بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110294 / تحميل: 5676
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

اَلْأَعْلاَمِ وَ نَيِّرَاتِ اَلْأَحْكَامِ فَهُوَ أَمِينُكَ اَلْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ اَلْمَخْزُونِ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ اَلدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ وَ رَسُولُكَ إِلَى اَلْخَلْقِ .

اَللَّهُمَّ اِفْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ وَ اِجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ اَلْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ اَللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ اَلْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ وَ اِجْزِهِ مِنِ اِبْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ اَلشَّهَادَةِ وَ مَرْضِيَّ اَلْمَقَالَةِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطَّةٍ فَصْلٍ اَللَّهُمَّ اِجْمَعْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ فِي بَرْدِ اَلْعَيْشِ وَ قَرَارِ اَلنِّعْمَةِ وَ مُنَى اَلشَّهَوَاتِ وَ أَهْوَاءِ اَللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ اَلدَّعَةِ وَ مُنْتَهَى اَلطُّمَأْنِينَةِ وَ تُحَفِ اَلْكَرَامَةِ . من الخطبة ( ١٠٤ ) منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله :

حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لِقَابِسٍ وَ أَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ فَهُوَ أَمِينُكَ اَلْمَأْمُونُ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ اَلدِّينِ وَ بَعِيثُكَ نِعْمَةً وَ رَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً .

اَللَّهُمَّ اِقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ وَ اِجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ اَلْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ اَللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ اَلْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ شَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ وَ آتِهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ أَعْطِهِ اَلسَّنَاءَ وَ اَلْفَضِيلَةَ وَ اُحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا وَ لاَ نَادِمِينَ وَ لاَ نَاكِبِينَ وَ لاَ نَاكِثِينَ وَ لاَ ضَالِّينَ وَ لاَ مُضِلِّينَ وَ لاَ مَفْتُونِينَ . قال الشريف : « و قد مضى هذا الكلام في ما تقدّم ، إلاّ أنّنا كرّرناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف » .

أقول : نقل الرواية الأولى كتاب ( تنبيه الكبري على أوهام القالي ) راويا له عن الحسن بن حصر عن أبيه عن بعض ولد عليّ عليه السلام عنه عليه السلام ١ ، و كتاب

ـــــــــــــــــ

( ١ ) روى الخطبة أبو علي القالي نفسه بهذا الاسناد في ذيل الأمالي : ١٧٣ ، و الظاهر أنّ نسبته إلى البكري ناقد القالي سهو .

٣٢١

( غريب حديث ابن قتيبة ) نقله عنه ابن أبي الحديد في فصل غريب هذا الكتاب قائلا : إنّ سلامة الكندي قال : كان عليّ عليه السلام يعلّمنا الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ١ . و كتاب ( مناقب ابن الجوزي ) عن الحسن بن عرفة عن سعيد بن عمير عنه عليه السّلام كما نقل ( البحار ) عنه ٢ .

قول المصنّف في الاولى : « و من خطبة له عليه السلام علّم فيها الناس » هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد ) ٣ ، و ليست كلمة « الناس » في ( ابن ميثم و الخطّية ) ٤ . و كيف كان ، فقد عرفت أنّ ( غريب ابن قتيبة ) نقل عن سلامة الكندي ، قال : كان علي عليه السلام يعلّمنا الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه و آله هكذا .

« الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه و آله » قد روي عن النبي نفسه تعليم الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله أيضا ، روى الخطيب في إسماعيل بن زكريا مسندا عنه من الأعمش و مسعر ابن كلام و مالك بن مغول ، كلّهم عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجر عن النبي صلى اللّه عليه و آله في الصلاة عليه : اللّهم صلّ على محمّد و على آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد . اللّهم بارك على محمّد و على آل محمّد كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ٥ .

و روى في يوسف بن نفس عن عليّ عليه السلام قال : قالوا : يا رسول اللّه كيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا : اللّهم صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، و بارك على محمّد و على آل محمّد كما باركت على

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٣٦٤ شرح غريب ٩٠٠٠ .

( ٢ ) بحار الأنوار ٧٧ : ٢٩٧ ح ٥ ، و مناقب ابن الجوزي هذا ليس إلاّ تذكرة الخواص ، و الحديث يوجد بعينه في تذكرة الخواص : ١٢٧ .

( ٣ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٠ و شرح ابن ميثم ٢ : ١٩٥ مثل المصرية أيضا .

( ٤ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٠ و شرح ابن ميثم ٢ : ١٩٥ مثل المصرية أيضا .

( ٥ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٦ : ٢١٦ ، و يأتي في العنوان ٣٠ من هذا الفصل تخريج حديث كعب بن عجرة من طرق اخرى .

٣٢٢

آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ١ .

و روى في الحسين بن نصر بأسناده عنه بأسناده عن بريدة الخزاعي ،

قال : قلنا : يا رسول اللّه قد علمنا كيف السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال :

قولوا : اللّهم اجعل صلاتك و رحمتك على محمّد و آل محمّد كما جعلتها على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ٢ .

و روى ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال : و من سرّ آل محمّد عليهم السلام في الصلاة على النبيّ و آله : اللّهم صلّ على محمّد و آل محمّد في الأوّلين ،

و صلّ على محمّد و آل محمّد في الاخرين ، و صلّ على محمّد و آل محمّد في الملأ الأعلى ، و صلّ على محمّد و آل محمّد في المرسلين . اللّهم اعط محمّدا الوسيلة و الشرف و الفضيلة ، و الدرجة الكبيرة . اللّهم إنّي آمنت بمحمّد صلى اللّه عليه و آله و لم أره ٣ .

قوله عليه السلام : « اللّهم داحي المدحوات » مأخوذ من قوله تعالى : و الأرض بعد ذلك دحاها ٤ ، و في ( النهاية ) في حديث عليّ عليه السلام : اللّهم داحي المدحوّات .

المدحوات : الأرضون ، و روي : المدحيات . يقال : دحى يدحو و يدحي : أي بسط ، و وسّع . و الدحو : رمي اللاّعب بالجوز و الحجر و غيره ، و منه حديث ابن المسيب : سئل عن الدّحو بالحجارة ، فقال : لا بأس به . أي :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١٤ : ٣٠٣ ، و صاحب مسند زيد فيه : ٤٢٩ أيضا ، و فرائد السمطين للجويني ١ : ٢٦ .

ح ٣ ، و ابن عدي و ابن مردويه عنهما الدر المنثور ٥ : ٢١٦ ، ٢١٧ ، و غيرهم عن عليّ عليه السلام .

( ٢ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٨ : ١٤٢ ، و أحمد أيضا في مسنده ٥ : ٣٥٣ ، و ابن منيع في مسنده عنه المطالب العالية ٣ : ٢٢٤ ح ٣٣٢٣ ، و عبد بن حميد و ابن مردويه عنهما الدر المنثور ٥ : ٢١٨ ، عن بريدة الخزاعي ، و في الباب عن أبي سعيد الخدري و أبي حميد الساعدي و أبي مسعود و غيرهم .

( ٣ ) ثواب الأعمال للصدوق : ١٨٧ ح ١ ضمن الحديث

( ٤ ) النازعات : ٣٠ .

٣٢٣

المراماة بها و المسابقة ١ .

و في ( الأساس ) خلق اللّه الأرض مجتمعة ، ثمّ دحاها ، أي : بسطها و مدّها و وسّعها كما يأخذ الخباز الفرزدقة فيدحوها . قال ابن الرومي :

يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر

ثم قال : و باضت النعامة في أدحيّها ، و هو مفرخها ، لأنها تدحوه أي :

تبسطه و توسعه ٢ .

« و داعم » أي : رافع .

« المسموكات » أي : المرتفعات ، و المراد بالمسموكات : السماوات ، كما أنّ المراد بالمدحوّات : الأرضون ، قال تعالى : أأنتم أشدّ خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها ٣ . و المراد بدعمها : رفعها بقوى هي كالعماد ، قال تعالى : . . . رفع السماوات بغير عمد ترونها . . . ٤ .

