بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110132 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

كتاب بهج الصباغة

في شرح نهج البلاغة

المجلد الثاني

الشيخ محمد تقي التّستري

١
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

المجلد الثاني

الشيخ محمّد تقي التّستري (الشوشتري)

٣

المجلد الثاني

تتمة الفصل الرابع في خلق آدم

٣

من الخطبة ( ١٩٠ ) و من خطبة له عليه السّلام تسمى القاصعة ، و هي تتضمّن ذمّ إبليس على استكباره ، و تركه السّجود لآدم ، و أنّه أوّل من أظهر العصبية و تبع الحميّة ، و تحذير النّاس من سلوك طريقته : اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَبِسَ اَلْعِزَّ وَ اَلْكِبْرِيَاءَ وَ اِخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اِصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ وَ جَعَلَ اَللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ ثُمَّ اِخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلاَئِكَتَهُ اَلْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ اَلْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ اَلْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ اَلْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ اَلْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ . فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ . فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ

٤

أَجْمَعُونَ إِلاَّ ؟ إِبْلِيسَ ٣٨ : ٧١ ٧٤ ١ اِعْتَرَضَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى ؟ آدَمَ ؟

بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اَللَّهِ إِمَامُ اَلْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ اَلَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اَللَّهَ رِدَاءَ اَلْجَبَرِيَّةِ وَ اِدَّرَعَ لِبَاسَ اَلتَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ اَلتَّذَلُّلِ أَ لاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اَللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي اَلدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ سَعِيراً .

وَ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ ؟ آدَمَ ؟ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ اَلْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ اَلْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ اَلْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ اَلْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ اَلْبَلْوَى فِيهِ عَلَى اَلْمَلاَئِكَةِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ اَبْتَلَي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالاِخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلاِسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ أقول : قد عرفت في المقدّمة ٢ أنّ هذه الخطبة من ثماني خطب اختلفت نسخنا مع نسخة ابن أبي الحديد في موضعها .

قول المصنف : « و من خطبة له عليه السّلام تسمّى القاصعة » هكذا في ( المصرية ) و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ٣ : و من خطبة له عليه السّلام ، و من النّاس من يسمّي هذه الخطبة بالقاصعة .

قال ابن ميثم : نقل في سبب هذه الخطبة أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السّلام قد فسدوا ، و كانوا قبائل متعدّدة ، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته ، فيمرّ بمنازل قبيلة أخرى فيقع به أدنى مكروه ، فيستعدي قبيلته ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) ص : ٧١ ٧٤ .

( ٢ ) مرّ في مقدّمة المؤلف .

( ٣ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٢٤ ، لكن في شرح ابن ميثم ٤ : ٢٣٢ ، نحو المصرية .

٥

و ينادي باسمها ، مثلاً يا للنّخع أو يا لكندة نداء عالياً يقصد به الفتنة و إثارة الشرّ ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة التي قد مرّ بها ، و ينادون يا لتميم و يا لربيعة ،

فيضربونه فيمرّ إلى قبيلته ، و يستصرخ بها و تسلّ بينهم السيوف ، و تثور الفتنة ، و لا يكون لها أصل في الحقيقة ، و لا سبب يعرف إلاّ تعرّض الفتيان بعضهم ببعض ، و كثر ذلك منهم ، فخرج عليه السّلام إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة ١ .

ثم قال : و قد ذكر الشّارحون في تسمية هذه الخطبة القاصعة وجوهاً :

أحدها و هو أقربها أنّه عليه السّلام كان يخطبها على ناقته ، و هي تقصع بجرّتها ، فجاز أن يقال : إنّ هذه الحال لما نقلت عنه في اسناد هذه الخطبة نسبت الخطبة إلى الناقة القاصعة ، فقيل : خطبة القاصعة ثم كثر استعمالها ، فجعلت من صفات الخطبة نفسها ، أو لأنّ الخطبة عرفت بهذه الصفة لملازمة قصع الناقة لانشائها ، و العرب تسمّي الشي‏ء باسم لازمه ٢ .

قلت : قال الجزريّ في ( نهايته ) في الحديث « خطبهم على راحلته و أنّها لتقصع بجرّتها » أراد شدّة المضغ و ضمّ بعض الأسنان على البعض ، و قيل :

قصع الجرّة : خروجها من الجوف إلى الشّدق ، و متابعة بعضها بعضاً ، و إنّما تفعل النّاقة ذلك إذا كانت مطمئنة و إذا خافت شيئاً لم تخرجها ، و أصله من تقصيع اليربوع ، و هو : إخراجه تراب قاصعائه و هو : جحره ٣ ، و يمكن أن يكون وجه التّسمية كون القاصعة من : قصع العطشان غلّته بالماء ، إذا سكّنها أو من : قصع الغلام قصعاً : ضربه ببسط كفّه على رأسه .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٢٣٣ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٢٣٤ .

( ٣ ) النهاية لابن الأثير ٤ : ٧٢ مادة ( قصع ) .

٦

« و هي تتضمّن ذمّ إبليس على استكباره و تركه السّجود لأدم عليه السّلام » قال تعالى : . . . فسجدوا إلاّ إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين ١ .

« و أنّه أوّل من أظهر العصبية و تبع الحمية » في ( الأمالي ) عن النبي صلى اللّه عليه و آله من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من عصبية ، بعثه اللّه تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية ٢ .

و في ( عقاب الأعمال ) عنه صلى اللّه عليه و آله : من تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ٣ .

عن الصادق عليه السّلام : من تعصّب عمّمه اللّه بعمامة من نار ٤ .

و قال تعالى : إذ جعل الّذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية . . . ٥ .

« و تحذير الناس من سلوك طريقته » يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّبعوا خطوات الشّيطان و من يتّبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء و المنكر . . . ٦ .

« الحمد للّه الذي لبس العزّ و الكبرياء » . . . فإنّ العزّة للّه جميعاً ٧ .

« و اختارهما لنفسه دون خلقه » في آخر الجاثية : و له الكبرياء في السّماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم ٨ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٣٤ .

( ٢ ) أمالي الصدوق : ٤٨٦ ح ١٢ المجلس ٨٨ ، و عقاب الأعمال : ٢٦٤ ح ٥ ، و الكافي للكليني ٢ : ٣٠٨ ح ٣ .

( ٣ ) عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٣ ح ١ ، و الكافي للكليني ٢ : ٣٠٨ ح ٢ عن النبي صلى اللّه عليه و آله ، و الكافي للكليني أيضاً ٢ : ٣٠٧ ح ١ ، و عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٣ ح ٢ عن الصادق عليه السّلام .

( ٤ ) عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٣ ح ٣ ، و الكافي للكليني ٢ : ٣٠٨ ح ٤ ، و لفظهما : « عصبه اللّه بعصابة من نار » .

( ٥ ) الفتح : ٢٦ .

( ٦ ) النور : ٢١ .

( ٧ ) النساء : ١٣٩ .

( ٨ ) الجاثية : ٣٧ .

٧

« و جعلهما حمى » أي : محظوراً على غيره لا يقر بهما أحد .

« و حرماً » أي : حراماً .

« على غيره » حتّى ملائكته و أنبيائه .

« و اصطفاهما » أي : اختارهما .

« لجلاله » أي : عظمته .

« و جعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده » روى الصدوق عن الباقر عليه السّلام قال : العزّ رداء اللّه و الكبرياء إزاره ، فمن تناول شيئاً منه كبّه اللّه في جهنّم ١ .

« ثمّ اختبر » أي : امتحن .

« بذلك ملائكته المقرّبين » في منزلتهم عنده .

« ليميز » بالتّخفيف و التّشديد .

« المتواضعين منهم من المستكبرين » و لقد فتنّا الّذين من قبلهم فليعلمنّ اللّه الّذين صدقوا و ليعلمنّ الكاذبين ٢ .

« فقال سبحانه » أي : اللّه المنزّه عن النّقائص .

« و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب » جملة معترضة بين ( فقال ) و مقوله . . . إنّي خالق بشراً من طين ٣ لدفع توهم أنّ اختباره ليس لعدم عرفانه مثلنا في اختباراتنا لغيرنا ، بل ليظهر حاله على الآخرين من نوعه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٤ ح ١ ، و الكافي للكليني ٢ : ٣٠٩ ح ٣ ، ٤ عن الباقر عليه السّلام ، و صحيح مسلم ٤ : ٢٠٢٣ ح ١٣٦ ، و سنن ابن ماجه بطريقين ٢ : ١٣٩٧ ح ٤١٧٤ و ٤١٧٥ ، و مسند أحمد بأربع طرق ٢ : ٣٧٦ و ٤١٤ و ٤٢٧ و ٤٤٢ ، و المجازات النبوية للشريف الرضي : ٤٤٠ ح ٣٥٨ ، و جمع آخر عن النبي صلى اللّه عليه و آله و في الباب عن علي و الصادق و الكاظم عليهم السّلام .

