بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110309 / تحميل: 5677
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة ، ولو أردوا اغتنام الفرصة لاستطاعوا حتما إصلاح ماضيهم وحاضرهم ، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب ، بل بدّلوا أمر الله ، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه :( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) .

وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضا ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59) وقد أوردنا تفسيرا أكثرا تفصيلا هناك.

والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا ، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا :( بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) ، وقال هناك :( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) ، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأجل أن الذنوب لها جانبان : أحدهما الجانب المرتبط بالله ، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة «الفسق» الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله ، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة «الظلم».

ما هي «حطّة» وماذا تعني؟

الجدير بالذكر أن بني إسرائيل كانوا مكلّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة «حطّة» وأن يطلبوا من الله المغفرة لكل تلك الجرائم التي ارتكبوها ، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.

وكلمة «حطّة» التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس ، هي صورة اختصارية لعبارة «مسألتنا حطّة» يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا ، لأنّ «حطّة» معناها إنزال

٢٦١

الشيء من علو وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان ، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان ، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيرا من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي ، وجعلوه وسيلة للهو والاستهزاء والسخرية.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) )

التّفسير

قصّة فيها عبرة :

في هذه الآيات يستعرض مشهدا آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث ، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول له : اسأل يهود

٢٦٣

عصرك حول تلك الجماعة ، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها ، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.

إنّ هذه القصّة ـ كما أشير إليها في الأحاديث الإسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الاختبار والامتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت ، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم ، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.

في البداية تقول الآية :( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ) . أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.

ثمّ تقول : وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإلهي( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم ، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب ، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.

ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبادة التالية :( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت ، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.

و «السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للاستراحة ، وما نقرؤه في سورة النبأ( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) أشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع ، وسمّى «يوم السبت» بهذا الاسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم ، ثمّ بقي هذا الاسم لهذا اليوم علما له.

ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم ، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت

٢٦٤

تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين ، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجا أفواجا ، بينما كانت تتوغل بعيدا في البحر في الأيّام الأخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.

إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي ، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة ، لهذا يقول القرآن الكريم : وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه ، وإلى المعصية والمخالفة ، وجميع الاختبارات كذلك ، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.

عند ما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا ، انقسموا إلى ثلاث فرق :

«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية ، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.

«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية ، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة ، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة ، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ

٢٦٥

مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) (1) .

فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر : بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى ، وحتى لا نكون مسئولين تجاهه ، هذا مضافا إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم ، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم( قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين : الأوّل : أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.

والآخر : عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة ، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير ، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.

ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير ، وذلك عند ما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية ، وعدم إنكار المنكر سببا لتناسي وتنامي البدع ، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.

إنّ هذه النقطة جديرة بالالتفات ، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون : نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضا مسئولون أمام الله ، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط ، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.

__________________

(1) التعبير بـ «أمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة ، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوما» بدون كلمة منهم) وتقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف ، وقد ارتكب 70 ألفا منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 42).

٢٦٦

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول : وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم ، وتناسوا الأمر الإلهي ، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر ، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (1) .

ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسيانا حقيقيا غير موجب للعذر ، بل هو نوع من عدم الاكتراث والاعتناء بأمر الله ، وكأنّه قد نسي بالمرّة.

ثمّ يشرح العقوبات هكذا :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) .

وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .

* * *

بحوث

وهنا نقاط عديدة يجب الالتفات إليها :

1 ـ كيف ارتكبوا هذه المعصية؟

وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.

__________________

(1) بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.

(2) «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الامتناع عن طاعة أمر ، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الامتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.

(3) سورة يس ، 28.

٢٦٧

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فقد أحدثوا أحواضا إلى جانب البحر ، وفتحوا لها أبوابا إلى البحر ، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها ، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض ، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها ، وأخذها من الأحواض ، وكانوا يقولون : إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك ، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1) .

ويقول بعض المفسّرين : إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت ، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك ، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبت ولكن بصورة ما كرة.

ويظهر من بعض الرّوايات الأخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبت من دون مبالاة بالنهي الإلهي ، وليس بواسطة أية حيلة.

ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية ، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر ، أو إلقاء الكلاليب والصنارات ، ثمّ لما صغرت هذه المعصية في نظرهم ، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته ، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجا وعلنا ، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جدا.

2 ـ من هم الذين نجوا؟

الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقا واحدا من الفرق الثلاثة (العصاة ، المتفرجون ، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإلهي وهم افراد الفريق

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد 2 ، الصفحة 22 ، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.

٢٦٨

الثّالث.

وكما جاء في الرّوايات ، فإنّه عند ما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا : سنخرج من المدينة ، فخرجوا إلى الصحراء ليلا ، واتفق أن أصاب العذاب الإلهي كلا الفريقين الآخرين.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط ، ونجى الساكتون أيضا ، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.

3 ـ هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد

يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة ، لأنّه تعالى يقول :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْه ) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضا ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب ، لأنّه تعالى يقول :( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) .

من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين ، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط ، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء ، بالرغم من أن العصاة أيضا هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)

4 ـ هل المسخ كان جسمانيا أو روحانيا؟

«المسخ» أو بتعبير آخر «تغيير الشكل الإنساني إلى الصورة الحيوانية» ومن المسلّم أنّه حدث على خلاف العادة والطبيعة.

على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة ، وتغيير الشكل

__________________

(1) وإذا كان يستفاد من بعض الرّوايات خلاف هذا الموضوع ، فإنّه مضافا إلى أنّه لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضا ، ويحتمل أن يكون الراوي قد أخطأ في نقل الرواية.

٢٦٩

والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أخرى ، وقد شكّلت أسس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.

ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها ال «موتاسيون» والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية ، لا الصفات الكليّة ، يعني أنّه لم يشاهد إلى الآن نوعا من أنواع الحيوان تغيّر على أثر ال «موتاسيون» إلى نوع آخر ، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان ، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل ، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أمّه.

وعلى هذا الأساس ، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمرا خارقا للعادة.

ولكن تقدم أنّ هناك أمورا تحدث على خلاف العادة والطبيعة ، وهذه الأمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، وأحيانا تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص ، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعا).

وبناء على هذا ، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة ، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.

ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو استثناء وخرق لقانون العلية ، ولا هو خلاف العقل ، بل هو مجرّد كسر قضية «عاديّة طبيعيّة» في مثل هذه الموارد ، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1) .

__________________

(1) لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائيّة ، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب ، ومن جملة ذلك : إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه ، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين ، وفي كل مرة ولدت ولدا ، أو طفلا كان قلبه خارج صدره ، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها ، وما شابه ذلك.

٢٧٠

بناء على هذا لا مانع من قبول «المسخ» على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى ، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضا.

ولكن بعض المفسّرين ـ وهم الأقليّة ـ قالوا : إنّ المسخ هو «المسخ الروحاني» والانقلاب في الصفات الأخلاقية ، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين ، مثل الإقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة ، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الاحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.

وما أخذه البعض على مسألة المسخ ، وأنّه خلاف التكامل ، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح ، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل ، لا أولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل ، وخرجوا عن دائره هذا القانون.

فعلى سبيل المثال : الإنسان السليم ينمو نموا منتظما في أعوام الطفولة ، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص ، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب ، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجا.