« و جابل » أي : خالق . « القلوب على فطرتها » أي : خلقتها .

« شقيّها و سعيدها » و نفس و ما سوّاها فألهمها فجورها و تقواها ٥ .

زاد الحسن بن عرفة في روايته على شقيّها و سعيدها : « و غويّها و رشيدها » ٦ .

« اجعل شرائف صلواتك » أي : عواليها .

« و نوامي بركاتك » أي : متزايداتها ، قال النابغة في المنذر بن المنذر بن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النهاية لابن الأثير ٢ : ١٠٦ مادة ( دحو ) ، و النقل بالمعنى .

( ٢ ) أساس البلاغة للزمخشري ١٢٧ مادة ( دحو ) .

( ٣ ) النازعات : ٢٧ ٢٨ .

( ٤ ) الرعد : ٢ .

( ٥ ) الشمس : ٧ ٨ .

( ٦ ) انظر بحار الأنوار ٧٧ : ٢٩٧ ، و تذكرة الخواص : ١٢٧ .

٣٢٤

ماء السماء :

إلى صعب المقادة منذريّ

نماه في فروع المجد نام

١ « على محمّد عبدك » سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ٢ ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ٣ .

« و رسولك » و اللّه يعلم إنّك لرسوله ٤ .

« الخاتم لما سبق » من الأنبياء عليهم السلام .

« و الفاتح لما انغلق » من البلايا ، قال تعالى : و يحلّ لهم الطيّبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم ٥ .

« و المعلن الحقّ بالحقّ » زاد في رواية الحسن بن عرفة « الناطق بالصدق » ٦ .

« و الدافع جيشات الأباطيل » التي حصلت من الاجاهلية .

« و الدامغ » دمغ ، أي : شجّ حتّى بلغت الشجّة الدماغ .

« صولات الأضاليل » و في رواية ابن عرفة : « هيشات الأضاليل » ٧ . هاش هيشا ، أي : تحرّك و ماج ، و هو أقرب لفظا ، في الخبر : اختار اللّه تعالى من الأنبياء أربعة للسيف : إبراهيم ، و داود ، و موسى ، و محمّد عليهم السلام .

« كما حمّل » الرسالة .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أساس البلاغة : ٤٧٤ مادة ( نما ) .

( ٢ ) الاسراء : ١ .

( ٣ ) النجم : ١٠ .

( ٤ ) المنافقون : ١ .

( ٥ ) الأعراف : ١٥٧ .

( ٦ ) انظر بحار الأنوار ٧٧ : ٢٩٧ ، و تذكرة الخواص : ١٢٧ .

( ٧ ) انظر بحار الأنوار ٧٧ : ٢٩٧ ، و تذكرة الخواص : ١٢٧ .

٣٢٥

« فاضطلع » أي : قوي على حمله .

« قائما بأمرك » و مجريا له .

« مستوفزا » قال الجوهري : الوفز : العجلة ، و استوفز في قعدته : إذا قعد قعودا منتصبا غير مطمئن ١ .

« في مرضاتك » أي : رضاك .

« غير ناكل » أي : غير ممتنع .

« عن قدم » أي : إقدام ، قال الجوهري : مضى قدما ، بعضم الدّال : لم يعرّج ،

و لم ينثن ٢ .

« و لا واه » من : و هي السقاء إذا تخرّق و انشقّ .

« في عزم » و كيف يكون واهيا في عزم و هو أشرف أولي العزم من الرسل ، و طلب منه قريش أن يصرف عن عزمه ، و يملّكوه عليهم ، فقال : لو قدروا أن يجعلوا الشمس في يميني و القمر في يساري ما صرفت عن عزمي .

« واعيا » أي : مستمعا ، و الأصل في الوعي جعل الأذن كالوعاء للمسموع .

« لوحيك » عاملا به .

« حافظا على عهدك » لا كادم عليه السلام ، حيث قال تعالى فيه : و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما ٣ .

« ماضيا على نفاذ أمرك » حتّى قال : أوّل ربا أضعه من ربا الجاهلية ربا عمّي العباس ، و أوّل دم أبطله دم ابن عمّي ربيعة ٤ .

و لمّا استشفع قريش إليه في ترك قطع يد مخزومية سرقت بأسامة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة للجوهري ٢ : ٨٩٨ مادة ( و فز ) .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٥ : ٢٠٠٧ مادة ( قدم ) .

( ٣ ) طه : ١١٥ .

( ٤ ) هذه قطعة من خطبة النبي صلى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع ، مرّ تخريجه في العنوان ٢٥ من هذا الفصل .

٣٢٦

لكونه حبّه ، قال له : أتشفع في حدّ من حدود اللّه ؟ لا شفاعة في حدّ ١ .

قوله عليه السلام فيهما : « حتّى أورى » من : أوريت الزند : أخرجت ناره .

قوله في الأوّل : « قبس القابس » ، و في الثاني : « قبسا لقابس » في ( النّهاية ) :

القبس : الشعلة من النار ، و القابس : طالب النار ، و منه حديث عليّ عليه السلام : حتّى أورى قبسا لقابس . أي : أظهر نورا من الحقّ لطالبه ٢ .

قوله عليه السلام في الأوّل : « و أضاء الطريق للخابط » في ( النهاية ) : الخابط الّذي يمشي في الليل بلا مصباح فيتحيّر و يضلّ ، و ربما تردّي في بئر ، أو سقط على سبع ٣ .

و في الثاني : « و أنار علما لحابس » قال ابن أبي الحديد : يعني نصب النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمن قد حبس ناقته ضلالا ، فهو يخبط لا يدري كيف يهتدي المنهج علما يهتدي به ٤ .

قلت : لم يقل أحد : إنّ معنى الحابس ما قال ، و الصواب : أنّ الحابس بمعنى الراجل الّذي تخلّف عن الركب فتحيّر ، ففي ( النهاية ) في حديث الفتح : أنّه بعث أبا عبيدة على الحبس : هم الرجّالة ، سمّوا بذلك لتحبّسهم عن الركبان ،

و تأخّرهم ، واحدهم حبيس ، فعيل ، بمعنى مفعول ، أو بمعنى فاعل ، كأنّه يروى :

الحبّس ، بتشديد الباء و فتحها ، فان صحّت الرواية ، فلا يكون واحدها إلاّ حابسا كشاهد و شهّد ٥ .

و في الأوّل : « و هديت به القلوب بعد خوضات الفتن » هكذا في ( المصرية ) .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه مسلم بثلاث طرق في صحيحه ٣ : ١٣١٥ ح ٨ ١٠ و غيره ، مرّ تخريجه في العنوان ٢ من هذا الفصل .

( ٢ ) النهاية لابن الأثير ٤ : ٤ مادة ( قبس ) ، و النقل بتقديم و تأخير .

( ٣ ) النهاية لابن الأثير ٢ : ٨ مادة ( خبط ) ، و لكنّه قاله في تفسير كلمة ( خبّاط ) بصيغة المبالغة .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٢٠ .

( ٥ ) النهاية لابن الأثير ١ : ٣٢٩ مادة ( حبس ) .

٣٢٧

و فيها سقط ، ففي ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) : بعد خوضات الفتن و الاثام : « كانوا يئدون البنات ، و كان شغلهم المحاربات و النهبات و الزنا و القمار و شرب المسكرات » .

« و أقام موضحات الأعلام » في كتابة الّذي جاء به من عند اللّه .

« و نيّرات الأحكام » في ما أتى به من السن ، و في باب صيام ثلاثة أيّام ( المقنعة ) روى عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : عرضت عليّ أعمال أمّتي فوجدت في أكثرها خللا و نقصانا ، فجعلت في كلّ فريضة مثليها نافلة ، ليكون من أتى بذلك قد حصلت له الفريضة ، لأنّ اللّه تعالى يستحيي أن يعمل له العبد ، فلا يقبل منه الثلث ، ففرض اللّه تعالى الصلاة في كلّ يوم و ليلة سبع عشرة ركعة ، و سنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أربعا و ثلاثين ركعة ، و فرض اللّه صيام شهر رمضان في كلّ سنة ،

و سنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله صيام ستّين يوما في السنة . . . ١ و مراده من صوم ستّين : صوم شعبان ، و صيام ثلاثة في كلّ عشرة أشهر أخرى .

