بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110265 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

فجمع أبو طالب بني هاشم و بني عبد المطّلب في شعبه ، و كانوا أربعين رجلا مؤمنهم و كافرهم ما خلا أبا لهب ، و أبا سفيان ( الهاشمي فكانا مع قريش ) ثمّ قال : و كان أبو جهل و العاص بن وائل ، و النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات ، فمن رأوا معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئا ، و يحذّرونه من النهب . فأنفقت خديجة عليهما السّلام على النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيه مالا كثيرا . ثمّ قال : و كانوا لا يأمنون إلاّ في موسم العمرة في رجب ، و موسم الحجّ في ذي الحجّة ، فيشترون و يبيعون فيهما . ثمّ قال : فكان أبو العاص بن الربيع ، و هو ختن النبي صلى اللّه عليه و آله يجي‏ء بالعير بالليل عليها البرّ و التمر ١ .

« فعزم اللّه لنا على الذبّ عن حوزته و الرمي من وراء حرمته » روى السروي عن مقاتل : لمّا رأت قريش يعلو أمره صلى اللّه عليه و آله قالوا : لا نرى محمّدا يزداد إلاّ كبرا و تكبّرا ، و إن هو إلاّ ساحر أو مجنون . و توعّدوه ، و تعاقدوا : لئن مات أبو طالب ليجمعنّ قبائل قريش كلّها على قتله ، و بلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم و أحلافهم من قريش ، فوصّاهم بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال : إنّ ابن أخي كما يقول :

أخبرنا بذلك آباؤونا و علماؤنا أنّ محمّدا نبيّ صادق ، و أمين ناطق ، و أنّ شأنه أعظم شأن ، و مكانه من ربّه أعلى مكان ، فأجيبوا دعوته ، و اجتمعوا على نصرته ، و راموا عدوّه من وراء حوزته ، فإنّه الشرف الباقي لكم الدهر ٢ .

فمكثوا بذلك أربع سنين ، و قال ابن سيرين ثلاث سنين .

و في كتاب ( شرف المصطفى ) : فبعث اللّه على صحيفتهم الأرضة فلحستها ، فنزل جبرئيل عليه السّلام فأخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله بذلك ، فأخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله أبا طالب ، فدخل أبو طالب على قريش في المسجد فعظّموه و قالوا : أردت

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب السروي ١ : ٦٣ و النقل بتقطيع .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب السروي ١ : ٦١ .

٣٦١

مواصلتنا ، و أن تسلم ابن أخيك إلينا ؟ قال : و اللّه ما جئت لهذا ، و لكن ابن أخي أخبرني و لم يكذبني : إنّ اللّه تعالى قد أخبره بحال صحيفتكم ، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقّا فاتّقوا اللّه ، و ارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم و قطيعة الرحم ، و إن كان باطلا دفعته إليكم . فأتوا بها و فكّوا الخواتيم ، فإذا فيها ( باسمك اللّهم ) و اسم ( محمّد ) فقط . فقال لهم أبو طالب : اتّقوا اللّه و كفّوا عمّا أنتم عليه . فسكتوا و تفرّقوا . فنزل : ادع إلى سبيل ربّك . . . ١ . قال : كيف أدعوهم و قد صالحوا على ترك الدعوة ؟ فنزل : يمحو اللّه ما يشاء و يثبت . . . ٢ . فسأل النبيّ صلى اللّه عليه و آله أبا طالب الخروج من الشعب ، فاجتمع سبعة نفر من قريش على نقضها ، و هم مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف الّذي أجار النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا انصرف من الطائف ، و زهير بن أميّة المخزومي ختن أبي طالب على ابنته عاتكة ، و هشام بن عمرو بن لؤي بن غالب و أبو البختري بن هاشم ، و زمعة بن الأسود بن المطلب ، و قال هؤلاء الخمسة : أخرقها اللّه ، و عزموا أن يقطعوا يمين كاتبها ، و هو منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ،

فوجدوها شلاّ قد قطعها اللّه ، فأخذ النبيّ صلى اللّه عليه و آله في الدعوة ، و في ذلك يقول أبو طالب :

و قد كان من أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا اللّه منها كفرهم و عقوقهم

و ما نقموا من ناطق الحقّ معرب

و أصبح ما قالوا من الأمر باطلا

و من يختلق ما ليس بالحقّ يكذب

فأمسى ابن عبد اللّه فينا مصدّقا

على سخط من قومنا غير معتب

٣

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النحل : ١٢٥ .

( ٢ ) الرعد : ٣٩ .

( ٣ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٦٥ .

٣٦٢

« مؤمننا يبغي » أي : يطلب .

« بذلك » أي : الجدّ في حفظ النبيّ صلى اللّه عليه و آله .

« الأجر » من اللّه تعالى .

« و كافرنا » من بني هاشم ، حتّى مثل أبي لهب .

« يحامي » بدفاعه .

« عن الأصل » أي : عشيرته ، روى ( روضة الكافي ) عن الصادق عليه السّلام ، قال :

لمّا أرادت قريش قتل النبيّ صلى اللّه عليه و آله قالت : كيف لنا بأبي لهب . فقالت أمّ جميل : أنا أكفيكموه ، أنا أقول له : إنّي أحبّ أن تقعد اليوم في البيت نصطبح . فلمّا أن كان من الغد ، و تهيّأ المشركون للنبيّ صلى اللّه عليه و آله قعد أبو لهب و امرأته يشربان ، فدعا أبو طالب عليّا عليه السّلام فقال له : يا بنيّ اذهب إلى عمّك أبي لهب فاستفتح عليه ، فإن فتح لك فادخل ، و إن لم يفتح لك فتحامل على الباب و اكسره و ادخل عليه ، فاذا دخلت عليه فقل له : يقول لك أبي : إنّ امرأ عمّه عين في القوم ، فليس بذليل .

فدخل عليه ، و قال له ذلك ، فقال : صدق أبوك ، فماذا يابن أخي ؟ فقال : يقتل ابن أخيك ، و أنت تأكل و تشرب ؟ فوثب و أخذ سيفه ، فتعلّقت به أمّ جميل ، فرفع يده و لطم و جهها لطمة ففقأ عينها ، فماتت و هي عوراء ، و خرج أبو لهب و معه السيف ، فلمّا رأته قريش عرفت الغضب في وجهه ، فقالت : مالك يا أبا لهب ؟

فقال : أبايعكم على ابن أخي ، ثمّ تريدون قتله ؟ و اللات و العزّى لقد هممت أن أسلم ، ثمّ تنظرون ما أصنع . فاعتذروا إليه و رجع ١ .

و في ( كامل الجزري ) : عمد عقبة بن أبي معيط و كان من أشدّ الناس أذى للنبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى مكتل فجعل فيه عذرة و جعله على باب النبيّ صلى اللّه عليه و آله فبصر به طليب بن عمير بن وهب بن عبد مناف بن قصي و أمّه أروى بنت عبد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٨ : ٢٧٦ ح ٤١٨ و النقل بتلخيص .

٣٦٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

المطلب و أخذ المكتل منه و ضرب به رأسه ، و أخذ بأذنيه ، فشكاه عقبة إلى أمّه . فقال : قد صار ابنك ينصر محمّدا . فقالت : و من أولى به منّا ، أموالنا و أنفسنا دون محمّد ١ .

« و من أسلم من قريش خلو ممّا نحن فيه بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه فهو من القتل بمكان أمن » في ( الكامل ) : بلغ من بالحبشة من المسلمين أنّ قريشا أسلمت ، فعاد منهم قوم و تخلّف قوم ، فلمّا قربوا من مكّة بلغهم أنّ إسلام أهل مكّة باطل ، فلم يدخل أحد منهم إلاّ بجوار أو مستخفيا ، فدخل عثمان في جوار أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أميّة فأمن بذلك ، و دخل أبو حذيفة بن عتبة ( بن ربيعة بن عبد شمس ) بجوار أبيه ٢ ، و كان الحصر في الشعب مختصا ببني هاشم و بني عبد المطلب .

