ألف من الملائكة مردفين . قال : فنظرنا فإذا سحابة سوداء فيها برق لائح قد وقعت على عسكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و قائل يقول : أقدم حيزوم أقدم حيزوم ، و سمعنا قعقعة السلاح من الجوّ و نظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع ، و رمى باللواء ، فأخذ منبه بن الحجّاج بمجامع ثوبه ، ثمّ قال : ويلك يا سراقة تفتّ في أعضاد الناس ، فركله إبليس ركلة في صدره ، و قال : إنّي أرى ما لا ترون ، إنّي أخاف اللّه و هو قول اللّه تعالى : و إذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس و إنّي جار لكم فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إنّي بري‏ء منكم إنّي أرى ما لا ترون . . . ١ و أسر أبو بشر الأنصاري العبّاس بن عبد المطلب و عقيل بن أبي طالب ، و جاء بهما إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فقال له : هل أعانك عليهما أحد ؟ قال : نعم ، رجل عليه ثياب بيض . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ذاك من الملائكة ٢ .

و فيه أيضا : نزل قوله تعالى : يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها . . . ٣ في قصّة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنفال : ٤٨ .

( ٢ ) تفسير القمي ١ : ٢٦٦ .

( ٣ ) الاحزاب : ٩ .

٣١٠

الأحزاب من قريش و العرب الّذين تحزّبوا على النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى أن قال بعد ذكر هزيمة الأحزاب و بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله حذيفة لتجسّس أخبارهم ، قال حذيفة :

فمضيت و أنا انتفض من البرد ، فو اللّه ما كان إلاّ بقدر ما جزت الخندق ، حتّى كأنّي في حمّام ، فقصدت خباء عظيما ، فإذا نار تخبو و توقد ، و إذا خيمة فيها أبو سفيان قد دلّى خصيتيه على النار ، و هو ينتفض من شدّة البرد ، و يقول : يا معشر قريش إن كنّا نقاتل أهل السماء بزعم محمّد ، فلا طاقة لنا بأهل السماء ،

و إن كنّا نقاتل أهل الأرض فنقدر عليهم إلى أن قال فلمّا دخل النبيّ صلى اللّه عليه و آله المدينة ، و اللواء معقود ، أراد أن يغتسل من الغبار ، فناداه جبرئيل : عذيرك من محارب ، و اللّه ما وضعت الملائكة لأمتها ، فكيف تضع لأمتك ؟ إنّ اللّه يأمرك ألاّ تصلّي العصر إلاّ ببني قريظة ، فإنّي متقدّمك و مزلزل بهم حصنهم ، إنّا كنّا في آثار القوم نزجرهم زجرا حتّى بلغوا حمراء الأسد ١ .

و روى أبو الفرج في ( مقاتله ) بأسانيد عن جمع قالوا : خطب الحسن عليه السّلام بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ، و لا يدركه الآخرون بعمل ، و لقد كان يجاهد مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيقيه بنفسه ، و لقد كان يوجّهه برايته ، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، و ميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه ٢ .

قال ابن أبي الحديد : قوله عليه السّلام : « ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين » الرواية المشهورة هكذا بالنصب ، و هو جائز على التشبيه بالنكرة ،

كقولهم : معضلة و لا أبا حسن و لها . و قال الراجز :

لا هيثم الليلة للمطيّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ٢ : ١٧٦ .

( ٢ ) مقاتل الطالبيين لأبي فرج الاصفهاني : ٣٢ .

٣١١

و قد روي بالرفع في الجميع ١ .

قلت : بل قوله عليه السلام « و لا مهاجرون و لا أنصار » بلا لام ، دون أن يقول : و لا المهاجرون و لا الأنصار ، دليل على إرادة العموم بجبرئيل و ميكائيل ، كقولهم :

و لا أبا حسن ، دون أن يقولوا : و لا أبا الحسن ، و لا فرق بين رواية الرفع و النصب في المعنى مع تكرار لا ، مع أنّ الرواية المشهورة الرفع ، كما في ( ابن ميثم ) ٢ الّذي نسخته بخطّ المصنّف ، و كذا ( ابن أبي الحديد ) ٣ نفسه في عنوانه على ما في نسخته .

« إلاّ المقارعة بالسيف » قال ابن أبي الحديد : المقارعة منصوبة على المصدر . و قال الراوندي : هي استثناء منقطع ٤ . و قال الخوئي : مراد ابن أبي الحديد أنّه خبر ، و أنّه نظير : ما زيد إلاّ سيرا ، و أصله : ما زيد إلاّ يسير سيرا ، و هنا الأصل : لا أنصار ينصرونكم إلاّ تقارعوا المقارعة بالسيف . و ما قاله يقتضيه النظر الدقيق ٥ .

قلت : بل الواضع الّذي لا غبار عليه هو قول الراوندي ، فانّ ( ينصرونكم ) هو الخبر ، فعنده يتمّ معنى الكلام ، يوضحه : إنّا نسقط الاستثناء و نقول : ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرون و لا أنصار ينصرونكم ، و يكون كلاما تامّا ،

و إنّما توهّما كون ( ينصرونكم ) و صفا ، فوقعا في ما وقعا ، ثمّ لو كان نظير ( ما زيد إلاّ سيرا ) ما هذه اللازم في ( المقارعة ) ؟ و لم لم يقل ( إلاّ مقارعة ) ؟

و قال الخوئي : يروى برفع ( المقارعة ) و نصبها ٦ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٥ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٢٩٠ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣٤٤ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٥ .

( ٥ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٩٢ و النقل بالمعنى .

( ٦ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٩٣ و النقل بالمعنى .

٣١٢

قلت : بل اتّفقوا على نصبها إمّا على المصدرية كما قال ابن أبي الحديد .

أو الاستثناء الانقطاعي كما قال الراوندي ، فانّه في غيره لغة تميم واجب النصب و لو في النفي .

« حتى يحكم اللّه بينكم » بالغلبة لأحد الفريقين .

« و إنّ عندكم الأمثال من بأس اللّه » أي : عذابه ، و ضرب اللّه مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كلّ مكان فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون ١ .

« و قوارعه » أي : شدائده على الناس بسبب أعمالهم ، قال تعالى : . . . و لا يزال الّذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحلّ قريبا من دارهم حتّى يأتي و عد اللّه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد ٢ .

« و أيّامه » قال تعالى : . . . و ذكرهم بأيّام اللّه . . . ٣ ، و في ( تفسير القمي ) :

أيّام اللّه ثلاثة : يوم القائم ، و يوم الموت ، و يوم القيامة ٤ .