( ٢ ) العنكبوت : ٣ .

( ٣ ) ص : ٧١ .

٨

يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور ١ . . . ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون ٢ .

« . . إنّي خالق بشراً من طين . فإذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . فسجد الملائكة كلّهم أجمعون . إلاّ إبليس . . . » ٣ باللفظ الذي ذكره عليه السّلام في سورة ( ص ) ، و أمّا في سورة الحجر فهكذا . . . إنّي خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون . فاذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . فسجد الملائكة كلّهم أجمعون . إلاّ إبليس . . . ٤ .

و في ( تفسير القمي ) مسنداً : سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عمّا ندب اللّه الخلق إليه أدخل فيه الضّلالة ؟ قال : نعم و الكافرون دخلوا فيه لأنّ اللّه تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم ، فدخل في أمره الملائكة و إبليس ، فإنّ إبليس كان مع الملائكة في السّماء يعبد اللّه ، و كانت الملائكة تظنّ أنّه منهم ، و لم يكن منهم ، فلمّا أمر اللّه الملائكة بالسّجود لأدم اخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد ، فعلم الملائكة عند ذلك أنّ إبليس لم يكن منهم ، فقيل له : فكيف و قع الأمر على إبليس و إنّما أمر اللّه الملائكة بالسّجود لأدم ؟ فقال : كان إبليس منهم بالولاء ، و لم يكن من جنس الملائكة ، و ذلك أنّ اللّه تعالى خلق خلقاً قبل آدم ، و كان إبليس فيهم حاكماً في الأرض ، فعتوا و أفسدوا و سفكوا الدّماء ، فبعث اللّه الملائكة ، فقتلوهم و أسروا إبليس و رفعوه إلى السّماء ، و كان مع الملائكة يعبد اللّه إلى أن خلق اللّه آدم عليه السّلام ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) غافر : ١٩ .

( ٢ ) البقرة : ٣٣ .

( ٣ ) ص : ٧١ ٧٤ .

( ٤ ) الحجر : ٢٨ ٣١ .

( ٥ ) تفسير القمي ١ : ٣٥ .

٩

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام : أنّ اللّه تعالى أراد أن يخلق خلقاً بيده ، و ذلك بعد ما مضى من الجنّ و النّسناس في الأرض سبعة آلاف سنة . و كان من شأن خلق آدم أن كشط عن أطباق السماوات و قال للملائكة : انظروا إلى الأرض من خلقي من الجنّ و النّسناس فلمّا رأوا ما يعملون فيها من المعاصي و سفك الدماء و الفساد في الأرض بغير الحق ، عظم ذلك عليهم و غضبوا و تأسفوا على أهل الأرض و لم يملكوا غضبهم . قالوا : ربّنا إنّك أنت العزيز القادر الجبّار القاهر العظيم الشأن ، و هذا خلقك الضعيف الذليل يتقلّبون في قبضتك و يعيشون برزقك و يتمتّعون بعافيتك ، و هم يعصونك بمثل هذه الذّنوب العظام ، لا تأسف عليهم و لا تغضب و لا تنتقم لنفسك لما تسمع منهم و ترى ،

و قد عظم ذلك علينا و أكبرناه فيك . قال : فلمّا سمع ذلك من الملائكة قال :

إنّي جاعل في الأرض خليفة . . . ١ يكون حجّة لي في الأرض على خلقي .

فقالت الملائكة : سبحانك . . . أتجعل فيها من يفسد فيها . . . ٢ كما أفسد بنو الجانّ ، و يسفكون الدّماء كما سفك بنو الجانّ ، و يتحاسدون و يتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منّا فإنّا لا نتحاسد و لا نتباغض ، و لا نسفك الدّماء و . . . نسبّح بحمدك و نقدّس لك . . . ٣ قال تعالى : إنّي أعلم ما لا تعلمون ٤ إنّي أريد أن أخلق خلقاً بيدي ، و أجعل من ذرّيّته أنبياء و مرسلين ، و عباداً صالحين أئمّة مهتدين ، و أجعلهم خلفاء على خلقي في أرضي ينهونهم عن معصيتي ، و ينذرونهم من عذابي ، و يهدونهم إلى طاعتي ، و يسلكون بهم طريق سبيلي ، و أجعلهم لي عليهم حجّة عليهم ، و أبيد النّسناس من أرضي و أطهّرها منهم ، و أنقل مردة الجن العصاة من بريتي و خلقي و خيرتي و أسكنهم في الهواء في أقطار الأرض فلا يجاورون نسل خلقي و اجعل بين

ـــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٣٠ .

( ٢ ) البقرة : ٣٠ .

( ٣ ) البقرة : ٣٠ .

( ٤ ) البقرة : ٣٠ .

١٠

الجن و بين خلقي حجاباً ، فلا يرى نسل خلقي الجن ، و لا يجالسونهم ، و لا يخالطونهم ، فمن عصاني من نسل خلقي الّذين اصطفيتهم و أسكنهم مساكن العصاة أوردتهم مواردهم و لا أبالي قال : فقالت الملائكة : يا ربّنا افعل ما شئت . . . لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ١ . . . فقال اللّه تعالى ( للملائكة ) : . . . إنّي خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون . فإذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ٢ .

قال : و كان ذلك من اللّه تعالى في آدم قبل أن يخلقه ، و احتجاجاً منه عليهم . . . فخلق اللّه آدم عليه السّلام ، فبقي أربعين سنة مصوّراً ، فكان يمرّ به إبليس اللّعين فيقول : لأمر ما خلقت . فقال العالم عليه السّلام ، فقال إبليس : لئن أمرني اللّه بالسجود لهذا لأعصينّه قال : ثمّ نفخ فيه ، فلمّا بلغت الرّوح إلى دماغه عطس عطسة جنس منها فقال : الحمد للّه . فقال اللّه تعالى : يرحمك اللّه . قال الصادق عليه السّلام : فسبقت له من اللّه الرحمة . ثمّ قال تعالى للملائكة : اسجدوا لأدم .

فسجدوا له فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد ٣ .

« اعترضته الحميّة » أي : الأنفة .

« فافتخر على آدم بخلقه و تعصّب عليه لأصله » في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم ، و كان في علم اللّه أنّه ليس منهم ، فاستخرج ما في نفسه بالحميّة و الغضب ، فقال : . . . خلقتني من نار و خلقته من طين ٤ .

« فعدوّ اللّه إمام المتعصّبين و سلف المستكبرين » و في ( تفسير القمي ) : أوّل

ـــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٣٢ .

( ٢ ) الحجر : ٢٨ ٢٩ .

( ٣ ) تفسير القمي ١ : ٣٦ ، و روى حديث علي عليه السّلام أيضاً علل الشرائع للصدوق : ١٠٤ ح ١ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٠٨ ح ٦ ، و تفسير العياشي ٢ : ٩ ح ٥ ، و الآية ( ١٢ ) من سورة الأعراف ، و ( ٧٦ ) من ( ص ) .

١١

من قاس إبليس و استكبر ، و الاستكبار هو أوّل معصية عصي اللّه بها ١ .

« الّذي وضع أساس العصبية » عن الصادق عليه السّلام من تعصّب عصبه اللّه بعمامة من نار ٢ .

« و نازع اللّه رداء الجبريّة » الّذي مختص به تعالى ، و الجبرية الكبر و العظمة ، في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : الكبر قد يكون في شرار الناس من كلّ جنس ، و الكبر رداء اللّه فمن نازع اللّه تعالى رداءه لم يزده اللّه تعالى إلاّ سفالا ، إنّ النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ في بعض طرق المدينة ، و سوداء تلقط السرقين ، فقيل لها :

تنحي عن طريق النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت : إنّ الطريق لمعرض . فهمّ بها بعض القوم أن يتناولها . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : دعوها فإنّها جبّارة ٣ .

و عنه عليه السّلام : إذا خلق اللّه العبد في أصل الخلقة كافراً لم يمت حتّى يحبّب إليه الشرّ فيقرب منه ، فابتلاه بالكبر و الجبريّة ، فقسا قلبه و ساء خلقه ، و غلظ وجهه و ظهر فحشه ، و قلّ حياؤه ، و كشف اللّه ستره ، و ركب المحارم ، فلم ينزع عنها ، ثمّ ركب معاصي اللّه و أبغض طاعته ، و وثب على الناس لا يشبع من الخصومات ، فاسألوا اللّه العافية و اطلبوها منه ٤ .

