بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110521 / تحميل: 5701
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع ، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة ، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر ، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم ، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب ، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية الثّانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلا تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ، بل الخلود الأبدي ، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون( خالِدِينَ فِيها ) .

ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ، والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان( وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) .

(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن) ، وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبها بين الخلود وعدن ، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود ، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.

لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، فنطالع في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن دار الله التي لم ترها عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النّبيين ، والصدّيقين ، والشّهداء»(1) .

وفي كتاب الخصال نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ، جنات عدن فليوال علي بن أبي

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٢١

طالبعليه‌السلام وذريتهعليهم‌السلام من بعده».(1) ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن عليعليه‌السلام ، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ، وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ، وهو أهم وأعظم جزاء ، ويفوق كل النعم والعطايا الأخرى( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) .

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.

من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!

نعم ، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا بعد فراق طويل ولذّة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها الشهور ، بل السنين ، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ، ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ، ولا يمكن

__________________

(1) كتاب الخصال ، على ما نقل في نور الثقلين ، ج 2 ، ص 241.

١٢٢

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية ، لأن الجملة أعلاه ـ أي : رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ، وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا ، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف) ، فالروح كالآمر والقائد ، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ، فالتكامل الروحي هو الهدف ، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألما من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ، وعبرت عنها بأنّ( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

* * *

١٢٣

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) )

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين :

وأخيرا ، صدر القرار الإلهي للنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة ، بل شدد( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي ، أمّا في الآخرة فإن محلهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة ، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم ، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري ، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين ، فمن المسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف ، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام ، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنّه يسعى لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لا حظّ لهم من الإيمان ، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام ، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن ، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

١٢٤

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري ، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة ، وربّما تشير جملة( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآية : أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة ، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته ، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون ، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة ، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين ، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقا ـ هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

* * *

١٢٥

الآية

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) )

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة ، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنّهم لم يتفوهوا بشيء ، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنّها قد أحبطت.

ومن جملتها : أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضا من خطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام غزوة تبوك ، وأنكرها بشدّة وكذبها ، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له : عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغه كلام جلاس ، فلما حضر جلاس وسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك أنكر ، فأمرهما

١٢٦

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان ، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما ، إلّا أن عامرا دعا بعد القسم وقال : اللهم أنزل على نبيّك آية تعرّف الصادق ، فأمّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فلمّا بلغ قوله تعالى :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) قال جلاس : يا رسول الله ، إنّ الله اقترح عليّ التوبة ، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي ، وأتوب منه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك ، فلمّا وصل إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة ، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها ، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يسلكوا طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إلى سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم ، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا ، وكان بعضهم قد أخفى وجهه ، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وذكر أسماءهم واحدا واحدا لبعض أصحابه(1) .

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين : إحداهما : أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى : المؤامرة والخطة التي أحبطت ، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

__________________

(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.

١٢٧

التّفسير

مؤامرة خطرة :

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّا ، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين ، وهو أن هؤلاء عند ما رأوا أن أمرهم قد انكشف ، أنكروا ما نسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم ، ولدفع التهمة فإنّهم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر( وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية ، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط ، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة العقبة ، والتي مرّ ذكرها آنفا ، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه ، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.

ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في معرفة المنافقين وكشفهم ، فقد كان المسلمون ـ دائما ـ يرصدون هؤلاء ، فإذا سمعوا منهم كلاما منافيا فإنّهم يخبرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

١٢٨

الجملة الأخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي خلاف أو أذى ، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس ، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية( وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون ، بل إنّ حقّه الشكر والثناء ، إلّا أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات ، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة : إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا آويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء ، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك ، فقال :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) . وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية ، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده ، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضا.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام ، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

__________________

(1) ممّا يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله ، إلّا أن الضمير في( مِنْ فَضْلِهِ ) جاء مفردا لا مثنى ، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد ، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه ، وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه ، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

١٢٩

الإلام بأنّه دين القوة والإرهاب والخشونة

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه ، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية ، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل ، وقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف ، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم ، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وإذا كانوا يظنون أنّ أحدا يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإلهي فإنّهم في خطأ كبير ، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين :( وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم ، وهو نار جهنم ، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

١٣٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) )

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة بن حاطب ، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما ، وكان يصر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأولى لك أن تتأسى بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله ، وأخيرا قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثك بالحق نبيّا ، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات ، فدعا له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له ، وكان غنيّا جدّا ،

١٣١

فوصلت إليه ثروة عظيمة ، وعلى رواية أخرى أنّه اشترى غنما ، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن ، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة ، فألهته أمواله عن حضور الجماعة ، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه ، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى ، ولم يكتف بذلك ، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال : إنّ حكم الزكاة كالجزية ، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية ، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة ، أو أنّه فهمه ، إلّا أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق ، فلمّا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله قال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة» ، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.

ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر ، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب :

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين السيّئة ، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين ، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

١٣٢

إلّا أنّ هؤلاء أنفسهم ، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس ، ويغرقون في حبّ الدنيا ، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم ، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما ، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.

فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال( فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها ، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، واستفهمت بأنّهم( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

1 ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة ، بل وحتى بين الكفر

١٣٣

والنفاق ، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول ، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة : إنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم ، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها ، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن يموت الإنسان وهو غير مؤمن ، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.

2 ـ إنّ المقصود من( يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة ، لأن تعبير( لِقاءَ رَبِّهِ ) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإنسان ، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة ، إلّا أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل ، فيكون المعنى : حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله : لحظة الموت. إلّا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة البقرة.

3 ـ ويستفاد أيضا ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين ، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية ، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم ، والحديث المعروف المنقول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد هذه الحقيقة ، حيث

يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(1) .

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب ، وأخلف وعده ، وخان أمانة الله ، وهي الأموال التي رزقه الله

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٣٤

إيّاها ، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ثلاث من كن فيه كان منافقا ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف»(1) .

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين ، إلّا أنّها نادرة ، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

4 ـ وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها ، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان ، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان ، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لا حظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب ، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين ، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية ، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ المجتمع ، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة ، ولا يألون جهدا في سبيل أعمال الخير ، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس ، فستتغير صورهم وسلوكهم ، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم ، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله ، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله ، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية ، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق ، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 607.