« و وقائعه » أي : إيقاعاته بالمجرمين ، قال تعالى بعد ذكر قوم عاد و قوم ثمود و قارون و فرعون و هامان : فكّلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته الصّيحة و منهم من خسفنا به الأرض و منهم من أغرقنا و ما كان اللّه ليظلمهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون ٥ .

« فلا تستبطئوا وعيده » أي : لا تعدّوا إخباره بانتقامه من المجرومين بطئيا .

« جهلا بأخذه » أي : لجهلكم بموقع أخذه ، قال تعالى : و لقد استهزئ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النحل : ١١٢ .

( ٢ ) الرعد : ٣١ .

( ٣ ) ابراهيم : ٥ .

( ٤ ) تفسير القمي ١ : ٣٦٧ .

( ٥ ) العنكبوت : ٤٠ .

٣١٣

برسل من قبلك فأمليت للّذين كفروا ثمّ أخذتهم فكيف كان عقاب ١ .

« و تهاونا ببطشه » أي : سطوته ، قال تعالى : و لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضرّاء لعلّهم يتضرّعون فلو لا إذا جاءهم بأسنا تضرّعوا و لكن قست قلوبهم و زيّن له الشيطان ما كانوا يعملون ٢ .

« و يأسا من بأسه » و عقابه للمخالف ، قال تعالى : حتّى إذا استيأس الرّسل و ظنّوا أنّهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء و لا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين ٣ .

« فانّ اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلاّ لتراكهم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر » يعني عليه السلام : و الحكم في الباقية كالماضية ، قال الخوئي : قال الطبرسي في تفسير آية لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ٤ : لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ، و على لسان عيسى فصاروا خنازير ٥ .

قلت : روى ( الكافي و تفسير القمي و تفسير العياشي ) : أنّهم صاروا خنازير على لسان داود ، و القردة على لسان عيسى عليه السلام ٦ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الرعد : ٣٢ .

( ٢ ) الأنعام : ٤٢ ٤٣ .

( ٣ ) يوسف : ١١٠ .

( ٤ ) المائدة : ٧٨ ٧٩ .

( ٥ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٩٦ ، و مجمع البيان للطبرسي ٣ : ٢٣١ .

( ٦ ) هذا المعنى أخرجه الكليني في الكافي ٨ : ٢٠٠ ح ٢٤٠ ، و العياشى في تفسيره ١ : ٣٣٥ ح ١٦٠ عن الصادق عليه السلام ، و أخرجه أبو عبيد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي مالك ، و عبد بن حميد و أبو الشيخ عن قتادة ، و ابن جرير عن مجاهد عنهم الدر المنثور ٢ : ٣٠١ ، و أخرجه بالعكس القمي في تفسيره ١ :

١٧٦ ، و الراوندي في قصص الأنبياء عنه البحار ١٤ : ٥٤ ح ٧ ، و الظاهر ان الأخير خطأ كما يشهد له الاية ٦٥ من البقرة و الاية ١٦٦ من الأعراف .

٣١٤

و روى القمي عن مسعدة بن صدقة قال : سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان ، و يعملون لهم و يجبون لهم و يوالونهم ، قال : ليس هم من الشيعة ، و لكنهم من أولئك . ثمّ قرأ أبو عبد اللّه عليه السلام هذه الاية : لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم . . . و لكن كثيرا منهم فاسقون ١ .

« فلعن اللّه » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( فلعن ) بدون لفظة الجلالة لتقدم ذكرها ، و لخلو ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٢ عنها .

« السفهاء لركوب المعاصي » في ( تفسير القمي ) : كانوا يأكلون لحم الخنزير ، و يشربون الخمر ، و يأتون النساء في أيام حيضهنّ ٣ .

« و الحلماء لترك التناهي » أي : ترك نهيهم للمرتكبين ، و ترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم و العدوان و أكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لو لا ينهاهم الربّانيون و الأحبار عن قولهم الا إثم و أكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ٤ .

« ألا و قد قطعتم قيد الاسلام و عطّلتم حدوده ، و أمتّم أحكامه » إنّ الاسلام قد قيّد الناس عن ارتكاب المنكرات ، و تناول الخبائث ، و حدث في ذلك حدودا ، و حكّم أحكاما ، فاذا لم يراعوا ذلك ، فقد قطعوا قيده و عطّلوا حدوده ، و أماتوا أحكامه ،

و في ( شعراء ابن قتيبة ) : إنّ أبا بصير أعشى قيس أدرك الاسلام في آخر عمره ، و رحل إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله في صلح الحديبية ، فسأله أبو سفيان عن وجهه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ١ : ١٧٦ ، و الايات ( ٧٨ ٨١ ) من سورة المائدة .

( ٢ ) في شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٤ ، و شرح ابن ميثم ٤ : ٢٩١ مثل المصرية أيضا .

( ٣ ) تفسير القمي ١ : ١٧٦ .

( ٤ ) المائدة : ٦٢ ٦٣ .

٣١٥

الذي يريد ، فقال : أردت محمّدا ، قال : إنّه يحرّم عليكم الخمر و الزنا و القمار . قال :

أمّا الزنا فقد تركني و لم أتركه ، و أمّا الخمر فقد قضيت منها و طرا و أمّا القمار فلعلّي أصيب منه عوضا ، قال : فهل لك إلى خير ؟ قال : و ما هو ؟ قال : بيننا و بينه هدنة ، فترجع عامك هذا ، و تأخذ مائة ناقة حمراء ، فان ظفر بعد ذلك أتيته ، و إن ظفرنا كنت أصبت من رحلتك عوضا . فقال : لا أبالي . فأخذه أبو سفيان إلى منزله و جمع عليه أصحابه ، و قال : يا معاشر قريش هذا أعشى قيس ، و لئن و صل إلى محمّد ليضر منّ عليكم العرب قاطبة . فجمعوا مائة ناقة حمراء ،

فانصرف ، فلمّا صار بناحية اليمامة القاه بعير فقتله ١ .

هذا ، و قال الجوهري في قول الشاعر :

فليس كعهد الدار يا أمّ مالك

و لكن أحاطت بالرقاب السلاسل

أي : ليس الأمر كما عهدت ، و لكن جاء الاسلام فهدم ذلك ٢ .

٢٨

من الخطبة ( ٨٤ ) وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ اَلَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ اَلْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامِرَهُ وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ اَلْمَعْذِرَةَ وَ اِتَّخَذَ عَلَيْكُمُ اَلْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ٥٠ : ٢٨ وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ٣٤ : ٤٦ « و عمّر فيكم نبيّه أزمانا » قال المسعودي : بعث اللّه تعالى رسوله بعد بنيان الكعبة بخمس سنين ، و هو ابن أربعين سنة كاملة ، فأقام بمكّة ثلاث عشرة سنة ، و أخفى أمره ثلاث سنين ، و أنزل عليه بمكّة من القرآن اثنتين

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ٧٩ .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ١ : ٥١٣ مادة ( عهد ) .