و عنه عليه السّلام : أدنى الإلحاد الكبر ٥ .

« و أدّرع » أي : جعل درعاً له .

« لباس التعزّز » فحسب نفسه عزيزاً .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ١ : ٤٢ في صدر حديث ، و مضمون : « أول من قاس إبليس » كثير الرواية .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٠٨ ح ٤ ، و عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٣ ح ٣ ، و لفظهما « بعصابة من نار » و مرّ نقله في أوائل هذا العنوان .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٠٩ ح ٢ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٣٠ ح ٢ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٠٩ ح ١ ، و معاني الأخبار للصدوق : ٣٩٤ ح ٤٧ .

١٢

« و خلع قناع التذلّل » للّه تعالى عن رأسه و نسي أنّه عبد للّه ، و في ( الصحاح ) : القناع أوسع من المقنعة . قال عنترة :

إن تغد في دوني القناع فإنّني

طبّ بأخذ الفارس المستلئم

١ « ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره » قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبّر فيها فاخرج إنّك من الصاغرين ٢ .

« و وضعه اللّه » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( و وضعه ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٣ و لأنّه لا وجه لتكرار لفظ الجلالة .

« بترفعه » أي : ادعائه الرفعة .

« فجعله في الدّنيا مدحوراً » أي : مطروداً مبعداً ، قال تعالى : . . . اخرج منها مذؤوماً مدحوراً . . . ٤ .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : ما من عبد إلاّ و في رأسه حكمة ، و ملك يمسكها ، فإذا تكبّر قال له : اتضع وضعك اللّه . فلا يزال أعظم الناس في نفسه و أصغر الناس في أعين الناس . . . ٥ .

« و أعدّ له في الآخرة سعيراً » في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : إنّ في جهنّم لوادياً للمتكبّرين يقال له سقر ، فشكا إلى اللّه شدّة حرّه ، و سأله أن يأذن له أن يتنفّس . فتنفّس فأحرق جهنّم ٦ .

و عنه عليه السّلام : إنّ المتكبّرين يجعلون في صور الذّر يتوطّأهم الناس حتّى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٣ : ١٢٧٣ مادة ( قنع ) .

( ٢ ) الأعراف : ١٣ .

( ٣ ) في شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٢٥ ، و شرح ابن ميثم ٤ : ٢٣٣ « وضعه اللّه » أيضاً .

( ٤ ) الأعراف : ١٨ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٢ : ٣١٢ ح ١٦ ، و ثواب الأعمال للصدوق : ٢١١ ح ١ ، و رواه الفتال في الروضة ٢ : ٣٨٢ .

( ٦ ) الكافي للكليني ٢ : ٣١٠ ح ١٠ ، و المحاسن للبرقي : ١٢٣ ح ١٣٨ ، و عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٥ ح ٧ .

١٣

يفرغ اللّه من الحساب ١ .

« و لو أراد اللّه » هكذا في ( المصرية ) و في ( ابن ميثم ) ٢ : « و لو أراد سبحانه » ، و في ( ابن أبي الحديد و الخطيّة ) ٣ : « و لو أراد اللّه سبحانه » .

« أن يخلق آدم من نور يخطف » أي : يستلب .

« الأبصار ضياؤه ، و يبهر » أي : يغلب .

« العقول » بالنصب .

« رواؤه » بالضم ، أي : منظره .

« و طيب يأخذ الأنفاس عرفه » بالفتح ، أي : ريحه .

« لفعل » جواب ( و لو أراد ) .

« ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة » الجملة مأخوذة من قوله تعالى : إن نشأ ننزّل عليهم من السّماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين ٤ .

« و لخفّت البلوى » أي : الابتلاء و الامتحان .

« فيه على الملائكة ، و لكنّ اللّه سبحانه ابتلى خلقه » حتّى الملائكة و الأنبياء .

« ببعض ما يجهلون أصله » كما امتحن الملائكة بخلق آدم ٥ ، و امتحن موسى عليه السّلام بأعمال الخضر ٦ .

« تمييزاً » لمؤمنهم عن كافرهم .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٣١١ ح ١١ ، و المحاسن للبرقي : ١٢٣ ح ١٣٧ ، و عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٥ ح ٨ و ١٠ ، و رواه الفتال في الروضة ٢ : ٣٨٢ .

( ٢ ) لفظ ابن ميثم في شرحه ٤ : ٢٣٣ مثل المصرية أيضاً .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٢٦ .

( ٤ ) الشعراء : ٤ .

( ٥ ) البقرة : ٣٠ ٣٤ .

( ٦ ) الكهف : ٦٠ ٨٢ .

١٤

« بالاختبار لهم » كما تميّز إبليس من الملائكة .

« و نفياً للاستكبار عنهم » في ( تفسير القمّي ) : قال إبليس : يا ربّ اعفني من السجود لأدم ، و أنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل . قال اللّه تعالى : لا حاجة لي إلى عبادتك ، إنّما أريد أن أعبد من حيث أُريد ، لا من حيث تريد . فأبى أن يسجد . فقال اللّه تعالى : . . . فاخرج منها فإنّك رجيم . و إنّ عليك لعنتي إلى يوم الدين ١ .

« و إبعاداً للخيلاء » بالضمّ و الكسر ، أي : الكبر .

« عنهم » .

٤

من الخطبة ( ١٩٠ ) وَ لاَ تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى اِبْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اَللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ اَلْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ اَلْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ اَلْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ اَلْغَضَبِ وَ نَفَخَ اَلشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ اَلْكِبْرِ اَلَّذِي أَعْقَبَهُ اَللَّهُ بِهِ اَلنَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ اَلْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ .

أقول : نقلناه هنا ، و إن كان بفصل ذمائهم الصفات ألصق ، لأنّه تضمّن حكم ابنيّ آدم فجعلناه كالتتميم للفصل .

« و لا تكونوا كالمتكبّر » و الأصل : كالأخ المتكبر ، و المراد قابيل .

« على ابن أُمّه » و المراد هابيل ، قال معقل بن عيسى لأخيه أبي دلف في عتب عتبه عليه :

أخي ما لك مجبولاً على تِرتي

كأنّ أجسادنا لم تغذ من جسد

قال ابن أبي الحديد : نهاهم أن يكونوا كقابيل الّذي حسد أخاه هابيل

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ١ : ٤٢ ، و الآية ٧٧ ٧٨ من سورة ( ص ) .

١٥

فقتله ، و هما أخوان لأب و أُمّ ، و إنّما قال عليه السّلام « ابن أُمّه » فذكر الأُم دون الأب ، لأنّ الأخوين من الأُمّ أشدّ حنواً و محبّة و التصاقاً من الأخوين من الأب ١ ، و تبعه الخوئي ٢ ، و قال ابن ميثم : قال الثعلبي : إنّما أضافه إلى الأُمّ دون الأب لأنّ الولد في الحقيقة من الأمّ ، أي : الولد بالفعل . فإنّ النطفة في الحقيقة ليست ولداً بل جزء مادي ٣ .

قلت : الصواب هنا أن يقال : نكتة تعبيره عليه السّلام بابن الأُمّ أنّ الأخوين من الأب قد يتكبّر أحدهما على الآخر بأُمّه إذا كانت اُمّه حرّة و أمّ أخيه أمّة ، أو أُمّه شريفة و أُمّ أخيه و ضيعة ، و أمّا إذا كانا من أُمّ واحدة و الفرض وحدة أبيهما فتكبّره عليه كالتكبّر على نفسه ، فيكون حاله حال من قال :

أتيه على إنس البلاد و جنّها

و لو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي

أتيه فلا أردي من التّيه من أنا

سوى ما يقول الناس فيّ و في جنسي

فان صدقوا أنّي من الإنس مثلهم

فما فيّ عيب غير أنّي من الإنس

و إنّما قالوا في قوله تعالى حكاية عن هارون لموسى : . . . يابن أُمّ لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي . . . ٤ : نكتة التعبير بابن أُمّ لكونه أشد حنواً ، كما أنّ النكتة في شكايته عليه السّلام من قريش في قوله عليه السّلام : « و سلبوني سلطان ابن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٣١ .

( ٢ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٤٤ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٢٥٨ .

( ٤ ) طه : ٩٤ .

١٦

أُمّي » ١ أحقيّته عليه السّلام بمقامه صلى اللّه عليه و آله من كلّ أحد حتّى عمّه العبّاس ، لأنّ الميراث يكون للأخ للأب و الأمّ دون الأخ للأب فقط ، و كان أبوه عليه السّلام و أبو النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم من أمّ واحدة دون العبّاس .