ولكن يجب الانتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص ، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة ، وجماعة أخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى ، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.

على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن «القردة» ولم يجر أي حديث عن «الخنازير» ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية

٢٧١

حسبما قال بعض المفسّرين : نزلت حول أصحاب السبت ، فالكبار منهم الذين أطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير ، والشباب المقلد لهم تقليدا أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.

ولكن على كل حال يجب الالتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا ، ولم يتولد منهم نسل أبدا.

5 ـ المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية ، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض ، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت ، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا تكون العقوبة الإلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبدا بانقلاب ظاهره ، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فالحرام حرام سواء أتي به صريحا ، أو تحت لفافات كاذبة ، ومعاذير واهية.

إنّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة ، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين ، ويكرّهه إليهم بشدّة.

إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافا إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه ، ويجرّئ الإنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئا فشيئا لارتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة

٢٧٢

أنّ الإمام عليّاعليه‌السلام قال : «إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربّهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية ، والربا بالبيع» (الخطبة 156).

ويجب الانتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل ، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حسن أمام الناس ، وإمّا خداع الضمير ، واكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.

6 ـ أنواع الابتلاء الإلهي المختلفة

صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة ، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقّتة ، وبهدف الاختبار والامتحان عن مثل هذا العمل ، ليرى مدى تفانيهم ، ويختبر مدى إخلاصهم ، وهذا هو أحد أشكال الامتحان الإلهي.

هذا مضافا إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوما مقدسا ، وكانوا قد كلّفوا ـ احتراما لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإشتغال بالأعمال اليومية ، ولكن سكان ميناء «أيلة» تجاهلوا كلّ هذه الاعتبارات والمسائل ، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.

* * *

__________________

(1) كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء ، عدّة أيّام ، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراما شرعا ، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.

٢٧٣

الآيتان

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) )

التّفسير

تفرق اليهود وتشتتهم :

هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى ، وسحقت الحق والعدل والصدق.

فيقول في البداية : واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقا يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «تأذّن» و «أذّن» كلاهما بمعنى الإخبار والإعلام ، وكذا جاء بمعنى الحلف والقسم ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل

٢٧٤

هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.

ويستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الاستقرار والطمأنينة أبدا ، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة ، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر ، إلّا أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها ، وتكفّ عن الظلم والفساد.

وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا :( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب ، وبالنسبة للمذنبين التائبين التائبين غفور رحيم.

وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحا أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول :( وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون ، ولهذا عند ما سمعوا بنداء الإسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمنوا به ، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهريا ، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.

ومرّة أخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإسلام لا يعادي العنصر اليهودي ، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن ، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن ، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر ، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر ، ويقفوا على عجزهم ، لعلهم يستيقظون

٢٧٥

ويعودون إلى الله ، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.

وعلى هذا الأساس تشمل «الحسنات» كل نعمة ورفاه واستقرار ، كما تشمل «السيئات» كل نقمة وشدة ، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) )

التّفسير

في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود ، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم ، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا ، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه ، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

و «خلف» على وزن «حرف» يأتي غالبا في الأولاد غير الصالحين ـ كما

٢٧٧

ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ، في حين أنّ «الخلف» على وزن «شرف» يأتي بمعنى الولد الصالح(1) .

ثمّ يضيف قائلا : وعند ما وقعوا بين مفترق طريقين : بين ضغط الوجدان من جهة ، والرغبات والمنافع المادية من جهة أخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا : لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواء من حلال أو حرام ، والله سيرحمنا ويغفر لنا( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ) .

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية ، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم ، ولهذا يقول تعالى :( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) .

و «عرض» على وزن «غرض» يعني الشيء الذي لاثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض ، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب ، فهو يقصد الإنسان يوما ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإنسان حسابه ولا يعود قادرا على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره ، يوما آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلّا الحسرة والتذكر المؤلم ، هذا مضافا إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساسا غير دائمة ، وغير ثابته(2) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الارتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية ، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك :( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا

__________________

(1) مجمع البيان ، وتفسير ابن الفتوح الرازي ، في ذيل الآية الحاضرة.

(2) يجب الانتباه ، إلى أن «عرض» على وزن «غرض» يختلف عن «عرض» على وزن (فرض) فالأول بمعنى كل رأس مال دنيوي ، والثاني بمعنى المال النقدي.

٢٧٨

يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) أي أنّهم أخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذبا ، ولا يحرفوا كلماته ، ولا يقولوا إلّا الحق.

ثمّ يقول : لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإلهية ، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذارا ، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مرارا وفهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها ، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم( وَدَرَسُوا ما فِيهِ ) . و «الدرس» في اللغة يعني تكرار شيء ، وحيث أن الإنسان عند المطالعة ، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع ، لهذا أطلق عليه لفظ «الدرس» وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة «درس والاندراس» على انمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية ، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.

وفي ختام الآية يقول : إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأمور ، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعا( وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟؟

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقا يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإلهية وكتمانها فحسب ، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفا بحرف ، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم ، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم ، ويقول عنهم :( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من «الكتاب» وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل ، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين ، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر

٢٧٩

بظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينفصل عن الإيمان بهذا النّبي.

إنّ في التعبير بـ «يمسّكون» الذي هو بمعنى الاعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر ، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والالتصاق بشيء لحفظه وصيانته ، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة ، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص ، ويسعى في حفظها وحراستها.

إنّ التمسك بالكتاب الإلهي ليس هو أن يمسك الإنسان بيده أوراقا من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة ، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف ، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب ، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية ، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإلهية ، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أخرى ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة ، وبدار الآخرة ، بل هو برنامج للحياة البشرية ، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر ، وإجراء مبادئ العدل والسلام والرفاه والاستقرار ، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإصلاح» الواسعة المعنى.

وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإلهية ، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإنسان بالله الذي يراه حاضرا وناظرا لجميع أعماله وبرامجه ، ومراقبا لجميع أفعاله وأقواله ، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وارتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

كآبة ، ثمّ قال : و اللّه لقد رأيت إثرا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم فما أرى أحدا يشبههم ، و اللّه إن كانوا ليصبحوا شعثا غبرا صفرا ، بين أعينهم مثل ركب المغزى ، قد باتوا يتلون كتاب اللّه ، يراوحون بين أقدامهم و جباههم ، إذا ذكروا اللّه مادوا كما يميد الشجر في يوم ريح ، و انهملت أعينهم حتّى تبلّ ثيابهم ،

و كأنّهم و اللّه باتوا غافلين . يريد أنّهم يستقلّون ذلك ١ .

و قال الثاني : و من كلامه عليه السّلام في ذكر خيار الصحابة و زهّادهم ما رواه صعصعة بن صوحان العبدي قال : صلّى بنا أمير المؤمنين عليه السّلام ذات يوم صلاة الصبح ، فلمّا سلّم أقبل على القبلة بوجهه يذكر اللّه لا يلتفت يمينا و لا شمالا ، حتّى صارت الشمس على حائط مسجدكم هذا يعني جامع الكوفة قيد رمح ، ثمّ أقبل علينا بوجهه عليه السّلام فقال : لقد عهدت أقواما على عهد خليلي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أنّهم ليراوحون في هذا الليل بين جباههم و ركبهم ، فإذا أصبحوا أصبحوا شعثا غبرا ، بين أعينهم شبه ركب المعزى ، فإذا ذكروا الموت مادوا كما يميد الشجر في الريح ، ثمّ انهملت عيونهم حتّى تبلّ ثيابهم.