« و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إذا أحمرّ البأس » أي : اشتدّ القتال .

« و أحجم الناس » جعل الجوهري ( أجحم ) بتقديم الجيم ( و أحجم ) بتقديم الحاء بمعنى واحد ، أي : كفّ الناس ٣ .

« قدّم أهل بيته » في الحرب .

« فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة و السيوف » هكذا في ( المصرية ) ،

و الصواب : ( حرّ السيوف و الأسنّة ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٤ ، و إنّما قدّمهم ليظهر على العالم أنّهم السّابقون في كلّ خير ، و قد تأدّب بذلك من اللّه تعالى حيث قال له أوّلا : و أنذر عشيرتك الأقربين ٥ ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٢ : ٧٤ .

( ٢ ) الكامل لابن الأثير ٢ : ٧٧ و النقل بتقطيع .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ٥ : ١٨٨٣ مادة ( حجم ) .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣٠٧ ، لكن في شرح ابن ميثم ٤ : ٣٥٩ مثل المصرية أيضا .

( ٥ ) الشعراء : ٢١٤ .

٣٦٤

فجمع بني عبد المطّلب و أنذرهم باللّه ، و أنّه أرسله إليهم ، و قال له ثانيا : و أمر أهلك بالصّلاة و اصطبر عليها . . . ١ فكان يجي‏ء كلّ يوم على باب عليّ و فاطمة عليهما السّلام و يقول : الصّلاة أهل البيت إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ٢ .

كما أنّه صلى اللّه عليه و آله أخّر المدّعين في قبال أهل بيته للأمر عن سائر أصحابه ليعلم الناس تأخّرهم .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : كانت قريش يوم أحد في ثلاثة آلاف ،

و النبيّ صلى اللّه عليه و آله في سبعمائة ، فظاهر يومئذ بين در عين ، و أخذ سيفا فهزّه ، و قال :

من يأخذه بحقّه ؟ فقال عمر : أنا . فأعرض عنه ، و قال الزبير : أنا فأعرض عنه ،

فوجدا في أنفسهما . فقام أبو دجانة فأعطاه إيّاه ٣ مع أنّه لم يكن من المدعين جدّ باقي أصحابه .

و في ( كامل الجزري ) و انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر و طلحة ( يوم أحد ) في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم فقال : ما يحبسكم ؟ قالوا : قد قتل النبيّ صلى اللّه عليه و آله . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ موتوا على ما مات عليه . ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل ، فوجد به سبعون ضربة و طعنة ، و ما عرفته إلاّ أخته ، عرفته بحسن بنانه ٤ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) طه : ١٣٢ .

( ٢ ) أمّا الأول فمن مسلمات التاريخ ، جمع كثيرا من طرقه السيوطي في الدر المنثور ٥ : ٩٥ ٩٨ ، و أمّا الثاني فأخرجه ابن عساكر في ترجمة علي عليه السّلام ١ : ٢٧٢ ح ٣٢٠ ، و تفسير القمي ٢ : ٦٧ ، و الحسكاني بثلاث طرق في شواهد التنزيل ١ : ٣٨١ ح ٥٢٦ ، و ٢ : ٢٨ ح ٦٦٧ ، ٦٦٨ ، و ابن مردويه و ابن النجار عنهما الدرّ المنثور ٤ : ٣١٣ و رواه الطبرسي بطرق في مجمع البيان ٧ : ٣٧ ، و غيرهم ، و الآية ٣٣ من سورة الأحزاب .

( ٣ ) المعارف لابن قتيبة : ١٥٩ .

( ٤ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٢ : ١٥٦ ، ١٥٨ سنة ٣ .

٣٦٥

و انتهت الهزيمة بجماعة المسلمين فيهم عثمان بن عفان و غيره إلى الأعوص ، فأقاموا به ثلاثا ، ثمّ أتوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة ١ .

هذا ، و نظير كلامه عليه السّلام في هذا الكتاب كتاب أنشأه المعتضد الخليفة العبّاسي في لعن معاوية رواه الطبري ، فقال : قال المعتضد في كتابه : إنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا ابتعث محمّدا صلى اللّه عليه و آله بدينه ، و أمره أن يصدع بأمره بدأ بأهله و عشيرته ، فدعاهم إلى ربّه و أنذرهم و بشّرهم و نصح لهم و أرشدهم ، فكان من استجاب له و صدّق قوله و اتّبع أمره نفر يسير من بني أبيه من بين مؤمن بما أتى به من ربّه و بين ناصر له ، و إن لم يتّبع دينه إعزازا له و إشفاقا عليه ،

لماضي علم اللّه فيمن اختار منهم ، و نفذت مشيئته فيما يستودعه إيّاه من خلافته و إرث نبيّه ، فمؤمنهم مجاهد بنصرته و حميّته يدفعون من نابذه ،

و ينهرون من عازّه و عانده ، و يتوثقون له ممّن كانفه و عاضده ، و يبايعون له من سمح بنصرته ، و يتجسّسون له أخبار أعدائه ، و يكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين ، حتّى بلغ المدى و حان وقت الاهتداء ، فدخلوا في دين اللّه و طاعته و تصديق رسوله ، و الايمان به بأثبت بصيرة ، و أحسن هدى و رغبة ، فجعلهم اللّه أهل بيت الرّحمة ، و أهل البيت الذين أذهب عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا ٢ .

« فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر » إنّما عدّ صلى اللّه عليه و آله عبيدة في أهل بيت النبيّ مع كونه مطّلبيا فإنّه عبيدة بن الحارث بن المطلب ، و اجتماعه مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله في عبد مناف ، كبني عبد شمس ، لأنّ بني المطّلب كانوا مع بني هاشم متّفقين ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٢ : ١٥٦ ، ١٥٨ سنة ٣ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٨ : ١٨٤ سنة ٢٨٤ .

٣٦٦

كبني نوفل مع بني عبد شمس ، و لأنّ الأصل في النسبة إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله الايمان و العمل ، فصار سلمان بذلك مع عجمته من أهل بيته ١ ، و صار أبو لهب مع كونه لبابا في الهاشمية أجنبيا عنه صلى اللّه عليه و آله .

و اختلفت الإمامية في جواز إعطائهم الخمس ، فالمشهور بينهم المنع ،

و اختصاص الخمس بالهاشمي . و ذهب الإسكافي ، و المفيد في الغريّة إلى الجواز ، استنادا إلى ما روي عن الصادق عليه السّلام : « لو كان عدل ما احتاج هاشمي و لا مطلبي إلى صدقة » ٢ .

و اختلف في قاتل عبيدة ، فقال المفيد ٣ و الواقدي ٤ و البلاذري ٥ : قاتله شيبة . و قال ابن إسحاق ٦ ، و ابن قتيبة ٧ ، و عليّ بن إبراهيم القمي ٨ : قاتله عتبة . فروى المفيد مسندا عن أبي رافع ، قال : لمّا أصبح الناس يوم بدر اصطفّت قريش ، و أمامها عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و ابنه الوليد ، فنادى عتبة : يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش . فبدر إليهم ثلاثة من شبّان الأنصار ، فقال لهم عتبة : من أنتم ؟ فانتسبوا له ، فقال لهم : لا حاجة لنا إلى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) هذا إشارة إلى حديث النبي صلى اللّه عليه و آله : « سلمان منّا أهل البيت » ، و أخرجه الحاكم في المستدرك و الطبراني في معجمه الكبير عنهما الجامع الصغير ٢ : ٣٣ و أبو يعلي في مسنده عنه المطالب العالية ٤ : ٨٣ ح ٤٠٢٥ و الواقدي في المغازي ١ : ٤٤٦ ، و ابن سعد بطريقين في الطبقات ٤ : ق ١ : ٥٩ و ٧ : ق ٢ : ٦٥ ، و غيرهم ، و أما سياق فلان منّا أهل البيت فقد جاء في أفراد آخرين ، منهم : أبو ذر و المقداد و عمار و جابر بن عبد اللّه و غيرهم .