٣١٦

و ثمانين سورة ، و نزل تمام بعضها بالمدينة ، و كان دخوله إلى المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأوّل ، فأقام بها عشر سنين كوامل ١ .

« حتى أكمل » عزّ و جلّ .

« له و لكم في ما أنزل من كتابه دينه » . . . اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي . . . ٢ .

« الّذي رضي لنفسه » هكذا في النسخ ٣ ، و الظاهر أنّ الأصل : رضيه لكم نفسه ، فالأصل في كلامه عليه السلام قوله تعالى : . . . و رضيت لكم الاسلام دينا . . . ٤ .

روى المصنّف في ( مناقبه ) عن محمّد بن إسحاق عن أبي جعفر عن جدّه عليه السلام قال : لمّا انصرف النبيّ صلى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع نزل أرضا يقال لها :

ضجنان ، فنزلت : يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك و إن لم تفعل فما بلّغت رسالته و اللّه يعصمك من الناس . . . ٥ ، فلما نزلت : يعصمك من الناس نادى : الصلاة جامعة . فاجتمع الناس إليه ، فقال : من أولى منكم بأنفسكم ؟ فضجّوا بأجمعهم : اللّه و رسوله . فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام ،

و قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهم و ال من والاه ، و عاد من عاداه ، و انصر من نصره ، و اخذل من خذله ، فانّه منّي و أنا منه ، و هو منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبي بعدي . و كان آخر فريضة فرضها اللّه تعالى على أمّة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٢٧٥ ٢٧٩ و النقل بتقطيع .

( ٢ ) المائدة : ٣ .

( ٣ ) كذا في نهج البلاغة ١ : ١٥٠ ، و شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٢٢ ، و شرح ابن ميثم ٢ : ٢٨١ .

( ٤ ) المائدة : ٣ .

( ٥ ) المائدة : ٦٧ .

٣١٧

محمّد صلى اللّه عليه و آله ، ثمّ أنزل تعالى على نبيّه صلى اللّه عليه و آله : . . . اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا . . . ، فقبلوا من النبيّ صلى اللّه عليه و آله كلّ ما أمرهم من الفرائض في الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ ، و صدّقوه على ذلك . . . و في ذيله عدم تصديقهم له في فريضة الولاية الّتي هي أعظم الفرائض ،

و بها إكمال الدين ١ .

و في ( طرائف ابن طاووس ) قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام : نعطي حقوق الناس بشهادة شاهدين و ما أعطي أمير المؤمنين عليه السلام حقّه بشهادة عشرة آلاف نفس يعني الغدير ٢ . إنّ هذا الضلال عن الحقّ المبين . . . فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال فأنّى تصرفون كذلك حقّت كلمة ربّك على الّذين فسقوا إنّهم لا يؤمنون ٣ .

و روى سعد بن عبد اللّه القمي بأسناده عن زيد الشحام قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام و عنده رجل من المغيريّة ، فسأله عن شي‏ء من السنن ، فقال :

ما من شي‏ء يحتاج إليه ابن آدم إلاّ و خرجت فيه السنّة من اللّه تعالى و من رسوله صلى اللّه عليه و آله ، و لو لا ذلك ما احتجّ الله علينا بما احتجّ . فقال المغيري : و بم احتجّ اللّه ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : بقوله : . . . اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا . . . ٤ حتّى تمّم الاية فلو لم يكمل سنّته و فرائضه ما احتجّ به ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عن كتاب المناقب الفاخرة البحراني في البرهان ١ : ٤٣٦ ح ٨ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ٣ : ٢٦ ، و قول الشارح : طرائف ابن طاووس خطا .

( ٣ ) يونس : ٣٢ ٣٣ .

( ٤ ) المائدة : ٣ .

( ٥ ) أخرجه سعد بن عبد اللّه في البصائر ، مختصره : ٦٦ ، و الصفار في البصائر : ٥٣٧ ح ٥٠ عن زيد الشحام ، و أخرجه بفرق في الذيل الكليني في الكافي ٣ : ٦٩ ح ٣ ، و البرقي في المحاسن : ٢٧٨ ح ٤٠٠ أيضا عن زيد الشحام ، و أمّا أصل كتاب بصائر الدرجات لسعد بن عبد اللّه فمفقود ، و يوجد اليوم مختصره فقط ، تأليف الحسن بن سليمان الحلي .

٣١٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

« و أنهى » أي : أبلغ .

« إليكم على لسانه » أي : نبيّه صلى اللّه عليه و آله .

« محابّه » جمع محبوب ، أي : ما يحبّه .

« من الأعمال و مكارهه » جمع مكروه ، أي : ما يكرهه منها .

« و نواهيه » و زواجره .

« و أوامره » و واجباته ، روى ( إرشاد المفيد ) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله خرج في مرض وفاته معصوب الرأس معتمدا على أمير المؤمنين عليه السلام بيمنى يديه ، و على الفضل بن العبّاس باليد الاخرى حتّى صعد المنبر ، فجلس عليه ثمّ قال :

معاشر الناس قد حان منّي خفوق من بين أظهركم إلى أن قال ليس بين اللّه و بين أحد شي‏ء يعطيه به خيرا ، أو يصرف عنه به شرّا إلاّ العمل . أيّها الناس لا يدع مدّع ، و لا يتمنّ متمنّ ، و الّذي بعثني بالحقّ نبيّا لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة ،

و لو عصيت لهويت ، اللّهم هل بلّغت . . . ١ .

و روى ( طبقات ابن سعد ) عن أبي غادية قال : خطبنا النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم العقبة فقال : يا أيّها الناس ألا إنّ دماءكم و أموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم ، كحرمة يومكم هذا في شركم هذا في بلدكم هذا ، ألاهل بلّغت ؟ فقلنا :

نعم . فقال : اللّهمّ اشهد . ثم قال : ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ٢ .

« فألقى » تعالى بعد أن عمّر نبيّه حتّى أكمل دينه ، و أنهى محابّه و كارهه على لسانه .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الارشاد للمفيد : ٩٧ .

( ٢ ) الطبقات لابن سعد ٣ : ق ١ : ١٨٦ .

٣١٩

« إليكم المعذرة » فلا يمكنكم الاعتذار مع المخالفة بالجهالة .

« و اتّخذ عليكم الحجّة » قل فللّه الحجّة البالغة . . . ١ ، . . . فيقولوا ربّنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك و نكون من المؤمنين ٢ .