ثمّ نهض عليه السّلام و هو يقول : كأنّما القوم باتوا غافلين ٢ .

و روى الثالث صحيحا عن معروف بن خربوذ عن أبي جعفر عليه السّلام قال :

صلّى أمير المؤمنين عليه السّلام بالناس الصبح بالعراق ، فلمّا انصرف و عظهم فبكى و أبكاهم من خوف اللّه تعالى ، ثمّ قال : أما و اللّه لقد عهدت أقواما على عهد خليلي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أنّهم ليصبحون و يمسون شعثاء غبراء خمصاء ، بين أعينهم كركب المعزي ، يبيتون لربّهم سجّدا و قياما ، يراوحون بين أقدامهم و جباههم ، يناجون ربّهم و يسألونه فكاك رقابهم من النار ، و اللّه لقد رأيتهم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٣٠١ .

( ٢ ) الارشاد للمفيد : ١٢٦ .

٤٠١

و هم مع ذلك و هم جميع مشفقون منه خائفون ١ .

و رواه ( الكافي ) عنه أيضا ، و رواه عن علي بن الحسين عليه السّلام أيضا عنه عليه السّلام ، و في خبره : و اللّه لقد أدركت أقواما يبيتون لربّهم سجّدا و قياما ،

يخالفون بين جباههم و ركبهم ، كأنّ زفير النار في آذانهم ، إذا ذكر اللّه عندهم مادوا كما يميد الشجر ، كأنّما القوم باتوا غافلين . قال : ثمّ قال : فما رئي ضاحكا حتّى قبض ٢ .

« لقد رأيت أصحاب محمّد صلى اللّه عليه و آله » الأصل في كلام المصنّف رواية ابن قتيبة المتقدمة ، و قد عرفت أنّها بلفظ « رأيت إثرا من أصحابه » أي : خلّصا ، و هو الصحيح . فلم يكن جميع أصحابه كذلك بل إثر منهم ، و قد عرفت أنّ روايتي الشيخين بدلتاه بلفظ « لقد عهدت أقواما على عهد خليلي » ٣ و لو كانت رواية المصنّف صحيحة ، فالمراد أصحابه الخاصّون الملازمون له ليلا و نهارا المتخلقون بأخلاقه ، لا ما اصطلح عليه أصحاب الكتب الصحابية .

و قوله عليه السّلام « لقد رأيت » أو « عهدت » دالّ على عدم بقائهم في وقت إخباره ، و كان من أراده عليه السّلام مات جمع منهم في حياة النبيّ صلى اللّه عليه و آله كحمزة ،

و جعفر ، و زيد بن حارثة ، و عبد اللّه بن رواحة ، و عثمان بن مظعون ، و سعد بن معاذ و غيرهم ، و بقي منهم جمع ماتوا بعده صلى اللّه عليه و آله في أيّام الثلاثة ، و في أوائل أيّامه كسلمان و أبي ذر ، و المقداد ، و عمّار ، و حذيفة ، و ذي الشهادتين ، و ابن التيهان ، و نظرائهم .

و قد وصفوا في القرآن في قوله عزّ و جلّ : محمّد رسول اللّه و الّذين

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أمالي أبي علي الطوسي ١ : ١٠٠ المجلس ٤ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٣٥ ، ٢٣٦ الحديث ٢١ ، ٢٢ .

( ٣ ) الإرشاد للمفيد : ١٢٦ ، و أمالي أبي علي الطوسي ١ : ١٠٠ المجلس ٤ .

٤٠٢

معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعا سجّدا يبتغون فضلا من اللّه و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار وعد اللّه الّذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما ١ .

« فما أرى أحدا منكم يشبههم » هكذا في ( المصرية ) و ليست كلمة ( منكم ) في ( ابن ميثم و الخطيّة ) ٢ و لكن في ( ابن أبي الحديد ) ٣ : « فما أرى أحدا يشبههم منكم » .

« لقد كانوا يصبحون شعثا » أي : متغيري الشعور و منتشريها .

« غبرا » بالضم فالسكون ، جمع أغبر .

« و قد » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( قد ) بدون ( واو ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٤ .

« باتوا سجّدا و قياما » فيكون ليلهم بين السجود و القيام ، و الأصل فيه قوله تعالى : و عباد الرحمن الّذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . و الّذين يبيتون لربّهم سجّدا و قياما ٥ .

« يراوحون بين جباههم و خدودهم » بمعنى أنّه إذا كلّت جباههم من طول سجودهم ، و ضعوا خدودهم لتحصل راحة للجباه ، و بالعكس ، و كانوا يتأسّون في ذلك بصاحبهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، فقد كان يتعب نفسه في عبادة ربّه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الفتح : ٢٩ .

( ٢ ) لفظ شرح ابن ميثم ٢ : ٤٠٤ « منكم يشبههم » أيضا .

( ٣ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٦ .

( ٤ ) توجد ( الواو ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٦ ، و شرح ابن ميثم ٢ : ٤٠٤ .

( ٥ ) الفرقان : ٦٣ ٦٤ .

٤٠٣

حتّى خاطبه عزّ و جلّ بقوله : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ١ فكان يقوم في صلاته حتّى و رمت قدماه .

هذا ، و قد عرفت أنّ في رواية ( عيون القتيبي ) : « يراوحون بين أقدامهم و جباههم » ٢ و هو الأنسب بقوله عليه السّلام : « سجّدا و قياما » تبعا للآية ٣ .

« و يقفون على مثل الجمر » من النار .

« من ذكر معادهم » قال تعالى في وصفهم : و الّذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراما . إنّها ساءت مستقرّا و مقاما ٤ .

و في ( الطبري ) : لمّا ودّع عبد اللّه بن رواحة و هو الثالث من أمراء مؤتة الناس بكى ، فقالوا له : ما يبكيك يابن رواحة ؟ فقال : أما و اللّه ما بي حبّ الدّنيا و لا صبابة بكم ، و لكنّي سمعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقرأ آية من كتاب اللّه تعالى يذكر فيها النار و إن منكم إلاّ واردها كان على ربك حتما مقضيّا ٥ فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود . فقال المسلمون : صحبكم اللّه و دفع عنكم ، و ردّكم إلينا صالحين . فقال عبد اللّه بن رواحة :

لكنّني أسأل الرحمن مغفرة

و ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء و الكبدا

٦ « كأنّ بين أعينهم ركب » جمع ركبة .

« المعزى » في ( الصحاح ) : المعز من الغنم خلاف الضأن ، و هو اسم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) طه : ١ ٢ .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٣٠١ .

( ٣ ) الفرقان : ٦٤ .

( ٤ ) الفرقان : ٦٥ ٦٦ .

( ٥ ) مريم : ٧١ .

( ٦ ) تاريخ الطبري ٢ : ٣١٩ سنة ٨ .

٤٠٤

جنس ، و كذلك المعز ، و المعيز و الأمعوز و المعزى ١ .

« من طول سجودهم » . . . سيماهم في وجوههم من أثر السجود . . . ٢ .

« إذا ذكر اللّه هملت » أي : فاضت .