قوله عليه السلام فيهما : « فهو أمينك المأمون » قال تعالى فيه : و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ٢ ، كان صلى اللّه عليه و آله مشتهرا بمحمّد الأمين ، و لمّا تشاحّت قريش في وضع الحجر عند بنائهم البيت ، و كان عبد الدار ، و عدي من قريش ملؤوا جفنة دما و أدخلوا أيديهم في ذلك الدم و تعاقدوا على الموت فسمّوا : لعقة الدم ، و مكثورا أربع ليال على ذلك في التصدّي لوضع الحجر ،

فأصلح بينهم أبو أمية بن المغيرة بحكميّة أوّل داخل ، فكان النبيّ أول داخل ، فلمّا رأوه قالوا : قد رضينا بك يا محمّد الأمين . فأمر بثوب فبسط ، و وضع

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المقنعة للمفيد : ٥٩ .

( ٢ ) النجم : ٣ ٤ .

٣٢٨

الحجر ، ثمّ أمر كلّ فخذ أن يأخذ جانبا ، فرفعوه ، و أخذه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و وضعه ١ .

قوله عليه السّلام في الأوّل : « و خازن علمك المخزون » و عن الصادق عليه السّلام : من مخزون علم اللّه الاتمام في أربعة مواطن : حرم اللّه ، و حرم رسوله ، و حرم أمير المؤمنين عليه السلام ، و حرم الحسين بن علي عليه السلام ٢ .

قوله عليه السلام فيهما : « و شهيدك يوم الدين » أي : يوم القيامة و يوم نبعث في كلّ أمّة شهيدا ٣ ، و جئنا بك على هؤلاء شهيدا ٤ .

و في الأوّل : « و بعيثك بالحقّ » ، و في الثاني : « و بعيثك نعمة » قال الصادق عليه السلام في قوله تعالى : و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ٥ برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنقذوا ٦ .

و في الأوّل : « و رسولك إلى الخلق » ، و في الثاني : « و رسولك بالحقّ رحمة » و ما أرسلناك إلاّ كافّة للناس بشيرا و نذير ٧ . و ما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين ٨ .

و في الأوّل : « اللّهم افسح » أي : أوسع .

« له مفسحا في ظلّك » و المراد من ظلّه : لطفه بعباده .

و في الثاني : « اللّهم اقسم له مقسما من عدلك » الّذي لا تضيع أجر عامل لك

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سيرة ابن هشام ١ : ١٨٢ ، و الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ٩٤ ، و تاريخ الطبري ٢ : ٤١ و غيرهم .

( ٢ ) التهذيب للطوسي ٥ : ٣٤٠ ح ١٤٠ ، و الاستبصار ٢ : ٣٣ ح ١ ، و الخصال للصدوق : ٢٥٢ ح ١٢٣ ، و كامل الزيارات لابن قولويه : ٢٤٩ ح ٤ ، ٥ بروايتين .

( ٣ ) النحل : ٨٤ .

( ٤ ) النساء : ٤١ .

( ٥ ) آل عمران : ١٠٣ .

( ٦ ) تفسير العياشي ١ : ١٩٤ ح ١٢٤ ، ١٢٦ بطريقين .

( ٧ ) سبأ : ٢٨ .

( ٨ ) الأنبياء : ١٠٧ .

٣٢٩

و الضحى و الليل إذا سجى ما ودّعك ربّك و ما قلى و للآخرة خير لك من الأولى و لسوف يعطيك ربّك فترضى ١ .

و قوله عليه السّلام فيهما : « و اجزه مضاعفات الخير من فضلك » إنّا أعطيناك الكوثر . فصلّ لربّك و انحر . إنّ شانئك هو الأبتر ٢ .

فيهما : « اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه » هو الّذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون ٣ .

و روى عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّما مثلي و مثل الأنبياء قبلي كرجل بني دارا فأكملها و أحسنها إلاّ موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلون و يعجبون بها ،

و يقولون : هلاّ وضعت هذه اللبنة . فأنا اللبنة ، و أنا خاتم النبييّن ٤ .

في الأوّل : « و أكرم لديك منزلته » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( منزله ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٥ .

و في الثاني : « و أكرم لديك منزلته » قال الجوهري : النزل : ما يهيّأ للنزيل ٦ .

« و شرّف عندك منزلته » هكذا في ( المصرية ) ٧ ، و الصواب : ( منزله ) ،

و في الدعاء : « وابعثه المقام المحمود » ٨ ، و عنه صلى اللّه عليه و آله : لواء الحمد بيدي » ٩ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الضحى : ١ ٥ .

( ٢ ) الكوثر : ١ ٣ .

( ٣ ) الصف : ٩ .

( ٤ ) صحيح مسلم ٤ : ١٧٩٠ ح ٢٠ ٢٣ ، و سنن الترمذي ٥ : ٥٨٦ ح ٣٦١٣ ، و غيرهما .

( ٥ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥١ و شرح ابن ميثم ٢ : ١٩٦ « منزلته » أيضا .

( ٦ ) صحاح اللغة للجوهري ٥ : ١٨٢٨ مادة ( نزل ) .

( ٧ ) و كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢١٩ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٣٣ كما في المصرية .

( ٨ ) نقله في ضمن زيارة ابن طاووس في جمال الأسبوع : ٢٩ بلفظ : « و ابعثه مقاما محمودا » .

( ٩ ) أخرجه الفرات الكوفي في تفسيره : ٢٠٦ ، و الترمذي بطريقين في سننه ٥ : ٥٨٦ ح ٣٦١٣ ، و غيرهما كثيرا لكن في الباب أحاديث قول علي : إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله صاحب لواء الحمد ، و حامله علي عليه السّلام . جمع بعض طرقه المجلسي في البحار ٨ : ١ الباب ١٨ .

٣٣٠

يعني : في القيامة .

و في الأوّل : « و أتمم له نوره » الأصل فيه قوله تعالى : يوم لا يخزي اللّه النبيّ و الّذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا إنّك على كلّ شي‏ء قدير ١ .

« و اجزه من ابتعاثك له » بالرسالة .

« مقبول الشهادة » أي : بجعله مقبول الشهادة .

« و مرضي المقالة » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( مرضيّ المقالة ) بدون واو ، كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ٢ .

« ذا منطق عدل و خطّة فصل » عن غيره ، يقال : هذه خطّة بني فلان ، إذا كانت محدودة ، و المراد : اجعل له امتيازا عن باقي الأنبياء ، عن الكاظم عليه السّلام كان ليهودي دنانير على النبيّ صلى اللّه عليه و آله فتقاضاه ، فقال له : ما عندي ما أعطيك . فقال :

إنّي لا أفارقك حتّى تقضيني . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إذن أجلس معك . فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر و العصر ، و المغرب و العشاء الآخرة ،

و الغداة ، و كان أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله يتهدّدونه و يتوعّدونه ، فنظر اليهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال : ما الّذي تصنعون به ؟ فقالوا : يهودي يحبسك . فقال :

لم يبعثني ربّي بأن أظلم معاهدا و لا غيره . فلمّا علا النهار ، قال اليهودي :

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، و أنّك رسوله ، و شطر مالي في سبيل اللّه ، ما فعلت الّذي فعلت إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة ، فإنّي قرأت فيها : محمّد بن عبد اللّه مولده بمكّة ، و مهاجره بطيبة ، ليس بفظّ و لا غليظ ، و لا صخّاب ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) التحريم : ٨ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥١ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ١٩٦ يوجد الواو أيضا .

٣٣١

و لا متزيّن بالفحش و قول الخنا ١ .

« اللّهم اجمع بيننا و بينه » في الآخرة .

« في برد العيش و قرار النعمة » بلا زوال .