و أمّا ما قاله ابن ميثم ففي غاية السقوط ، فإنّ من الواضحات شرعا و عرفا كون الولد في الانسان مال الأب ، و كون الامّ و عاء ، حتّى إنّ تعالى قال :

و على المولود له رزقهنّ . . . ٢ ، و إنّما في الحيوان الولد تابع للامّ لأنّه في الحقيقة منها ، و النطفة جزء مادّي ، و أيضا لو كان ما ذكره صحيحا للزم أن يكون : إذا ولد رجلان من امرأة واحدة و أبو أحدهما ملك الملوك ، و أبو الآخر عبد العبيد ، عدم صحّة تفاخر الأوّل على الثاني بأبيه ، و أمّا ما قاله ابن أبي الحديد فتخليط .

« من غير ما فضل » أي : من غير فضل ، و ( ما ) لتأكيد الكلام ، مثل ( ما ) في فبما رحمة من اللّه . . . ٣ .

و في قول الشاعر :

أ علاقة أمّ الوليد بعد ما

أفنان رأسك كالثغام المخلس

٤ و في قوله :

و ننصر مولانا و نعلم أنّه

كما الناس مجروم عليه و جارم

٥ « جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد » بمعنى : أنّ المتكبّر على ابن أمّه إذا كان لفضل فيه دون ابن أمّه يقبل و يعقل ، و أمّا بدونه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نهج البلاغة للشريف الرضي ٣ : ٦١ ، الكتاب ٣٦ ضمن كتاب علي عليه السّلام إلى أخيه عقيل .

( ٢ ) البقرة : ٢٣٣ .

( ٣ ) آل عمران : ١٥٩ .

( ٤ ) شرح شواهد المغني ٢ : ٧٢٢ ، و الشاعر : المرار الفقعسي .

( ٥ ) شواهد المغني ١ : ٥٠٠ ، و الشاعر : عمرو بن براقة الهمداني .

١٧

سوى مجرّد الحسد فسفه ، و لا سيّما إذا كان أخوه أفضل ، كما في ابني آدم .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : أصول الكفر ثلاثة : الحرص و الاستكبار و الحسد . فامّا الحرص فإنّ آدم حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على أن أكل منها . و أمّا الاستكبار ، فإبليس حيث أمر بالسجود لآدم فأبى . و أمّا الحسد فابنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه ١ .

« و قدحت » من : قدحت النار ، إذا أو قدتها .

« الحميّة في قلبه من نار الغضب » في ( الخصال ) عن الصادق عليه السّلام : الغضب مفتاح كلّ شرّ ٢ .

و عنه : قال الحواريون لعيسى : يا معلّم الخير أعلمنا أيّ الأشياء أشدّ ؟

قال : أشدّ الأشياء غضب اللّه تعالى . قالوا : فبم يتّقى غضب اللّه ؟ قال : بأن لا تغضبوا . قالوا : و ما بدء الغضب ؟ قال : الكبر و التجبّر و محقرة النّاس ٣ .

« و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر » الكلام استعارة ، و يمكن أن يكون حقيقة ، و نظيره ما عن الصادق عليه السّلام : أنّ العبد يوقظ ثلاث مرّات من اللّيل ، فان لم يقم أتاه الشيطان ، فبال في أذنه ٤ .

و كيف كان ، قال عليه السّلام هذه الكلمة هنا عموما ، و قالها في طلحة خصوصا ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٨٩ ح ١ ، و الخصال للصدوق : ٩٠ ح ٢٨ ، و أماليه : ٣٤١ ح ٧ ، المجلس ٦٥ ، و روى صدره الفتال في الروضة ٢ : ٣٨١ .

( ٢ ) الخصال للصدوق : ٧ ح ٢٢ باب الواحد ، و الكافي للكليني ٢ : ٣٠٣ ح ٣ ، و الزهد للأهوازي : ٢٧ ح ٦١ ، و رواه الفتال في الروضة ٢ : ٣٧٩ ، و الورام في التنبيه ١ : ١٢٢ ، و الشعيري في جامع الأخبار : ١٦٠ .

( ٣ ) الخصال للصدوق : ٦ ح ١٧ باب الواحد ، و رواه الفتال في الروضة ٢ : ٣٧٩ ، و المجلسي عن كتاب الغايات في بحار الأنوار ٧٣ : ٢٦٣ ح ٥ .

( ٤ ) أخرجه البرقي بطريقين في المحاسن : ٨٦ ح ٢٤ و ٢٥ ، و رواه الفتال في الروضة ٢ : ٣٢١ ، عن الصادق عليه السّلام ، و أخرجه البرقي في المحاسن : ٨٦ ح ٢٤ ، و الفتال بطريقين في الروضة ٢ : ٣٢١ عن الباقر عليه السّلام ، و في الباب طرق كثيرة عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ، و النقل بالمعنى .

١٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

فرووا أنّه عليه السّلام وقف على طلحة يوم الجمل و هو صريع ، و قال له في كلام :

« و لكن الشيطان نفخ في أنفه » ١ .

« الّذي » وصف للمتكبّر على ابن أمّه ، أي : قابيل .

« أعقبه اللّه به الندامة و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة » إشارة إلى قوله تعالى في قابيل و هابيل : و اتل عليهم نبأ ابني آدم بالحقّ إذ قرّبا قربانا فتقبّل من أحدهما و لم يتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين .

لئن بسطت إليّ يدك التقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين . إنّي أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين . فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ٢ .

و قلنا : إنّ المراد بابني آدم في الآية هابيل و قابيل ، و لكن روى الطبري عن الحسن البصري قال : كان الرجلان اللّذان في القرآن و قال اللّه تعالى فيهما و اتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق . . . ٣ من بني إسرائيل و لم يكونا ابني آدم لصلبه ، و إنّما كان القربان في بني إسرائيل و كان آدم أوّل من مات .

ثمّ ردّه الطبري بما روى عن النبي صلى اللّه عليه و آله قال : ما من نفس تقتل ظلماإلاّ كان عن ابن آدم الأول كفل منها ، و ذلك لأنّه أوّل من سنّ القتل ٤ .

قلت : و أوضح منه في ردّه قوله تعالى بعد ما مرّ فبعث اللّه غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الاحتجاج للطبرسي : ١٦٣ ، بلفظ « لكن الشيطان دخل في منخريك فأوردك النار » ، و روى المفيد في الجمل : ٢٠٩ ، نحوه في الزبير .

( ٢ ) المائدة : ٢٧ ٣٠ .

( ٣ ) المائدة : ٢٧ .

( ٤ ) و رواه الطبري في تاريخه ١ : ٩٦ ٩٧ ، اما حديث الحسن فأخرجه أيضا عبد بن حميد في مستنده عنه الدرّ المنثور ٢ : ٢٧٣ ، و اما الحديث النبوي فأخرجه عدّة جمع بعض طرقه السيوطي في الدرّ المنثور ٢ : ٢٧٦ .

١٩

هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ١ فلو كانا من بني اسرائيل لم يحتج القاتل إلى أن يرى غرابا ، لأنّ الدفن في الأرض كان أمرا شائعا من أوّل الدّنيا ، و أمّا الخبر فحيث لم يكن قطعيّ السّند ، يمكن الخصم ردّه .

و لعل الحسن توهمه من قوله تعالى بعد : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعا . . . ٢ إلاّ أنّه كما ترى .

و نقل الطبري في سبب قتل قابيل لهابيل أقوالا ، منها : أنّه لم تكن التوأمة محرّمة ، فقرّب قابيل و هابيل قرباناً أيّهما أحقّ بتوأمة قابيل التي كانت أحسن من توأمة هابيل ، و روى في ذلك خبرا عن السّدي عن جمع ، و منها : أنّ السبب كان مجرّد قبول فدية هابيل دونه ، و روى عن عبد اللّه بن عمر قال : إنّ ابني آدم اللّذين قرّبا قربانا فتقبّل من أحدهما و لم يتقبّل من الآخر ٣ كان أحدهما صاحب حرث ، و الآخر صاحب غنم ، و أنّهم أمرا أن يقرّبا قرباناً ، و أنّ صاحب الغنم قرّب أكرم غنمه و أسمنها و أحسنها طيبة بها نفسه ، و أنّ صاحب الحرث قرّب شرّ حرثه الكوذر و الزوان غير طيبة بها نفسه ، و أنّ اللّه تعالى تقبّل قربان صاحب الغنم ، و لم يتقبّل قربان صاحب الحرث . و روى عن ابن عبّاس قال :

كان من شأنهما أنّه لم يكن مسكين يتصدّق عليه ، و إنّما كان القربان يقرّبه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قرّبنا قربانا . و كان الرجل إذا قرّب قربانا فرضيه تعالى أرسل إليه نارا فأكلته ، و إن لم يكن رضيه اللّه خبت النار ، فقرّبا قربانا ، و كان أحدهما راعيا و الآخر حرّاثا . . . فنزلت فأكلت الشاة و تركت الزرع ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ٣١ .