« أعينهم حتّى تبلّ » أي : تصير رطبا .

« جيوبهم » قال الجوهري : الجيب للقميص ٣ .

« و مادوا » أي : تحرّكوا .

« كما يميد الشجر يوم الريح العاصف » إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم . . . ٤ .

« خوفا من العقاب و رجاء للثواب » و عقابه ما لا تقوم له السماوات و الأرض ، و ثوابه ما لا عين رأت و لا أذن سمعت .

و رووا في قصّة غزوة ذي قرد عن سلمة بن الأكوع قال : أخذت عنان فرس الأخرم ، و قلت له : احذر لا يقتطعوك حتّى تلحق بنا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم فقال : يا سلم إنّ كنت تؤمن باللّه و اليوم الآخر ، و تعلم أنّ الجنّة حقّ و النّار حقّ فلا تخل بيني و بين الشهادة . فخلّيته فالتقى هو و عبد الرحمن بن عيينة فعقر الأخرم فرسه ، و طعنه عبد الرحمن فقتله ٥ .

هذا ، و روى ( أسد الغابة ) عن أبي مدينة الدارمي ، قال : كان الرجلان من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله إذا التقيا لم يتفرّقا حتّى يقرأ أحدهما على الآخر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٢ : ٨٩٣ مادة ( معز ) .

( ٢ ) الفتح : ٢٩ .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ١ : ١٠٤ مادة ( جيب ) .

( ٤ ) الأنفال : ٢ .

( ٥ ) الطبقات لابن سعد ٢ ق ١ : ٦٠ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٢٥٦ سنة ٦ و النقل بتلخيص .

٤٠٥

و العصر . إنّ الإنسان لفي خسر ١ إلى آخرها ، ثمّ يسلّم أحدهما على الآخر ٢ .

و رووا أنّ أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله كانوا يتهيؤون لآداب يوم الجمعة من يوم الخميس ٣ .

و روى ( قرب الإسناد ) : أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام صاحب رجلا ذميّا ، فقال له الذّمّي : أين تريد يا عبد اللّه ؟ قال : أريد الكوفة . فلمّا عدل الطريق بالذمي عدل معه عليّ عليه السّلام ، فقال الذمّي له : ألست تريد الكوفة ؟ قال عليه السّلام : بلى . فقال له الذمّي :

فقد تركت الطريق . فقال له : قد علمت . فقال له : فلم عدلت معي ، و قد علمت ذلك ؟

فقال له عليّ عليه السّلام : هذا من تمام حسن الصحبة ، أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه ، هكذا أمرنا نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلم . فقال له : هكذا قال ؟ قال : نعم . فقال له الذمّي :

لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة ، و أنا أشهدك أنّي على دينك . فرجع الذمي مع عليّ عليه السّلام ، فلمّا عرفه أسلم ٤ .

٣٦

الحكمة ( ٩٦ ) و قال عليه السّلام :

إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَعْمَلَهُمْ بِمَا جَاءُوا ثُمَّ تَلاَ ع إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ ؟ بِإِبْراهِيمَ ؟ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا ؟ اَلنَّبِيُّ ؟ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا ٣ : ٦٨ ثُمَّ قَالَ ع إِنَّ وَلِيَّ ؟ مُحَمَّدٍ ؟ مَنْ أَطَاعَ اَللَّهَ وَ إِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ وَ إِنَّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) العصر : ١ ٢ .

( ٢ ) أسد الغابة لابن الأثير ٣ : ١٤٤ .

( ٣ ) احياء علوم الدين للغزالي ١ : ١٦١ .

( ٤ ) قرب الإسناد للحميري : ٧ ، و الكافي للكليني ٢ : ٦٧٠ ح ٥ .

( ٥ ) آل عمران : ٦٨ .

٤٠٦

عَدُوَّ ؟ مُحَمَّدٍ ؟ مَنْ عَصَى اَللَّهَ وَ إِنْ قَرُبَتْ لُحْمَتُهُ « إنّ أولى الناس بالأنبياء أعملهم » قال ابن أبي الحديد الرواية « أعلمهم » ،

و الصحيح ( أعملهم ) لأن استدلاله بالآية يقتضي ، و كذا قوله عليه السّلام فيما بعد ١ .

و قال ابن ميثم : ( أعلمهم ) صحيح لأنّ العمل موقوف على العلم ٢ .

قلت : العلم شرط للعمل لا سبب له ، و إنّما يطلق السبب على المسبّب لتلازمهما ، لا الشرط على المشروط ، لا سيما مع كثرة تخلّف العمل عن العلم ،

و كون العلماء غير العاملين أكثر من العلماء العاملين ، و هو عليه السّلام في مقام بيان الأهمية لنفس العمل ، فالصحيح ( أعملهم ) و حيث إنّ الفرق بينه و بين ( أعملهم ) في الخطّ قليل وقع التصحيف من المصنّف أو غيره قبله أو بعده .

« بما جاؤوا » من الشرائع .

« ثمّ تلا » شاهدا لكلامه قوله تعالى :

إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه و هذا النبيّ . . . » لأنّه صلى اللّه عليه و آله كان أتبع الناس لإبراهيم . قال تعالى : ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفا . . . ٣ .

و في ( طبقات كاتب الواقدي ) : قال قوم من بني مدلج لعبد المطلب :

احتفظ به ( يعنون محمّدا صلى اللّه عليه و آله ) فإنّا لم نر قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه .

فقال عبد المطلب لأبي طالب : اسمع ما يقول هؤلاء . فكان أبو طالب يحتفظ به ٤ .

« و الّذين آمنوا » إيمانا حقيقيّا ، و الآية في سورة آل عمران .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٢٨٣ .

( ٢ ) هذا مفهوم كلام ابن ميثم في شرحه ٥ : ٢٨٩ لا صريح قوله .

( ٣ ) النحل : ١٢٣ .

( ٤ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ٧٤ .

٤٠٧

« ثمّ قال إنّ وليّ محمّد صلى اللّه عليه و آله من أطاع اللّه و إن بعدت لحمته ، و إنّ عدوّ محمّد صلى اللّه عليه و آله من عصى اللّه ، و إن قربت لحمته » لحمة بالضم : القرابة ، قال ابن أبي الحديد في الحديث الصحيح : يا فاطمة بنت محمّد إنّي لا أغني عنك من اللّه شيئا ١ . و قال رجل لجعفر بن محمّد عليه السّلام : أرأيت قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذريّتها على النار ، أليس هذا أمانا لكلّ فاطميّ في الدّنيا ؟ فقال : إنّك لأحمق إنّما أراد حسنا و حسينا لأنّهما من الخمسة أهل البيت ، فأمّا من عداهما فمن قعد به عمله لم ينهض به نسبه ٢ .