( ٢ ) الاستبصار للطوسي ٢ : ٣٦ ح ٦ ، و التهذيب ٤ : ٥٩ ح ٦ و نقل هذه الأقوال العلاّمة الحلّي في المختلف ١ : ٢٠٥ .

( ٣ ) الإرشاد للمفيد : ٤١ .

( ٤ ) المغازي للواقدي ١ : ٦٩ .

( ٥ ) أنساب الاشراف للبلاذري ١ : ٢٩٧ .

( ٦ ) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥١ ، و الظاهر انه نقل عن ابن اسحاق لكن لم يصرح به .

( ٧ ) المعارف لابن قتيبة : ١٥٧ .

( ٨ ) تفسير القمي ١ : ٢٦٤ .

٣٦٧

مبارزتكم ، إنّما طلبنا بني عمّنا . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله للأنصار : ارجعوا إلى مواقفكم . ثمّ قال : قم يا عليّ ، قم يا حمزة ، قم يا عبيدة ، قاتلوا على حقّكم الّذي بعث اللّه به نبيّكم ، إذا جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور اللّه ١ . فقاموا فصفّوا للقوم ، و كان عليهم البيض فلم يعرفوا ، فقال لهم عتبة : تكلّموا ، فإن كنتم أكفاء قاتلناكم . فقال حمزة : أنا حمزة بن عبد المطلّب أسد اللّه ، و أسد رسوله . فقال عتبة : كفو كريم . و قال أمير المؤمنين : أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ،

و قال عبيدة : أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب . فقال عتبة لابنه الوليد : قم .

فبرز إليه أمير المؤمنين و كانا إذ ذاك أصغر الجماعة سنّأ فأختلفا ضربتين ،

أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين عليه السّلام ، و اتّقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين عليه السّلام ، فأبانتها فروي أنّه عليه السّلام كان يذكر بدرا و قتله الوليد ، فقال :

« كأنّي إلى وميض خاتمه في شماله ثمّ ضربته ضربة أخرى فصرعته ،

و سلبته ، فرأيت به درعا من خلوق ، فعلمت أنّه قريب عهد بعرس » ثم بارز عتبة حمزة فقتله حمزة ، و مشى عبيدة و كان أسنّ القوم إلى شيبة فاختلفا ضربتين ، فأصاب ذباب سيف شيبة عضلة ساق عبيدة ، فمات بالصفراء ، و في قتل عتبة و شيبة و الوليد تقول هند بنت عتبة :

أيا عين جودي بدمع سرب

على خير خندف لم ينقلب

تداعي له رهطه غدوة

بنو هاشم و بنو المطلب

يذيقونه حدّ أسيافهم

يعرّونه بعد ما قد شجب

٢ و قال القمّي : نظر عتبة إلى أخيه شيبة و إلى ابنه الوليد ، فقال : قم يا بنيّ .

و طلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوها لعظم هامته ، فاعتجر بعمامته ، ثمّ أخذ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الصف : ٨ .

( ٢ ) الإرشاد للمفيد : ٤٠ و النقل بتصرف يسير .

٣٦٨

سيفه ، و تقدّم هو و أخوه و ابنه ، و نادي : يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش . . .

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : يا عبيدة ، عليك بعتبة . و قال لحمزة : عليك بشيبة . و قال لعليّ عليه السّلام : عليك بالوليد . فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم ، فقال عتبة : من أنتم ؟ قال عبيدة : أنا عبيدة . قال : كفو كريم . فمن هذان ؟ قال : حمزة و عليّ . فقال : كفوان كريمان ، لعن اللّه من أوقفنا و إيّاكم هذا الموقف قال الشارح : و مراده أبو جهل فقال شيبة لحمزة : من أنت ؟ قال : حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه و أسد رسوله . فقال له شيبة : لقد لقيت أسد الحلفاء ، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد اللّه ؟ فحمل عبيدة على عتبة ، فضربه على رأسه ضربة فلق هامته ، و ضرب عتبة عبيدة على ساقه ، فقطعها و سقطا جميعا . و حمل حمزة على شيبة ،

فتضاربا بالسيفين حتّى تثلما ، و كلّ واحد يتقي بدرقته ، و حمل أمير المؤمنين على الوليد ، فضربه على حبل عاتقه ، فأخرج السيف من أبطه . ثمّ اعتنق حمزة و شيبة ، فقال المسلمون لأمير المؤمنين عليه السّلام : أمّا ترى الكلب قد بهر عمّك ؟ .

فحمل عليه عليّ عليه السّلام ثمّ قال : يا عمّ طأطي‏ء رأسك . و كان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه على رأسه فطنّ نصفه . ثمّ جاء إلى عتبة ، و به رمق فأجهز عليه ، و حمل علي عليه السّلام و حمزة عبيدة حتّى أتيا به النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فنظر إليه و استعبر ، فقال عبيدة للنبيّ صلى اللّه عليه و آله : بأبي أنت و أمي ألست شهيدا ؟ قال : بلى ، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي . فقال : لو أنّ عمّك كان حيّا لعلم أنّي أولى بما قال منه . قال : و أيّ أعمامي تعني ؟ قال : أبو طالب حيث يقول :

كذبتم و بيت اللّه نبزي محمّدا

و لمّا نطاعن دونه و نناضل

و ننصره حتى نصرّع حوله

و نذهل عن أبنائنا و الحائل

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أما ترى ابنه عليّا كالليث العادي بين يدي اللّه و رسوله ،

و ابنه الآخر جعفر في جهاد اللّه بأرض الحبشة ؟ فقال : أسخطت عليّ يا رسول

٣٦٩

اللّه في هذه الحالة ؟ قال : لا ، و لكن ذكرت عمّي فانقبضت لذلك ١ .

و الصحيح القول الأخير ، لبيت هند بنت عتبة في قتل أبيها ( بنو هاشم و بنو المطلب ) على ما مر في أبياتها ، فإنّه لا ينطبق إلاّ على القول الأخير المشتمل على أنّ عبيدة صرع عتبة و عبيدة من بني المطلب و أجهز عليه أمير المؤمنين عليه السلام و هو من بني هاشم .

و يشهد له قول هند بنت أثاثة المطلبية في جواب هند بنت عتبة ، كما في ( سيرة ابن هشام ) :

حمزة ليثي و عليّ صقري

إذ رام شيب و أبوك غدري

فخضّبا منه ضواحي النحر

٢ و يشهد له قول أمير المؤمنين عليه السّلام إلى معاوية : « أنا قاتل جدّك » ، ففي ( النهج ) في العاشر من باب كتبه : « فأنا أبو حسن قاتل جدّك و خالك و أخيك شدخا يوم بدر » ٣ ، و في ( ٢٨ ) منها : « و سيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدّك و أهلك » ٤ ، و في ( ٦٤ ) منها : « و عندي السيف الّذي أعضضته بجدّك و خالك و أخيك في مقام واحد » ٥ .