١٣٥

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب ، أو أثر في المجتمع ، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر ، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا ، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات فى حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأمور ، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم ، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر ، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها ، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم ، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين ، وهل النفاق إلّا كون صاحبه ذا وجهين ، وبتعبير آخر : هل هو إلّا ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة ، لأن الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة ، كالإيمان ، تماما ، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم ، ولم تبق لها أثرا ، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيمانا ضعيفا ، وهم مسلمون بالفعل ، إلّا أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين ، وتفوح منها رائحة الازدواجية ، فهؤلاء ديدنهم الكذب ، إلّا أن ظاهرهم الصدق والصلاح ، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح ، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم ، إلّا أنّه يخونهم في أماناتهم ، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

١٣٦

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق ، لكنّهم لا يفون بها مطلقا ، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية ، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية ، فإننا نحمّل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

١٣٧

الآيتان

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) )

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث ، يستفاد من مجموعها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجا لمعونة الناس في هذا الأمر ، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم ، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق ، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الفقراء ، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري ، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام ، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم ، واستقاء الماء

١٣٨

ليلا ، فحصلوا على صاعين من التمر ، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة أهليهم ، وأتوا بالآخر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدموه ، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهرا ـ في هذا المشروع الإسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين ، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياء وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّا جهدهم ، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير ، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات ، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين :

في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامّة للمنافقين ، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع ، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلّاق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء ، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.

ففي البداية يقول : إنّ هؤلاء( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٣٩

أَلِيمٌ ) .

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات ، و «المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة ، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات ، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة ، ويسخرون من الأخرى ، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل ، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام العزيز ، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء ، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين ، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب ، والمخاطب هذه المرّة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله ، واختاروا طريق الكفر ، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) . ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة ، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

و على آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ١ .

و روى الطبري مسندا في ( ذيله ) عن فاطمة الصغرى ، عن فاطمة الكبرى ، قالت : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله في دخول المسجد : بسم اللّه ، اللّهم صلّ على محمّد و آله ، و اغفرلي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك . و إذا خرج قال : بسم اللّه ،

اللّهم اغفرلي ذنوبي ، و افتح لي أبواب فضلك ٢ .

و روى أحمد بن حنبل في ( مسنده ) عن أم سلمة ، قالت : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لفاطمة : إبنتي بزوجك و ابنيك . فجاءت بهم ، فألقى عليهم كساء فدكيا . قال : ثم وضع يده عليهم ، ثم قال : اللّهم إن هولاء آل محمّد ، فاجعل صلواتك و بركاتك على محمّد و على آل محمّد إنّك حميد مجيد ٣ .

و روى ابن عبد البر في ( استيعابه ) في زيد بن حارثة مسندا عن زيد قال :

قلت : يا رسول اللّه ، قد علمناك كيف السّلام عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال : صلّوا عليّ و قولوا : اللّهم بارك على محمّد و على آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه البخاري في صحيحه ٣ : ١٧٨ ، و ٤ : ١٠٦ ، عن كعب بن عجرة ، و أبي سعيد الخدري ، و أبي حميد الساعدي ، و اللفظ لحديث كعب الذي أخرجه أيضا مسلم بثلاث طرق في صحيحه ١ : ٣٠٥ ح ٦٦ ٦٨ ، و سنن الترمذي ٢ :

٣٥٢ ح ٤٨٣ ، و النسائي بثلاث طرق في سننه ٣ : ٤٧ ٤٨ ، و ابن ماجه في سننه ١ : ٢٩٣ ح ٩٠٤ ، و الدارمي في سننه ١ : ٣٠٩ ، و أحمد بأربع طرق في مسنده ٤ : ٢٤١ ، ٢٤٣ ، ٢٤٤ ، و الصدوق في أماليه : ٣١٥ ح ٥ المجلس ١٦ ، و أبو علي الطوسي في أماليه ٢ : ٤٣ المجلس ١٥ ، و جمع كثير آخر . و في الباب عن أربعة عشر من أصحاب النبي غير كعب ، مرّ تخريج بعض آخر من الطرق في العنوان ٢٩ من هذا الفصل .

( ٢ ) منتخب ذيل المذيل للطبري ١٠٩ .

( ٣ ) أخرجه أحمد في مسنده ٦ : ٣٢٣ ، و ابن عساكر بأربع طرق في ترجمة الحسن عليه السّلام : ٦٥ و ٦٦ ح ١١٦ ١١٨ و ١٢٠ ، و في ترجمة الحسين عليه السّلام : ٦٤ ح ٩٣ ، و الحسكاني بخمس طرق في شواهد التنزيل ٢ : ٧٦ ٧٨ و ح ٧٤٧ ، ٧٥٠ ، ٧٥٢ ، و الطبراني في معجمه عنه الدر المنثور ٥ : ١٩٨ و غيرهم ، و للحديث ذيل .

( ٤ ) الاستيعاب لابن عبد البر ١ : ٥٥٦ .

٣٤١

و في ( تاريخ الطبري ) عن ليث المجاور بمكّة أربعين سنة ، عن بعض الحجبة قال : إنّ الرشيد لمّا حجّ دخل الكعبة ، و قام على أصابعه و قال : يا من يملك حوائج السائلين ، و يعلم ضمير الصامتين ، فإنّ لكلّ مسألة منك ردّا حاضرا ، وجوابا عتيدا ، و لكلّ صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة ، و أياديك الفاضلة ، و رحمتك الواسعة ، صلّ على محمّد و على آل محمّد و اغفرلنا ذنوبنا . . . ١ .

و لا بدّ أنّه روي له ذلك .

هذا ، و فيه أيضا : و في سنة ( ١٨١ ) أحدث الرشيد عند نزوله الرّقة في صدور كتبه الصلاة على محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم ٢ .

و في ( عيون ابن بابويه ) بعد نقل رواية عن أحمد بن الحسين الضبي :

و ما لقيت أنصب منه ، و بلغ من نصبه أنّه كان يقول : اللّهم صلّ على محمّد فردا . و يمتنع من الصلاة على آله ٣ .

قلت : الرجل كان كأعرابي ورد المدينة فعقل ناقته بفناء المسجد ، ثمّ دخل فصلّى مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله ثم قال : « اللّهم اغفر لي و لمحمّد حسب » ثمّ خرج فرجع ، فجعل النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم حاله حال ناقته .

و الرجل و إن كان ناصبيا ، و إلاّ أنّ أنصب منه ابن الزبير ، فكان لا يذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم رأسا بغضا لأهل بيته ، ففي ( المروج ) : أنّ ابن الزبير خطب أربعين يوما لا يصلّي على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و قال : لا يمنعني أن أصلّي عليه إلاّ أن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٥٣٦ سنة ١٩٣ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٦ : ٤٧٠ سنة ١٨١ .