قلت : و روى ( عيون ابن بابويه ) عن ياسر ، و الوشا ، و ابن الجهم : أنّ الرضا عليه السّلام قال لأخيه زيد بن موسى المعروف بزيد النار : أغرّك قول سفلة أهل الكوفة « إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذريّتها على النار » ذلك للحسن و الحسين خاصّة ، إن كنت ترى أنّك تعصي اللّه عزّ و جلّ و تدخل الجنّة ، و موسى بن جعفر أطاع اللّه و دخل الجنّة ، فأنت إذن أكرم على اللّه عزّ و جلّ من موسى بن جعفر ، و اللّه ما ينال أحد ما عند اللّه عزّ و جلّ إلاّ بطاعته ، و زعمت أنّك تناله بمعصيته ، فبئس ما زعمت . فقال له زيد : أنا أخوك ، و ابن أبيك . فقال له :

أنت أخي ما أطعت اللّه عزّ و جلّ ، إنّ نوحا قال : . . . ربّ إنّ ابني من أهلي و إنّ وعدك الحقّ و أنت أحكم الحاكمين ٣ فقال عزّ و جلّ له : . . . يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح . . . ٤ فأخرجه اللّه عزّ و جلّ من أن يكون أهله بمعصية و زاد في ( رواية الوشا ) : إنّه عليه السّلام التفت إلى الوشا ، و قال له : و أنت إذا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صحيح مسلم ١ : ١٦٢ ح ٣٥١ ، ٣٥٢ و سنن النسائي ٦ : ٢٥٠ و غيرهما .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٢٨٣ ، و أخرج هذا المعنى الصدوق في عيون الأخبار ٢ : ٢٣٤ ح ١ عن الرضا عليه السّلام و أخرج معناه بطرق ثلاثة الصدوق في معاني الأخبار : ١٠٦ ، ١٠٧ ح ٢ ٤ عن الصادق عليه السّلام .

( ٣ ) هود : ٤٥ .

( ٤ ) هود : ٤٦ .

٤٠٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

أطعت اللّه تعالى فأنت منّا أهل البيت و زاد في ( رواية ابن الجهم ) : و قال عليه السّلام له :

يابن الجهم من خالف دين اللّه فابرأ منه كائنا من كان ، من أيّ قبيلة كان ، و من عادى اللّه فلا تواله كائنا من كان ، و من أيّ قبيلة كان . فقلت : يابن رسول اللّه ،

و من الّذي يعادي اللّه ؟ قال : من يعصيه ١ .

و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قال لبني عبد المطلّب ، و بني هاشم : إنّي رسول اللّه إليكم ، و إنّي شفيق عليكم و إنّ لي عملي ، و لكلّ رجل منكم عمله ، لا تقولوا : إنّ محمّدا منّا ، و سندخل مدخله ، فلا و اللّه ما أوليائي منكم و لا من غيركم يا بني عبد المطلب إلاّ المتّقون ، إلاّ فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدّنيا على ظهوركم ، و يأتون الناس يحملون الآخرة ، ألا إنّي قد أعذرت إليكم فيما بيني و بينكم ، و فيما بيني و بين اللّه عزّ و جلّ فيكم ٢ .

و قال : يا بني عبد المطّلب إيتوني بأعمالكم لا بأحسابكم و أنسابكم ، قال عزّ و جلّ : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون ٣ .

و عن الرضا عليه السّلام : قال عليّ بن الحسين عليه السّلام : لمحسننا كفلان من الأجر ،

و لمسيئنا ضعفان من العذاب ٤ .

و عن الكاظم عليه السّلام : أنّ إسماعيل قال لأبيه الصادق عليه السّلام : ما تقول في المذنب منّا و من غيرنا ؟ فقال عليه السّلام : ليس بأمانيكم و لا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به . . . ٥ .

و عن موسى الرّازي : قال رجل للرضا عليه السّلام : و اللّه ما على وجه الأرض

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرج الأحاديث الثلاثة الصدوق في عيون الأخبار للصدوق ٢ : ٢٣٤ ، ٢٣٦ ح ١ ، ٤ ، ٦ و النقل بتصرف .

( ٢ ) الكافي للكليني ٨ : ١٨٢ ح ٢٠٥ ، و صفات الشيعة للصدوق : ٥ ح ٨ .

( ٣ ) عيون الأخبار للصدوق ٢ : ٢٣٧ ح ٧ ، و الآية ١٠١ من سورة ( المؤمنون ) .

( ٤ ) روى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٣٥٤ عن السجاد عليه السّلام و زيد بن علي .

( ٥ ) عيون الأخبار للصدوق ٢ : ٢٣٦ ح ٥ ، و الآية ١٢٣ من سورة النساء .

٤٠٩

أشرف منك أبا ؟ فقال : التقوى شرّفتهم ، و طاعة اللّه أحظّتهم . فقال له آخر : أنت و اللّه خير الناس . فقال له : لا تحلف يا هذا ، خير منّي من كان أتقى للّه و أطوع له ،

و اللّه ما نسخت هذه الآية . . . و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم ١ . . . ٢ .

قلت : صدق عليه السّلام إن كان وجد أحد أتقى منه كان خيرا منه لكن لم يوجد ،

و عن الرضا عليه السّلام : إنّا أهل بيت وجب حقّنا برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فمن أخذ برسول اللّه حقّا ، و لم يعط الناس من نفسه مثله فلا حقّ له ٣ .

و عنه عليه السّلام و أومأ إلى عبد أسود من غلمانه : إن كان يرى أنّه خير من هذا بقرابتي من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلاّ أن يكون لي عمل صالح ، فأكون أفضل به منه ٤ .

و عن الباقر عليه السّلام : يكتفي من اتخذ التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت ، فو اللّه ما شيعتنا إلاّ من اتّقى اللّه و أطاعه ، و ما كانوا يعرفون إلاّ بالتواضع و التخشع ،

و أداء الأمانة ، و كثرة ذكر اللّه و الصوم و الصلاة ، و البرّ بالوالدين ، و التعهد للجيران من الفقراء ، و أهل المسكنة و الغارمين و الأيتام ، و صدق الحديث ،

و تلاوة القرآن ، و كفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير ، و كانوا أمناء عشائرهم في الأشياء . فقال له جابر الجعفي : يابن رسول اللّه ما نعرف أحدا بهذه الصفة .

فقال : يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب ، حسب الرجل أن يقول : أحبّ عليّا و أتولاّه « ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالا » فلو قال : إنّي أحبّ رسول اللّه ، و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله خير من عليّ عليه السّلام ثمّ لا يتّبع سيرته ، و لا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئا ، فاتّقوا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الحجرات : ١٣ .

( ٢ ) أخرجهما الصدوق في عيون الأخبار ٢ : ٢٣٨ ح ٩ ، ١٠ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) عيون الأخبار للصدوق ٢ : ٢٣٨ ح ١١ .

٤١٠

اللّه و اعملوا لما عند اللّه ، ليس بين اللّه و بين أحد قرابة ، أحبّ العباد إلى اللّه تعالى ،

و أكرمهم عليه أتقاهم له و أعملهم بطاعته ، يا جابر و اللّه ما يتقرّب العبد إلى اللّه تعالى إلاّ بالطاعة ، ما معنا براءة من النار ، و لا على اللّه لأحد من حجّة . من كان للّه مطيعا فهو لنا وليّ ، و من كان للّه عاصيا فهو لنا عدوّ ، و لا تنال و لا يتنا إلاّ بالعمل و الورع ١ .

و حيث يقول تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه و آله و سلم : قل إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم ٢ ، و لو تقوّل علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثمّ لقطعنا منه الوتين ٣ كيف يتوقع النجاة بانتساب إليه صلى اللّه عليه و آله بلا عمل ، و مع سوء عمل ؟

بل قوله تعالى لنساء النبيّ صلى اللّه عليه و آله : . . . من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على اللّه يسيرا ٤ يدلّ على أشديّة عذاب المنسوبين إليه عليه السّلام في مخالفتهم ، و به صرّح السجّاد عليه السّلام في الخبر المتقدّم .