و ممّا ذكرنا من اختلاف روايات الشيعة في قاتل عبيدة كروايات العامّة ، يظهر لك ما في قول ابن أبي الحديد : إنّ الشيعة رووا كون قرن عبيدة شيبة ٦ ، فالقمي من قدماء الشيعة ، و قد روى أنّ قرنه عتبة كما عرفت .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ١ : ٢٦٤ و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٧ .

( ٣ ) نهج البلاغة ٣ : ١١ .

( ٤ ) نهج البلاغة ٣ : ٣٥ .

( ٥ ) نهج البلاغة ٣ : ١٢٣ .

( ٦ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣٣٨ نقلا عن إرشاد المفيد .

٣٧٠

هذا ، و روى ( طبقات ابن سعد ) أنّ قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربّهم . . . ١ نزل في عليّ و حمزة و عبيدة ، و في عتبة و شيبة و الوليد ٢ .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : بدر : كان اسم رجل من غفار رهط أبي ذر من بطن يقال لهم : بنو النار ٣ .

« و قتل حمزة يوم أحد » قال القمّي : كان حمزة يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا و لم يثبت له أحد ، و كانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشيا عهدا : لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لأعتقنّك . و كان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيا ، فقال : أمّا محمّد فلا أقدر عليه ، و أمّا عليّ فرأيته رجلا كثير الالتفات حذرا . فكمن لحمزة ، فرآه يهذّ الناس هذّا ، فمرّ به ، فوطأ على حرف نهر ، فسقط ،

فأخذ وحشي حربته ، فهزّها و رماها ، فوقعت في خاصرته ، و خرجت من مثانته منغمسة بالدم ، فسقط فأتاه ، فشقّ بطنه و أخذ كبده و أتى إلى هند ، فقال لها : كبد حمزة . فأخذتها في فيها فلاكتها . فجعلها اللّه في فيها مثل الفضة .

فلفظتها ، و رمت بها . فبعث اللّه تعالى ملكا فردّها إلى موضعها ، أبي اللّه أن يدخل شيئا من حمزة النار . فجاءت إليه هند ، فقطعت مذاكيره و قطعت أذنيه و جعلتهما خرصين ، و شدّتهما في عنقها ، و قطعت يديه و رجليه . . . قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : من له علم بعمّي حمزة ؟ فقال الحرث بن الصمّة : أنا أعرف موضعه . فجاء حتّى وقف عليه ، فكره أن يرجع إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيخبره بذلك .

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام : أطلب عمّك . فجاء حتّى وقف عليه ، فكره

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الحج : ١٩ .

( ٢ ) الطبقات لابن سعد ٢ ق ١ : ١١ و ٣ ق ١ : ١٠ .

( ٣ ) المعارف لابن قتيبة : ١٥٢ .

٣٧١

أن يرجع ، فجاء النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فلمّا رأى ما فعل به بكى ، ثمّ قال : ما وقفت موقفا قطّ أغيظ عليّ من هذا المكان ، لئن أمكنني اللّه من قريش لأمثّلن بسبعين رجلا منهم . فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام بهذا : و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين ١ . فقال : بل أصبر ٢ .

« و قتل جعفر يوم مؤتة » قال الجوهري : مؤتة بالهمزة : اسم أرض قتل بها جعفر ابن أبي طالب رضى اللّه عنه ، و أمّا موتة بالضمّ : فجنس من الجنون و الصّرع يعتري الإنسان ، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله ، كالنائم و السكران ٣ .

و في ( البلدان ) : مؤتة من قرى البقاء في حدود الشام ، و قيل : من مشارف الشام الّتي تنسب إليها المشرفيه من السيوف ، كما فسّر به ابن السكّيت قول كثير :

أبى اللّه للشمّ الأنوف كأنّهم

صوارم يجلوها بمؤتة صيقل

٤ و في ( كامل الجزري ) : كانت غزوة مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان ، تجهز الناس و هم ثلاثة آلاف حتّى نزلوا ( معان ) ، فبلغهم أنّ هرقل سار إليهم في مائة ألف من الروم ، و مائة ألف من المستعربة من لخم و جذام و بلقين و بلى ، عليهم رجل من بلى يقال له : مالك بن رافلة ، و نزلوا ( مآب ) من أرض البلقاء . فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم ، و قالوا : نكتب إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله نخبره الخبر و ننتظر أمره ، فشجّعهم عبد اللّه بن رواحة و قال : يا قوم و اللّه إنّ الذي تكرهون للّذي خرجتم تطلبون الشهادة ، و ما نقاتل الناس بعدد و لا قوّة ، و لا نقاتلهم إلاّ بهذا الدين ، فانطلقوا فما هي إلاّ إحدى الحسنيين

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النحل : ١٢٦ .

( ٢ ) تفسير القمي ١ : ١١٦ و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ١ : ٢٦٨ مادة ( مأت ) .

( ٤ ) معجم البلدان للحموي ٥ : ٢٢٠ و النقل بالمعنى .

٣٧٢

( إمّا ظهور ، و إمّا شهادة ) . فالتقتهم جموع الروم و العرب بقرية من البلقاء يقال لها : مشارف ، و انحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة . فالتقى الناس عندها ،

و كان على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري ، و على ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقاتل زيد بن حارثة براية النبيّ صلى اللّه عليه و آله حتّى شاط في رماح القوم ، ثمّ أخذها جعفر بن أبي طالب ، فقاتل و هو يقول :

يا حبذا الجنّة و اقترابها

طيّبة و باردا شرابها

و الروم روم قد دنا عذابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها

فلما اشتدّ القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثمّ قاتل القوم حتّى قتل ، و كان جعفر أوّل من عقر فرسه في الاسلام ، فوجدوا به بضعا و ثمانين بين رمية و ضربة و طعنة ، فلمّا قتل أخذ الراية عبد اللّه بن رواحة . . . ١ قال ابن أبي الحديد : اتّفق المحدّثون على أنّ زيد بن حارثة هو كان الأمير الأوّل ، و أنكرت الشيعة ذلك ، و قالوا : كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأوّل ، فإن قتل فزيد بن حارثة ، فإن قتل فعبد اللّه بن رواحة . و رووا في ذلك روايات ، و قد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمّد بن إسحاق في كتاب ( المغازي ) ما يشهد لقولهم ، فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت و هو :

و لا يبعدنّ اللّه قتلي تتابعوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

و زيد و عبد اللّه حين تتابعوا

جميعا و أسياف المنيّة تخطر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا

شعوب و خلق بعدهم يتأخّر

غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم

إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغرّ كضوء البدر من آل هاشم

أبي إذا سيم الظلامة أصعر

فطاعن حتّى مال غير موسّد

بمعترك فيه القنا متكسر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٢ : ٢٣٤ سنة ٨ و النقل بتقطيع .