( ٣ ) عيون الأخبار للصدوق ١ : ٢٨٤ ح ٣ ، و نقل الصدوق عنه حديثا آخر أيضا في علل الشرائع : ١٣٤ ح ١ ، و قال فيه : « ما لقيت أنصب منه » .

٣٤٢

تشمخ رجال بآنافها ١ .

و مراده من الرجال أهل بيته .

و مثله أبو حنيفة ، ففي ( تاريخ بغداد ) قال ابن المبارك ما مجلس ما رأيت ذكر فيه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قطّ ، و لا يصلّى عليه ، إلاّ مجلس أبي حنيفة ٢ .

و من النّاصبة التي لا تصلّي على أهل البيت عليهم السلام : إبراهيم بن المهدي العباسي ، قال المسعودي في ( مروجه ) : كان المأمون يظهر التشيّع و ابن شكلة ( إبراهيم بن المهدي ) التسنّن ، فقال المأمون :

إذا المرجيّ سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليّ

و صلّ على النبيّ و آل بيته

فأجابه إبراهيم رادّا عليه :

إذا الشيعيّ جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبيّ و صاحبيه

وزيريه و جاريه برمسه

٣ قلت : أمّا الصلاة على أهل بيت النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم فرواه المرجئة أنفسهم ، كما عرفت في أخبار عديدة ، و أمّا على صاحبي رمسه فلم يروه شيعي حتّى يعارض ، بل روت المرجئة أنفسهم أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قال : لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة ٤ ، و كانا في جيشه ، فكيف يصلّى على من لعنه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ؟

و أمّا التمسّك بكونهما صاحبي رمسه ، فنكتفي في جوابه بما قاله الخزاعي دعبل بن عليّ في كون الرشيد صاحب رمس أبي الحسن الرضا عليه السّلام :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٧٩ .

( ٢ ) نقله الخطيب في تاريخ بغداد ١ ق ١٣ : ٤٠٤ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٤١٧ .

( ٤ ) السقيفة للجوهري : ٧٥ .

٣٤٣

أربع بطوس على قبر الزّكيّ بها

إن كنت تربع من دين على وطر

ما ينفع الرجس من قرب الزّكيّ و لا

على الزّكيّ بقرب الرّجس من ضرر

هيهات كلّ امرى‏ء رهن بما كسبت

له يداه فخذ من ذاك أو فذر

قبران في طوس خير النّاس كلّهم

و قبر شرّهم هذا من العبر

ثمّ كونهما صاحبي رمس النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، ككون الأوّل صاحب غاره ، عار و شنار عليهما ، ففي ( فصول علم الهدى ) : مرّ فضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة ، و هو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه و حديثه ،

فقال لصاحب كان معه : و اللّه لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة . فقال صاحبه : إنّ أبا حنيفة ممّن قد علمت حاله و منزلته ، و ظهرت حجّته . فقال : مه ، هل رأيت حجّة كافر علت على مؤمن ؟ ثمّ دنا منه فسلّم عليه ، فردّ وردّ القوم بأجمعهم السلام .

فقال : يا أبا حنيفة ، رحمك اللّه ، إنّ لي أخا يقول : إنّ خير النّاس بعد النبيّ علي بن أبي طالب . و أنا أقول : إنّ أبا بكر خير الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و بعده عمر .

فما تقول أنت رحمك اللّه ؟ فأطرق مليّا ثم رفع رأسه ، فقال : كفى بمكانهما من رسول اللّه كرما و فخرا . أما علمت أنّهما ضجيعاه في قبره ؟ فأيّ حجّة أوضح لك من هذه ؟ فقال له فضال : إنّي قد قلت ذلك لأخي ، فقال : و اللّه لئن كان الموضع للنبيّ صلى اللّه عليه و آله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حقّ ، و إن كان الموضع لهما فوهباه للنبيّ صلى اللّه عليه و آله لقد أساءا و ما أحسنا إليه ، إذا رجعا في هبتهما و نكثا عهدهما . فأطرق أبو حنيفة ساعة ، ثم قال : قل له : لم يكن لهما و لا له خاصة ، و لكنّهما نظرا في حق عائشة و حفصة ، فاستحقّا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما . فقال له فضال : قد قلت له ذلك ( فقال لي : أما علمت أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أعطى حقوق نسائه في حياته بأمر من اللّه سبحانه حيث يقول :

٣٤٤

يا أيّها النبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن . . . ١ ؟ فقال : نعم ،

و لكنّهما استحقا ذلك بميراث ابنتيهما من النبيّ صلى اللّه عليه و آله . فقال : قلت له ذلك ) ٢ فقال : أنت تعلم أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله مات عن تسع حشايا ، فإذا لكلّ واحدة منهنّ تسع الثمن ثمّ نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر . فكيف يستحقّ الرجلان أكثر من ذلك ؟ و بعد فما بال عايشة و حفصة ترثان النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و فاطمة ابنته تمنع الميراث ؟ فقال أبو حنيفة : يا قوم نحّوه عنّي ، فإنّه و اللّه رافضي خبيث ٣ .

هذا ، و روى ( الكافي ) عن يزيد بن خليفة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام : إنّي رجل من بني الحارث بن كعب ، و قد هداني اللّه تعالى إلى محبّتكم و مودّتكم أهل البيت . فقال لي : و كيف ، فو اللّه إنّ محبّتنا في بني الحارث قليل ؟ قلت : إنّ لي غلاما خراسانيا و هو يعمل القصارة ، و له همشهريجون أربعة و هم يتداعون كلّ جمعة لتقع الدعوة على رجل منهم ، فيصيب غلامي كلّ خمس جمع جمعة ،

فيجعل لهم النبيذ و اللحم ، فإذا فرغوا من الطعام جاء بإجّانة فملأها نبيذا ، ثمّ جاء بمطهرة ، فاذا ناول إنسانا منهم قال : لا تشرب حتّى تصلّي على محمّد و آل محمّد ، فاهتديت إلى مودّتكم بهذا الغلام . فقال لي : استوص به خيرا ، و اقرئه منّي السلام ، و قل له : يقول لك جعفر بن محمّد : انظر شرابك هذا الّذي تشربه ،

فإن كان كثيره يسكر ، فلا تقربنّ قليله . قال : فأتيت الكوفة و أبلغته سلامه ،

فبكى ، ثمّ قال : اهتمّ بي جعفر بن محمّد عليه السّلام حتّى يقرئني السلام ؟ قلت : نعم ،

و قد قال : انظر شرابك هذا الّذي تشربه فإن كان يسكر كثيره فلا تقربنّ قليله ،

و قد أوصاني بك ، فاذهب فأنت حرّ لوجه اللّه . فقال : و اللّه ما يدخل جوفي ما

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأحزاب : ٥٠ .