و أمّا ما نقلوا على لسان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم : « و الطالحون لي » ٥ فأخبار موضوعة ، نظير قول اليهود و النصارى في ما وضعوا لأنفسهم : . . . نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه . . . ٦ و قول بني إسرائيل : . . . لن تمسّنا النار إلاّ أيّاما معدودة قل أتّخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده أم تقولون

ـــــــــــــــــ

( ١ ) صفات الشيعة للصدوق : ١١ ح ٢٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥ .

( ٣ ) الحاقة : ٤٤ ٤٦ .

( ٤ ) الأحزاب : ٣٠ .

( ٥ ) لم أجده بهذا اللفظ ، نعم جاء هذا المعنى في أمر الشفاعة في أحاديث كثيرة .

( ٦ ) المائدة : ١٨ .

٤١١

على اللّه ما لا تعلمون ١ .

و روى ( الكافي ) صحيحا عن الصادق عليه السّلام قال : خطب النّبيّ صلى اللّه عليه و آله بمنى فقال : أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته ، و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله ٢ .

و قال عليه السّلام : و كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف ٣ .

هذا ، و روى الكشي عن عمر بن يزيد قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام : يابن يزيد أنت و اللّه منّا أهل البيت . قلت له : جعلت فداك من آل محمّد ؟ قال : إي و اللّه من أنفسهم . قلت : من أنفسهم ؟ قال : إي و اللّه من أنفسهم يا عمر ، أما تقرأ كتاب اللّه عزّ و جلّ : إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه و هذا النبيّ و الّذين آمنوا و اللّه وليّ المؤمنين ٤ .

٣٧

من الخطبة ( ٢١٢ ) وَ أَشْهَدُ أَنَّ ؟ مُحَمَّداً ؟ عَبْدُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ كُلَّمَا نَسَخَ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لاَ ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ أقول : و في خطبة له عليه السّلام المروية في ( إثبات المسعودي ) في آباء النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم من آدم إلى مولده صلى اللّه عليه و آله : فلمّا أذنت الّلهم في انتقال محمّد عليه السّلام من صلب آدم ألّفت بينه و بين زوج خلقتها له سكنا ، و وصلت لهما به سببا فنقلته من بينهما إلى شيث إختيارا له بعلمك ، فأيّ بشر كان اختصاصه برسالتك ، ثمّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٨٠ .

( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٦٩ ح ٥ ، و المحاسن للبرقي : ٢٢١ ح ١٣٠ ١٣١ ، و تفسير العياشي ١ : ٨ ح ١ .

( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٦٩ ح ٣ ، ٤ ، و المحاسن للبرقي : ٢٢٠ ح ١٢٨ ، و تفسير العياشي ١ : ٩ ح ٤ .

( ٤ ) أخرجه الكشي في معرفة الرجال اختياره : ٣٣١ ح ٦٠٥ ، و أبو علي الطوسي في أماليه ١ : ٤٤ المجلس ٢ ، و مضمون فلان منّا أهل البيت جاء لجمع ، منهم : سلمان و أبو ذر و عمّار و جابر و غيرهم ، و الآية ٦٨ من سورة آل عمران .

٤١٢

نقلته إلى أنوش فكان خلف أبيه في قبول كرامتك ، و احتمال رسالتك ، ثمّ قدّرت نقل النور إلى قينان و ألحقته في الخطوة بالسابقين ، و في المنحة بالباقين ، ثمّ جعلت مهلائيل رابع أجرامه قدرة تودعها من خلقك من تضرب لهم بسهم النبوّة ، و شرف الأبوة حتّى تناهى تدبيرك إلى اخنوع . . . ثمّ أذنت في إيداعه ساما دون حام ، و يافث ، فضربت لهما بسهم في الذلّة ، و جعلت ما أخرجت بينهما لنسل سام خولا . ثمّ تتابع عليه القابلون من حامل إلى حامل ، و مودع إلى مستودع من عترته في فترات الدهور حتّى قبله تارخ أطهر الأجسام و أشرف الأجرام ، و نقلته منه إلى إبراهيم عليه السّلام فأسعدت بذلك جدّه ، و أعظمت به مجده ، و قدّسته في الأصفياء ، و سمّيته دون رسلك خليلا ، ثمّ خصّصت به إسماعيل دون ولد إبراهيم فأنطقت لسانه بالعربيّة الّتي فضّلتها على سائر اللغات ، فلم تزل تنقله من أب إلى أب حتّى قبله كنانة عن مدركه . . . حتّى نقلته إلى هاشم خير آبائه بعد إسماعيل . . . ١ .

« و أشهد أنّ محمّدا عبده و سيّد عباده » حتّى الأنبياء و المرسلين .

« كلّما نسخ اللّه الخلق فرقتين جعله في خيرهما » يشهد له التاريخ في سلسلة آبائه و تدلّ عليه الخطبة المتقدّمة ، و في ( اعتقادات الصدوق ) : اعتقادنا في آباء النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم أنّهم مسلمون من آدم عليه السّلام إلى أبيه عبد اللّه ٢ ، و يجب أن يعتقد أنّ اللّه عزّ و جلّ لم يخلق خلقا أفضل من محمّد و الأئمّة عليهم السّلام ، و أنّهم أحبّ الخلق إلى اللّه تعالى و أكرمهم ، و أوّلهم إقرارا به لمّا أخذ اللّه ميثاق النبيّين . ثم قال : و نعتقد أنّ اللّه تعالى خلق جميع الخلق له صلى اللّه عليه و آله و لأهل بيته عليهم السّلام ، و أنّه لولاهم لما خلق اللّه سبحانه السماء و الأرض ٣ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإثبات للمسعودي : ١٠٧ .

( ٢ ) الاعتقادات للصدوق : ٤٥ .

( ٣ ) الاعتقادات للصدوق : ٣٥ .

٤١٣

« لم يسهم فيه عاهر » أي : رجل زان ، و الأصل فيه : من أتي المرأة ليلا للفجور ، ثمّ غلب على المطلق .

« و لا ضرب فيه » بأن يكون دخيلا في نسبه .

« فاجر » أي : فاسق ، و الأصل فيه : الميل عن الصواب ، و قال الراعي النميري :

كانت نجائب منذر و محرّق

أمّاتهن و طرقهن فحيلا

١ هذا ، و في ( البلدان ) في ( كوثى ) : عن عبيدة السلماني سمعت عليّا عليه السّلام يقول : من كان سائلا عن نسبنا فإنّنا نبط من كوثى . و عن ابن الاعرابي : قال رجل لعليّ عليه السّلام : أخبرني عن أصلكم معاشر قريش . فقال : نحن من كوثى .

فقال قوم : أراد عليه السّلام كوثى السواد الّتي ولد بها إبراهيم الخليل عليه السّلام . و قال آخرون أراد كوثى مكّة ، و ذلك أنّ محلّة بني عبد الدار يقال لها : كوثى . فأراد أنّا مكّون من أم القرى مكّة . و قال قوم : أراد عليه السّلام أنّ أبانا إبراهيم عليه السّلام كان من نبط كوثى ، و أنّ نسبنا ينتهي إليه ٢ .

و في ( اعتقادات الصدوق ) : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أخرجت من نكاح و لم أخرج من سفاح ، من لدن آدم‏عليه السّلام ٣ .