« و قدّم إليكم بالوعيد » الأصل فيه قوله تعالى : قال لا تختصموا لديّ و قد قدّمت إليكم بالوعيد ٣ .

« و أنذركم بين يدي » أي : قدام .

« عذاب شديد » تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم فافلون ٤ .

٢٩

الخطبة ( ٧٠ ) و من خطبة له عليه السلام علّم فيها النّاس الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه و آله :

اَللَّهُمَّ دَاحِيَ اَلْمَدْحُوَّاتِ وَ دَاعِمَ اَلْمَسْمُوكَاتِ وَ جَابِلَ اَلْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَ سَعِيدِهَا اِجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى ؟ مُحَمَّدٍ ؟ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ اَلْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَ اَلْفَاتِحِ لِمَا اِنْغَلَقَ وَ اَلْمُعْلِنِ اَلْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ اَلدَّافِعِ جَيْشَاتِ اَلْأَبَاطِيلِ وَ اَلدَّامِغِ صَوْلاَتِ اَلْأَضَالِيلِ كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَ لاَ وَاهٍ فِي عَزْمٍ وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً عَلَى عَهْدِكَ مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ اَلْقَابِسِ وَ أَضَاءَ اَلطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ وَ هُدِيَتْ بِهِ اَلْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ اَلْفِتَنِ وَ اَلْآثَامِ وَ أَقَامَ مُوضِحَاتِ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنعام : ١٤٩ .

( ٢ ) القصص : ٤٧ .

( ٣ ) ق : ٢٨ .

( ٤ ) يس : ٥ ٦ .

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

بحوث

١ ـ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمي

صحيح أن القراءة والكتابة تعدّان ـ لكل إنسان ـ كمالا إلّا أنّه يتفق أحيانا ـ وفي ظروف معينة ـ أن يكون من الكمال في عدم القراءة والكتابة ويصدق هذا الموضوع في شأن الأنبياء ، وخاصة في نبوّة خاتم الأنبياء «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذ يمكن أن يوجد عالم قدير وفيلسوف مطّلع ، فيدّعي النبوّة ويظهر كتابا عنده على أنّه من السماء ، ففي مثل هذه الظروف قد تثار الشكوك والاحتمالات أو الوساوس في أنّ هذا الكتاب ـ أو هذا الدين ـ هو من عنده لا من السماء!.

إلّا أنّنا إذا رأينا إنسانا ينهض من بين أمّة متخلفة ، ولم يتعلم على يد أي أستاذ ، ولم يقرأ كتابا ولم يكتب ورقة ـ فيأتي بكتاب عظيم عظمة عالم الوجود ، بمحتوى عال جدا فهنا يمكن معرفة أن هذا الكتاب ليس من نسج فكره وعقله ، بل هو وحي السماء وتعليم إلهي ، ويدرك هذا بصورة جيدة!.

كما أنّ هناك تأكيدا على أمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في آيات القرآن الأخرى ، وكما أشرنا آنفا في الآية (١٥٧) من سورة الأعراف إلى أن هناك ثلاثة تفاسير لمعنى «الأميّ» ، وأوضحها وأحسنها هو أنّه من لا يقرأ ولا يكتب.

ولم يكن في محيط الحجاز وبيئته ـ أساسا ـ درس ليقرأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا معلم ليحضر عنده ويستفيد منه ، وقلنا : إنّ عدد المثقفين الذين كانوا يقرءون ويكتبون في مكّة لم يتجاوز سبعة عشر نفرا فحسب ، ويقال أن من النساء كانت امرأة واحدة تجيد القراءة والكتابة(١) .

وطبيعي في مثل هذا المحيط الذي تندر فيه أدنى مرحلة للعلم وهي القراءة والكتابة ، لا يوجد شخص يعرف القراءة والكتابة ولا يعرف عنه الناس شيئا وإذا ظهر مدع وقال ـ بضرس قاطع ـ إنّني لم أقرأ ولم أكتب ، لم ينكر عليه أحد

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذري طبع مصر ، ص ٤٥٩.

٤٢١

دعاءه ، فيكون عدم الإنكار دليلا جليّا على صدق مدّعاه ، وعلى كل حال فإنّ هذه الكيفية الخاصة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي نوهت عنها الآيات المتقدمة ، إنّما هي لإكمال إعجاز القرآن ، ولقطع السبيل أمام حجج المتذرعين بالأباطيل الواهية ، وفيها تأثير بالغ ونافع جدّا.

أجل ، إنّه عالم منقطع النظير ، لكنّه لم يدرس في مدرسة ، بل تعلّم من وحي السماء!.

تبقى هناك ذريعة واحدة يحتج بها المتذرعون ، وهي أنّ النّبي سافر إلى الشام مرّة أو مرتين «لفترة وجيزة ولغرض التجارة» قبل نبوته ، فيقولون : ربّما اتصل في بعض هاتين السفرتين بعلماء أهل الكتاب وتعلّم منهم هذه المسائل!.

والدليل على ضعف هذا الادّعاء منطو في نفسه ، فكيف يمكن أن يسمع إنسان جميع هذه الدروس وتواريخ الأنبياء والأحكام والمعارف الجليلة ، وهو لم يمض إلى مدرسة ولم يقرأ شيئا ، فيحفظ كل ذلك بهذه السرعة ، ويودعه في ذهنه ، ثمّ يبيّنه ويفصله خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة؟! وأن يبدي موقفا مناسبا للحوادث غير المتوقعة والتي لم يسبق لها مثيل.

وهذا يشبه تماما أن نقول مثلا : إنّ فلانا تعلم قائمة العلوم والفنون الطبية كلّها في عدّة أيّام ، وأنّه كان مشرفا على معالجة المرضى في المستشفى الفلاني ، ومستشارا للأطباء ، هذا كلام أقرب إلى المزاح والهزل منه إلى الجد.

وينبغي الالتفات إلى هذه المسألة ، هي أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن بلغ مرحلة النبوّة ، يحتمل أن يكون قادرا على القراءة والكتابة ، حينئذ وذلك بواسطة التعليم الالهي وإن لم يرد في التواريخ أنّه استفاد من هذه الطريقة! ولم يقرأ شيئا بنفسه أو يكتب شيئا بيده ، ولعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجنب كل ذلك في طول عمره لئلا يتذرع المتذرعون فيثيروا الشكوك بنبوّته! الشيء الوحيد الذي جاء في كتب التأريخ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كتبه بنفسه ، هو صلح الحديبية الذي جاء في مسند أحمد أن «النّبي أمسك القلم

٤٢٢

بيده وكتب معاهدة الصلح»(١) .