( ٢ ) ما كان بين القوسين لم يوجد في الفصول المختارة المطبوعة ، و لا في نقل المجلسي في بحار الأنوار ١٠ : ٢٣١ ح ٢ ،

عن هذا الكتاب ، و لا في رواية الكراجكي و الطبرسي ، لعل الشارح رواه عن نسخة خطيّة أو مرجع آخر بالواسطة .

( ٣ ) الفصول المختارة للمرتضى : ٤٤ ، و كنز الفوائد للكراجكي : ١٣٥ ، و الاحتجاج للطبرسي : ٣٨٢.

٣٤٥

بقيت في الدّنيا ١ .

هذا ، و عن ( تاريخ مدينة الدهلوي ) : من أسباب رؤية النبيّ صلى اللّه عليه و آله في المنام المداومة على قول : « اللّهم صلّ على محمّد و آله و سلّم كما تحبّ و ترضى » ٢ .

هذا ، و في ( الأدباء ) : خاصم أبو العيناء قلت : و كان شيعيّا يوما علويا ،

فقال له العلوي : تخاصمني ، و قد أمرت أن تقول : اللّهم صلّ على محمّد و على آل محمّد ؟ فقال : لكنّي أقول : الطيبين الطاهرين ، فتخرج أنت ٣ .

« ثم سلّ حاجتك » و ورد الختم أيضا بمسألة الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، ففي ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : من كانت له إلى اللّه حاجة فليبدأ بالصلاة على محمّد و آله ثمّ يسأل حاجته ، ثمّ يختم بالصلاة على محمّد و آل محمّد ، فإنّ اللّه تعالى أكرم من أن يقبل الطرفين ، و يدع الوسط إذ كانت الصلاة على محمّد و آل محمّد لا تحجب عنه ٤ .

و لا تنافي بينهما ، فالزيادة في الآخر تجعل القبول أقرب .

بل ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم زيادة الوسط أيضا ، ففي ( الكافي ) أيضا :

عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال : لا تجعلوني كقدح الراكب ، فإنّ الراكب يملأ قدحه فيشربه إذا شاء . اجعلوني في أوّل الدعاء ، و في آخره ، و في وسطه ٥ .

و رواه ( النهاية ) هكذا : « لا تجعلوني كغمر الراكب . صلّوا عليّ في أوّل الدعاء و أوسطه و آخره » . و قال : الغمر بضمّ الغين و فتح الميم : القدح الصغير .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٦ : ٤١١ ح ١٦ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

( ٢ ) جاء قريب منه في ملحقات إحقاق الحق ٩ : ٦٣٣ ح ١٢ .

( ٣ ) معجم الأدباء للحموي ١٨ : ٢٩٥ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٩٤ ح ١٦ ، و قريبا منه رواه الراوندي في لب اللباب عنه المستدرك ١ : ٣٧١ ح ١١ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٩٢ ح ٥ .

٣٤٦

أراد أنّ الراكب يحمل رحله و أزواده على راحلته ، و يترك قعبه إلى آخر ترحاله ، ثمّ يعلّقه على رحله كالعلاوة ، فليس عنده بمهمّ ، فنهاهم أن يجعلوا الصلاة عليه كالغمر الّذي لا يقدّم في المهامّ و يجعل تبعا ١ .

« فإن اللّه تعالى أكرم أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما و يمنع الأخرى » قد عرفت نظيره عن الصادق عليه السّلام ، و أنّه قال : إذا صلّى أوّلا و أخيرا فإنّ اللّه تعالى أكرم من أن يقبل الطرفين و يدع الوسط ، إذ كانت الصلاة عليه عليه السّلام لا تحجب ٢ .

و قال ابن أبي الحديد كالمنكر للكلام : أيّ غضاضة على الكريم إذا سئل حاجتين فقضى إحداهما دون الأخرى ؟ إن كان عليه في ذلك غضاضة فعليه في ردّ الحاجة الواحدة غضاضة أيضا ٣ .

قلت : هذه أمور ذوقية و جدانية ، فالإنسان قد لا يدع الدنيّ أن يدخل بيته فضلا عن أن يكرمه ، أمّا لو أضاف شريفا و تنوق له أنواع الأطعمة ، و دخل الدنيّ تبعا لذاك السرّي يطعمه ممّا أطعمه ، و أنّ ردّ الحاجة كلّية لعدم لياقة في صاحبها لا غضاضة فيه ، و أمّا من قضى حاجة و لم يقض الأخرى مع تمكّنه ،

تذهب قضاء حاجته الأولى هدرا .

و في ( المروج ) في أحوال السفّاح : كان أبو العباس ( السفّاح ) إذا حضر طعامه أبسط ما يكون وجها ، فكان إبراهيم بن مخرمة الكندي إذا أراد أن يسأله حاجة أخّرها حتّى يحضر طعامه ثمّ يسأله ، فقال له يوما : يا إبراهيم ما دعاك أن تشغلني عن طعامي بحوائجك ؟ قال : يدعوني إلى ذلك التماس النجح

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النهاية لابن الأثير ٣ : ٣٨٥ مادة ( غمر ) .

( ٢ ) هذا تلخيص حديث الكافي و الراوندي الذي مرّ آنفا .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٤٠٣ .

٣٤٧

لما أسأل . قال أبو العباس : إنّك لحقيق بالسؤدد لحسن هذه الفطنة ١ .

هذا ، و في العنوان ( ١٤٤ ) من ( المستجاد ) : لقي أبو دلامة أبا دلف في مصادله و هو والي العراق ، فأخذ بعنان فرسه ، و أنشد :

إنّي حلفت لئن رأيتك سالما

بقرى العراق و أنت ذو وفر

لتصلينّ على النبيّ محمّد

و لتملأنّ دراهما حجري

فقال : أمّا الصلاة على النبيّ محمّد صلى اللّه عليه و آله فصلّى اللّه عليه و سلّم ، و أمّا الدراهم فلا . قال له : جعلت فداك : لا تفرّق بينهما بالّذي أسأله أن لا يفرّق بينك و بين النبيّ صلى اللّه عليه و آله . قال : فاستسلفها أبو دلف ، و صبّت في حجره حتّى أثقلته ٢ .