و في ( الطبقات ) عن الكلبي : كتب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم خمسمائة أمّ ، فما وجدت فيهنّ سفاحا ، و لا شيئا ممّا كان من أمر الجاهلية ٤ .

و في ( المروج ) : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا دفع إلى حليمة ، قال عبد المطلب

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ١١ : ٥١٦ مادة ( فحل ) .

( ٢ ) معجم البلدان للحموي ٤ : ٤٨٨ و النقل بتقطيع .

( ٣ ) رواه الصدوق في الاعتقادات : ٤٥ ، و ابن سعد بثلاث طرق في الطبقات ١ ق ١ : ٣١ ، ٣٢ ، و البيهقي في الدلائل عنه منتخب كنز العمال ٤ : ٢٣٣ ، و قد مرّ الحديث في العنوان ٣ من الفصل الخامس .

( ٤ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ٣١ .

٤١٤

في رواية :

لا همّ ربّ الراكب المسافر

يحمد قلب بخير طائر

تنح عن طريقه الفواجر

وحيه برصد الطواهر

و احبس كل حلف فاجر

في درج الريح و الأعاصر

١ ثمّ مرمى كلامه عليه السّلام : أنّ باقي الناس أسهم فيهم العاهر أبا ، و ضرب فيهم الفاجر أمّا .

و روى القمي في تفسير قوله تعالى : . . . لا تسألوا عن أشياء إنّ تبد لكم تسؤكم . . . ٢ : أنّ صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقبلت ، فقال لها الثاني ( يعني عمر ) : غطّي قرطك ، فإنّ قرابتك من النبيّ صلى اللّه عليه و آله لا تنفعك شيئا . فقالت له :

هل رأيت لي قرطا يابن اللخناء . ثمّ دخلت على النبيّ صلى اللّه عليه و آله لا تنفعك شيئا . فقالت له :

هل رأيت لي قرطا يابن اللخناء . ثمّ دخلت على النبيّ صلى اللّه عليه و آله فأخبرته بذلك و بكت ،

فخرج النبيّ صلى اللّه عليه و آله فنادي الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، فقال : ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع ؟ لو قد قربت المقام المحمود لشفعت في أحوجكم ،

لا يسألني اليوم أحد : من أبواه ، إلاّ أخبرته . فقام إليه رجل ، فقال : من أبي ؟ فقال :

أبوك غير الّذي تدعى له ، أبوك فلان بن فلان . فقام آخر ، فقال : من أبي يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقال : أبوك الّذي تدعى له . ثمّ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ما بال الّذي يزعم أنّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه ؟ فقام إليه الثاني ( يعنى عمر ) فقال له : أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله اعف عنّي . . . ٣ .

و روى هشام الكلبي في ( مثالبه ) كما في ( الطرائف ) : أنّ صهاك الّتي كان عمر ينسب إليها كانت أمة حبشية لهاشم بن عبد مناف ، فوقع عليها نضلة بن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٢٧٤ .

( ٢ ) المائدة : ١٠١ .

( ٣ ) تفسير القمي ١ : ١٨٨ .

٤١٥

هاشم ، ثمّ وقع عليها عبد العزى بن رياح فجاءتا بنفيل جدّ عمر ١ .

و قال الجاحظ في ( مفاخرات قريش ) و قد نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر : بلغ عمر بن الخطاب أنّ أناسا من رواة الأشعار و حملة الآثار يعيبون الناس ، و يثلبونهم في أسلافهم . فقام على المنبر و قال : إيّاكم و ذكر العيوب و البحث عن الأصول ، فلو قلت : لا يخرج اليوم من هذه الأبواب إلاّ من لا وصمة فيه ، لم يخرج منكم أحد . فقام رجل من قريش نكره أن نذكره ، فقال : إذن كنت أنا و أنت يا أمير المؤمنين نخرج . فقال : كذبت ، بل كان يقال لك : يا قين بن قين ،

اقعد . قال ابن أبي الحديد : و الرجل الّذي قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا ، و لأنّ المهاجر كان علوي الرأي جدّا ، و كان أخوه عبد الرحمن بخلافه ، شهد المهاجر صفين مع عليّ عليه السّلام و شهدها عبد الرحمن مع معاوية ، و كان المهاجر مع عليّ عليه السّلام في يوم الجمل و فقئت ذاك اليوم عينه ٢ .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : روى هذا الخبر المدائني في كتاب ( أمّهات الخلفاء ) و قال : إنّه روي عند جعفر بن محمّد عليه السّلام بالمدينة فقال : لا تلمه يابن أخي ، أشفق أن يخدج بقضيّة نفيل بن عبد العزى ، و صهاك أمة الزبير بن عبد المطّلب ٣ .

قلت : الأصل في ما نقله عن المدائني ما رواه الكليني عن سماعة ، قال تعرّض رجل من ولد عمر بن الخطاب بجارية رجل عقيليّ ، فقالت له : إنّ هذا العمري قد آذاني ، فقال لها : عديه و أدخليه الدهليز . فأدخلته فشدّ عليه فقتله

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الطرائف ٢ : ٤٦٩ .

( ٢ ) نقلهما ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٢٤ شرح الخطبة ٢١٢ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

٤١٦

و ألقاه في الطريق . فاجتمع البكريون و العمريون و العثمانيون ، و قالوا : ما لصاحبنا كفو ، لن نقتل به إلاّ جعفر بن محمّد ، و ما قتل صاحبنا غيره . و كان الصادق عليه السّلام قد مضى نحو قبا . قال سماعة : فلقيته بما اجتمع القوم عليه ،

فقال : دعهم . فلما جاء و رأوه و ثبوا عليه ، و قالوا : ما قتل صاحبنا أحد غيرك ،

و ما نقتل به أحدا غيرك . فقال : ليكلّمني منكم جماعة . فاعتزل قوم منهم ، فأخذ بأيديهم فأدخلهم المسجد ، فخرجوا و هم يقولون : شيخنا أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد ، معاذ اللّه أن يكون مثله يفعل هذا ، و لا يأمر به ، انصرفوا . قال سماعة :

فمضيت معه ، و قلت : جعلت فداك ، ما كان أقرب رضاهم من سخطهم ؟ قال :

نعم دعوتهم . فقلت : امسكوا و إلاّ أخرجت الصحيفة . فقلت : و ما هذه الصحيفة جعلني اللّه فداك ؟ فقال : إنّ أمّ الخطاب كانت أمة للزبير بن عبد المطلب ، فشطر بها نفيل فأحبلها ، فطلبه الزبير فخرج هاربا إلى الطائف ، فخرج الزبير خلفه فبصرت به ثقيف ، فقالوا : يا أبا عبد اللّه ما تعمل هاهنا ؟ قال : جاريتي شطر بها نفيلكم ، فهرب منها إلى الشام . و خرج الزبير في تجارة له إلى الشام ، فدخل على ملك الدومة ، فقال له : يا أبا عبد اللّه لي إليك حاجة . قال : و ما حاجتك أيها الملك ؟ فقال : رجل من أهلك قد أخذت ولده فأحبّ أن تردّه عليه . قال : ليظهر لي حتّى أعرفه . فلمّا أن كان من الغد دخل الزبير على الملك فلمّا رآه الملك ضحك ،