٣٧٣

فصار مع المستشهدين ثوابه

جنان و ملتفّ الحديقة أخضر

و كنّا نرى في جعفر من محمّد

وقارا و أمرا حازما حين يأمر

و منها قول كعب بن مالك الأنصاري :

نام العيون و دمع عينك يهمل

سحّا كما و كف الرباب المسبل

وجدا على النفر الّذين تتابعوا

قتلى بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

ساروا أمام المسلمين كأنّهم

طود يقودهم الهزبر المشبل

إذ يهتدون بجعفر و لوائه

قدام ، أوّلهم و نعم الأوّل

حتّى تقوّضت الصفوف و جعفر

حيث التقى جمع الغواة مجدّل

فتغيّر القمر المنير لفقده

و الشمس قد كسفت و كادت تأفل

١ قلت : لم يختصّ كون جعفر أمير الكل و الأمير الأوّل روايته بالشيعة ، فقد روى ذلك كاتب الواقدي في ( طبقاته ) مع كونه ناصبيا شديد النصب ، فقال :

أخبرنا بكر بن عبد الرحمن قاضي الكوفة ، قال : أخبرنا عيسى بن المختار عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سالم بن أبي الجعد عن أبي اليسر عن أبي عامر قال : بعثني النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى الشام ، فلمّا رجعت مررت على أصحابي و هم يقاتلون المشركين بمؤتة قلت : و اللّه لا أبرح اليوم حتّى انظر إلى ما يصير إليه أمرهم . فأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب ، و لبس السلاح ثمّ حمل جعفر حتّى إذا همّ أن يخالط العدو رجع ، فوحش بالسلاح ثمّ حمل على العدو و طاعن حتّى قتل ، ثمّ أخذ اللواء زيد بن حارثة ، و طاعن حتّى قتل ، ثمّ أخذ اللواء عبد اللّه ابن رواحة و طاعن حتى قتل ، ثمّ انهزم المسلمون أسوأ هزيمة ٢ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقله عن ابن اسحاق ابن هشام في السيرة ٤ : ١٨ بتفاوت في ترتيب الأبيات ، و قاله ابن ابي الحديد في شرحه ٣ : ٤١١ و النقل بإسقاط بعض الأبيات .

( ٢ ) أخرجه ابن سعد في الطبقات ٢ ق ١ : ٩٤ ، و فيه بعد قوله في جعفر « و ليس السلاح » ما لفظه : « و قال غيره أخذ زيد اللواء ، و كان رأس القوم » .

٣٧٤

فظهر أنّ ما قاله من كون الأمير الأوّل زيد مشهوري بين محدّثيهم لا اتّفاقي ، و كأنّهم شهّروا تقدّم زيد على جعفر دفعا لعار تأمير النبيّ صلى اللّه عليه و آله زيدا ،

و ذاك على صدّيقهم و فاروقهم في سرايا قبل ذلك ، و تأمير ابنه أسامة في مرض وفاته صلى اللّه عليه و آله أيضا على الصدّيق و الفاروق ، و قد طعنا في النبيّ صلى اللّه عليه و آله في تأميرهما عليهما ، حتّى خطب النبيّ صلى اللّه عليه و آله في مرض وفاته لمّا أمّر أسامة عليهما ، و حثّ على شخوصهما في جيشه حتّى لعن المتخلّف عن جيشه ، كما رواه ( سقيفة الجوهري ) ١ ،

و صرّح به ( ملل الشهرستاني ) ٢ . فقال صلى اللّه عليه و آله لهم ،

كما في ( طبقات كاتب الواقدي ) : إن طعنتم في أسامة بن زيد فقد طعنتم قبل على أبيه زيد بن حارثة ، و حقّ لهما الإمارة ٣ .

و من الطرائف أنّ الجزريّ قال : إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أخبر عن تلك الواقعة ،

فقال : فقتل زيد شهيدا فاستغفر له ، ثمّ أخذ اللواء جعفر ، فشدّ على القوم حتّى قتل شهيدا فاستغفر له . . . قال : ثمّ أخذ الراية سيف من سيوف اللّه خالد بن الوليد ، فعاد بالناس . فمن يومئذ سمّي خالد سيف اللّه . . . فلمّا رجع الجيش لقيهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله فأخذ عبد اللّه بن جعفر فحمله بين يديه ، فجعل الناس يحثون التراب على الجيش ، و يقولون : يا فرّار يا فرّار . . . ٤ .

فإذا كان خالد من سيوف اللّه ، كيف يحثو المسلمون التراب عليه ، و على

ـــــــــــــــــ

( ١ ) السقيفة للجوهري : ٧٤ .

( ٢ ) الملل و النحل للشهرستاني ١ : ٢٩ .

( ٣ ) أخرجه ابن سعد بسبع طرق في الطبقات ٢ ق ١ : ١٣٦ ، و ٢ ق ٢ : ٤١ ، و ٤ ق ١ : ٤٥ و ٤٦ و ٤٧ ، و أخرجه أيضا مسلم بطريقين في صحيحة ٤ : ١٨٨٤ ح ٦٣ و ٦٤ ، و الترمذي بطريقين في سننه ٥ : ٦٧٦ ح ٣٨١٦ ، و أحمد بطرق في مسنده ٢ : ٨٩ ، و غيره ، و الواقدي في المغازي ٢ : ١١١٩ ، و الطبري بطريقين في تاريخه ٢ : ٤٢٩ ، و ٤٣١ سنة ١١ بفرق يسير لفظي .

( ٤ ) الكامل لابن الأثير ٢ : ٢٣٧ سنة ٨ ، و سيأتي حديث ابي سعيد الخدري في الباب و ذيل الحديث .

٣٧٥

جيشه ، و يقولون لهم : يا فرّار يا فرّار ؟ فهذا يدلّ على أنّه كان من البائين بغضب اللّه حسب قوله تعالى : و من يولّهم يومئذ دبره إلاّ متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه . . . ١ لا من سيوف اللّه .

و قد روى الواقديّ عن ثعلبة بن أبي مالك ، قال : انكشف خالد بن الوليد يومئذ حتّى عيّروا بالفرار ، و تشاءم الناس به ٢ .

و روى عن أبي سعيد الخدري ، قال : أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزما ،

فلمّا سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم بالجرف ، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ، و يقولون : يا فرّار أفررتم في سبيل اللّه ٣ ؟

إنّ إخواننا يدّعون الكمال و يأتون بالتناقض ، و أغلب تواريخهم هكذا مختلطة بأحاديثهم الموضوعة ، فهل صار خالد بن الوليد بانهزامه يوم مؤتة بالمسلمين أو بهزيمة أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله في أحد حتّى قتل منهم سبعون ،

و منهم حمزة سيّد الشهداء عمّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، أو بإرادة قتله لأمير المؤمنين عليه السّلام للأوّل ، أو بغدره ببني جذيمة بعد فتح مكّة بعد أمانهم ، فلمّا انتهى الخبر إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله رفع يديه إلى السماء ، كما في الطبري ٤ ثمّ قال : اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد . ثمّ بعث أمير المؤمنين عليه السّلام فأعطاهم الدية ، و عوض أموالهم حتّى ميلغة كلابهم ، و أعطاهم زيادة على ما عيّنوا احتياطا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنفال : ١٦ .

( ٢ ) المغازي للواقدي ٢ : ٧٦٤ .

( ٣ ) المغازي للواقدي ٢ : ٧٦٤ ، و عن أبي سعيد الخدري ، و ابن هشام في السيرة ٤ : ١٦ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٣٢٣ سنة ٨ ، و رواه الطبرسي في اعلام الورى : ١٠٤ ، عن عروة بن الزبير و أخرجه رزين عنه جامع الأصول ٩ : ٢٥٢ ح ٦١٢٩ ، عن النعمان بن بشير ، و للحديث ذيل نصفه : « فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليسوا بفرّار و لكنهم كرّار ان شاء اللّه » .

( ٤ ) أخرجه الطبري في تاريخه ٢ : ٣٤١ سنة ٨ ، و ابن هشام في السيرة ٤ : ٥٤ ، و الواقدي في المغازي ٢ : ٨٨١ ، و ابن سعد في الطبقات ٢ ق ١ : ١٠٦ ، و النسائي في سننه ٨ : ٢٣٧ ، و أحمد في مسنده ٢ : ١٥٠ .