« و منى الشهوات » المنى : جمع المنية .

« و أهواء اللذّات » و فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين . . . ٢ .

« و رخاء الدعة » أي : الراحة جنّات عدن يدخلونها يحلّون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير . و قالوا الحمد للّه الذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور . الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصب و لا يمسّنا فيها لغوب ٣ .

« و منتهى الطّمأنينة » بلا اضطراب قلب ، كما يحصل للناس في هذا العالم .

« و تحف الكرامة » منه تعالى للمقرّبين منه ، و عن الرضا عليه السّلام عن آبائه :

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام : إنّي سألت ربّي فيك خمس خصال فأعطاني ، أمّا أوّلهنّ : فسألت ربّي أن تنشقّ عني الأرض و أنفض التراب عن رأسي و أنت معي ، فأعطاني ، و أمّا الثانية : فسألت ربّي أن يوقفني عند كفّة الميزان و أنت معي ، فأعطاني ، و أمّا الثالثة : فسألت ربّي أن يجعلك حامل اللواء ، و هو لواء اللّه الأكبر ، تحته المفلحون الفائزون في الجنّة ، فأعطاني ، و أمّا الرابعة : فسألت ربّي أن تسقي أمّتي من حوضي ، فأعطاني ، و أمّا الخامسة : فسألت ربّي أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنّة ، فأعطاني ٤ ربي ، و الحمد للّه الّذي منّ عليّ بذلك .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أمالي الصدوق : ٣٧٦ ح ٦ المجلس ٧١ عن الكاظم عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الزخرف : ٧١ .

( ٣ ) فاطر : ٣٣ ٣٥ .

( ٤ ) أخرجه صاحب صحيفة الرضا عليه السّلام فيها : ٤٨ ح ٣٣ ، و الصدوق بطريقين في الخصال : ٣١٤ ح ٩٣ ، ٩٤ ، و الخوارزمي في مناقبه : ٢٠٨ ، و الجويني في فرائط السمطين ١ : ١٠٥ ح ٧٥ ، و له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري .

٣٣٢

و رواه الخطيب في [ أحمد بن غالب ] مع اختلاف ، و في خبره : و أعطاني أنّك وليّ المؤمنين من بعدي ١ .

قول المصنّف في الثاني : « منها في ذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله » هكذا في ( ابن أبي الحديد ) ٢ ، و لكن في ( ابن ميثم ) ٣ : « الرسول صلى اللّه عليه و آله » .

و قوله عليه السّلام : « و آته » أي : أعطه .

« الوسيلة » و في خبر : الوسيلة : درجته صلى اللّه عليه و آله في الجنّة ، و هي ألف مرقاة ٤ . و يأتي آخر .

« و أعطه السّناء » أي : الضياء .

« و الفضيلة » و في خطبة الوسيلة من خطبه عليه السّلام في غير النهج : أيّها الناس إنّ اللّه جلّ و عزّ و عد نبيّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله الوسيلة ، و وعده الحقّ و لن يخلف اللّه وعده ألا و إنّ الوسيلة على درج الجنّة ، و ذروة ذوائب الزلفة ، و نهاية غاية الأمنيّة ، لها ألف مرقاة ، ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام ، و هو ما بين مرقاة درّة إلى مرقاة جوهرة إلى مرقاة زبرجدة إلى مرقاة لؤلؤة إلى مرقاة ياقوتة إلى مرقاة زمرّدة إلى مرقاة مرجانة إلى مرقاة كافور إلى مرقاة عنبر إلى مرقاة يلنجوج إلى مرقاة ذهب إلى مرقاة غمام إلى مرقاة هواء إلى مرقاة نور ، قد أنافت على كلّ الجنان . . . ٥.

« و احشرنا في زمرته » و في خطبة الوسيلة بعد ما مرّة : و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٤ : ٣٣٩ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢١٩ .

( ٣ ) لفظ ابن ميثم في شرحه ٣ : ٣٣ « النبيّ صلى اللّه عليه و آله » أيضا .

( ٤ ) تفسير القمي ٢ : ٣٢٤ ، و البصائر للصفار : ٤٣٦ ح ١١ ، و معاني الأخبار للصفار : ١١٦ ح ١ ، و أماليه : ١٠٢ ح ٤ المجلس ٢٤ في صدر الحديث .

( ٥ ) نقله ضمن خطبة الوسيلة الكليني في الكافي ٨ : ٢٤ ، و لكن لا يوجد في رواية تحف العقول المختصرة فيه : ٩٩ .

٣٣٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

يومئذ قاعد عليها مرتد بريطتين : ريطة من رحمة اللّه ، و ريطة من نور اللّه ، عليه تاج النبوّة ، و إكليل الرسالة ، قد أشرق بنوره الموقف ، و أنا يومئذ على الدرجة الرفيعة ، و هي دون درجته ، و عليّ ريطتان : ريطة من أرجوان النور ، و ريطة من كافور ، و الرسل و الأنبياء قد وقفوا على المراقي ، و أعلام الأزمنة ، و حجج الدهور عن أيماننا ، و قد تجلّلهم حلل النور و الكرامة ، لا يرانا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلاّ بهت بأنوارنا ، و عجب من ضيائنا و جلالتنا ١ .

« غير خزايا » أي : غير ذليلين موهونين .

« و لا نادمين » لوقوع تفريط منّا في الدّنيا .

« و لا ناكبين » أي : و لا عادلين عن الطريق .

« و لا ناكثين » أي : و لا ناقضين لعهده .

« و لا ضالّين » عن سبيله .

« و لا مضلّين » هكذا في ( المصرية ) ، و الكلمة زائدة لخلوّ ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّيّة ) ٢ عنها .

« و لا مفتونين » في الدين .

« قال الشريف » هكذا في ( المصرية ) ، و الجملة زائدة ليست من النهج ،

لخلوّ ( الخطّيّة ) عنها ، و إنّما قال : ابن أبي الحديد ٣ عن نفسه في الشّرح : « قال الرّضي » ، كما عن ( ابن ميثم ) ٤ قال : « قال السيّد » .

« و قد مضى هذا الكلام في ما تقدّم » على ما عرفت من موضعه .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقله في ضمن خطبة الوسيلة الكليني في الكافي ٨ : ٢٥ ، لكن لم يوجد في رواية تحف العقول المختصرة فيه : ٩٩ .

( ٢ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢١٩ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٣٣ توجد العبارة أيضا .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢١٩ .

( ٤ ) في شرح ابن ميثم ٣ : ٣٣ « قال الشريف » .

٣٣٤

« إلاّ أنّنا » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( إلاّ أنّا ) كما في الثلاثة ١ .

« كرّرناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف » قد عرفت مجتمعهما و مختلفهما .

هذا ، و له عليه السّلام دعاء آخر في الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله نقله البحراني في ( الصحيفة العلوية ) ، و هو : الحمد للّه ربّ العالمين ، و صلّى اللّه على طيّب المرسلين محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ، المنتجب الفاتق الراتق .

اللّهم فخصّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله بالذكر المحمود ، و المنهل المشهود ،

و الحوض المورود .

اللّهم فآت محمّدا صلى اللّه عليه و آله الوسيلة و الرفعة و الفضيلة ، و في المصطفين محبّته ، و في العليين درجته ، و في المقرّبين كرامته .

اللّهم أعط محمّدا صلواتك عليه و آله من كلّ كرامة أفضل تلك الكرامة ،

و من كلّ نعيم أوسع ذلك النعيم ، و من كلّ عطاء أجزل ذلك العطاء ، و من كلّ يسر أنصر ذلك اليسر ، و من كلّ قسم أو فر ذلك القسم ، حتّى لا يكون أحد من خلقك أقرب منه مجلسا ، و لا أرفع منه عندك ذكرا و منزلة ، و لا أعظم عليك حقّا ،

و لا أقرب وسيلة من محمّد صلواتك عليه و آله ، إمام الخير و قائده و الداعي إليه ، و البركة على جميع العباد و البلاد ، و رحمة للعالمين .