( ٢ ) المائدة : ٣٢ .

( ٣ ) المائدة : ٢٧ .

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

في الكامل و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّ رجلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء و أخذتني شهوتي، و إنّي حرّمت عليّ اللحم فنزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أنّ عبدالله بن رواحة ضافه ضيف من أهله و هو عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته: حبسّت ضيفي من أجلي هو حرام عليّ، فقالت امرأته: هو عليّ حرام، قال الضيف: هو عليّ حرام، فلمّا رأى ذلك وضع يده و قال: كلوا بسم الله، ثمّ ذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره، فقال النبي:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أصبت فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

أقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة، و هو شائع في روايات أسباب النزول، و من الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراماً و لا حلالاً فقال: أمّا الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، و أمّا الحلال فلا يتركه فإنّه ليس أن يحرّم ما أحلّ الله لأنّ الله يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) فليس عليه شي‏ء في يمينه من الحلال.

و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول في قول الله عزّوجلّ:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) قال:( اللغو) قول الرجل:( لا و الله، و بلى و الله) و لا يعقد على شي‏ء.

أقول: و روى العيّاشيّ في تفسيره عن عبدالله بن سنان مثله، و عن محمّد بن مسلم مثله و فيه: و لا يعقد عليها.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: لما نزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) في القوم الّذين حرّموا النساء و اللحم على

١٢١

أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا الّتي حلفنا عليها؟ فأنزل الله:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) .

أقول: و الرواية تشاكل ذيل الرواية الاُولى الّتي أوردناها في صدر البحث غير أنّها لا تنطبق على ظاهر الآية فإنّ الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، و قد قوبل في الآية قوله:( بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) بقوله:( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) و دلّ ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، و هذا الظاهر إنّما يوافق الرواية المفسّرة للغو اليمين بقول القائل: لا و الله، و بلى و الله، من غير أن يعقد على شي‏ء، و أمّا اليمين الملغاة شرعاً ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعيّن أن يستند إلغاؤه إلى السنّة دون الكتاب.

على أنّ سياق الآية أدّل دليل على أنّها مسوقة لبيان كفّارة اليمين و الأمر بحفظها استقلالاً لا على نحو التطفّل كما هو لازم هذا التفسير.

١٢٢

( سورة المائدة الآيات ٩٠ - ٩٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ٩٠) إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( ٩١) وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّمَا عَلَى‏ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ( ٩٢) لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَوْا وَآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ٩٣)

( بيان)

الآيات متلائمة سياقاً فكأنّها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولاً، و الآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبيّنه تفصيلاً، فهي جميعاً تتعرّض لحال الخمر، و بعضها يضيف إليها الميسر و الأنصاب و الأزلام.

و قد تقدّم في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، في الجزء الأوّل، و في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) النساء: ٤٣ في الجزء الرابع من هذا الكتاب أنّ هاتين الآيتين مع قوله تعالى:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و هذه الآية المبحوث عنها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ - إلى قوله -فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) إذا انضمّ بعضها إلى بعض دلّت سياقاتها المختلفة على تدرّج الشارع في تحريم الخمر.

لكن لا بمعنى السلوك التدريجيّ في تحريمها من تنزيه و إعافة إلى كراهية إلى

١٢٣

تحريم صريح حتّى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفيّة إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينيّة في إجراء الأحكام الشرعيّة فإنّ قوله تعالى:( وَ الْإِثم ) آية مكّيّة في سورة الأعراف إذا انضمّ إلى قوله تعالى:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) و هي آية مدنيّة واقعة في سورة البقرة أوّل سورة مفصّلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجاً صريحاً لا يدع عذراً لمعتذر، و لا مجالاً لمتأوّل.

بل بمعنى أنّ الآيات تدرّجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عامّ و ذلك قوله تعالى:( وَ الْإِثْمَ ) ، ثمّ بالتحريم الخاصّ في صورة النصيحة و ذلك قوله:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) ، و قوله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثمّ بالتحريم الخاصّ بالتشديد البالغ الّذي يدلّ عليه قوله:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) الآيتان.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدلّ على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من( إِنَّما ) و التسمية بالرجس، و نسبته إلى عمل الشيطان، و الأمر الصريح بالاجتناب، و توقّع الفلاح فيه، و بيان المفاسد الّتي تترتّب على شربها، و الاستفهام عن الانتهاء، ثمّ الأمر بإطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، و الاستغناء عنهم لو خالفوا.

و يدلّ على ذلك بعض الدلالة أيضاً قوله تعالى في ذيل الآيات:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) إلى آخر الآية قد تقدّم الكلام في أوّل السورة في معنى الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كلّ مائع مسكر عمل بالتخمير، و الميسر هو القمار مطلقاً، و الأنصاب هي الأصنام أو الحجارة الّتي كانت تنصب لذبح القرابين عليها و كانت تحترم و يتبرّك بها، و الأزلام هي الأقداح الّتي كانت يستقسم بها، و ربّما كانت تطلق على السهام الّتي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الاُمور و العزيمة عليها كالخروج إلى سفر و نحوه

١٢٤

لكنّ اللفظ قد وقع في أوّل السورة للمعنى الأوّل لوقوعه بين محرّمات الأكل فيتأيّد بذلك كون المراد به ههنا هو ذلك.

فإن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الّذي هو الاستقسام بالأقداح، و لا وجه لإيراد الخاصّ بعد العامّ من غير نكتة ظاهرة فالمتعيّن حمل اللفظ على سهام التفؤل و الخيرة الّتي كان العمل بها معروفاً عندهم في الجاهليّة قال الشاعر:

فلئن جذيمة قتلت ساداتها

فنساؤها يضربن بالأزلام

و هو - كما روي - أنّهم كانوا يتّخذون أخشاباً ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه( افعل) و الثاني مكتوب عليه لا تفعل و الثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه و هي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمّه كالسفر و غير ذلك أخرج واحداً منها فإن كان الّذي عليه مكتوب( افعل) عزم عليه، و إن خرج الّذي مكتوب عليه( لا تفعل) تركه، و إن خرج الثالث أعاد الضرب حتّى يخرج واحد من الأوّلين، و سميّ استقساماً لأنّ فيه طلب ما قسّم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.

فالآية تدلّ على حرمته لأنّ فيه تعرّضاً لدعوى علم الغيب، و كذا كلّ ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة و نحوها.

قلت: قد عرفت أنّ الآية في أوّل السورة:( وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الّذي هو نوح من القمار لوقوعه في ضمن محرّمات الأكل، و يتأيّد به أنّ ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.

و لو سلّم عدم تأيّد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبيّن المراد فيتوقّف على ما يشرحه من السنّة، و قد وردت عدّة أخبار من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة و غيرها عند الحيرة.

و حقيقته أنّ الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممّن له صلاحيّة المعرفة بالصواب

١٢٥

و الخطأ، و إن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، و تردّد متحيّراً كان له أن يعيّن ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجّه إلى ربّه.

و ليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب و لا تعرّض لما يختصّ بالله سبحانه من شؤون الاُلوهيّة، و لا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إيّاه في تدبير الاُمور و لا أيّ محذور دينيّ آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلّا تعيّن الفعل أو الترك من غير إيجاب و لا تحريم و لا أيّ حكم تكليفيّ آخر، و لا كشف عمّا وراء حجب الغيب من خير أو شرّ إلّا أنّ خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة و التذبذب.

و أمّا ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربّما كان فيه خير و ربّما كان فيه شرّ على حدّ ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكّر و الاستشارة طريق لقطع الحيرة و التردّد في مقام العمل، و يترتّب على الفعل الموافق له ما كان يترتّب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.

نعم ربّما أمكن لمتوهّم أن يتوهّم التعرّض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤّل بالقرآن و نحوه فربّما كانت النفس تتحدّث معه بيمن أو شأمة، و تتوقّع خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضرّاً، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتفأل بالخير و يأمر به، و ينهى عن التطيّر و يأمر بالمضيّ معه و التوكّل على الله تعالى.