إلّا أنّ جماعة من علماء الإسلام أنكروا هذا الحديث ، وقالوا : إنّ هذا مخالف لصريح الآيات ، وإن اعتقد البعض بأنّه ليس في الآيات صراحة ، لأنّ الآيات ناظرة لحال النّبي قبل بعثته ، فما يمنع أن يكتب النّبي على وجه الاستثناء بعد أن نال مقام النبوّة في مورد واحد ويكون ذلك بنفسه معجزة أخرى من معاجزه!.

إلّا أن الاعتماد في مثل هذه المسألة على خبر الواحد مجانب للحزم والاحتياط ، ومخالف لما ثبتت في علم الأصول حتى لو قلنا أنّ هذا الخبر لا اشكال فيه.(٢)

٢ ـ طريق النفوذ في الآخرين

لا يكفي الاستدلال القوي المتين للنفوذ إلى قلوب الآخرين واكتسابهم بالكلام الحق ، فانّ أسلوب التعامل مع الطرف الآخر وطريقة البحث والمناظرة تترك أعمق الأثر في هذه المرحلة فكثيرا ما يتفق أن يوجد أناس مطّلعون ولهم يد طولى في البحوث العلمية الدقيقة ، إلّا أنّهم قلّما يوفقون للنفوذ إلى قلوب الآخرين ، بسبب عدم معرفتهم بكيفية المجادلة بالتي هي أحسن ، وعدم معرفتهم بالبحوث البنّاءة!.

وبتعبير آخر فإنّ النفوذ الى مرحلة الوعي ـ في المخاطب ـ غير كاف وحده ، بل ينبغي الدخول إلى مرحلة عدم الوعي الذي يمثل القسم الأكبر لروح الإنسان أيضا.

ويستفاد من مطالعة أحوال الأنبياء ، ولا سيما حال النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام ـ بصورة جيدة أن هؤلاء العظام سلكوا أحسن سبل الأخلاق

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٢٩٨.

(٢) ورد في صدد «النّبي الأمي» شرح مفصل آخر ذيل الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

٤٢٣

الاجتماعية وأسس المعارف النفسية والإنسانية ، لأجل تحقيق أهدافهم التبليغية والتربوية!.

وكانت طريقة تعاملهم مع الناس أن يكتسبوهم إليهم بشكل سريع فينجذبوا إليهم ، وإن كان بعض الناس يميل إلى أن يضفي على مثل هذه الأمور ثوب الإعجاز دائما ، إلّا أنّه ليس كذلك ، فلو اتبعنا سنتهم وطريقتهم لاستطعنا بسرعة أن نترك في الناس عظيم الأثر ، وأن ننفذ إلى أعماق قلوبهم.

والقرآن يخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله بصراحة فيقول :( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) أو كثيرا ما يرى أنّ بعضهم بعد ساعات من الجدال والمناظرة ، لا أنه لا يحصل على تقدم في مناقشاته فحسب ، بل على العكس يجعل الطرف الآخر متعصبا ومتشددا في عقيدته الباطلة بصورة أكثر وذلك دليل على أنّه لم يتبع أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن.

فالخشونة في البحث ، وطلب الاستعلاء ، وتحقير الطرف المقابل ، وإظهار التكبر والغرور ، وعدم احترام أفكار الآخرين ، وعدم الجدية في المناقشات والبحوث ، كلها من الأمور التي تبعث على انهزام الإنسان في بحثه ، وعدم انتصاره على الطرف الآخر. لذلك فإنّنا نرى في مباحث الأخلاق الإسلامية بحثا تحت عنوان «تحريم الجدال والمراء» والمراد منه الأبحاث التي لا يطلب من ورائها الحق ، بل المراد منها الاستعلاء وإبراز العضلات لا غير!.

وتحريم الجدال والمراء ـ بالإضافة إلى الجوانب المعنوية والأخلاقية ـ إنّما هو لأنّه لا يحصل من ورائهما على نتيجة فكرية ملحوظة.

والجدال والمراء في حرمتهما متقاربان ، إلّا أن العلماء من المسلمين جعلوا فرقا بين كلّ منهما «فالمراء» معناه إظهار الفضل والكمال ، «والجدال» يراد منه تحقير الطرف المقابل!.

__________________

(١) آل عمران ـ الآية ١٥٩.

٤٢٤

وقالوا : إنّ الجدال هي المراحل الهجومية الأولى في البحث وأمّا المراء فيراد منه الصدّ الدفاعي في الكلام.

كما أنّ هناك قولا بأن الجدال في المسائل العلمية ، أمّا المراء فهو في الأعم منها «وبالطبع فإنه لا تضادّ بين هذه التفاسير جميعا».

وعلى كل حال ، فإنّ الجدال أو البحث مع الآخرين ، تارة يقع بالتي هي أحسن ، وذلك ما بيّناه بالشرائط المتقدمة آنفا ، وينبغي رعايتها بدقّة. وتارة يكون بغير الأحسن ، وذلك في ما لو أهملت الأمور التي ذكرناها في مستهل كلامنا على الجدال ، وجعلت في طيّ النسيان.

ونختتم هذا الكلام بعدة روايات بليغة ونافعة لنتعلم منها :

ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أن سليمان النّبيعليه‌السلام قال لولده «يا بني إيّاك والمراء ، فإنّه ليست فيه منفعة ، وهو يهيج بين الأخوان العداوة»(٢) .

٣ ـ الكافرون والظالمون

نواجه في الآيات المتقدمة آنفا هذا التعبير( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ) ومرّة أخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت فبدلا من كلمة «الكافرون» جاءت كلمة «الظالمون»( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) .

والموازنة بين التعبيرين تدلّ على أن المسألة ليست من قبيل التكرار ، بل هي لبيان موضوعين ، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي «الكافرون» والآخر يشير إلى جانب عملي «الظالمون».

__________________

(١) سفينة البحار مادة مرأ.

(٢) إحياء العلوم.

٤٢٥

فالآية الأولى تقول : إنّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبّقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم ، لا يرون آية من آيات الله إلّا أنكروها وإن تقبلتها عقولهم»!

أمّا التعبير الثّاني فيقول : إنّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقا يرون فيه منافعهم الشخصية ، وعزموا على الاستمرار في هذه الطريق ، لا يذعنون لآياتنا. لأنّ آياتنا كما أنّها لا تنسجم مع خطهم الفكري ، فهي لا تنسجم مع خطهم العملي أيضا.

* * *

٤٢٦

الآيات

( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) )

التّفسير

أليس القرآن كافيا في إعجازه؟!

الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل ، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن

٤٢٧

الذي جاء به إنسان أمي كالنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله دليلا جليّا على حقانية دعوته تذرعوا بحجّة أخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وهي أنّه لم لا تأت ـ يا محمّد ـ بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ولم لم يكن لديه مثل عصى موسى ويده البيضاء ونفخة المسيح؟!

ولم لا يهلك أعداءه بمعاجزه ، كما فعل موسى وشعيب وهود ونوح بأممهم المعاندين؟!.

أو كما يعبر على لسانهم القرآن في الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) .

ومن دون شك فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم ، كما أن التواريخ تصرح بذلك أيضا إلّا أن أولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة ، بل كان قصدهم ـ من جهة ـ أن لا يعتبروا القرآن شيئا مهما وكتابا إعجازيا ، ومن جهة أخرى كانوا يريدون معجزات مقترحة «والمراد من المعجزات المقترحة هو أن يأتي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طبقا لرغبات هذا وذاك بمعاجز خارقة للعادة يقترحونها عليه ، فمثلا يريد منه بعضهم أن يفجّر له الأرض ينابيع من الماء الزلال ، ويريد الآخر منه أن يقلب له الجبال التي في مكّة ذهبا ، ويتذرع الثّالث بأن هذا لا يكفي أيضا بل ينبغي أن يصعد إلى السماء ، وهكذا يجعلون المعجزة على شكل ألعوبة لا قيمة لها ، وآخر الأمر وبعد رؤية كل هذه الأمور يتهمونه بأنه ساحر».

٤٢٨

لذلك فإن القرآن يقول في الآية (١١١) من سورة الأنعام( وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) .

وعلى كل حال فإنّ القرآن ، للرد على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية ، يدخل من طريقين :

فيقول أوّلا في خطابه لنبيه( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ) أي قل لأولئك المعاندين أن الله يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم ، وهو يعلم أي الأفراد هم أتباع الحق ، وينبغي أن يريهم المعاجز الخارقة للعادة ، وأي الأفراد المتذرعون وأتباع هوى النفس؟!

ثمّ يضيف القرآن معقبا أن قل( وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) فمسؤوليتي الإنذار ـ فحسب ـ والإبلاغ وبيان كلام الله ، أمّا المعاجز والأمور الخارقة للعادة فهي بأمر الله.

والجواب الآخر هو قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ) .

فهم يطلبون معاجز مادية «جسمانية» ، والقرآن بحد ذاته أعظم معجزة معنوية

وهم يريدون معجزة عابرة لا تمكث طويلا ، في حين أن القرآن معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.

ترى هل يعقل أن يأتي إنسان أمي وحتى لو كان يقرأ ويكتب فرضا بكتاب بهذا المحتوى العظيم والجاذبية العجيبة ، التي هي فوق قدرة الإنسان والبشر ، ثمّ يدعوا أهل العلم متحديا لهم للإتيان بمثله فيعجزون عن الإتيان بمثله؟!

فلو كانوا حقا طلاب معجزة ، فقد آتيناهم بنزول القرآن أكثر ممّا طلبوه إلّا أنّهم لم يكونوا طلاب معجزة ، بل هم متذرعون بالأباطيل!.

وينبغي الالتفات إلى أن التعبير( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ) إنّما يستعمل ـ غالبا ـ في

٤٢٩

موارد يكون الإنسان قد أدّى عملا فوق ما ينتظره الطرف الآخر ، وهو غافل عنه أو يتغافل عنه ، كأن يقول مثلا : لم أحصل على الخدمة الفلانيّة ، في حين أن الخدمة التي قدمت إليه ـ كما في هذه الحال ـ أكبر خدمة ، إلّا أنّه لا يعتبرها شيئا ، ونقول له : أو لم يكفك ما قدمناه؟!

ثمّ بعد هذا كله ينبغي أن تكون المعجزة منسجمة مع ظروف «الزمان والمكان وكيفية دعوة النّبي» فالنّبي الذي يدعوا إلى مبدأ خالد ، ينبغي أن تكون معجزته خالدة أيضا.

والنّبي الذي تستوعب دعوته العالم وتستوعب القرون والأعصار المقبلة ، لا بدّ له من أن يأتي بمعجزة نيّرة «روحية وعقلانية» ليجلب إليه أفكار جميع العلماء والمفكرين ، ومن المسلّم به أن مثل هذا الهدف يتناسب مع القرآن ، لا عصى موسى ولا يده البيضاء.

وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى ، فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

«ذلك» هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء ، وهو القرآن.

أجل ، إن القرآن رحمة «وسيلة» للذكرى والتذكر أيضا ، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة ، والذين يبتغون النور والطريق السويّ هو لهم رحمة إلهية يحسونها بكل وجودهم ، ويشعرون بالاطمئنان والدعة عنده وكلّما قرءوا آياته تذكروا ، فهي لهم ذكرى وأية ذكرى؟!

ولعل الفرق بين «الرحمة» و «الذكرى» أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب ، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.

فمثلا كانت عصى موسى معجزة فحسب ، إلّا أنّها لم يكن لها أثر في حياة الناس اليومية ، غير أن القرآن معجزة ، هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضا.

٤٣٠

أيضا.

ولمّا كان كل مدع بحاجة إلى الشاهد ، فالقرآن يبيّن في الآية الأخرى أن خير شاهد هو الله( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) .

وبديهي أنّه كلّما كان اطلاع الشاهد وشهادته أكثر ، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم ، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلا :( يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

والآن لنعرف كيف شهد الله على حقانية نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية ، لأنّه حين يؤتي الله نبيّه معجزة كبرى كالقرآن ، فقد وقع على سند حقانيته وأمضاه.

ترى هل يمكن أن يأتي الله الحكيم العادل بمعجزة على يد كذّاب ، والعياذ بالله! فعلى هذا كانت طريقة إعطاء المعجزة لشخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بنفسها ـ أعظم شهادة على نبوته من قبل الله.

وإضافة للشهادة العملية المتقدمة ، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في الآية (٤٠) من سورة الأحزاب( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، وفي الآية (٢٩) من سورة الفتح أيضا( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ )

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية كانت جوابا على ما قاله بعض رؤوساء اليهود من أهل المدينة ، أمثال «كعب بن الأشرف» وأتباعه ، إذ قالوا : يا محمّد ، من يشهد على أنّك مرسل من قبل الله ، فنزلت هذه الآية( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) !

كما يمكن أن تفسّر الآية المتقدمة بتفسير آخر وبيان ثان ، وذلك أنّ المراد من شهادة الله في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب الله السابقة «كالتّوراة والإنجيل» ويعلم بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة!.