اللّهم اجمع بيننا و بين محمّد و آل محمّد صلواتك عليه و آله في برد العيش .

و برد الروح ، و قرار النعمة ، و شهوة الأنفس ، و منى الشهوات ، و نعم اللّذات ، و رخاء الفضيلة ، و شهود الطمأنينة ، و سؤدد الكرامة ، و قوّة العين ،

و نضرة النعيم ، و تمام النعمة ، و بهجة لا تشبه بهجات الدّنيا ، نشهد أنّه قد بلّغ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٢٠ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٣٣ « أننّا » أيضا .

٣٣٥

الرسالة و أدّى الأمانة و النصيحة ، و اجتهد للأمّة و أوذي في جنبك ، و اجتهد و جاهد في سبيلك ، و عبدك حتّى أتاه اليقين ، فصلّى اللّه عليه و آله الطيّبين .

اللّهم ربّ البلد الحرام ، و ربّ الركن و المقام ، و ربّ المشعر الحرام ، و ربّ الحلّ و الحرام بلّغ روح محمّد صلى اللّه عليه و آله عنّا السّلام .

الّلهم صلّ على ملائكتك المقرّبين ، و على أنبيائك و رسلك أجمعين ،

و صلّ على الحفظة الكرام الكاتبين ، و على أهل طاعتك من أهل السماوات السبع ، و أهل الأرضين السبع من المؤمنين أجمعين ١ .

هذا ، و في ( المناقب ) عن كتاب ( سحر البلاغة ) في الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله :

صلّى اللّه على خير مبعوث ، و أفضل وارث و موروث ، و خير مولود دعا إلى خير معبود ، بشير الرحمة و الثواب ، و مدبّر السطوة و العقاب ، ناسخ كلّ ملّة مشروعة ، و فاسخ كلّ نحلة متبوعة ، حاد بأمّته عن الظلمات إلى النور ،

و أو في بهم إلى الظلّ بعد الحرور ، قد أفرد بالزعامة وحده ، و ختم بأن لا نبيّ بعده أرسله اللّه قمرا منيرا ، و قدرا مبيرا ٢ .

٣٠

الحكمة ( ٣٦١ ) و قال عليه السّلام :

إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ فَابْدَأْ بِمَسْأَلَةِ اَلصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِهِ ص ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ فَإِنَّ اَللَّهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ حَاجَتَيْنِ فَيَقْضِيَ إِحْدَاهُمَا وَ يَمْنَعَ اَلْأُخْرَى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقله البحراني السماهيجي في الصحيفة العلوية : ٩٥ ، الدعاء ١١ ، و أخرجه أيضا الطوسي في التهذيب ٣ : ٨٢ ح ١١ ، و رواه المجلسي عن مجلد عتيق في بحار الأنوار ٩٨ : ١٢٧ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٥٨ .

٣٣٦

« إذا كانت لك إلى اللّه سبحانه حاجة ، فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله صلى اللّه عليه و آله » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( على النبي صلى اللّه عليه و آله ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّيّة ) ١ ، قال ابن أبي الحديد : هذا الكلام على حسب الظاهر الّذي يتعارفه الناس بينهم ، و هو عليه السّلام يسلك هذا المسلك كثيرا ، و يخاطب الناس على قدر عقولهم ، و أمّا باطن الأمر فانّ اللّه تعالى لا يصلّي على النبيّ صلى اللّه عليه و آله لأجل دعائنا إيّاه أن يصلّي عليه ، لأنّ معنى قولنا : « اللّهم صلّ على محمّد » : أكرمه و ارفع درجته . و اللّه سبحانه قد قضى له بالإكرام التّام ، و رفعة الدرجة من دون دعائنا ، و إنّما تعبّدنا نحن بأن نصلّي عليه ، لأنّ لنا ثوابا في ذلك ، لا لأنّ إكرام اللّه تعالى له أمر يستعقبه و يستتبعه دعاؤنا ٢ .

قلت : فعلى ما ذكره يكون دعاؤنا للنبي صلى اللّه عليه و آله لغوا و عبثا ، من حيث الدعاء نظير أن نقول : اللّهم اجعله نبيّا . و حصول ثواب لنا لا يخرجه عن اللغوية في القول ، و ما ذكره من أنّه تعالى قضى له بالإكرام التام ، و رفعة الدرجة مسلّم ،

لكن فوق كلّ إكرام إكرام ، و كلّ درجة درجة .

و في دعاء عرفة للسجّاد عليه السّلام : ربّ صلّ على محمّد و آل محمّد المنتجب المصطفى ، المكرّم المقرّب أفضل صلواتك ، و بارك عليه أتمّ بركاتك ، و ترحّم عليه أمتع رحماتك .

ربّ صلّ على محمّد و آله صلاة زاكية لا تكون صلاة أزكى منها ، و صلّ عليه صلاة نامية لا تكون صلاة أنمى منها ، و صلّ عليه صلاة راضية لا تكون صلاة فوقها .

رب صلّ على محمّد و آله صلاة ترضيه ، و تزيد على رضاه ، و صلّ عليه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) في شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٤٠٢ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٤١٨ « رسوله » أيضا .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٤٠٢ .

٣٣٧

صلاة ترضيك و تزيد على رضاك له ، و صلّ عليه صلاة لا ترضى له إلاّ بها ،

و لا ترى غيره لها أهلا .

ربّ صلّ على محمّد و آله صلاة تجاوز رضوانك ، و يتّصل اتّصالها ببقائك ، و لا تنفد كما لا تنفد كلماتك .

ربّ صلّ على محمّد و آله صلاة تنتظم صلوات ملائكتك و أنبيائك و رسلك و أهل طاعتك ، و تشتمل على صلوات عبادك ، من جنّك و إنسك و أهل إجابتك ، و تجتمع على صلوات كلّ من ذرأت و برأت من أصناف خلقك .

ربّ صلّ عليه و آله صلاة تحيط بكلّ صلاة سالفة و مستأنفة ، و صل عليه و على آله صلاة مرضيّة لك و لمن دونك ، و تنشي‏ء مع ذلك صلوات تضاعف معها تلك الصلوات عندها ، و تزيدها على كرور الأيّام زيادة في تضاعيف لا يعدّها غيرك ١ .

فيلزم على ما قال أن يكون كلّ ذلك ألفاظا لا معاني تحتها .

و تحقيق الجواب : أنّ كلّ شي‏ء وقع و يقع في العالم كان قدرا من اللّه تعالى ، و لكن مع سببه ، و صلواتنا و أدعيتنا من أسباب إكرام اللّه التامّ له صلى اللّه عليه و آله .

و يشهد لما قلنا قول السجّاد عليه السّلام في الصلاة عليه على ما في الصحيفة الثالثة : فارفعه بسلامنا إلى حيث قدّرت في سابق علمك أن تبلّغه إيّاه و بصلاتنا عليه ٢ .

و أمّا ما روى ( مصباح الشيخ ) في الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله بعد عصر يوم الجمعة : « اللّهم إنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله كما وصفته في كتابك حيث تقول : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الصحيفة السجادية : ٢٥١ الدعاء ٤٧ .

( ٢ ) نقله عن الصحيفة الثالثة السيد الأمين من الصحيفة الخامسة : ٣٣ الدعاء ٦ .

٣٣٨

رحيم ١ فاشهد أنّه كذلك ، و أنّك لم تأمر بالصلاة عليه إلاّ بعد أن صلّيت عليه أنت و ملائكتك ، و أنزلت في محكم كتابك : إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما ٢ لا لحاجة إلى صلاة أحد من المخلوقين بعد صلاتك عليه ، و لا إلى تزكيتهم إيّاه بعد تزكيتك ، بل الخلق جميعا هم المحتاجون إلى ذلك ، لأنّك جعلته بابك الّذي لا تقبل لمن أتاك إلاّ منه ،

و جعلت الصلاة عليه قربة منك و وسيلة إليك و زلفة عندك ، و دللت المؤمنين عليه ، و أمرتهم بالصلاة عليه ليزدادوا بها أثرة لديك و كرامة عليك ، و وكّلت بالمصلّين عليه ملائكتك يصلّون عليه ، و يبلّغونه صلاتهم و تسليمهم . . . » ٣ فلا ينافي ما قلنا ، فإنّه لا يدلّ على أكثر من أنّه إذا لم نصلّ عليه لم يضرّه ، لكفاية صلوات اللّه تعالى عليه برفع درجته ، و إنّما حرمنا نحن من أجر كثير .