٣٧٦

ثمّ رجع و أخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله بما فعل . فقال : أصبت و أحسنت ، ثمّ قام و استقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتّى أنّه ليرى بياض ما تحت منكبيه ، و هو يقول :

« اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد » ثلاث مرّات ، أو بغدره بمالك بن نويرة و قتله له بغير حقّ و زناه بإمرأته ، حتّى أنكر ذلك عمر على أبي بكر و على خالد غاية الإنكار من سيوف اللّه ؟ فلو كانوا لقّبوه لأعماله سيف الشيطان كان لعمر اللّه أصدق و أقرب إلى الحقّ و الحقيقة . و لم لم يقتد أبو بكر بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله في تبرّئه من خالد مع قتله لطائفة من المشركين كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله آمنهم ، و نفسه كان آمنهم حتّى وضعوا أسلحتهم ، فكيف لم يتبرأ منه أبو بكر مع قتله لمؤمن آمنه ؟ و لعمر اللّه ما لقّبه سيف اللّه إلاّ صدّيقهم لمّا طلب عمر منه أن يقيد من خالد لقتله مسلما ، و يجري عليه الحدّ لزناه بامرأته ،

فقال : ما كانت لأغمد سيفا سلّه اللّه ١ .

فإن كان إخواننا و ضعوا أحاديث لتصحيح عمل صدّيقهم ، فما يفعلون باستهزاء فاروقهم لصدّيقهم بتسميته لخالد : سيف اللّه ، بأنّ في سيف اللّه هذا رهقا و طغيانا ٢ ؟

سبحان اللّه من تناقضاتهم ، و الحمد للّه على فضحه للكاذب . فقالوا : إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله سمّاه سيف اللّه في انهزامه بالمسلمين ، مع أنّ المسلمين تشأموا به و كانوا يحثون التراب في وجهه لمّا رجع ، كما مرّ من الواقدي .

و من العجب أنّهم سمّوا خالدا مع أعماله تلك : سيف اللّه ، و لا يسمّون الأشتر به ، مع مقاماته في الجمل و صفّين و النهروان و جهاده مع الناكثين و القاسطين و المارقين ، و عدم كون أحد أظهر آثارا منه حتّى مثل عمّار ، مع أنّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تأريخ الطبري ٢ : ٥٠٣ سنة ١١ بلفظ : « يا عمر لم أكن لأشيم سيفا سلّه اللّه على الكافرين » .

( ٢ ) تأريخ الطبري ٢ : ٥٠٣ سنة ١١ بلفظ : « قال عمر لأبي بكر : انّ في سيف خالد رهقا » .

٣٧٧

أمير المؤمنين عليه السّلام وصفه به محقّقا ، فكتب إلى أهل مصر لمّا بعثه إليهم : « فإنّه سيف من سيوف اللّه لا كليل الظبّة ، و لا نابي الضريبة » ١ مع كون أمير المؤمنين عليه السّلام كنفس النبيّ صلى اللّه عليه و آله بنص القرآن ٢ ، و بالوجدان و العيان ؟ و هل كلّ ذلك إلاّ لعداوتهم مع أهل بيت نبيّهم عليهم السّلام ؟ ثمّ لم يختص أشعار ( مغازي محمّد بن إسحاق ) الدالة على كون جعفر الأمير الأوّل بما قال ابن أبي الحديد ، فيدلّ عليه أيضا ما نقله عنه ابن هشام في ( سيرته ) عمّن رجع من غزوة مؤتة :

كفى حزنا أنّي رجعت و جعفر

و زيد و عبد اللّه في رمس أقبر

قضوا نحبهم لمّا مضوا لسبيلهم

و خلّفت للبلوى مع المتغير

ثلاثة رهط قدّموا فتقدّموا

إلى ورد مكروه من الموت أحمر

٣ و أيضا فلا ريب أنّ جعفرا كان أفضل من زيد ، فكيف يقدّم النبي صلى اللّه عليه و آله عليه المفضول ؟ هل كان دين النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، أو عمل النبيّ صلى اللّه عليه و آله على خلاف مقتضى العقول ؟

هذا ، و كما كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقدّم أهل بيته في اشتداد الحروب ، كذلك أهل بيته كانوا هم الباقين معه صلى اللّه عليه و آله وقت انهزام الناس عنه صلى اللّه عليه و آله . ففي ( معارف ابن قتيبة ) : كان الّذين ثبتوا يوم حنين مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد هزيمة الناس عليّ عليه السّلام و العبّاس و هو آخذ بحكمة بغلته و ابنه الفضل ، و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، و أيمن بن أمّ أيمن مولاة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قتل يومئذ و ربيعة بن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نهج البلاغة للشريف الرضي ٣ : ٦٣ الكتاب ( ٣٨ ) .

( ٢ ) انظر آية المباهلة ٦١ من سورة آل عمران : فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين ، فمع الرجوع إلى سبب النزول يظهر أن المراد بأنفسنا : علي عليه السّلام .

( ٣ ) سيرة ابن هشام ٤ : ٢١ .

٣٧٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

حارث بن عبد المطلب ، و أسامة بن زيد مولى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و هو و أخوه لأمّه أيمن ، و إن لم يكونا من نفس بني هاشم ، بل من مواليهم ، إلاّ أنّ مولى القوم منهم ، قال العباس :

نصرنا رسول اللّه في الحرب سبعة

و قد فرّ من فرّ منهم فأقشعوا

و ثامننا لاقى الحمام بسيفه

بما مسّه في اللّه لا يتوجع

١ و أمّا هو عليه السّلام ، فمواساته مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و وقايته له بنفسه لا يحتاج إلى بيان ، ففي أحد لمّا انهزم المسلمون ، و قصد المشركون لقتل النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، قال الطبري : أبصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله جماعة من مشركي قريش ، فقال لعليّ عليه السّلام : احمل عليهم . فحمل عليهم ففرّق جمعهم ، و قتل عمرو بن عبد اللّه الجمحي ، ثمّ أبصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله جماعة من مشركي قريش ، فقال لعلي عليه السّلام : احمل عليهم . فحمل عليهم ففرّق جماعتهم ، و قتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي . فقال جبرئيل : يا رسول اللّه إنّ هذه للمواساة . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّه منّي و أنا منه .

فقال جبرئيل : و أنا منكما . فسمعوا صوتا :

لا سيف إلاّ ذو الفقار

و لا فتى إلاّ عليّ

٢

٣٣

في آخر فصل اختيار غريب كلامه عليه السّلام من الباب الثّالث ) و في حديثه عليه السّلام :

كُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ اِتَّقَيْنَا ؟ بِرَسُولِ اَللَّهِ ؟ ص فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى اَلْعَدُوِّ مِنْهُ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المعارف لابن قتيبة : ١٦٤ و النقل بتصرف .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٩٧ سنة ٣ ، و أما حديث « لا سيف إلاّ ذو الفقار و لا فتى إلاّ علي » فقد مرّ تخريجه عن طرق كثيرة في شرح فقرة « و الفضائل الجمّة » من شرح خطبة الرضي .

٣٧٩

« و معنى ذلك انّه اذا عظم الخوف من العدو ، و اشتد عضاض الحرب ،

فزع المسلمون إلى قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فينزل اللّه عليهم النصر به ، و يأمنون مما كانوا يخافونه بمكانه ، و قوله عليه السّلام : إذا احمر البأس كناية عن اشتداد الأمر و الحرب ، و قد قيل في ذلك أقوال أحسنها : إنّه عليه السّلام شبّه حمي الحرب بالنّار التي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها ، و مما يقوي ذلك قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و قد رأى مجتلف الناس يوم حنين ، و هي حرب هوازن : « الآن حمي الوطيس » و الوطيس : مستوقد النار . فشبّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار ، و شدّة التهابها . انقضى هذا الفصل ، و رجعنا إلى سنن الغرض الأول في هذا الباب » .

أقول : رواه الطبري مع اختلاف يسير ، فروى عن جعفر بن محمّد البزوري ، عن عبيد اللّه بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي اسحاق ، عن حارثة ،

عن علي عليه السّلام ، قال : لمّا أن كان يوم بدر ، و حضر الناس اتّقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فكان من أشدّ الناس بأسا ، و ما كان منّا أحد أقرب إلى العدوّ منه ١ .