وفي الوقت ذاته لا منافاة بين التّفسيرات الثلاثة الآنفة الذكر ، ومن الممكن

٤٣١

أن تجتمع هذه التفاسير في معنى الآية أيضا.

وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لأولئك الكفار بالله ، فيقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وأي خسران أعظم من أن يعطي الإنسان جميع وجوده في سبيل لا شيء؟! كما فعله المشركون ، فقد أعطوا قلوبهم وأرواحهم للأوثان والأصنام ووظّفوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر الله ، فلم يعد عليهم هذا إلّا بالضرر والخسران!.

وغالبا ما يشير القرآن إلى هذا الخسران في آياته ، وفي بعض الآيات يرد التعبير بكلمة «أخسر» وهي إشارة إلى أنّه ليس فوق هذا الخسران من خسارة ولا أعظم منه! (راجع آيات السور «هود ٢٢ والنمل ٥ والكهف ١٠٣»).

والمثل الأهمّ هو أنّه قد يتفق للإنسان أحيانا أن يتضرر في معاملته ويخسر رأس ماله ويغلب على أمره ، وقد تتسع هذه الدائرة أحيانا فيقل كاهله بالديون ، وهذه الحالة أسوأ الحالات والمشركون هم في مثل هذه الحالة ، بل قد يكونون سببا لضلال الآخرين وخسرانهم ، وكما يصطلح عليه : «الفشل سلسلة متصلة»(١) .

في الآيات المتقدمة عرض قسمان من ذرائع الكفار قبال دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أجيب عنهما :

الأوّل : كان قولهم : لم لا يأتي بمعجزة؟!

فأجاب القرآن : إن هذا الكتاب المنزل من السماء هو أعظم معجزة.

والثّاني : سؤالهم : من الشاهد على صدق دعواك وحقانية النبوة عندك؟

فأجاب القرآن : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يعلم ما في السماوات

__________________

(١) لنا في هذا الصدد بحث مفصل بيناه في ذيل الآية (١٠٣) من سورة الكهف.

٤٣٢

والأرض.

أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثّالثة إذ تقول :( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) إذ يقولون : لو كان عذاب الله حقا على الكافرين فلم لا يأتينا!؟

فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل :( وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ) .

وهذا الزمان المعين «الأجل» إنّما هو لهدف أصلي ، للارعواء عن باطلهم وتيقظهم ، أو إتمام الحجة عليهم ، فالله لا يستعجل أبدا في أمره ، لأنّ العجلة خلاف حكمته.

والثّاني : إن أولئك الذين يتذرعون بهذا القول ما يدريهم لعل العذاب يأخذهم على حين غرة من أنفسهم( وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

وبالرغم من أن موعد العذاب ـ في الواقع ـ معين ومقرّر إلّا أن المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه ، وأن يأتيهم دون مقدمات ، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثا على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم وكانوا يواصلون الذنب والكفر إلى آخر لحظة وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنهم سيتجهون بالتوبة ـ جميعا ـ الى الله وينيبون إليه.

والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده ، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها ، ويكون الخوف والاستيحاش منها عاملا على الردع ، ويتّضح ممّا قلناه ـ ضمنا ـ أنّ المراد من جملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) لا تعني أنّهم لا يدركون أصل وجود العذاب. وإلّا فإنّ فلسفة العذاب والحكمة منه لا يكون لها أثر ، بل المراد أنّهم لا يعرفون اللحظة التي ينزل فيها العذاب ولا مقدماته ، وبتعبير آخر : إنّ العذاب ينزل عليهم كالصاعقة وهم غافلون.

ويظهر من آيات متعددة من القرآن أن التذرع بالحجج الواهية لم يكن

__________________

(١) «البغتة» مشتقة من «البغت» على زنة «وقت» ومعناه التحقق المفاجئ وغير المنتظر لأمر.

٤٣٣

منحصرا بأهل مكّة ، بل كثير من الأمم السابقين يلتجئون إلى مثل هذه الذريعة ، ويصرون على تعجيل العقوبة والعذاب!.

وأخيرا فإنّ الجواب القرآني الثّالث يتبيّن في الآية إذ يقول :( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا ، فإن عذاب الآخرة واقع لا محالة ، ومحيط بهم تماما وسيصيبهم حتما بحيث أنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأن جهنّم الآن محيطة بهم).

ويوجد تفسير آخر أكثر دقّة لهذه الآية ، وهو أنّ جهنم محيطة ، الآن فعلا بالكافرين ، من جهتين ـ بالمعنى الواقعي للكلمة.

الجهة الأولى : إنّها جهنم الدنيا ، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم ، جهنم الحرب وسفك الدماء ، جهنم النزاع والشقاق والاختلافات ، جهنم القلق والفزع ، جهنم الظلم ، وجهنم الهوى والهوس والعناد.

والجهة الثّانية : طبقا لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلا ، وكما تقدم سابقا فإنّ جهنّم موجودة في باطن الدنيا ، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة وفي سورة التكاثر إشارة لها أيضا( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) الآيات ٥ ـ ٧ من سورة التكاثر(١) .

ثمّ يضيف القرآن( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

يمكن أن تكون هذه الآية توضيحا لإحاطة عذاب جهنّم في يوم القيامة بالكفار ، ويمكن أن تكون بيانا مستقلا لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم

__________________

(١) لمزيد الإيضاح يراجع ـ في هذا الصدد تفسير الآية (١٢٣) من سورة آل عمران.

(٢) يرى بعض المفسّرين أن كلمة «يوم» متعلقة بفعل محذوف مقدر ، وقال بعضهم : هو متعلق بـ «محيطة».

٤٣٤

اليوم على أثر أعمالهم ، وفي غد يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوسا ظاهرا.

وعلى كل حال فذكره لإحاطة العذاب( مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) وعدم ذكره لبقية الجهات ـ في الحقيقة ـ هو لوضوح المطلب ، وإضافة إلى ذلك فإن نار العذاب إذا امتدت ألسنتها من تحت الأرجل ونزلت على الرؤوس ، فإنها تحيط بجميع البدن أيضا وتغشى جميع أطرافه وجوانبه.

وأساسا فإنّ هذا التعبير مستعمل في اللغة العربية ، إذ يقال مثلا : إن فلانا غارق من قرنه إلى قدمه في مستنقع الفسق وعدم العفة ، أى إن جميع وجوده غارق في هذا الذنب ، وبهذا يرتفع الإشكال عند المفسّرين في ذكر القرآن للجهة العليا «من فوقهم» والجهة السفلى «من تحتهم» والسكوت عن الجهات الأربع الأخرى ، ويتّضح المراد منه بالتقرير الذي بيّناه!