فلا مانع من التفؤل بالكتاب و نحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير و إلّا مضى في الأمر متوكّلاً على الله تعالى، و ليس في ذلك أزيد ممّا يطيب به الإنسان نفسه في الاُمور و الأعمال الّتي يتفرّس فيها السعادة و النفع، و سنستوفي البحث المتعلّق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.

فتبيّن أنّ ما وقع في بعض التفاسير من حمل الأزلام على سهم التفأل و استنتاج حرمة الاستخارة بذلك ممّا لا ينبغي المصير إليه.

و أمّا قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالرجس الشي‏ء القذر على ما ذكره الراغب

١٢٦

في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة و القذارة هو الوصف الّذي يبتعد و يتنزّه عن الشي‏ء بسببه لتنفّر الطبع عنه.

و كون هذه المعدودات من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجساً هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الإنسانيّة الاقتراب منها لأجله، و ليس إلّا أنّها بحيث لا تشتمل على شي‏ء ممّا فيه سعادة إنسانيّة أصلاً سعادة يمكن أن تصفو و تتخلّص في حين من الأحيان كما ربّما أومأ إليه قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، حيث غلب الإثم على النفع و لم يستثن.

و لعلّه لذلك نسب هذه الأرجاس إلى عمل الشيطان و لم يشرك له أحداً، ثمّ قال في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) .

و ذلك أنّ الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنّه عدوّ للإنسان لا يريد به خيراً البتّة قال تعالى:( إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) يوسف: ٥، و قال:( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحجّ: ٤، و قال:( وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، لَعَنَهُ اللهُ ) النساء: ١١٨، فأثبت عليه لعنته و طرده عن كلّ خير.

و ذكر أنّ مساسه بالإنسان و عمله فيه إنّما هو بالتسويل و الوسوسة و الإغواء من جهة الإلقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، فهدّدهم إبليس بالإغواء فقط، و نفى الله سبحانه سلطانه إلّا عن متّبعيه الغاوين، و حكى عنه فيما يخاطب بني آدم يوم القيامة قوله:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) إبراهيم: ٢٢، و قال في نعت دعوته:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ‏ - إلى أن قال -إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فبين أنّ دعوته لا كدعوة إنسان إنساناً إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعوّ من غير عكس.

١٢٧

و قد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى:( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥، فبيّن أنّ الذي يعمل الشيطان بالتصرّف في الإنسان هو أن يلقي الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال.

فيتبيّن بذلك كلّه أنّ كون الخمر و ما ذكر بعدها رجساً من عمل الشيطان هو أنّها منتهية إلى عمل الشيطان الخاصّ به، و لا داعي لها إلى الإلقاء و الوسوسة الشيطانيّة الّتي تدعو إلى الضلال، و لذلك سمّاها رجساً و قد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ) الأنعام: ١٢٦.

ثمّ بيّن معنى كونها رجساً ناشئاً من عمل الشيطان بقوله في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) أي إنّه لا يريد لكم في الدعوة إليها إلّا الشرّ و لذلك كانت رجساً من عمله.

فإن قلت: ملخّص هذا البيان أنّ معنى كون الخمر و أضرابها رجساً هو كون عملها أو شربها مثلاً منتهياً إلى وسوسة الشيطان و إضلاله فحسب، و الّذي تدلّ عليه عدّة من الروايات أنّ الشيطان هو الّذي ظهر للإنسان و عملها لأوّل مرّة و علّمه إيّاها.

قلت: نعم، و هذه الأخبار و إن كانت لا تتجاوز الآحاد بحيث يجب الأخذ بها إلّا أنّ هناك أخباراً كثيرة متنوّعة واردة في أبواب متفرّقة تدلّ على تمثّل الشيطان للأنبياء و الأولياء و بعض أفراد الإنسان من غيرهم كأخبار اُخر حاكية لتمثّل الملائكة، و اُخرى دالّة على تمثّل الدنيا و الأعمال و غير ذلك و الكتاب الإلهيّ يؤيّدها بعض التأييد كقوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧، و سنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى:( سُبْحانَ الّذي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ ) الإسراء: ١، أو في محلّ آخر مناسب لذلك.

١٢٨

و الّذي يجب أن يعلم أنّ ورود قصّة مّا في خبر أو أخبار لا يوجب تبدّل آية من الآيات ممّا لها من الظهور المؤيّد بآيات اُخر، و ليس للشيطان من الإنسان إلّا التصرّف الفكريّ فيما كان له ذلك بمقتضى الآيات الشريفة، و لو أنّه تمثّل لواحد من البشر فعمل شيئاً أو علّمه إيّاه لم يزد ذلك على التمثّل و التصرّف في فكره أو مساسه علماً فانتظر ما سيوافيك من البحث.

و أمّا قوله تعالى:( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثمّ ترجّ للفلاح على تقدير الاجتناب، و فيه أشدّ التأكيد للنهي لتثبيته أن لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الأرجاس.

قوله تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له: العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان و العدو قال:( فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) و تارة بأجزاء المقرّ فيقال له: العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء فمن المعاداة يقال: رجل عدوّ و قوم عدوّ قال:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) و قد يجمع على عدىً (بالكسر فالفتح) و أعداء قال:( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ ) ، انتهى.

و البغض و البغضاء خلاف الحبّ و الصدّ الصرف، و الانتهاء قبول النهي و خلاف الابتداء.

ثمّ إنّ الآية - كما تقدّم - مسوقة بياناً لقوله:( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أو لقوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أي إنّ حقيقة كون هذه الاُمور من عمل الشيطان أو رجساً من عمل الشيطان أنّ الشيطان لا بغية له و لا غاية في الخمر و الميسر - اللّذين قيل: إنّهما رجسان من عمله فقط - إلّا أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء بتجاوز حدودكم و بغض بعضكم بعضاً، و أن يصرفكم عن ذكر الله و عن الصلاة في هذه الاُمور جميعاً أعني الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام.

١٢٩

و قصر إيقاع العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة أمّا الخمر فلأنّ شربها تهيّج سلسلة الأعصاب تهيجاً يخمّر العقل و يستظهر العواطف العصبيّة فإن وقعت في طريق الغضب جوّزت للسكران أيّ جناية فرضت و إن عظمت ما عظمت، و فظعت ما فظعت ممّا لا يستبيحه حتّى السباع الضارية، و إن وقعت في طريق الشهوة و البهيميّة زيّنت للإنسان أيّ شناعة و فجور في نفسه أو ماله أو عرضه و كلّ ما يحترمه و يقدّسه من نواميس الدين و حدود المجتمع و غير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سرّ أو ورود فيما فيه هلاك الإنسانيّة، و قد دلّ الإحصاء على أنّ للخمر السهم الأوفر من أنواع الجنايات الحادثة و في أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات الّتي دار فيها شربها.

و أمّا الميسر و هو القمار فإنّه يبطل في أيسر زمان مسعاة الإنسان الّتي صرفها في اقتناء المال و الثروة و الوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال و ربّما تبعه العرض و النفس و الجاه فإن تقمّر و غلب و أحرز المال أدّاه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة و التوسّع في الملاهي و الفجور، و الكسل و التبطّؤ عن الاشتغال بالمكسب و اقتناء موادّ الحياة من طرقها المشروعة، و إن كان هو المغلوب أدّاه فقدان المال و خيبة السعي إلى العداوة و البغضاء لقميرة الغالب، و الحسرة و الحنق.

و هذه المفاسد و إن كانت لا تظهر للأذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل و المرّة و المرّتين لكنّ النادر يدعو إلى الغالب، و القليل يهدي إلى الكثير و المرّة تجرّ إلى المرّات و لا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملأ، و تسري إلى المجتمع فتعود بلوى همجيّة لا حكومة فيها إلّا للعواطف الطاغية و الأهواء المردية.

فتبيّن من جميع ما تقدّم أنّ الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أنّ الصدّ عن ذكر الله و عن الصلاة من شأن الجميع، و العداوة و البغضاء يختصّان بالخمر و الميسر بحسب الطبع.

١٣٠

و في إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى:( وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فرداً كاملاً من الذكر، و قد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: الصلاة عمود الدين‏، و دلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدّاً على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه ممّا لا يتطرّق إليه شكّ و فيها مثل قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (إلى آخر الآيات) المؤمنون: ٢، و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) الأعراف: ١٧٠، و قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) الآيات: المعارج: ٢٢ و قوله:( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) العنكبوت: ٤٥، و قال تعالى:( فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ ) الجمعة: ٩، يريد به الصلاة، و قال:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) طه: ١٤، إلى غير ذلك من الآيات.