٣١

من الخطبة ( ١٩٢ ) و من خطبة له عليه السّلام يصف بها المنافقين :

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ اَلطَّاعَةِ وَ ذَادَ عَنْهُ مِنَ اَلْمَعْصِيَةِ وَ نَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً وَ بِحَبْلِهِ اِعْتِصَاماً وَ نَشْهَدُ أَنَّ ؟ مُحَمَّداً ؟ عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اَللَّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ اَلْأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ اَلْأَقْصَوْنَ وَ خَلَعَتْ إِلَيْهِ اَلْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا وَ ضَرَبَتْ لِمُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عُدْوَانَهَا مِنْ أَبْعَدِ اَلدَّارِ وَ أَسْحَقِ اَلْمَزَارِ « نحمده على ما وفّق له » الضمير راجع إلى ( ما ) .

« من الطاعة » ( من ) بيانية ل ( ما وفّق ) .

« و ذاد » أي : طرد و دفع .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٢٦٤ .

( ٢ ) المستجاد للتنوخي : ٢٣٥ .

٣٤٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

« عنه » الضمير أيضا راجع إلى ( ما ) .

« من المعصية » و فعل الطاعة و ترك المعصية ، و إن كانا من العبد إلاّ أنّ التوفيق لهما منه تعالى ، فيجب حمده عليه ، و في ( توبة الكافي ) : عن أبي جعفر عليه السّلام : إنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود أن ائت عبدي دانيال ، فقل له : إنّك عصيتني فغفرت لك ، و عصيتني فغفرت لك ، و عصيتني فغفرت لك . فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك . فأتاه داود عليه السّلام فقال : يا دانيال إنّني رسول اللّه إليك ، و هو يقول لك : إنّك عصيتني فغفرت لك ، و عصيتني فغفرت لك ،

و عصيتني فغفرت لك ، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك . فقال له دانيال : قد أبلغت يا نبيّ اللّه . فلمّا كان في السحر قام دانيال فناجي ربّه ، فقال : يا ربّ إنّ داود نبيّك أخبرني عنك أننّي قد عصيتك فغفرت لي ، و عصيتك فغفرت لي ،

و عصيتك فغفرت لي ، و أخبرني عنك إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي ، فوعزّتك لئن لم تعصمني لأعصينّك ثمّ لأعصينّك ثمّ لأعصينّك ١ .

« و نسأله لمنّته » علينا بالتوفيق و الذود .

« تماما » بادامتهما .

« و بحبله اعتصاما » أي : تمسكا كما أمرنا ، فقال عزّ و جلّ : و اعتصموا بحبل اللّه جميعا . . . ٢ .

« و نشهد أنّ محمّدا عبده » الّذي قبل عزّ اسمه عبودّيته .

« و رسوله » الّذي ارتضاه لخلقه .

« خاض » أي : ورد ، و الأصل فيه : الغمس .

« إلى » تحصيل .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٣٥ ح ١١ ، و الزهد للأهوازي : ٧٤ ح ٢٠٠ .

( ٢ ) آل عمران : ١٠٣ .

٣٤٩

« رضوان اللّه كلّ غمرة » أي : شدّة ، و الأصل فيها اللجّة ، ذكروا أنّ قريشا اجتمعت إلى أبي طالب و النبيّ صلى اللّه عليه و آله عنده ، فقالوا : نسألك من ابن أخيك النصف . قال : و ما النصف منه ؟ قالوا : يكفّ عنّا و نكفّ عنه ، فلا يكلّمنا و لا نكلّمه ، و لا يقاتلنا و لا نقاتله ، ألا إنّ هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب ، و زرعت الشحناء ، و أنبتت البغضاء . فقال : يا ابن أخي أ سمعت ؟ قال : يا عمّ لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي و قبلوا نصيحتي ، إنّ اللّه تعالى أمرني أن أدعو إلى دين الحنيفية ملّة إبراهيم ، فمن أجابني فله عند اللّه الرضوان و الخلود في الجنان ، و من عصاني قاتلته حتّى يحكم اللّه بيننا ، و هو خير الحاكمين . فقالوا :

قل له يكفّ عن شتم آلهتنا ، فلا يذكرها بسوء . فنزل : قل أفغير اللّه تأمرونّي أعبد . . . ١ قالوا : إن كان صادقا فليخبرنا من يؤمن منّا ، و من يكفر ؟ فان وجدناه صادقا آمنّا به فنزل : ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطيّب و ما كان اللّه ليطلعكم على الغيب . . . ٢ . قالوا : و اللّه لنشتمنّك و إلهك . فنزل : و انطلق الملأ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم . . . ٣ . قالوا : قل له : فليعبد ما نعبد ، و نعبد ما يعبد . فنزلت سورة الكافرين . فقالوا : قل له : أرسله اللّه إلينا خاصّة أم إلى الناس كافّة ؟ قال : بل إلى الناس أرسلت كافّة ، إلى الأبيض و الأسود ، و من على رؤوس الجبال ، و من في لجج البحار ، و لأدعونّ ألسنة فارس و الروم : . . . يا أيها النّاس إنّي رسول اللّه إليكم جميعا . . . ٤ .

فتجبّرت قريش و استكبرت و قالت : و اللّه لو سمعت بهذا فارس و الرّوم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الزمر : ٦٤ .

( ٢ ) آل عمران : ١٧٩ .

( ٣ ) ص : ٦ .

( ٤ ) الأعراف : ١٥٨ .

٣٥٠

لاختطفتنا من أرضنا ، و لقلعت الكعبة حجرا حجرا . فنزل : و قالوا إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا . . . ١ ، و قوله : أ لم تر كيف فعل ربك . . . ٢ .

فقال مطعم بن عدي : و اللّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ، و جهدوا على أن يتخلّصوا ممّا تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا . فقال أبو طالب :

و اللّه ما أنصفوني ، و لكنّك قد اجتمعت على خذلاني ، و مظاهرة القوم عليّ ،

فاصنع ما بدالك . فوثب كلّ قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذّبونهم ،

و يفتنونهم عن دينهم ، و الاستهزاء بالنبي صلى اللّه عليه و آله . و منع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب منهم ، و قد قام أبو طالب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع في بني هاشم ،

فدعاهم إلى ما هو عليه من منع النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و القيام دونه إلاّ أبا لهب ، كما قال اللّه : . . . و لينصرنّ اللّه من ينصره . . . ٣ . و قدم قوم من قريش من الطائف و أنكروا ذلك ، و وقعت فتنة فأمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله المسلمين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة ٤ .

« و تجرّع فيه » أي : في رضوانه تعالى .