أمّا جملة( ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التي يظهر أن قائلها هو الله تعالى ، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص ، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة ، وهي أن عذاب الله ليس إلّا انعكاسا للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة!.

* * *

ملاحظات

١ ـ دلائل إعجاز القرآن :

لا شك أنّ القرآن أعظم معجزة للإسلام معجزة بليغة ، خالدة وباقية ، مناسبة لكل عصر وزمان ولجميع الطبقات الاجتماعية ، وقد ذكرنا بحثا مفصلا عن إعجاز القرآن في ذيل الآية ٢٣ من سورة البقرة ، ولا حاجة إلى إعادته هنا.

٤٣٥

٢ ـ التشبث بالحيل لإنكار المعجزات :

يصرّ بعض العلماء المتأثرين بالغرب ـ الذين يميلون إلى أن لا يعتدّوا بظواهر الأنبياء الخارقة للعادة ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له معجزة غير القرآن ، وربّما يرون القرآن ليس معجزا ، في حين أنّ مثل هذا الكلام مخالف لآيات القرآن ، وللرّوايات المتواترة ، وللتأريخ الإسلامي أيضا.

«وقد بيّنا تفصيل هذا الكلام في ذيل الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء».

٣ ـ المعجزات الاقتراحيّة :

كانت أساليب المخالفين للأنبياء دائما هي اقتراحهم المعجزات التي يرتؤونها ، وكانوا بعملهم هذا يحاولون أن يحطّوا من قيمة المعجزات وعظمتها ويجروها إلى الابتذال من جهة ، وأن تكون في أيديهم ذريعة إلى عدم قبول دعوة الأنبياء من جهة أخرى ، لكن الأنبياء لم يستسلموا لهذه المؤامرات أبدا وكما رأينا في إجابتهم آنفا ، فإن المعجزة ليست باختيارهم لتكون مطابقة «لميلكم وهوسكم» كل يوم وكل ساعة نأتي بمعجزة كما تريدون بل المعاجز هي بأمر الله فحسب ، وهي خارجة عن أمرنا.

«وقد ذكرنا شرحا حول المعجزة الاقتراحية في ذيل الآية ٢٠ من سورة يونس».

* * *

٤٣٦

الآيات

( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) )

سبب النّزول

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ الآية ـ من هذا المقطع ـ نزلت في شأن المؤمنين الذين كانوا تحت ضغط الكفار الشديد ، حتى أنّهم لم يستطيعوا أن يؤدوا وظائفهم الإسلامية ، فجاءت هذه الآية لتأمرهم بالهجرة من هذه الأرض.

كما يعتقد بعض المفسّرين أيضا أنّ الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) وهي الآية الأخيرة ـ من المقطع محل البحث نزلت في شأن بعض المؤمنين الذين كانوا يتعرضون لأذى أعدائهم في مكّة! وكانوا يقولون لو هاجرنا إلى المدينة فليست لدينا دار ولا أرض ، من يطعمنا ويسقينا هناك؟ فنزلت الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ).

٤٣٧

التّفسير

لا بدّ من الهجرة :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين ، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسئولياتهم قبال المشاكل المختلفة ، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك ، فتقول الآية الأولى :( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) .

وبديهي أنّ هذا ليس قانونا خاصا بمؤمني أهل مكّة ، ولا يحدد سبب النّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأخرى فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل ، فإنّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلّا الذل «والخسران والضرر» والابتعاد عن أداء المناسك الإلهية ، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة «حرّة» يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامّة أو حرية نسبية.

وبتعبير آخر : إنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبدا لله ، عبودية هي في الواقع سبب للحرية والكرامة والإنتصار في جميع الجهات وجملة( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) إشارة إلى هذا المعنى ، كما ورد هذا التعبير في الآية (٥٦) من سورة الذاريات( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلا ، فلا سبيل عندئذ إلّا الهجرة ، فأرض الله واسعة ، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أخرى ، ولا يكون أسيرا لمفاهيم «القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل» في مثل هذه الموارد ، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها ، فإنّ احترام هذه الأمور هو فيما لو كان الهدف الأصلي قائما غير مخاطر به ، أمّا إذا أصبح الهدف الأصلي «عبادة الله» مخاطرا به فلا سبيل إلّا الهجرة!

٤٣٨

وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «ليس بلد بأحق بك من بلدك ، خير البلاد ما حملك»(١) .

صحيح أنّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كل إنسان ، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك الأمور ، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها.

وفي مجال موقف الإسلام ونظرته من مسألة الهجرة والرّوايات الواردة في هذا الصدد ، كان لنا بحث مفصل في ذيل الآية (١٠٠) من سورة النساء.

والتعبير بـ( يا عِبادِيَ ) هو أكثر التعابير رأفة وحبّا للناس من قبل خالقهم.

وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة ، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائما «أشهد أن محمّدا عبده ورسوله».

من الطريف أنّه حين خلق الله آدم لقبه بـ «خليفة الله» ، وهو فخر لآدم ، إلّا أن الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له ، فكان ما كان ، ولكن حين بوأه مقام العبودية أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .(٢)

والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) .(٣)

ويتّضح ممّا ذكرناه ـ بصورة جيدة ـ أنّ المراد بالعباد ليس جميع الناس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب ، وجملة( الَّذِينَ آمَنُوا ) جاءت للتأكيد والتوضيح(٤) .

وحيث أنّ البعض بقوا في ديار الشرك ، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم

__________________

(١) الكلمات القصار ، رقم ٤٤٢.

(٢) سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣.

(٣) سورة الحجر ، الآية ٤٢.

(٤) جملة «فإياي فاعبدون» عطف على جزاء جملة الشرط المحذوف والتقدير «إن ضاقت بكم الأرض فهاجروا منها إلى غيرها وإيّاي فاعبدون».

٤٣٩

يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأخرى التي تهددهم إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء ، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلا :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) .

فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد ، فبعض يمضي عاجلا ، وبعض يتأخر ، ولا بدّ أن يذهبوا جميعا ، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لا بدّ أن يقع ويتحقق ، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله ، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديار الكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الإسلام ، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!

ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء ، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية ، لأنّكم جميعا( إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) إلى الله العظيم ، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

والآية التالية تبيّن جانبا من هذه النعم فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (١) .

فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب ، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه ، طبقا لآيات القرآن الاخر ، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبدا (لاحظوا أن «غرف» جمع غرفة ، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه).

والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء «الرحيل» ، فغرف الجنّة دائمة

__________________

(١) «لنبوئنهم» من مادة «تبوئة» على زنة «تذكرة» معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605