و قد ذكر سبحانه أوّلاً ذكره و قدّمه على الصلاة لأنّها هي البغية الوحيدة من الدعوة الإلهيّة، و هو الروح الحيّة في جثمان العبوديّة، و الخميرة لسعادة الدنيا و الآخرة يدلّ على ذلك قوله تعالى لآدم أوّل يوم شرع فيه الدين:( قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) طه: ١٢٤، و قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً ) الفرقان: ١٨، و قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠.

فالذكر في الآيات إنّما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبيّة المستتبع لنسيان العبوديّة و هو السلوك الدينيّ الّذي لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى:

١٣١

( وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) الحشر: ١٩.

و أمّا قوله تعالى:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فهو استفهام توبيخيّ فيه دلالة مّا على أنّ المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهي السابقة على هذا النهي، و الآية أعني قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ ) ، إلخ كالتفسير يفسّر بها قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) أي إنّ النفع الّذي فرض فيهما مع الإثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحياناً من الإثم أو من الإثم الغالب عليه كالكذب الّذي فيه إثم و نفع، و ربّما اُفرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين.

و ذلك لمكان الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ ) ، إلخ بعد قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالمعنى أنّها لا تقع إلّا رجساً من عمل الشيطان، و أنّ الشيطان لا يريد بها إلّا إيقاع العداوة و البغضاء بينكم في الخمر و الميسر و صدّكم عن ذكر الله و عن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الإثم حتّى تباح فيه، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا ، إلى آخر الآية) تأكيد للأمر السابق باجتناب هذه الأرجاس أوّلاً بالأمر بطاعة الله سبحانه و بيده أمر التشريع، و ثانياً بالأمر بطاعة الرسول و إليه الإجراء، و ثالثاً بالتحذير صريحاً.

ثمّ في قوله:( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) تأكيد فيه معنى التهديد و خاصّة لاشتماله على قوله:( فَاعْلَمُوا ) فإنّ فيه تلويحاً إلى أنّكم إن تولّيتم و اقترفتم هذه المعاصي فكأنّكم ظننتم أنّكم كابرتم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نهيه عنها و غلبتموه، و قد جهلتم أو نسيتم أنّه رسول من قبلنا ليس له من الأمر شي‏ء إلّا بلاغ مبين لما يوحى إليه و يؤمر بتبليغه، و إنّما نازعتم ربّكم في ربوبيّته.

و قد تقدّم في أوّل الكلام أنّ الآيات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الاُمور، و هي الابتداء بقوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، ثمّ الإتيان بكلمة الحصر، ثمّ التوصيف بالرجس، ثمّ نسبتها إلى عمل الشيطان، ثمّ الأمر بالاجتناب صريحاً،

١٣٢

ثمّ رجاء الفلاح في الاجتناب، ثمّ ذكر مفاسدها العامّة من العداوة و البغضاء و الصرف عن ذكر الله و عن الصلاة، ثمّ التوبيخ على عدم انتهائهم، ثمّ الأمر بطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، ثمّ التهديد على تقدير التولّي بعد البلاغ المبين.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية الطعم و الطعام هو التغذّي، و يستعمل في المأكول دون المشروب، و هو في لسان المدنيّين البرّ خاصّة، و ربّما جاء بمعنى الذوق، و يستعمل حينئذ بمعنى الشرب كما يستعمل بمعنى الأكل قال تعالى:( فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) البقرة: ٢٤٩، و في بعض الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في ماء زمزم: أنّه طعام طعم و شفاء سقم.

و الآية لا تصلح بسياقها إلّا أن تتّصل بالآيات السابقة فتكون دفع دخل تتعرّض لحال المؤمنين ممّن ابتلي بشرب الخمر قبل نزول التحريم أو قبل نزول هذه الآيات، و ذلك أنّ قوله فيها:( فِيما طَعِمُوا ) مطلق غير مقيّد بشي‏ء ممّا يصلح لتقييده، و الآية مسوقة لرفع الحظر عن هذا الطعام المطلق، و قد قيّد رفع الحظر بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) و المتيقّن من معنى هذا القيد - و قد ذكر فيه التقوى ثلاث مرّات - هو التقوى الشديد الّذي هو حقّ التقوى.

فنفي الجناح للمؤمنين المتّقين عن مطلق ما طعموا (الطعام المحلّل) إن كان لغرض إثبات المفهوم في غيرهم أي إثبات مطلق المنع لغير أهل التقوى من سائر المؤمنين و الكفّار ناقضه أمثال قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) الأعراف: ٣٢، على أنّ من المعلوم من مذاق هذا الدين أنّه لا يمنع أحداً عن الطيّبات المحلّلة الّتي تضطرّ الفطرة إلى استباحتها في الحياة.

و إن لم تكن الآية مسوقة لتحريمه على غير من ذكر عاد المعنى إلى مثل قولنا: يجوز الطعام للّذين آمنوا و عملوا الصالحات بشرط أن يتّقوا ثمّ يتّقوا ثمّ يتّقوا، و من المعلوم

١٣٣

أنّ الجواز لا يختصّ بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات بل يعمّهم و غيرهم، و على تقدير اختصاصه بهم لا يشترط فيه هذا الشرط الشديد.

و لا يخلو عن أحد هذين الإشكالين جميع ما ذكروه في توجيه الآية بناءً على حمل قوله:( فِيما طَعِمُوا ) على مطلق الطعام المحلّل فإنّ المعنى الّذي ذكروه لا يخرج عن حدود قولنا: لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إذا اتّقوا المحرّمات أن يطعموا المحلّلات، و لا يسلم هذا المعنى عن أحد الإشكالين كما هو واضح.

و ذكر بعضهم: أنّ في الآية حذفاً، و التقدير: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتّقوا المحارم، و فيه أنّه تقدير من غير دليل مع بقاء المحذور على حاله.

و ذكر بعضهم: أنّ الإيمان و العمل الصالح جميعاً ليس بشرط حقيقيّ بل المراد بيان وجوب اتّقاء المحارم فشرّك معه الإيمان و العمل الصالح للدلالة على وجوبه، و فيه أنّ ظاهر الآية أنّها مسوقة لنفي الجناح فيما طعموا، و لا شرط له من إيمان أو عمل صالح أو اتّقاء محارم على ما تقدّم، و ما أبعد المعنى الّذي ذكره عن ظاهر الآية.

و ذكر بعضهم: أنّ المؤمن يصحّ أن يطلق عليه أنّه لا جناح عليه، و الكافر مستحقّ للعقاب فلا يصحّ أن يطلق عليه هذا اللفظ، و فيه أنّه لا يصحّ تخصيص المؤمنين بالذكر فليكن مثل قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢، و قوله:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) الأنعام: ١٤٥ حيث لم يذكر في الخطاب مؤمن و لا كافر، أو مثل قوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى -‏ إلى قوله -إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣ حيث وجّه الخطاب إلى الناس الشامل للمؤمن و الكافر.

و ذكر بعضهم: أنّ الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل فلذلك خصّ المؤمن بالذكر، و فيه ما في سابقه من الإشكال مع أنّه لا يرفع الإشكال الناشئ

١٣٤

من قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا ) إلخ.

فالّذي ينبغي أن يقال: إنّ الآية في معنى الآيات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتّصالها بها، و هي متعرّضة لحال من ابتلي من المسلمين بشرب الخمر و طعمها، أو بالطعم لشي‏ء منها أو ممّا اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الأنصاب كأنّهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلي بشرب الخمر، أو بها و بغيرها ممّا ذكره الله تعالى في الآية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه.

فاُجيب عن سؤالهم أن ليس عليهم جناح إن كانوا من الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إن كانوا جارين على صراط التقوى بالإيمان بالله و العمل الصالح ثمّ الإيمان بكلّ حكم نازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ الإحسان بالعمل على طبق الحكم النازل.

و بذلك يتبيّن أنّ المراد بالموصول في قوله:( فِيما طَعِمُوا ) هو الخمر من حيث شربها أو جميع ما ذكر من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام من حيث ما يصحّ أن يتعلّق بها من معنى الطعم، و المعنى: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمر أو منها و من غيرها من المحرّمات المذكورة.