و رواه أبو عبيد مثل نقل المصنّف ، فنقله كتاب ( لسان العرب ) عنه ،

هكذا : كنّا إذا احمرّ البأس اتّقيناه برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فلم يكن أحد أقرب إليه منه ٢ .

« كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » في ( تفسير القمي ) : لمّا رأى النبيّ انهزم أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ( يوم أحد ) هزيمة قبيحة ، و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كلّ وجه فلمّا رأى النبيّ صلى اللّه عليه و آله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه و قال : إنّي أنا رسول اللّه . إلى أين تفرّون عن اللّه و عن رسوله ؟ ٣

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٣٥ سنة ٢ .

( ٢ ) لسان العرب لابن منظور ٤ : ٢١٠ ، ٢١١ مادة ( حمر ) .

( ٣ ) تفسير القمي ١ : ١١٤ .

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) .

وأمّا الآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول : إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرون والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي :

1 ـ( يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ) .

2 ـ( وَرِضْوانٍ ) .

23 ـ( وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ) .

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول( خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ تحريف التاريخ

كما قرأنا آنفا في شأن نزول الآيات محل البحث ، وطبقا لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة ، أنّها نزلت في عليعليه‌السلام وبيان فضائله ، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع «وقد قلنا مرارا بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي».

إلّا أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإمام عليعليه‌السلام فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند عليعليه‌السلام من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين : لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله ، وسعوا جاهدين لأن

٥٦١

يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل عليعليه‌السلام على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتدا إلى عصرنا الحاضر ، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل السنة ، إذ أظهر كلاما عجيبا عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث ، فقال : في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم «أصولها وفروعها» من مصادرنا وكتبنا ، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلّا أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب ، قال : أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن ، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم ، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! «طبعا كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأولى».

فقلت له : ليس هذا هو الأسلوب في التحقيق ، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين ، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه ، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال : إنّه صحيح ، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة ، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن ، حتى لو كان الحديث معتبرا.

فما أحسن أن نختار أسلوبا آخر للتحقيق بدل ذلك ، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن : لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه ، بل نسوها وربّما طعنوا فيها ، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الالتفات إلى ما ذكرناه آنفا ، ننقل كلاما لصاحب تفسير «المنار» المعروف ، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفا ، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا ، وينبغي أن نعدّها حديثا مخالفا للقرآن ، فقال عنها : إنّها معتبرة!

٥٦٢

وهي ما نقل عن النعمان بن بشير إذ يقول : كنت جالسا في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره ، فقال بعضهم : لا أرى عملا بعد الإسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم ، وقال الآخر : إنّ عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل ، فقال الثالث ، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إلى رسول الله فسأله عن ذلك ، فنزلت الآيات محل البحث(1) .

إلّا أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات ، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانبا ويعرض عنها ؛ لأنّه :

أوّلا : لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، والإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أخرى ، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقاية الحاج (لاحظ بدقة).

ثانيا : إنّ جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تدل على أن أعمال الطائفة الأولى كانت معروفة بالظلم ، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك ، لإنّ القرآن يقول( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (2) .

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 10 ، ص 215.

(2) سورة لقمان : الآية 13.

٥٦٣

ولو كان القياس بين الإيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإيمان والجهاد ، لكانت جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) لغوا ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثا : إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) مفهومها أن أولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله ، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقا لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعا : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته ، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك ، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يستدل عليه هو التعبير ب( أَعْظَمُ دَرَجَةً ) حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه ، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

إلّا أنّ الجواب على ذلك واضح ، لأنّ أفعل التفضيل غالبا تستعمل في الموازنة بين أمرين ، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد ، كأن يقال مثلا : الوصول متأخرا خير من عدم الوصول ، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن ، لكن الوصول بتأخير أحسن.

أو أننا نقرأ في القرآن( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) أي من الحرب [سورة النساء الآية 28] فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.

أو نقرأ مثلا( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) [سورة البقرة الآية 221] ترى

٥٦٤

هل المشرك حسن وفيه خير؟!

أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية 108)( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة ، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبدا ، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية ، بل في سائر اللغات كثير.

من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانبا ، وأن نأخذ بما ينسجم وظاهر الآي ، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات ، على أنّه سبب لنزولها ، وأنّه لفضيلة كبرى لإمام الإسلام العظيم عليعليه‌السلام .

نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين ، وأن يجنبنا التعصب ، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.

2 ـ ما هو مقام الرضوان؟

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله ، هو شيء غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.

وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (72) من هذه السورة ، في تفسير جملة( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) إن شاء الله.

* * *

٥٦٥

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) )

التّفسير

كلّ شيء فداء للهدف :

إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلا فقد تذرع بعضهم وفقا لما ورد في قسم من التفاسير) بأن من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم ، فقد يسلم الأب ويبقى ولده في الشرك على حاله ، وقد يقع العكس إذ يخطو الابن نحو توحيد الله ويبقى أبوه مشركا ، وهذه الحالة ربّما كانت موجودة بين الأخ وأحيه ، والزوج

٥٦٦

وزوجه ، والفرد وعشيرته أو قبيلته ، وهكذا.

فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلا بدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم إلخ. هذا كلّه من جهة.

ثمّ ومن جهة أخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريبا ، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكّة ازدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكّة بيوت عامرّة نسبيا ، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون ، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكّة.

فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص ، وتردّان عليهم ببيان صريح ، فتقول الآية الأولى منهما :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ) .

ثمّ تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفة :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين ، ويظلم مجتمعه ، ويظلم نبيّه أيضا؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع ، فتخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعنف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفا ، فتقول( قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) .

ولما كان ترجيح مثل هذه الأمور على رضا الله والجهاد في سبيله ، يعدّ نوعا من العصيان والفسق البيّن ، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله ، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٥٦٧

الْفاسِقِينَ ) .

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين ما يلي : «لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك ، جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا ، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) إلخ والآيتان ـ محل البحث ـ ترسمان خطوط الإيمان الأصيل وتميزانها عن الإيمان المبطن بالشرك والنفاق.

كما أنّهما تضعان حدا فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإيمان ، وتقول إحداهما بصراحة : إن كانت هذه الأمور الثمانية «في الحياة المادية» التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) .

ويتعلق قسم منها بالمجتمع و «العشيرة».

والقسم السّادس يرتبط بالمال.

والسابع بالتجارة والاكتساب.

وأمّا الثامن ـ وهو الأخير ـ فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة «ومساكن ترضونها».

فإذا كانت هذه الأمور الثمانية ـ المذكورة آنفا ـ أغلى وأعزّ وأحب عند الإنسان من الله ورسوله ، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره ، حتى أن الإنسان لا يكون مستعدا بالتضحية بتلك الأمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد ، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعد!

فحقيقة الإيمان وروحه وجوهره ، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون تردد.

أضف إلى ذلك ، فإن من لم يكن مستعدا للتضحية بمثل تلك الأمور ، فقد ظلم

٥٦٨

نفسه ومجتمعه في الواقع ، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري ، وفي المآزق الحاسمة ، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك ، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا ، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

* * *

ملاحظات

1 ـ ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام ، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية ، والانسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها ، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي ، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله ، أو لا نرغب في الجهاد ، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة بالله والعلاقة بالرحم».