ثمّ ظاهر الأخبار وجوب الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله عند ذكر اسمه أو سماعه كوجوبها في الصلاة ، فعن الصادق عليه السّلام : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ دخل النار ، فأبعده اللّه ٤ . و قال صلى اللّه عليه و آله : من ذكرت عنده فنسي الصلاة عليّ خطى‏ء به طريق الجنّة ٥ .

و ورد في ثواب الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله شي‏ء كثير من العامّة ، و الخاصّة ،

روى الطبري في ( ذيله ) عن عمير الأنصاري ، قال : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : من صلّى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ١٢٨ .

( ٢ ) الأحزاب : ٥٦ .

( ٣ ) مصباح المتهجد للطوسي : ٣٤٥ عن الصادق عليه السّلام .

( ٤ ) أخرجهما معا الكليني في الكافي ٢ : ٤٩٥ ح ١٩ ، و الصدوق في عقاب الأعمال : ٢٤٦ ح ١ ، و أخرج الأول مستقلا الكليني في الكافي ٤ : ٦٧ ح ٥ ، و الصدوق في الفقيه ٢ : ٥٩ ح ٢ ، و أماليه : ٥٦ ح ٢ المجلس ١٤ ، و الطوسي في التهذيب ٤ : ١٩٢ ح ٤ ، و الثاني مستقلا الكليني في الكافي ٢ : ٤٩٥ ح ٤٠ ، و ابن الأشعث في الأشعثيات : ٢١٥ ، و غيرهم .

( ٥ ) المصدر نفسه .

٣٣٩

عليّ من أمّتي صلاة مخلصا بها من نفسه صلّى اللّه عليه بها عشر صلوات ،

و رفعه بها عشر درجات ، و كتب له بها عشر حسنات ، و محا عنه بها عشر سيّئات ١ .

و عنهم عليهم السّلام : ما في الميزان شي‏ء أثقل من الصلاة على محمّد و آل محمّد ، و إنّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به ، فيخرج صلى اللّه عليه و آله الصلاة عليه ، فيضعها في ميزانه ، فيرجح به ٢ .

و الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله في الجمعة آكد ، و في ( سنن أبي داود ) عن أوس بن أوس عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه ، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ . فقالوا : يا رسول اللّه و كيف تعرض صلاتنا عليك ، و قد أرمت ( أي : بليت ) ؟ قال : إنّ اللّه حرّم على الأرض أجساد الأنبياء ٣ .

و يكفيه صلى اللّه عليه و آله جلالة قوله تعالى : إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما ٤ ، و عن أمير المؤمنين عليه السّلام : إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : إنّ الآية نزلت في الصلاة عليّ بعد قبض اللّه لي ٥ .

و الصّلاة عليه صلى اللّه عليه و آله وردت في الكتاب و على آله وردت في السنّة .

روى البخاري في صحيحه مسندا عن كعب بن عجرة ، و عن أبي سعيد الخدري ، و عن غيرهما ، قالوا : قال النبي صلى اللّه عليه و آله : قولوا : اللّهم صلّ على محمّد ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل للطبري : ٧٢ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٩٤ ح ١٥ ، عن الباقر أو الصادق عليهما السّلام .

( ٣ ) سنن أبي داود ٢ : ٨٨ ح ١٥٣١ ، و سنن النسائي ٣ : ٩١ ، و سنن ابن ماجة ١ : ٣٤٥ ح ١٠٨٥ ، و سنن الدارمي ١ : ٣٦٩ ، و مسند أحمد ٤ : ٨ و غيرها .

( ٤ ) الأحزاب : ٥٦ .

( ٥ ) الكافي للكليني ١ : ٤٥١ ح ٣٨ .

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

كلّ مؤمن ، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهدا ، فهم في الحقيقة أعداء الإيمان والحقّ ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضا حيث يقول :( وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (1) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ من هم المستثنون في هذه الآية؟

جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!

إلّا أنّه بملاحظة الآيات السابقة ، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم ، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنانة وبني خزيمة وأضرابهم.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة ، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين ، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.

وما قوله تعالى :( عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فلعل هذا التعبير يشير إلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة ، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة ، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفا بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام ، إلّا أن مشركي قريش نقضوا عهدهم ، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة ، أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين ، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.

__________________

(1) سورة البروج ، الآية 8.

٥٤١

ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة «حولي 48 ميلا» فقد عدّت المنطقة كلها جزءا من المسجد الحرام ، كما نقرأ عن ذلك في الآية (196) من سورة البقرة ، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول :( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره «أو دار أهله» أكثر من 48 ميلا عن مكّة.

فبناء على ذلك لا مانع أبدا من أن يطلق على الحديبية ، التي تبعد 15 ميلا عن مكّة ، تعبير : عند المسجد الحرام.

وأمّا قول بعضهم : إن الاستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش ، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترما ، فهذا القول يبدو بعيدا ، بل هو غير صحيحى ، لأنّه.

أوّلا : من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد ، فنقضهم مقطوع به ، ولا مراء فيه ، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد ، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذا؟!

ثانيا : إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة ، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة ، فبناء على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة ، لا يمكن أن تكون ناظرة إليهم.

2 ـ متى يجوز الغاء المعاهدة؟

كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة ، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة ، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّا مرارا ، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إلى الإسلام دون الالتفات إلى المعاهدة وجهوها. وهذا المقدار من عملهم كاف لإلغاء عهدهم.

* * *

٥٤٢

الآيات

( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) )

التّفسير

لم تخشون مقاتلة العدوّ؟!

إنّ أحد أساليب الفصاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية ، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير

٥٤٣

المحيط الإسلامي من الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها ، من المسائل ذات الأهميّة القصوى ، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة ـ في الآيات محل البحث ـ ويورد القرآن كذلك لطائف تخرج المطلب ـ عن صورة التكرار ، ولو التكرار المجازي.

فتقول الآية الأولى من هذا الآيات محل البحث :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) .

وتضيف معقبة( وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وكان التعبير في الآيات المتقدمة أنّهم إذا أدّوا وظيفتهم الإسلامية ، أي تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) أمّا التعبير في هذه الآية( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) أي لا فارق بينهم وبين أحد من المسلمين من حيث الاحترام والمحبّة ، كما لا فارق بين الإخوان.

وهذه التعابير تؤثر من الناحية النفسية في أفكار المشركين وعواطفهم لتقبل الإسلام ، إذ تقول في حقّهم تارة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) وتارة( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) إلخ

ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود ، فتقول الآية التالية :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ ) .

صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة ، إلّا أن هذه المعاهدة ـ بنقضها مرارا ، وكونها قابلة للنقض في المستقبل ـ لا اعتبار لها أصلا ولا قيمة لها.

وتعقّب الآية مضيفة( لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) .

وفي الآية الأخرى خطاب للمسلمين لإثارة هممهم ، وإبعاد روح الضعف والخوف والتردد عنهم في هذا الأمر الخطير ، إذ تقول الآية :( أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) .

فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم( وَهُمْ بَدَؤُكُمْ

٥٤٤

أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ؟

وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية ، منهم ، فإنّ هذه الخشية لا محل لها( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين ، إذ تقول( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

وليس ذلك فحسب ، بل ،( وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ) .

وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين ، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من( قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) هم جماعة المؤمنين من بني خزاعة ، وقد استغفلهم عبدة الأوثان من بني بكر فهجموا عليهم غدرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذا التعبير هم جماعة من أهل اليمن استجابوا لدعوة الإسلام ، ولما وصلوا مكّة عذّبوا وأوذوا من قبل عبدة الأصنام.