و أمّا قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) فظاهر قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إنّه إعادة لنفس الموضوع المذكور في قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ) للدلالة على دخالة الوصف في الحكم الّذي هو نفي الجناح كقوله تعالى في خطاب المؤمنين:( ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) البقرة: ٢٣٢، و هو شائع في اللسان.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) اعتبار الإيمان بعد الإيمان، و ليس إلّا الإيمان التفصيليّ بكلّ حكم حكم ممّا جاء به الرسول من عند ربّه من غير ردّ و امتناع، و لازمه التسليم للرسول فيما يأمر به و ينهى عنه قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ ) الحديد: ٢٨، و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ - إلى أن قال -فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ

١٣٥

بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء ٦٥، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) إضافة الإحسان إلى الإيمان بعد الإيمان اعتباراً، و الإحسان هو إتيان العمل على وجه حسنة من غير نيّة فاسدة كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) الكهف: ٣٠، و قال:( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) آل عمران: ١٧٢، أي يكون استجابتهم ابتغاءً لوجه الله و تسليماً لأمره لا لغرض آخر، و من الإحسان ما يتعدّى إلى الغير، و هو أن يوصل إلى الغير ما يستحسنه، قال تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) البقرة: ٨٣، و قال:( وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) القصص: ٧٧.

و المناسب لمورد الآية هو المعنى الأوّل من معنيي الإحسان، و هو إتيان الفعل على جهة حسنة فإنّ التقوى الدينيّ لا يوفى حقّه بمجرّد الإيمان بالله و تصديق حقّيّة دينه ما لم يؤمن تفصيلاً بكلّ واحد واحد من الأحكام المشرّعة في الدين فإنّ ردّ الواحد منها ردّ لأصل الدين، و لا أنّ الإيمان التفصيليّ بكلّ واحد واحد يوفى به حقّ التقوى ما لم يحسن بالعمل بها و في العمل بها بأن يجري على ما يقتضيه الحكم من فعل أو ترك، و يكون هذا الجري ناشئاً من الانقياد و الاتّباع لا عن نيّة نفاقيّة فمن الواجب على المتزوّد بزاد التقوى أن يؤمن بالله و يعمل صالحاً، و أن يؤمن برسوله في جميع ما جاء به، و أن يجري في جميع ذلك على نهج الاتّباع و الإحسان.

و أمّا تكرار التقوى ثلاث مرّات، و تقييد المراتب الثلاث جميعاً به فهو لتأكيد الإشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعاً للتقوى الواقعيّ من غير غرض آخر غير دينيّ، و قد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ التقوى ليس مقاماً خاصّاً دينيّاً بل هو حالة روحيّة تجامع جميع المقامات المعنويّة أي إنّ لكلّ مقام معنويّ تقوى خاصّاً يختصّ به.

فتلخّص من جميع ما مرّ أنّ المراد بالآية أعني قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

١٣٦

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية، أنّه لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرّمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم و متلبّسين بالإيمان بالله و رسوله، و محسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات و تاركين لكلّ محرّم نهوا عنه فإن اتّفق لهم أن ابتلوا بشي‏ء من الرجس الّذي هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقّههم به لم يضرّهم ذلك شيئاً.

و هذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات الّتي صلّوها إلى غير الكعبة:( وَ ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) البقرة: ١٤٣.

و سياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الآية:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ، إلخ) متّصلة بما قبلها من الآيات و أنّها نازلة مع تلك الآيات الّتي لسانها يشهد أنّها آخر الآيات المحرّمة للخمر نزولاً، و أنّ بعض المسلمين كما يشعر به لسان الآيات - على ما استفدناه آنفاً - لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الآيات السابقة المحرّمة و بين هذه الآيات.

ثمّ وقع السؤال بعد نزول هذه الآيات عن حال من ابتلي بذلك و فيهم من ابتلي به قبل نزول التحريم، و من ابتلي به قبل التفقّه، و من ابتلي به لغير عذر فاُجيبوا بما يتعيّن به لكلّ طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها و هو على حال الإيمان و الإحسان، و لا يكون إلّا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلاً به فليس عليه جناح، و من ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم.

و للمفسّرين في الآية أبحاث طويلة، منها ما يرجع إلى قوله:( فِيما طَعِمُوا ) و قد تقدّم خلاصة الكلام في ذلك.

و منها ما يرجع إلى ذيل الآية من حيث تكرّر التقوى فيه ثلاث مرّات، و تكرّر الإيمان و تكرّر العمل الصالح و ختمها بالإحسان.

فقيل: إنّ المراد بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) اتّقوا المحرّم و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) ثمّ

١٣٧

اتّقوا ما حرّم عليهم بعد كالخمر و آمنوا بتحريمه، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) ثمّ استمرّوا و ثبتوا على اتّقاء المعاصي و اشتغلوا بالأعمال الجميلة.

و قيل: إنّ هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى و الإيمان بينه و بين نفسه، و بينه و بين الناس، و بينه و بين الله تعالى، و الإحسان على هذا هو الإحسان إلى الناس ظاهراً.

و قيل: إنّ التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدإ و الوسط و المنتهى، و هو حقّ التقوى.

و قيل: التكرار باعتبار ما يتّقى فإنّه ينبغي أن تترك المحرّمات توقّياً من العقاب، و الشبهات تحرّزاً عن الوقوع في الحرام، و بعض المباحات تحفّظاً للنفس عن الخسّة، و تهذيباً عن دنس الطبيعة.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء عن شرب الخمر و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله، و الاتّقاء الثاني هو إدامة الاتّقاء الأوّل و الإيمان الثاني إدامة الإيمان الأوّل، و الاتّقاء الثالث هو فعل الفرائض، و الإحسان فعل النوافل.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء المعاصي العقليّة، و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله و بقبح هذه المعاصي، و الاتّقاء الثاني اتّقاء المعاصي السمعيّة و الإيمان الثاني هو الإيمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، و الاتّقاء الثالث يختصّ بمظالم العباد و ما يتعلّق بالغير من الظلم و الفساد، و المراد بالإحسان الإحسان إلى الناس.

و قيل: إنّ الشرط الأوّل يختصّ بالماضي، و الشرط الثاني بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله، و الشرط الثالث يختصّ بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم.

و جميع ما ذكروه ممّا لا دليل عليه من لفظ الآية أو غيرها يوجب حمل الآية عليه، و هو ظاهر بالتأمّل في سياق القول فيها و الرجوع إلى ما قدّمناه.

١٣٨

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطّلب و أصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك عليّ، فخرج إليها فنحرها ثمّ أخذ كبدها و سنامها فأدخل عليهم، قال: و أقبل عليّعليه‌السلام فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمّك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا ذلك إليه.

قال: فأقبل معه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل لحمزة: هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالباب، قال: فخرج حمزة و هو مغضب فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة: لو أراد ابن أبي طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله و انصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: و كان قبل اُحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآنيتهم فاُكفئت، قال: فنودي في الناس بالخروج إلى اُحد فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خرج الناس و خرج حمزة فوقف ناحية من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فلمّا تصافحوا حمل في الناس حتّى غيب فيهم ثمّ رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء، قال: ثمّ حمل الثانية حتّى غيب في الناس ثمّ رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء.

فأقبل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه نحوه أقبل مقبلاً إليه فعانقه و قبّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين عينيه ثمّ قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، و كفّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تمرة.

ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطّى وجهه انكشف رجلاًه و إذا غطّى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطّى بها وجهه، و جعل على رجليه أذخر.

١٣٩

قال فانهزم الناس و بقي عليّعليه‌السلام فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صنعت؟ قال: يا رسول الله لزمت الأرض فقال: ذلك الظنّ بك، قال: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنجز لي يا ربّ ما وعدتني فإنّك إن شئت لم تعبد.

و عن الزمخشريّ في ربيع الأبرار، قال: اُنزل في الخمر ثلاث آيات:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) فكان المسلمون بين شارب و تارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى) فشربها من شربها من المسلمين حتّى شربها عمر فأخذ لحي بعير فشّج رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يغفر:

و كأين بالقليب قليب بدر

من القنيات و الشرب الكرام

و كأين بالقليب قليب بدر

من السري المكامل بالسنام

أ يوعدنا ابن كبشة أن نحيى

و كيف حياة أصداء و هام

أ يعجز أن يردّ الموت عنّي

و ينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمن عنّي

بأنّي تـارك شهر الصيام

فقل لله: يمنـعني شرابـي

و قل لله: يمنعني طـعامي

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج مغضباً يجرّ رداءه فرفع شيئاً كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فأنزل الله سبحانه و تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال عمر: انتهينا.

و في الدرّ المنثور،: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و النحّاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقّاص قال: فيّ نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فأتاه ناس فأكلوا و شربوا حتّى انتشوا من الخمر، و ذلك قبل أن تحرّم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار: خير، و قالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره - فكان سعد مفزور الأنف - قال: فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) ، إلى آخر الآية.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605