« كلّ غصّة » عن الزهري : لما توفّي أبو طالب ، و اشتدّ على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم البلاء ، عمد إلى ثقيف بالطائف رجاء أن يأويه سادتها : عبد نائل ، و مسعود ،

و حبيب بنو عمرو بن نمير الثقفي ، فلم يقبلوه ، و تبعه سفهاؤهم بالأحجار ،

و دمّوا رجليه ، فخلص منهم . و استظل في ظلّة حبلة منه . و قال : اللّهم إنّي أشكو إليك من ضعف قوّتي ، و قلّة حيلتي و ناصري ، و هواني على الناس ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) القصص : ٥٧ .

( ٢ ) هذا صدر آيتين الأولى : ألم تركيف فعل ربك بعاد الفجر : ٦ ، و الثانية : ألم تركيف فعل ربك بأصحاب الفيل الفيل : ١ .

( ٣ ) الحج : ٤٠ .

( ٤ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٥٩ .

٣٥١

يا أرحم الراحمين ١ .

و روى الطبري في ( ذيله ) عن منيب بن مدرك الأزدي ، عن أبيه ، عن جدّه قال : رأيت النبيّ صلى اللّه عليه و آله في الجاهلية ، و هو يقول للناس : « قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا » فمنهم من تفل في وجهه ، و منهم من حثا عليه التراب ، و منهم من سبّه حتّى انتصف النهار ، فجاءت جارية بعسّ من ماء ، فغسل وجهه ، ثمّ قال : يا بنيّة ابشري و لا تحزني ، و لا تخشي على أبيك غلبة و لا ذلاّ . فقلت : من هذه ؟ فقالوا :

زينب ابنته ، و هي يومئذ وصيفة ٢ .

هذا ، و في ( الكافي ) عنهم عليهم السّلام : لمّا أمر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه و آله بإظهار الإسلام ، و ظهر الوحي رأى قلّة من المسلمين ، و كثرة من المشركين ، فاهتمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله همّا شديدا ، فبعث اللّه تعالى إليه جبرئيل عليه السّلام بسدر من سدرة المنتهى ، فغسل به رأسه ، فجلا به همّه ٣ .

« و قد تلوّن له الأدنون » و منهم أبو لهب عمّه ، و في ( نسب الزبيري ) عن طارق المحاربي : رأيت النبيّ صلى اللّه عليه و آله في سويقة ذي المجاز عليه حلّة حمراء ،

و هو يقول : يا أيّها الناس قولوا : « لا إله إلاّ اللّه تفلحوا » ، و أبو لهب يتبعه ، و يرميه بالحجارة ، و قد أدمى كعبيه و عرقوبيه و هو يقول : أيّها الناس لا تطيعوه ، فإنّه كذّاب ٤ .

و عن أبي أيوب الأنصاري : وقف النبيّ صلى اللّه عليه و آله بسوق ذي المجاز ، فدعاهم إلى اللّه تعالى ، و العبّاس قائم يستمع الكلام ، فقال : أشهد أنّك كذّاب . و مضى إلى أبي لهب ، و ذكر ذلك ، فأقبلا يناديان : إنّ ابن أخينا هذا كذّاب ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٦٨ .

( ٢ ) منتخب ذيل المذيل : ٨٠ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٦ : ٥٠٥ ح ٧ .

( ٤ ) لم أجده في نسب قريش لمصعب الزبيري .

٣٥٢

فلا يغرنّكم عن دينكم .

و ذكروا أنّه كان إذا قدم على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم و فد ليعلموا علمه انطلقوا بأبي لهب إليهم ، و قالوا له : أخبر عن ابن أخيك . فكان يطعن في النبيّ صلى اللّه عليه و آله و يتقوّل الباطل ، و يقول : إنّا لم نزل نعالجه من الجنون . فيرجع القوم ، و لا يلقونه ١ .

و في ( العقد ) : قال معاوية يوما : أيّها الناس إنّ اللّه فضّل قريشا بثلاث ،

فقال لنبيّه عليه السّلام و أنذر عشيرتك الأقربين ٢ فنحن عشيرته ، و قال : و إنّه لذكر لك و لقومك . . . ٣ فنحن قومه ، و قال : لإيلاف قريش . . . و آمنهم من خوف ٤ ، و نحن قريش . فأجابه رجل من الأنصار فقال : على رسلك يا معاوية ، فانّ اللّه تعالى يقول : و كذّب به قومك . . . ٥ و أنتم قومه ، و قال :

و لمّا ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون ٦ و أنت قومه ، و قال الرسول عليه السّلام : يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورا ٧ و أنتم قومه ثلاثة بثلاثة ، و لو زدتنا زدناك . فأفحمه ٨ .

و فيه : قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة . فقال : أجهل من قومي قومك الّذين قالوا حين دعاهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله :

اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لم أجده في نسب قريش لمصعب الزبيري .

( ٢ ) الشعراء : ٢١٤ .

( ٣ ) الزخرف : ٤٤ .

( ٤ ) قريش : ١ ٤ .

( ٥ ) الأنعام : ٦٦ .

( ٦ ) الزخرف : ٥٧ .

( ٧ ) الفرقان : ٣٠ .

( ٨ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٤ : ٩٧ .

٣٥٣

ائتنا بعذاب أليم ١ و لم يقولوا : اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه ٢ .

« و تألّب » أي : تجمّع .

« عليه الأقصون » أي : الأبعدون منه في النسب ، قالوا : نهى أبو جهل النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم عن الصلاة ، و قال : إن رأيت محمّدا يصلّي لأطأنّ عنقه ٣ . و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم يطوف فشتمه عقبة بن أبي معيط ، و ألقى عمامته في عنقه ، و جرّه من المسجد ، فأخذوه من يده ٤ . و قالوا : لمّا نزلت تبّت يدا أبي لهب . . . ٥ جاءت أم جميل عمّة معاوية ( و هي حمّالة الحطب ) إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و بيدها فهر ،

و لها ولولة ، و هي تقول :

مذمما أبينا

و دينه قلينا

و أمره عصينا

٦ و كان الحكم بن أبي العاص يمشي وراء النبي صلى اللّه عليه و آله يحكي مشيته ، فدعا النبيّ صلى اللّه عليه و آله عليه ، فبقي متخالج المنكبين ، و أخرجه إلى الطائف ٧ .

قال عبد الملك لثابت بن عبد اللّه بن الزبير : أبوك ما كان أعلم بك حيث

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنفال : ٣٢ .

( ٢ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٤ : ٩٧ .

( ٣ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٩٧ ، و أخرجه عبد الرزاق ، و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عنهم الدرّ المنثور ٦ : ٣٠٢ .

( ٤ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٩٧ .

( ٥ ) المسد : ١ .

( ٦ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٦٧ .