فقال : ما يضحكك أيّها الملك ؟ قال : ما أظنّ هذا الرجل ولدته عربية ، إنّه لمّا رآك قد دخلت لم يملك استه أن جعل يضرط . فقال : أيّها الملك إذا صرت إلى مكّة قضيت حاجتك . فلمّا قدم الزبير تحمّل عليه ببطون قريش كلّها أن يدفع إليه ابنه فأبى ثمّ تحمّل عليه بعبد المطلّب . فقال : ما بيني و بينه عمل ، أما علمتم ما فعل في ابني فلان ، و لكن امضوا أنتم إليه . فقصدوه فكلّموه ، فقال لهم الزبير :

إنّ الشيطان له دولة ، و إنّ ابن هذا ابن الشيطان و لست آمن أن يترأس علينا ،

٤١٧

و لكن ادخلوه من باب المسجد عليّ على أن أحمي له حديدة ، و أخطّ في وجهه خطوطا و أكتب عليه و على ابنه ألاّ يتصدّر في مجلس ، و لا يتأمّر على أولادنا ،

و لا يضرب معنا بسهم . ففعلوا و خطّ وجهه بالحديدة ، و كتب عليه الكتاب ،

و ذلك الكتاب عندنا ، فقلت لهم : إن أمسكتم ، و إلاّ أخرجت الكتاب ففيه فضيحتكم فأمسكوا . . . ١ .

و روى هشام الكلبي في ( مثالبه ) : أنّ صعبة بنت الحضرمي أمّ طلحة كانت لها راية بمكّة ، و استبضعت بأبي سفيان فوقع عليها ، و تزوّجها عبيد اللّه ابن عثمان فجاءت بطلحة لستّة أشهر ، فاختصم أبو سفيان و عبيد اللّه في طلحة ، فجعل أمرهما إلى صعبة ، فألحقته بعبيد اللّه ، فقيل لها : كيف تركت أبا سفيان ؟ فقالت : يد عبيد اللّه طلقة و يد أبي سفيان كزّة . و ذكر الكلبي شعر حسّان و غيره في ذلك ٢ .

و روى المسعودي في ( مروجه ) عن كتاب النوفلي عن ابن عايشة و غيره في خبر حجّ معاوية و طواف سعد معه : انصرف معاوية إلى دار الندوة ، فأجلسه ( يعني سعدا ) معه على سريره . . . فقال سعد : و اللّه إنّي لأحقّ بموضعك منك . فقال معاوية : يأبي عليك ذلك بنو عذرة . و كان سعد في ما يقال لرجل من بني عذرة . قال النوفلي : و في ذلك يقول السيّد بن محمّد الحميري :

أو رهط سعد و سعد كان قد علموا

عن مستقيم صراط اللّه صدّادا

قوم تداعوا زنيما ثمّ سادهم

لولا خمول بني زهر لما سادا

٣

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٨ : ٢٥٨ ح ٣٧٢ .

( ٢ ) رواه من مثالب الكلبي المجلسيّ في متن البحار : ٤٠٩ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ١٤ ، أولها عن الطبري و آخرها عن كتاب النوفلي .

٤١٨

و تنازع ابن مسعود و سعد في أيّام عثمان ، فقال سعد لابن مسعود :

اسكت يا عبد هذيل . فقال له ابن مسعود : اسكت يا عبد عذرة .

و روى هشام الكلبي في ( مثالبه ) : أنّه كانت لحمامة بعض جدّات معاوية راية بذي المجاز ، و أنّ معاوية كان لأربعة : لعمّار بن الوليد المخزومي ، و لمسافر بن عمرو ، و لأبي سفيان ، و لرجل سمّاه .

قلت : و الرجل العبّاس كما رواه غيره .

قال : و كانت هند من المغتلمات ، و كان أحبّ الرجال إليها السودان ،

و كانت إذا ولدت أسود قتلته ١ .

و نقل سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) عن ( مثالب الكلبي ) : أنّ الحسين عليه السّلام قال لمروان : يابن الزرقاء الداعية إلى نفسها بسوق ذي المجاز صاحبة الراية بسوق عكاظ . قال : فذكر ابن إسحاق أنّ أمّ مروان اسمها أميّة ،

و كانت من البغايا في الجاهلية ، و كان لها راية مثل راية البيطار تعرف بها ،

و كانت تسمّى أمّ حتل الزرقاء ، و كان مروان لا يعرف له أب ، و إنّما نسب إلى الحكم كما نسب عمرو إلى العاص ٢ .

و كانت النابغة أمّ عمرو بن العاص من البغايا أصحاب الرايات بمكّة ،

فوقع عليها العاص بن وائل في عدّة من قريش منهم أبو لهب ، و أميّة بن خلف ،

و هشام بن المغيرة ، و أبو سفيان بن حرب في طهر واحد .

و روى القمي في ( تفسيره ) : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا أمر بقتل عقبة بن أبي معيط من أسارى بدر ، قال : يا محمّد ألم نقل لا تصبر قريش ؟ أي : لا يقتلون

ـــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه المجلسي عن متن البحار : ٥٢٢ ، و رواه أيضا ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ١٥٧ شرح الخطبة ٣٠ و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٢٠٤ ، ٢٠٨ و النقل بتقطيع .

٤١٩

صبرا . قال : أفأنت من قريش إنّما أنت علج من أهل صفورية ، لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الّذي تدعى له ، لست منها ، قدّمه يا علي فاضرب عنقه ١ .

و رووا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بثقيف فتغامزوا به ، فرجع إليهم و قال لهم : يا عبيد أبي رغال إنّما كان أبوكم عبد اللّه فهرب منه فثقفه ، أي : ظفر به ٢ .

و رووا أيضا أنّه عليه السّلام قال على المنبر : لقد هممت أن أضع على ثقيف الجزية لأنّ ثقيفا كان عبدا لصالح نبي اللّه ، و أنّه سرّحه إلى عامل له على الصدقة ، فهرب ٣ .

و لمّا كتب الحجاج إلى المهلّب و ذمّ قبيلة الأزد ، أجابه المهلّب في ذم قبيلته : إنّ شرّا من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل لم تستقر في واحدة منهنّ .

و في خبر الكلبي النسّابة مع الصادق عليه السّلام ، قال عليه السّلام له : أفتنسب نفسك ؟

قال : أنا فلان ابن فلان ابن فلان . فقال له : قف ليس حيث تذهب ، أتدري من فلان ؟ قال : نعم ابن فلان . قال : لا ، إنّ فلانا ابن الراعي الكردي كان علي جبل آل فلان ، فنزل إلى فلانة فأطعمها شيئا و غشيها ، فولدت فلانا ، و فلان ابن فلان من فلانة ، أتعرف هذه الأسامي ؟ قال : لا و اللّه ، فإن رأيت أن تكفّ . . . ٤ .

و في ( الطبري ) : إنّ مصعب بن الزبير لمّا أخرج خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد الّذي أرسله عبد الملك إلى البصرة في ولاية أخيه ، و كان أهلها أجاروه ، أرسل إلى رؤسائهم ، فأتي بهم ، فأقبل على عبيد اللّه بن أبي بكره ،

فقال : يا ابن مسروح ، إنّما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب ، فجاءت بأحمر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ١ : ٢٦٩ .

( ٢ ) روى هذه المعاني الحاكم في المستدرك ، و البيهقي في السنن عنهما منتخب كنز العمال ٥ : ٢٩٨ ، و المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٥٣ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ٣٤٨ ح ٦ و النقل بتلخيص .

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605