إلّا أنّه لا يبعد أن تشمل هذه العبارة جميع أولئك الذين تعرّضوا لأذى المشركين وعبدة الأصنام وتعذيبهم فكانت قلوبهم تغلي دما منهم.

أمّا الآية التالية فتضيف : إنّ في انتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سرورا للمؤمنين ، وإنّ الله يسدّدهم( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة السابقة( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) كما يحتمل أن تكون مستقلة عنها. وأن تكون الجملة السابقة إشارة إلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإسلام والنّبي الكريم ، شفيت بانتصار الإسلام.

وأمّا الجملة الثّانية( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) فهي إشارة أن أولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لا قوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين

٥٤٥

فأغاظوهم ، سيقّر الله عيونهم بهلاك المشركين( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

وتختتم الآية بالقول :( وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

كما تشير العبارة الأخيرة ضمنا إلى امكانية أن يلج بعضهم باب التوبة ، فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم ، فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك. كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإسلام ويشملهم توفيق الله ، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة.

وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرة ـ بصورة عامّة من قبيل الإخبار القراني بالمغيبات ، وهي من دلائل صدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا.

* * *

ملاحظات

1 ـ هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) من هم؟!

قال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى اليهود ، وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفرس والرّوم.

وقال بعضهم : هي إشارة إلى كفّار قريش.

وقال بعضهم : بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم.

إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ ـ بوضوح ـ على أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصمة ، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.

وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.

كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلى قريش ، لأنّ قريشا

٥٤٦

ورئيسها ـ أبا سفيان ـ أعلنوا إسلامهم ـ ظاهرا ـ في السنة الثامنة بعد فتح مكّة ، والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية ، لأنّ الآية ـ أو الآيات محل البحث ـ تتكلم عن مواجهة فعلية ، لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام ، بعيد غاية البعد ، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.

ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» وكلمة «عهد» يشيران إلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة ، لا إلى قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.

وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت على «النّاكثين» في «معركة الجمل» وأمثالها ، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب ، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.

والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإجابة ، هو : إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم ، وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة ، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) مع أنّهم قد نكثوها فعلا.

والجواب : إنّ المراد من هذه الجملة ـ المذكورة آنفا ـ أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان ، ولم يثوبوا إلى رشدهم ، فينبغي مقاتلتهم. ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمرّ هدايته إيانا.

٥٤٧

والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) جاءت في مقابل( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين ، فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله ، وإمّا أن يستمرا على طريقهم ونكث أيمانهم. ففي الصورة الأولى هم إخوانكم في الدين ، وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.

2 ـ ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول : قاتلوا الكفار ، بل تقول :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) وهي إشارة إلى أن (القاعدة الجماهيرية) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم ، فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم ، لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد ، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود ، أضف إلى ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين ، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين ، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.

والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش ، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر ، وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة ـ بحسب الظاهر ـ وكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين ، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.

واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا على قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار والفساد والظلم ، لا بدّ من مواجهة رؤوساء والأكابر وأئمّة المنحرفين ، وإلّا فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد ، فلاحظوا بدقة.

3 ـ إنّ التّعبير بـ( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) الوارد في الآيات المتقدمة ، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع ، وبيان أوثق العلائق العاطفية ، لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل

٥٤٨

المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.

إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها ، ووقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق ، وقد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال ، وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.

4 ـ يستفاد ـ إجمالا ـ من جملة «أتخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد ، إمّا لقوّة العدوّ وقدرته ، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.

فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف ، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان ونقض العهد ليست في محلها ، فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدأوكم أوّل مرّة!

5 ـ يبدو أنّ جملة( هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) إشارة إلى مسألة عزمهم على إخراج الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة (عند هجرته إلى المدينة) بادئ الأمر ، إلّا أن نياتهم تغيرت وتبدلت إلى الإقدام على قتله ، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله.

وعلى كل حال ، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم ، بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام ، حيث اشتركت قريش والقبائل الأخرى في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخرى.

6 ـ ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم ، وهذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز

٥٤٩

عملا ـ مثلا ـ فنمضي إلى بعض أصدقائنا ونقول له : نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك ، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر ، بل المراد أنّ الله منحك قدرة ونية طاهرة ، وبالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة.

* * *

٥٥٠

الآية

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) )

التّفسير

في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر ، حيث تحمّل الآية المسلمين مسئولية ذات عبء كبير ، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّا بادعائكم الإيمان فحسب ، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصا من أي نوع من أنواع النفاق.

فتقول الآية أوّلا :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) (1) .

و «الوليجة» مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول ، وتطلق الوليجة على من

__________________

(1) «أم» حرف عطف ويعطف بها جملة استفهامية على جملة استفهامية أخرى ، ولهذا فهي تعطي معنى الاستفهام ، غاية ما في الأمر أنّها تأتي بعد جملة استفهامية دائما ، وفي الآية محل البحث عطفت على الجملة «ألا تقاتلون» التي بدئت بها الآية (13).

٥٥١

يعتمد عليه في الأسرار ومعناها يشبه معنى البطانة تقريبا.

وفي الحقيقة فإنّ الجملة المتقدمة تنّبه المسلمين إلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإيمان فحسب ، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك ، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين :

الأوّل : الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.

الثاني : ترك أية علاقة أو أي تعاون مع المنافقين والأعداء.

فالأوّل لدفع العدو الخارجي ، والثّاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.

وجملة( لَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ) التي قد يلاحظ نظيرها في بعض آيات القرآن الأخر ، تعني أن أمركم لم يتحقق بعد ، وبتعبير آخر : إنّ نفي العلم هنا معناه نفي المعلوم ، ويستعمل مثل هذا التعبير في مواطن التأكيد. وإلّا فإنّ الله ـ طبقا للأدلة العقلية وصحيح آيات القرآن الكثيرة ـ كان عالما بكل شيء ، وسيبقى عالما بكل شيء.

وهذه الآية تشبه الآية الأولى من سورة العنكبوت ، إذ تقول :( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) .

وكما ذكرنا آنفا في تفسيرنا لسورة آل عمران أنّ اختبار الله لعباده ليس لكشف أمر مجهول عنده ، بل هو لتربيتهم ولأجل إنّما الاستعدادات وتجلّي الأسرار الداخلية في الناس.

وتختتم الآية بما يدلّ على الإخطار والتأكيد( وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرّية بين بعض الأفراد وبين المنافقين ، بل يعرف كل شيء جيدا وهو خبير بالأعمال كلها.

ويستفاد من سياق الآية أن بين المسلمين يؤمئذ من كان حديث العهد بالإسلام ولم يكن على استعداد للجهاد ، فيشمله هذا الكلام أمّا المجاهدون الصادقون فقد بيّنوا مواقفهم في سوح الجهاد مرارا.

* * *

٥٥٢

الآيتان

( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) )

التّفسير

من يعمر مساجد الله؟

من جملة المسائل التي يمكن أن تخالط أذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد ، هو : لم نبعد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج ، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام ، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله.

فالآيتان ـ محل البحث ـ تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس

٥٥٣

لها ، وتصرّح الآية الأولى منهما بالقول :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) .

وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وو أعمالهم ، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.

ثمّ تشير الآية إلى فلسفة هذا الحكم فتقول :( أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

ولذلك فهي لا تجديهم نفعا :( وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ) .

فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إلى ذلك ، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.

فالله طاهر منزّه ، وينبغي أن يكون بيته طاهرا منزّها كذلك ، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.

أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام ـ إكمالا للحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد ، فتقول ،( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

وهذا النص إشارة إلى الشرطين الأوّل والثّاني ، اللذين يمثلان الأساس العقائدي ، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإنسان أي عمل خالص نزيه ، بل لو كان عمله في الظاهر سليما فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.

ثمّ تشير الآية إلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول :( وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ) .

أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب ، بل تؤيده الأعمال الكريمة ، فعلاقة الإنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة ، وأن يؤدي صلاته بإخلاص ، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية ، فيؤدي الزكاة إليهم.

٥٥٤

وتشير الآية إلى الشرط الخامس والأخير فتقول :( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) .

فقلبه مليء بعشق الله ، ولا يحسّ إلّا بالمسؤولية في امتثال أمره ولا يرى لأحد من عبيده أثرا في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه ، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول :( فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

* * *

ملاحظات

1 ـ ما المراد من العمارة

هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه ، أو تعني الاجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!

اختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» في الآية ـ محل البحث ـ غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأمور وما شاكلّها جميعا. فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد ، وليس لهم أن يبنوا مسجدا ـ وما إلى ذلك ـ بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.

ويستفاد من الآية ـ ضمنا ـ أنّه لا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من المشركين ـ بل جميع الفرق غير الإسلامية ـ هدايا أو إعانات للمساجد وبنائها ، لأنّ الآية الأولى وإن كانت تتكلم على المشركين ، لكنّ الآية الثّانية بدأت بكلمة «إنما» لتدل على أن عمارة مساجد الله خاصّة بالمسلمين.

ومن هنا يتّضح أيضا أنّ متولي المساجد ومسئوليها ينبغي أن يكونوا من أنزه الناس ، ولا ينتخب لهذه المهمّة من لا حريجة له في الدين طمعا في ماله وثروته ، أو مقامه الاجتماعي كما هو الحال في كثير من البلاد ، إذ تولّى مساجدها

٥٥٥

من ليس لها أهلا.

بل يجب ابعاد جميع الأيدي الملوثة عن هذه الأماكن المقدسة.

ومنذ أن تدخل في أمور المساجد والمراكز الإسلامية أو أشرف عليها حكام الجور ، أو الأثرياء المذنبون ، فقدت تلك المساجد والمراكز الإسلامية «حيثيتها» ومكانتها ومسخت مناهجها البنّاءة ، ولذا فنحن نرى كثيرا من هذه المساجد على شاكلة مسجد ضرار.

2 ـ العمل الخالص ينبع من الإيمان فحسب

قد يتساءل بعضنا قائلا : ما يمنع أن نستعين بأموال غير المسلمين لبناء المساجد وعمارتها؟!

لكن من يسأل مثل هذا السؤال لم يلتفت إلى أنّ الإسلام يعد العمل الصالح ثمرة شجرة الإيمان في كل مكان ، فالعمل ثمرة نيّة الإنسان وعقيدته دائما وهو انعكاس لها ويتخذ شكلهما ولونهما دائما ، فالنيات غير الخالصة لا تنتج عملا خالصا.

3 ـ الحماة الشجعان

تدل عبارة( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) على أنّ عمارة المسجد المحافظة عليها لا تكون إلّا في ظل الشهامة والشجاعة ، فلا تكون هذه المراكز المقدسة مراكز لبناء شخصية الإنسان وذات منهج تربوي عال إلّا إذا كان بانوها وحماتها رجالا شجعانا لا يخشون أحدا سوى الله ، ولا يتأثرون بأي مقام ، ولا يطبقون منهجا غير المنهج الإلهي.

4 ـ هل المراد من الآية هو المسجد الحرام فحسب؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تختص بالمسجد الحرام ، مع أنّ

٥٥٦

ألفاظ الآية عامّة ، ولا دليل على هذا التخصيص ، وإن كان المسجد الحرام الذي هو أعظم المساجد الإسلامية في مقدمتها ، ويوم نزول الآية كان المسجد الحرام هو محل إشارة الآية ، إلّا أنّ ذلك لا يدلّ على تخصيص مفهوم الآية.

5 ـ أهمية بناء المساجد

وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد عن طرق أهل البيت وأهل السنة ، تدلّ على ما لهذا العمل من الشأن الكبير.

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة»(1) .

كما ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه»(2) .

إلّا أنّ ما هو أكثر أهمية هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية ، وبتعبير آخر ينبغي أن نهتم بعمارة شخصية الذين يرتادون المسجد وأهله وحفظته اهتمامنا بعمارة المسجد ذاته.

فالمسجد ينبغي أن يكون مركزا لكل تحرك إسلامي فاعل يؤدي إلى إيقاظ الناس ، وتطهير البيئة والمحيط ، وحثّ المسلمين للدفاع عن ميراث الإسلام.

وينبغي الالتفات إلى أن المسجد جدير بأن يكون مركزا للشباب المؤمن ، لا محلا للعجزة والكسالى والمقعدين ، فالمسجد مجال للنشاط الاجتماعي الفعال ، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.

* * *

__________________

(1) ورد هذا الحديث في كتاب وسائل الشيعة ، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد كما ورد عن ابن عباس في تفسير المنار ، ج 1 ، ص 213.

(2) كتاب المحاسن ، ص 57 حسب نقل كنز العرفان ، ج 1 ، ص 108.

٥٥٧

الآيات

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) )

سبب النّزول

هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات ـ محل البحث ـ منقولة في كتب أهل السنة والشيعة ، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.

يروي «أبو القاسم الحسكاني» عالم أهل السنة المعروف ، عن بريدة ، أن «شيبة» و «العباس» كان يفتخر كلّ منهما على صاحبه ، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال : فيم تتفاخران؟

فقال العباس : حبيت بما لم يحب به أحد وهو سقاية الحاج.

٥٥٨

فقال شيبة : إني أعمر المسجد الحرام ، وأنا سادن الكعبة.

فقال عليعليه‌السلام : على أنّي مستحي منكما ، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما. فقالا : وما ذاك؟!

فقال : جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فخرج العباس مغضبا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكيا عليّا فقال : ألا ترى ما يقول؟

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدعو لي عليّا فلمّا جاءه علي قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟ فقالعليه‌السلام : إذا كنت أغضبته ، فلما بيّنت من الحق ، فمن شاء فليرض بالقول الحق ومن شاء فليغضب.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : اتل هذه الآيات :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (1) .

وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة ، كتفسير الطبري والثعلبي ، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي ، ومعالم التنزيل للعلّامة البغوي ، والمناقب لابن المغازلي ، وجامع الأصول لابن الأثير ، وتفسير الفخر الرازي ، وكتب أخرى.(2)

وعلى كل حال ، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة ، التي يقرّبها حتى المتعصبون ، وسنتكلم عنه مرّة أخرى بعد تفسير الآيات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل :

مع أنّ للآيات ـ محل البحث ـ شأنا في نزولها ، إلّا أنّها في الوقت ذاته

__________________

(1) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات محل البحث.

(2) لمزيد الإيضاح يراجع كتاب إحقاق الحق ، ج 3 ، ص 122 ـ 127.

٥٥٩

تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة ، ونظير ذلك كثير في القرآن.

فالآية الأولى من هذه الآيات تقول :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

«السقاية» لها معنى مصدري وهو إيصال الماء للآخرين ، وكما تعني المكيال ، كما جاء في الآية 70 من سورة يوسف( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وتعني الإناء الكبير أو الحوض الذي يصب فيه الماء.

وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى بـ «سقاية العباس» وكان معروفا آنئذ ، ويبدو أنّ هناك إناء كبيرا فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.

ويحدثنا التأريخ أنّ منصب «سقاية الحاج» قبل الإسلام كان من أهل المناصب ، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة ، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة(1) التي يقل فيها الماء ، وجوّها حار أغلب أيّام السنة ، وكانت هذه الحاجة الماسة تولي موضوع «سقاية الحاج» أهميّة خاصّة ، ومن كان مشرفا على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة ، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.

وكذلك «عمارة المسجد الحرام» أو سدانته ورعايته ، كان لها أهميته الخاصّة ، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزا دينيا ، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترما.

ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.

__________________

(1) «المرمضة» مشتقة من «الإرماض» أي شديدة الحر ، والأرض الرمضاء كذلك : شدية الحر.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605