( ٧ ) أما استهزاؤه و دعاء النبي صلى اللّه عليه و آله فرواه ابن عبد البر في الاستيعاب ١ : ٣١٧ ، و المفيد في الجمل : ٩٦ و ابن شهر آشوب في مناقبه ١ : ٨١ ، و أما نفي النبيّ صلى اللّه عليه و آله و إعادة عثمان فرواه المسعودي في مروج الذهب ٣ : ١٨٠ ، و المفيد في الجمل : ٩٧ ، و النووي في التهذيب ٢ : ٨٧ ق ١ ، و الأمران من مشهورات التاريخ .

٣٥٤

كان يشتمك . قال : إنّما كان يشتمني لأني كنت أنهاه أن يقاتل بأهل مكّة ، و أهل المدينة ، فإنّ اللّه لا ينصر بهما . أمّا أهل مكّة ، فأخرجوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و أخافوه ، ثمّ جاؤوا إلى المدينة حتّى سيّرهم . عرّض بجدّه الحكم .

« و خلعت إليه العرب أعنّتها » و المراد : إجماعهم علي حربه ، كقول الشماخ :

أتتني سليم قضّها بقضيضها

١ و في ( تفسير القمّي ) : أنّ قريشا تجمّعت في سنة خمس من الهجرة و ساروا في العرب ، و جلبوا و استفزّوهم لحرب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، فوافوا في عشرة آلاف ، و معهم كنانة و سليم و فزارة ، و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم حين أجلى بني النضير ، و هم بطن من اليهود من المدينة ، و كان رئيسهم حيّ بن أخطب ، و هم يهود من بني هارون عليه السّلام ، فلمّا أجلاهم من المدينة صاروا إلى خيبر ، و خرج حيّ ابن أخطب ، و همّ إلى قريش بمكّة ، و قال لهم : إنّ محمّدا قد و تركم و وترنا ،

و أجلانا من المدينة من ديارنا و أموالنا ، و أجلى بني عمّنا بني قينقاع ، فسيروا في الأرض و اجمعوا حلفاءكم و غيرهم حتّى نسير إليهم ، فإنّه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل و هم بنو قريظة ، و بينهم و بين محمّد عهد و ميثاق ، و أنا أحملهم على نقض العهد بينهم و بين محمّد ، و يكونون معنا عليهم فتأتونه أنتم من فوق ، و هم من أسفل . و كان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين ، و هو الموضع الّذي يسمّي بئر المطلّب ، فلم يزل يسير معهم حيّ بن أخطب في قبائل العرب حتّى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش و كنانة ، و الأقرع بن حابس في قومه ، و عباس بن مرداس في بني سليم ٢ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ٧ : ٢٢١ مادة ( قضض ) ، و صدره : تمسح حولي بالبقيع سبالها .

( ٢ ) تفسير القمي ٢ : ١٧٦ .

٣٥٥

و في ( إرشاد المفيد ) : خرجت قريش في الأحزاب ، و قائدها إذ ذاك أبو سفيان ، و خرجت غطفان ، و قائدها عيينة بن حصن في بني فزارة ، و الحرث بن عوف في بني مرة ، و وبرة بن طريف في قومه من أشجع ١ .

« و ضربت لمحاربته » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( إلى محاربته ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٢ .

« بطون رواحلها » رواحل جمع راحلة : الناقة التي تصلح لأن ترحل ، و في الخبر : « تجدون الناس كابل مائة ليس فيها راحلة » ٣ . أي : الرجل الكامل في الناس قليل ، كقلّة الراحلة في الآبال . ( و ضرب بطون الرواحل إلى محاربته ) :

كناية أيضا كخلع الأعنّة عن الاتفاق على حربه صلى اللّه عليه و آله ، إلاّ أنّ الأعنّة للأفراس ،

و عرفت أنّ الرواحل النوق .

و قال جرير في هزيمة جيش إبرويز في ذي قار :

هو المشهد الفرد الّذي ما نجا به

لكسرى بن كسرى لا سنام و لا صلب

السنام كناية عن الآبال ، و الصلب عن الأفراس .

« حتّى أنزلت بساحته عدوانها » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( عداوتها ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٤ .

« من أبعد الدار و أسحق » أي : أطول .

« المزار » و لمّا رأى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ضعف قلوب أصحابه في الأحزاب بعث

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإرشاد للمفيد : ٥١ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٣٦ ، لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ٤٢٦ ، مثل المصرية .

( ٣ ) صحيح مسلم ٤ : ١٩٧٣ ح ٢٣٢ ، و ابن ماجه في سننه ٢ : ١٣٢١ ح ٣٩٩٠ ، و غيرهما ، لكن اللفظ لابن الأثير في النهاية ٢ : ٢٠٩ مادة ( رحل ) .

( ٤ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٣٦ ، لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ٤٢٦ « عدوانها » أيضا .

٣٥٦

إلى عيينة و الحارث قائديّ غطفان : يرجعان بقومهما على أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة ، و استشار سعد بن عبادة ، و سعد بن معاذ . فقالا : إن لم يكن ذاك عن وحي فلا نقبله . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم : لم يأتني وحي في ذلك ، و لكنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، و جاؤوكم من كلّ جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم . فقالا : إنّنا لم نعط في الجاهليّة من ثمارنا أحدا ، فكيف في الإسلام ١ ؟

٣٢

الكتاب ( ٩ ) و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية :

فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اِجْتِيَاحَ أَصْلِنَا وَ هَمُّوا بِنَا اَلْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا اَلْأَفَاعِيلَ وَ مَنَعُونَا اَلْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا اَلْخَوْفَ وَ اِضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ اَلْحَرْبِ فَعَزَمَ اَللَّهُ لَنَا عَلَى اَلذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ وَ اَلرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ اَلْأَجْرَ وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ اَلْأَصْلِ وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ ؟ قُرَيْشٍ ؟ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ اَلْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ وَ كَانَ ؟ رَسُولُ اَللَّهِ ص ؟

إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ وَ أَحْجَمَ اَلنَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ اَلْأَسِنَّةِ وَ اَلسُّيُوفِ فَقُتِلَ ؟ عُبَيْدَةُ بْنُ اَلْحَارِثِ ؟ ؟ يَوْمَ بَدْرٍ ؟ وَ قُتِلَ ؟ حَمْزَةُ ؟ ؟ يَوْمَ أُحُدٍ ؟ وَ قُتِلَ ؟ جَعْفَرٌ ؟ ؟ يَوْمَ مُؤْتَةَ ؟ أقول : رواه نصر بن مزاحم ، مع زيادة و اختلاف ، ففي ( صفّينه ) : قال عليّ عليه السّلام : و لعمر اللّه إنّي لأرجو إذا أعطى اللّه الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ، و نصيحتهم للّه و رسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر . إنّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سيرة ابن هشام ٣ : ١٣٣ و النقل بتصرف يسير .