فنحن نقرأ في الآية (15) من سورة لقمان ، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

2 ـ إنّ أحد تفاسير جملة( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) ما أشرنا إليه آنفا ، وهو التهديد من قبل الله لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله ، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدّ وحشة وإشفاقا ، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره ، فيقول له : إذا لم تفعل ما

٥٦٩

أمرتك ، فسأقوم بما ينبغي أيضا.

وهناك احتمال آخر لتفسير الجملة ـ محل البحث ـ وهو أنّ الله سبحانه يقول : إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية ، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر. وكيف شاء ، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (54) من سورة المائدة ، إذ نقرأ فيها( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) .

الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر :

3 ـ قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإسلام والتاريخ الماضي ، إلّا أنّ ذلك خطأ كبير ، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضا.

فإذا قدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم إلخ في سبيل الله ، ولا يكون لهم إيمان متين ، ويفضلون الأمور المادية على رضا الله ، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا ، فيكون مستقبلهم مظلما ، لا مستقبلهم فحسب ، بل حتى يومهم هذا ، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري ، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الأجانب ويفقدون معنى الحياة ، لأن الحياة هي حياة الإيمان والجهاد في ظل الإيمان.

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب أطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعارا لنا ، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد ، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

* * *

٥٧٠

الآيات

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) )

التّفسير

الكثرة وحدها لا تجدي نفعا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضيحة والجهاد على جميع الصعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ، ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة.

أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمّة ، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف

٥٧١

الايمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل الله ، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ، وعليهم أن يواصلوا طريقهم ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة ، كما هو الحال في معركة بدر ، ولا يوم كانوا كثرة ـ ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئا ، لكن الله سبحانه أنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده لهذا فإن الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) .

والمواطن جمع الموطن ، ومعناه المحل الذين يختاره الإنسان للسكن الدائم ، أو المؤّقت ، إلّا أن من معانيه أيضا ساحة الحرب والمعركة ، وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحيانا.

ثمّ تضيف الآية معقبة( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفا ، وقال بعض المؤرخين : كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف ، غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفا ، إذ تقول : إنّهم كانوا اثني عشر ألفا ، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين ، حتى اغترّ بعض المسلمين وقالوا : «لن نغلب اليوم».

إلّا أنّه ـ كما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنين ـ قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله( وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) .

٥٧٢

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك ، ولم يبق مع النّبي إلّا القلة ، وكان النّبي مضطربا ومتألّما جدّا لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي :( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) .

وكما قلنا في حديثنا عن غزوة بدر في ذيل الآيات الخاصّة بها ، أن نزول هذه الجنود غير المرئية كان لشدّ أزر المسلمين وتقوية معنوياتهم ، وإيجاد روح الثبات والاستقامة في نفوسهم وقلوبهم ، ولا يعني ذلك اشتراك الملائكة والقوى الغيبية في المعركة(1) .

ويذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول( وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) .

وكان هذا العذاب والجزاء أن قتل بعض الكافرين ، وأسر بعضهم ، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول :( ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع ، والتي تدل على الاستمرار ، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائما بوجه التائبين.

* * *

__________________

(1) لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات 9 ـ 12 من هذا الجزء نفسه.

٥٧٣

ملاحظات

1 ـ غزوة حنين ذات العبرة

«حنين» منطقة قريبة من الطائف ، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ «يوم حنين» ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضا.

أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى بهوازن.

أمّا كيف حدثت هذه الغزوة ، فبناء على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل ، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة ، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله : من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة ، فقالوا : من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

فلما بلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلى أرض هوازن(1) .

وبالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها ، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر ، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي ، بناء على روايته القائلة : إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة ، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءه ، وسلمّه عليّاعليه‌السلام وأمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلى حنين ، واطّلع

__________________

(1) راجع الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 261 ، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.

٥٧٤

النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة ، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع ، فقال صفوان : أتريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي : بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك ، فأعطى صفوان النّبي مائة درع على أنّها عارية ، وتحرك مع النّبي بنفسه إلى حنين.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفا ، وتحركوا نحو حنين.

فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئا شهما ـ لقبيلته : اكسروا أغماد سيوفكم ، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار ، واكمنوا لجيش الإسلام ، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم وأبيدوهم.

ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا : إن محمّدا لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانا ، ليذوق مرارة الهزيمة!!

فلما صلّى النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتا ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم ، وفيهم عمه العباس ، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فورا : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين

٥٧٥

تفرّون؟ هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا : لبيّك لبيّك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة ، وتقدّموا بأذن الله ونصره ، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة ، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم(1) .

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النّبي صفحه وحبّه ، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة ، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه ، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.

والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر ـ بالإضافة إلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعا ، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم ، وجماعة منهم كانوا بلا هدف ، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.

أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام وجماعة قليلة من الأصحاب ، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إلى لطفه الخاص ونصره.

2 ـ من هم الفارّين

ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة ، وما تبقى منهم كانوا عشرة فحسب ، وقيل أربعة عشر شخصا ، وأقصى ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.

ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة ،

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 5 ، ص 17 ـ 19.

٥٧٦

فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.

يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه : لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه ، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة ، وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا وتقهقروا إلى الخلف ، فاضطرب باقي الجيش طبعا ، وحسب العادة ـ لا خوفا ـ فقد فرّوا أيضا ، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه ، حتى يستحقوا غضبالله!!(1)

ونحن لا نعلّق على هذا الكلام ، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي :

فإذا عمر بن الخطاب في الناس ، وقلت : (الراوي) : ما شأن الناس؟ قال : أمر الله ، ثمّ تراجع الناس إلى رسول الله(2) .

غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة ، والتفتنا إلى القرآن الكريم ، وجدناه لا يذم جماعة بعينها ، بل يذم جميع الفارين.

ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث ، وبين عبارة أخرى وردت في الآية (16) من سورة الأنفال إذ تقول( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) ؟!

فبناء على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم ، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.

__________________

(1) راجع تفسير المنار ، وإقرار التفصيل فيه ، ج 1 ، الصفحات 262 و 263 و 265.

(2) المصدر السابق.

٥٧٧

3 ـ الإيمان والسكينة

السكينة في الأصل مأخوذة من السكون ، وتعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والاستيحاش عن الإنسان ، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإيمان ، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان ، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها ، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.

وما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات(1) ، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان(2) كل ذلك ناظر إلى هذا المعنى.

ونقرأ في القرآن في الآية (4) من سورة الفتح قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة ، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة ، وأن يحس في نفسه عالما من الدعة والاطمئنان برغم كلّ ما يراه.

وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول : ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم ، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم) ، بل تقول الآية( عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) وهي إشارة إلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة والاطمئنان ، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله(3) ،

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 114.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 201.

(3) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 112.

٥٧٨

فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة واطمئنان ، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

وكان نزول السكينة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفا ـ لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة ، وإلّا فهو كالجبل الشامخ الركين ، وكذلك ابن عمّه عليعليه‌السلام وقلة من أصحابه (المسلمين).

4 ـ في الآيات محل البحث إشارة إلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!

هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه ، التي أسهم فيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيّا ، وقاتل الأعداء ، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه ، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.

وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «ويقال أنّه قد سمّ» ، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده ، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره ، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. وأخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجوادعليه‌السلام فقال : «الكثير ثمانون».

فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) ثمّ قال : عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(1) .

5 ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درسا

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 197.

٥٧٩

بليغا ، هو أن ينظروا إلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين ، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد ، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا ، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان ، ذوي الإرادة والتصميم ، حتى لو كانوا قلة.

كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلى انتصار على العدو وكانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة ، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.

فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية ، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية ، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

* * *

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605