٣٥٧

محمّدا صلى اللّه عليه و آله لمّا دعا إلى الايمان باللّه و التوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به ،

و صدّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرّمة و ما يعبد اللّه في ربع ساكن من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبيّنا و اجتياح أصلنا ، و همّوا بنا الهموم و فعلوا بنا الأفاعيل ، فمنعونا الميرة ، و أمسكوا عنّا العذب ، و أحلسونا الخوف ، و جعلوا علينا الارصاد و العيون ، و اضطرّونا إلى جبل و عر ، و أو قدوا لنا نار الحرب ، و كتبوا علينا بينهم كتابا : لا يؤاكلونا ، و لا يشاربونا ، و لا يناكحونا ، و لا يبايعونا ، و لا نأمن فيهم حتّى ندفع النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيقتلوه ، و يمثّلوا به . فلم نكن نأمن فيهم إلاّ من موسم إلى موسم ، فعزم اللّه لنا على منعه ، و الذبّ عن حوزته ، و الرمي من وراء حرمته ، و القيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف ، بالليل و النهار ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، و كافرنا يحامي به عن الأصل ، فأمّا من أسلم من قريش بعد ، فإنّهم ممّا نحن فيه أخلياؤ ، فمنهم حليف ممنوع أو ذو عشيرة تدافع عنه ، فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة و أمن . فكان ذلك ما شاء اللّه أن يكون ، ثمّ أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه و آله بالهجرة ، و أذن له بعد ذلك في قتال المشركين فكان إذا احمّر البأس ، و دعيت نزال أقام أهل بيته ، فاستقدموا فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة و السيوف ، فقتل عبيدة يوم بدر ، و حمزة يوم أحد ، و جعفر و زيد يوم مؤتة . . . ١ قول المصنّف « و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية » أقول : جوابا عن كتاب كتبه معاوية إليه عليه السّلام مع أبي مسلم الخولاني ، و فيه : « إنّ اللّه اصطفى محمّدا بعلمه و جعله الأمين على وحيه و الرسول إلى خلقه ، و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده اللّه بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام ، فكان أفضلهم في إسلامه و أنصحهم للّه و لرسوله الخليفة من بعده ، و خليفة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه ابن مزاحم أيضا في ضمن كتاب له عليه السّلام إلى معاوية في وقعة صفين : ٨٩ .

٣٥٨

خليفته ، و الثالث الخليفة المظلوم عثمان فكلّهم حسدت ، و على كلّهم بغيت ،

عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، و في قولك الهجر ، و في تنفّسك الصعداء ، و في إبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كلّ منهم ، كما يقال الفحل المخشوش حتّى تبايع ،

و أنت كاره . . . ١ .

قوله عليه السّلام : « فأراد قومنا » أي : قريش ، قال تعالى : و كذّب به قومك و هو الحقّ . . . ٢ .

معة « قتل نبيّنا » في ( السير ) : لمّا علمت قريش أنّ أبا طالب لا يخذل النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و أنّه تجمع لعداوتهم مشوا عمارة بن الوليد إليه ، فقالوا : يا أبا طالب هذا فتى قريش ، و أجملهم فخذه ، فلك عقله و نصرته ، فاتّخذه ولدا ، و أسلم لنا ابن أخيك هذا الّذي سفّه أحلامنا ، و خالف دينك ، و دين آبائك ، و فرّق جماعة قومك نقتله ، فإنّما رجل برجل . فقال : و اللّه لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم و أعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا ، و اللّه لا يكون أبدا . أما تعلمون أنّ الناقة إذا فقدت ولدها لا تحنّ إلى غيره ، ثمّ نهرهم ، فاشتدّ عند ذلك الأمر و اشتدّت قريش على من في القبائل من الصحابة الّذين أسلموا ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين يعذّبونهم ٣ .

و في ( المناقب ) : بعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّدا حتّى نقتله ،

و نملّك علينا . فأنشأ أبو طالب اللامية التي يقول فيها :

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامي عصمة لأرامل

ـــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين لابن مزاحم : ٨٦ .

( ٢ ) الأنعام : ٦٦ .

( ٣ ) المناقب شهر آشوب ١ : ٦٠ ، و ابن هشام في السيرة ١ : ٢٤٠ ، و ابن سعد في الطبقات ١ : ق ١ : ١٣٤ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٦٧ و النقل بتصرف يسير .

٣٥٩

فلمّا سمعوا هذه القصيدة أيسوا منه ١ .

« اجتياح » أي : استيصال .

« أصلنا » و المراد : جميعنا .

« و همّوا بنا الهموم » أي : أرادوا لنا إرادات .

« و فعلوا بنا الأفاعيل » العجيبة من قسوة البشر و طغيانه ، قال الشماخ :

إذا استهلاّ بشؤبوب فقد فعلت

بما أصابا من الأرض الأفاعيل

٢ و قالوا : الرشى تفعل الأفاعيل ، و تنسّي إبراهيم و إسماعيل .

« و منعونا العذب » أي : الماء الطيب .

« و أحلسونا الخوف » أي : جعلوا الخوف كحلس لنا ، و الحلس مسح يكون مبسوطا دائما ، و الحلس للبعير كساء رقيق تحت البرذعة ، و المراد : إخافتهم دائما .

« و اضطرّونا إلى جبل وعر » بالتسكين ، أي : الصعب .

« و أوقدوا لنا نار الحرب » لإهلاكنا ، روى السروي عن عكرمة ، و عروة بن الزبير ، قالا : رأت قريش أنّه صلى اللّه عليه و آله يفشو أمره في القبائل ، و أنّ حمزة أسلم ، و أنّ عمرو بن العاص ردّ في حاجته عند النجاشي ، فأجمعوا أمرهم و مكرهم على أن يقتلوا رسول اللّه علانية ، فلمّا رأى ذلك أبو طالب جمع بني عبد المطلب ،

و أجمع لهم أمرهم على أن يدخلوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله شعبهم . فاجتمع قريش في دار الندوة ، و كتبوا صحيفة على بني هاشم : ألاّ يكلّموهم و لا يزوّجوهم و لا يتزوّجوا إليهم و لا يبايعوهم ، أو يسلموا إليهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و ختم عليها أربعون خاتما ، و علّقوها في جوف الكعبة و في رواية عند زمعة بن الأسود .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٦٥ .

( ٢ ) أساس البلاغة : ٣٤٤ مادة ( فعل ) .

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605